الفكر السياسي في العصر المدرسي: نموذج أفكار توماس الإكويني

تنتمي أعمال القديس توماس الإكويني San Tommaso d’Aquino\St Thomas Aquinas (1225م-1274م)، إلى تيار الفلسفة المدرسية أو السكولاستية Scholasticism\Scolastique. والتي تمتعت بأفضلية إمكانية دراسة التيارات الفلسفية القديمة، خاصة الفلسفة اليونانية والرومانية، وهو ما ساهم في إضفاء طابع أكثر منهجية، على نتائج الفكر السياسي المسيحي. عكس الطابع البلاغي/الخطابي، وكذلك المضمون اللاهوتي المحض الذي تميز به هذا الفكر، في عصر آباء الكنيسة على رأسهم القديس أوغسطين، وقبله القديس أمبروز أسقف ميلانو.

تأثرت الأفكار السياسية للقديس توماس الإكويني، بالبيئة السياسية والاجتماعية السائدة، المتميزة بشكل خاص بتكريس الكنيسة كسلطة موازية لسلطة الإمبراطور، وهو ما شكل جوهري الفكر السياسي المسيحي بشكل عام. فقد شهدت الساحة الأوروبية منذ 476م، انهيار الإمبراطورية الرومانية، والتي حلت محلها ممالك تقاسمت الهيمنة على أوروبا الغربية، ثم سرعان ما تحولت شعوبها من الوثنية إلى الديانة المسيحية. ونتيجة لذلك فقد ظهر إلى السطح، التنافس بين الملوك ورجال الدين، حول مجال النفوذ في المجالات: السياسية، الاجتماعية، وحتى الروحية. واستمراراً لذلك سعت الكنيسة إلى تجسيد مبدأ القديس أمبروز، الذي يعتبر أن الملوك هم ضمن نطاق الكنيسة وليسوا فوقه.

تأثر الفكر السياسي المسيحي إضافةً إلى ذلك، بالشكل القائم للدولة خلال مرحلة العصور الوسطى، المتميز بدرجة عالية من اللامركزية في الحكم. فاستناداً إلى مبادئ النظام الإقطاعي، فإن الملك يترك للأمراء الإقطاعيين، مطلق الحرية لحكم الأقاليم، مقابل التزامهم بتقديم الدعم العسكري وقت الحاجة، وكذلك دفع الضرائب السنوية لخزينة الدولة. وهو الوضع الذي سيستمر إلى غاية مرحلة الإصلاح الديني، ثم نهاية الحروب الدينية (1618-1648)، وقيام الدولة وفق المفهوم الوستفالي، المتميزة بالوحدة القومية، وكذلك مركزية السلطة السياسية.  لذلك لم تكن الدولة موضوعاً أساسياً في الفكر السياسي لهذه المرحلة، بالقدر الذي كانت عليه السلطة السياسية، أو صور القانون المختلفة والعلاقة فيما بينها. في حين اكتفى المفكرون السياسيون، بالتأكيد على اعتبار أن الدولة نتاج الطبيعة المدنية والاجتماعية للإنسان، على هامش محاولة إثبات ضرورة خضوع المجتمع للسلطة.

أولاً: أسس ومرجعيات الفكر السياسي الإكويني:  

تظهر التأثيرات الأوغسطينية على فكر القديس توماس الإكويني، من خلال استمرار فكرة الوجود المزدوج للإنسان، المتجسد في المدينتين الأرضية والإلهية، وبذلك يكون للإنسان انتماء روحي وآخر مادي أو مدني. وهي الفكرة التي استمرت مع المفكرين المسيحيين، وصولاً إلى توماس الإكويني، والذي سيستعمل هذا المبدأ في مناقشته لظاهرة السلطة السياسية، والبرهنة على مبدأ سمو السلطة الكنسية. غير أنه في المقابل استبعد أفكار أوغسطين الأخرى، خاصةً المتعلقة منها بالسلطة السياسية، وكذلك العدالة والقانون، أو حتى تصوراته حول الأنظمة السياسية. فمن خلال تصفح كتاب الخلاصة اللاهوتية Summa Theologiae، نجد القديس توماس الإكويني يوجه الكثير من الانتقادات إلى الأفكار الشائعة، والتي ينسب الكثير منها إلى القديس أوغسطين وغيره من آباء الكنيسة. 

وفي المقابل فقد توجه الإكويني نحو تبني الأفكار الأرسطية، بعد إضفاء الطابع المسيحي عليها، من أجل جعلها أكثر تناسباً مع المعتقدات الدينية السائدة. ويظهر هذا التأثير بشكل خاص في أفكار توماس الإكويني حول السلطة السياسية، وضرورتها لاستمرار المجتمع الإنساني، وكذلك الأنظمة السياسية وتصنيفها. وانطلاقاً من ذلك، فقد اكتسب القديس توماس تسمية "أرسطو المسيحي"، حيث تتقاطع تصورات المفكرين في كثير من النقاط المشتركة، وقد اُعتبر بذلك أبرز امتدادات المدرسة الأرسطية في الفلسفة والفكر السياسي.

يرتبط هذا العامل بدرجة كبيرة، بالمسارات الأكاديمية التي اتخذها القديس توماس الإكويني، والذي توجه نحو الانضمام إلى الرهبنة الدوميناكانية. فهذه الأخيرة كانت تتبنى التعليم الفلسفي، كبديل للتعليم اللاهوتي المحض، الذي كان يحصل عليه رجال الدين الراغبين في تولي مناصب رسمية ضمن الكنيسة الكاثوليكية. في حين كان الرهبان الدومينيكان عادة ما يتوجهون نحو مسارات مختلفة، عادةً ما تنتهي إلى مناصب الأستاذية في الجامعات والمدارس الأوروبية. وقد سمح التعليم الذي تحصل عليه توماس الإكويني، بالاطلاع على الفلسفة اليونانية بشكل عام، وخاصة أعمال الفيلسوف أرسطو، سواءً من خلال أعماله المترجمة عن اليونانية، أو تلك التي تولى الفلاسفة المسلمون ترجمتها وتنقيحها، وتأتي أعمال ابن سينا وابن رشد، كأهم الإضافات الأرسطية إلى التكوين العلمي الذي تحصل عليه الإكويني.

تجدر الإشارة إلى أن بعض الدراسات، تُعتبر أن القديس توماس الإكويني قد تعمد إحداث تعديلات على أعمال أرسطو، وذلك من أجل جعلها مقبولة لدى الكنيسة الكاثوليكية. ورغم احتمالية صدق هذا الافتراض فيما يخص الأعمال الفلسفية لأرسطو، إلا أن المقارنة بين الأفكار السياسية لكل من المفكرين، توضح محافظة الإكويني بشكل عام على جوهر الفكر السياسي الأرسطي. فأفكار أرسطو حول السلطة، أو الأنظمة السياسية وتصنيفها، لم تتضمن بعداً دينياً مخالفاً للمعتقدات المسيحية، لهذا لم يتم إحداث تعديلات ذات شأن عليها.   

يظهر إضافة إلى التأثيرات التي مارسها المنهج الأرسطي، عامل آخر ساهم في تحديد شكل الفكر السياسي المسيحي بشكل عام، خلال مرحلة العصور الوسطى، ويتعلق الأمر بأفكار البابا غريغوري السابع Gregory VII (1015م-1085م). فقد جسد هذا الأخير عملياً، فكرة القديس أمبروز القائلة بسمو السلطة الدينية على الزمنية، من خلال قيامه بعزل الملوك وتجريدهم من شرعية ممارسة السلطة. فقد أصدر البابا سنة 1075م قراراً، تم بموجبه عزل الملك هنري الرابع Henry IV (1050م-1106م)، وحرم على المسيحيين طاعته أو تنفيذ أوامره، ليس بالاستناد إلى النصوص المؤسسة لنظرية السيفين، بل استناداً إلى خطاب المسيح عليه السلام إلى بطرس (أنظر المحاضرة رقم 01). وقد كان هذا القرار نتيجة لتدخل الملك في تعيين الأساقفة، الذي اعتبره البابا تدخلاً في صلاحياته، باعتباره المسؤول الوحيد عن تعيين الموظفين أو عزلهم. حيث جاء في نص قرار البابا غريغوري السابع، أنه "بمقتضى السلطة المخولة لك من الله، وبحق الربط والحل في السماء وعلى الأرض، وباعتباري ممثلاً لك، أجرد هنري الملك ابن هنري الإمبراطور من سيادته...وأحل رعيته المسيحية من كل أيمان الولاء التي قدموها أو سوف يقدمونها له، وأحرم على أي إنسان أن يقوم على خدمته كملك".

والملاحظ أن رجال الدين في صراعهم مع السلطة الزمنية، لم يستندوا إلى النصوص الداعية إلى تقسيم الولاء المسيحي، بل تم إصدار القرار بصيغة الكلام الموجه إلى القديس بطرس، باعتباره نائباً عن المسيح عليه السلام. وبهذا فإن البابا غريغوري قد منح لنفسه صفة نائب للقديس بطرس، على اعتبار أنه يمارس رئاسة الكنيسة الكاثوليكية، وهي نفس الوظيفة التي ممارسها القديس بطرس. وانطلاقاً من هذه الصفة فإن كل الصلاحيات التي تم منحها المسيح عليه السلام لنائبه، تنتقل آلياً إلى البابا، والذي يمتلك بموجب ذلك سلطة الحل والربط. وما يُمكن استخلاصه من النص الوارد سابقاً، المتضمن قرار عزل الملك هنري الرابع من طرف البابا، أن السلطة السياسية/الرمنية، لم تعد متساوية من حيث المكانة مع سلطة الكنيسة. ورغم أن هذا القرار تسبب في نشوب الحرب الأهلية، التي أدت إلى عزل البابا ثم تلاه عزل الملك في مرحلة لاحقة، إلا أنه يُعتبر منعرجاً اساسياً في الصراع بين الكنيسة والسلطة الزمنية.

وعليه فإن وضع أفكار القديس توماس الإكويني ضمن هذا السياق الفكري، يجعل منها جزء من المساعي الفكرية المسيحية، التي تجاوزت نمط لاهوت الدفاع إلى بعد مختلف من التفكير السياسي. حيث جسدت أفكار الإكويني سعياً لتوفير الأسس الفكرية، من أجل إثبات التفوق الكنسي في مواجهة السلطة الزمنية، وبالتالي تزويد الكنيسة بما يساعدها على إدارة الصراع مع الملوك، وحسمه لصالحها. غير أنه يُمكن ملاحظة أن أفكار القديس توماس الإكويني، تميزت بدرجة أقل من العدوانية التي تميزت بها أفكار القديس أمبروز، وبدرجة أكبر أفكار البابا غريغوري السابع. ويرجع ذلك إلى تأثير الموقع الأكاديمي الذي احتله توماس الإكويني، والذي يقوم على النشاط العقلي والفكري، وبالتالي فهو يتموقع في الصف الثاني للمواجهة، عكس المفكرين السابقين الذين كانا رئيسي الكنيسة الكاثوليكية، وهو ما يجعلهما في مواجهة مباشرة مع السلطة الزمنية.

ثانياً: السلطة السياسية: نقد آراء أباء الكنيسة:  

تبنى آباء الكنيسة ورجال الدين المسيحي بشكل عام، لفكرة الخطيئة الأولى The Original Sin، كتفسير للوجود الإنساني وما يرتبط به من ظواهر. ويزهر ذلك على سبيل المثال في أفكار القديس أوغسطين، حول نشأة مدينة الله ومدينة الأرض، والتي لم تكن لتتحقق لولا عصيان آدم وسقوطه من الجنة إلى الأرض. ونفس التفسير ينطبق على السلطة السياسية، والتي لم تكن موجودة في الحياة الإنسانية السابقة للخطيئة، على اعتبار أن الإنسان لم يكن موجها لممارسة السيطرة على غيره من البشر، حيث تقتصر ممارسته للسيطرة على غيره من المخلوقات غير العاقلة. ويكون هذا الافتراض مبرراً لقبول مبدأ القديس بولس، القائل بضرورة الخضوع لسلطة الأمر الواقع، حتى وإن لم تكن عادلة أو معتنقة للديانة المسيحية، على اعتبار أن هذه السلطة هي تدبير إلهي، لا يجوز مقاومته أو معارضته.

تتخذ أفكار القديس توماس الإكويني، مسارات مختلفة عن أفكار آباء الكنيسة، بتأثير من الفكر السياسي الأرسطي، حيث تكون السلطة وسيلة لإدارة الحياة الاجتماعية الإنسانية. وهذه الأخيرة تتطلب وجود سلطة حتى قبل حدوث الخطيئة الأولى، أو ما يُعرف في التراث المسيحي باسم "حالة البرارة الأولى"، أو قبل الوجود الإنساني على الأرض. وبذلك فإن القديس توماس الإكويني يعتبر أن ظهور السلطة -أو السلطة السياسية-، يرتبط بشكل مباشر بوجود الإنسان وليس بارتكابه للخطيئة. ولإثبات ذلك فهو يمر أولاً عبر تحديد المقصود بالسلطة، حيث يعتبر أن نفي السلطة بالمطلق أمر خاطئ، والأصح هو نفي علاقات السلطة بين السادة والعبيد. "إنما يتسلط متسلط على آخر كعبد متى استخدمه لمنفعة نفسه الخاصة، ولما كان كل شيء يشتهي خير نفسه...لم يُمكن أن يكون هذا النوع من التسلط إلا أليماً على من كان خاضعاً، ولهذا لم يكن هذا النوع من التسلط في حال البرارة".

وبذلك فإن الإكويني يعدل من تصورات آباء الكنيسة حول السلطة، سواءً قبل أو خلال الوجود الإنساني، وتشكيل الكيانات الاجتماعية والسياسية أو الدول بمختلف أشكالها. فمفهوم السلطة أو التسلط الذي يشترك المفكرون السياسيون المسيحيون في نفيه، ليس المفهوم السياسي المرتبط بتسيير الكيانات الاجتماعية، بل بشكل أدق المعنى المتضمن في علاقات العبودية. ويتفق الإكويني في هذا النفي مع القديس أوغسطين، بينما يختلف المفكران حول نطاق هذا النفي، ففي حين ينفي القديس أوغسطين أن كل أشكال السلطة قبل الخطيئة، فإن توماس الإكويني ينفي فقط ما كان موجهاً لخدمة المصلحة الشخصية، والتي يصورها على أنها علاقات السيد والعبد. وبذلك يُمكن القول أن كل أشكال السلطة، المستهدفة لخدمة الخير الفردي، لا تدخل ضمن نطاق السلطة السياسية.    

وبهذا المفهوم تكون السلطة السياسية حصراً، وسيلةً لخدمة الصالح العام لكل أعضاء الجماعة، عكس المفهوم السابق للسلطة المتضمن في علاقات العبد والسيد. وهو البعد الإضافي الذي تضمنه تصور الإكويني، في محاولة لتصحيح الأفكار التقليدية الشائعة خلال مرحلة آباء الكنيسة. يقول في هذا الصدد "وإنما يتسلط متسلط على آخر كحر، متى قصد به إلى خيره...أو إلى الخير العام، وهذا النوع من التسلط كان بين الناس في حال البرارة لأمرين، أولاً لأن الإنسان حيوان مدني...وليس يجوز أن يكون لكثير، عيشة مدنية، دون أن يسود عليهم واحد، يوجه قصده للخير العام...وثانياً لأنه ليس من الصواب أن يفوق إنسان غيره في العلم والعدالة ما لم يصرف ذلك إلى منفعة الآخرين".

فالدولة والحياة الاجتماعية بشكل عام، وما يرتبط بها من ممارسة السلطة، ليست استمراراً للخطيئة الأولى بل هي نتاج للطبيعة الإنسانية، على اعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه. وخضوع الأفراد للسلطة لا يعني بالضرورة، دخولهم بشكل مطلق في حالة العبودية، على اعتبار أن الهدف الأساسي من هذا الخضوع هو تحقيق الخير العام. وبعلاقة متعدية فإن نطاق هذه السلطة السياسية، وما تتضمنه من خضوع الأفراد لها، محدود بما يتطلبه تحقيق الهدف لا أكثر. وهو ما يغلق الباب أمام تبرير الخضوع الكلي للسلطة المطلقة، وفق التصور المتضمن في أفكار القديس بولس، وبغض النظر عن مدى استعدادها لخدمة الخير العام. وبذلك يكون هذا الأخير المعيار الأساسي، للمفاضلة بين أشكال السلطة السياسية، حيث لا تظهر وفق هذا التصور أية إشارة إلى البعد الديني، والذي تضمنته أفكار القديس أمبروز أو القديس أوغسطين، أو حتى أفكار غريغوري السابع مثلاً.

وانطلاقاً من ذلك نستخلص -بتحفظ-:

-        أن السلطة السياسية ليست من طبيعة إلهية مباشرة أو غير مباشرة، حيث لا يتم إسنادها من طرف الله، لا عن طريق النصوص المقدسة، ولا عن طريق الوساطة أو التفويض. وهو ما يعني رفض التأويل السائد لدعوة القديس بولس، المتضمنة وجوب الخضوع المطلق للمسيحيين للسلطة القائمة، باعتبارها تدبيراً إلهياً.

-        أن السلطة السياسية هي ذات طبيعة رضائية، أو تعاقدية بتعبير معاصر، تتضمن ثنائية الولاء أو الخضوع مقابل الخير العام. وبذلك تتضمن مبدأ تقاسم الأعباء بين الحاكم والمحكوم، والذي يبرر خضوع الشعوب للسلطة السياسية، وبذلك فإن الحاكم يفقد شرعية المطالبة بالولاء، في حالة تخليه عن مسؤولية توجيه الحياة الجماعية نحو الخير العام.

-        لا تأخذ السلطة السياسية شكلاً واحداً، بل تتعدد وتختلف صورها، باختلاف طرق إسنادها وممارستها، وهو ما يفتح المجال أمام تصنيف أساليب ممارسة السلطة، استناداً إلى متغير الخير العام.

غير أن النتيجة الأهم التي يُمكن استخلاصها، من النص السابق مفادها أن الفرق الجوهري بين ممارسة السلطة وممارسة الاستعباد، هو مدى التوجه لخدمة الخير العام. فمتى توجه الحاكم نحو خدمة المصالح الشخصية، أو ما يُطلق عليه توماس الإكويني اسم "خير نفسه"، تحول من ممارسة السلطة إلى ممارسة الاستعباد. وهو ما يتعارض مع جوهر ممارسة السلطة وفق هذا التصور، المتضمن توجيه الحياة الاجتماعية نحو الخير العام، أو خدمة المصلحة العامة بالتعبير الحديث. واستناداً إلى هذا الأساس يُمكن القول أن القبول بالخضوع للسلطة السياسية، لا يكون باعتبارها تدبيراً إلهياً وفق تصور آباء الكنيسة، بل باعتبارها وسيلة لخدمة الخير العام. وبذلك يُمكن اعتبار انتفاء هذا الأخير، سبباً في تحول مفهوم السلطة إلى المفهوم المناقض أي "الاستعباد"، ويعتبر الإكويني أن "الرقُ عائقٌ عن حسن استعمال السلطة، لهذا يهرب الناس منه بالطبع".

وهو ما ينفي عن هذا الشكل من السلطة ضمنياً، صفة الشرعية السياسية وكذلك الأخلاقية، وحتى مع عدم شيوع فكرة الثورة خلال تلك المرحلة، إلا أن هذا الاستنتاج يؤدي على الأقل، إلى تراجع مكانة السلطة الزمنية في مواجهة سلطة الكنيسة. فهذه الأخيرة لا تستمد شرعيتها الأخلاقية والدينية، من تقاسم الأعباء بينها وبين الشعب، وبالتالي فهي لا تتحمل مسؤولية من أي نوع أمام الملوك أو الشعوب، بل تقع على عاتقها مسؤولية تجاه الله وحده. ويُمكن في هذا الصدد الاستشهاد بأعمال القديس أمبروز، وبشكل خاص البابا جيلاسيوس الأول Gélase1er (؟-496م)، الذي اعتبر أن الأساقفة يتحملون المسؤولية أمام الله، حتى على أعمال كل المسيحيين، بمن فيهم حتى الملوك.

غير أنه في المقابل لابد من الإشارة، إلى أن هذه الفكرة هي نتاج قراءة في النص المشار إليه أعلاه، والذي يصنف السعي إلى خدمة المصلحة الشخصية للحاكم، ضمن خانة الاستعباد وليس السلطة. فرغم أن هذا النص قد اُقتبس من كتاب الخلاصة اللاهوتية، إلا أن فكرة تجريد هذا النوع من السلطة من شرعيتها السياسية والأخلاقية، لم تندرج بشكل مباشر ضمن كتابات توماس الإكويني، ولهذا يجب التحلي بالتحفظ والحذر عند اعتماد مثل هكذا استنتاج. ولابد من التذكير في هذا الصدد بما سبقت الإشارة إليه، بأن القديس توماس الإكويني، لم يكن ضمن خط المواجهة الأول مع السلطلة الزمنية، على اعتبار أنه أستاذ لاهوت وليس من آباء الكنيسة. وهذا الوضع لا يسمح له بتبني نفس مواقف رؤساء الكنيسة الكاثوليكية، بل تركز عمله بالأساس على توفير الأسس الفكرية، التي تساعد المؤسسة الدينية على إثبات سموها في مواجهة الملوك.

ثالثاً: صور القانون: إعادة الاعتبار للقانون الطبيعي:

يُعتبر موضوع القانون من مظاهر التحديث التي عرفها الفكر السياسي المسيحي، حيث لم يكن هذا الموضوع من المحاور الأساسية لهذا الفكر، وقد يرجع ذلك إلى طبيعة الفكر السياسي المسيحي، ومسارات تطوره المختلفة منذ عصر آباء الكنيسة. فالقانون هو أحد مظاهر السلطة القائمة، التي توجب على المسيحيين طاعتها باعتبارها تدبيراً إلهياً، وينطبق ذلك بعلاقة متعدية إلى القوانين التي تشرعها هذه السلطة وتفرض احترامها. وبدخول الفكر المسيحي إلى مرحلة الولاء المجزأ، فقد تحول القانون الوضعي إلى اختصاص حصري للسلطة الزمنية، وبالتالي فهو لم يحصل على هامش واسع من الدراسة. وفي حالتين فقد بقيت معالجة ظاهرة القانون، كموضوع للفكر السياسي المسيحي، تتم وفق أسلوب فضفاص وعام تحت مسمى العدالة، دون إعطاء القانون مضامين وصور وضاحة قابلة للقياس والدراسة.

يظهر من خلال هذا الموضوع تأثير كل من أرسطو، وكذلك أفكار المدرسة الرواقية، على الفكر السياسي للقديس توماس الإكوني. فقد شكل القانون وما يرتبط به من ظواهر سياسية، موضوعاً أساسياً لأفكار أرسطو. كما أن الفكر الرواقي ساهم في إثراء الدراسات السياسية والقانونية، من خلال فكرة القانون الطبيعي، وكذلك الطابع الإنساني للظواهر السياسية، بما فيها القانون، وهو ما سيظهر من خلال صور القانون التي تضمنها الفكر السياسي الإكويني.

يُعرِّف القديس توماس الإكويني القانون، أو ما يُطلق عليه في كتاب الخلاصة اللاهوتية اسم "الشريعة"، على أنه "نظام ومقدار للأفعال، يُوجب فعلاً أو اجتنابه...ونظام الأفعال الإنسانية هو العقل". أي أن القانون بهذا المعنى، هو قواعد السلوك التي يُحددها العقل، مع العلم أن هذه القواعد ليست نتيجة للعمليات العقلية المجردة، بل هي نتاج العقل العملي، المرتبط بالخبرة العملية، وبالتالي اكتساب القدرة التفريق بين ما ينبغي وما لا ينبغي القيام به من أفعال. لذلك فإن قواعد السلوك المتضمنة في مفهوم الشريعة، هي ذات طبيعة عملية مكتسبة من الواقع، وليس من العلاقة النظرية بين المقدمات والنتائج.

تتمثل أهمية العقل العملي في تحديد ماهية القانون، في اعتباره الوسيلة لتحقيق العدالة المرجوة، من سن وتطبيق القانون في المجتمع. حيث يعتبر توماس الإكويني أن "إرادة ما يُؤمر به لا تتضمن حقيقة الشريعة، إلا إذا كانت منظمة من العقل، وبهذا المعنى يُقال أن لإرادة السلطان قوة الشريعة، وإلا لكانت إرادته عسفاً لا شريعة". فالسلطة تستهدف تحقيق الخير العام والمصلحة العامة، ولا يُمكن تجسيد هذا الهدف إلا من خلال الاحتكام إلى العقل العملي، الذي يسمح بمعرفة ما يجب أن يتم تشريعه من قوانين، وبالتالي تحديد ما يجب أن يُسمح القيام به، وما يجب أن يُمنع، بالنظر إلى علاقة تلك الأفعال بالمصلحة والخير العام.

تتضمن تصورات القديس توماس الإكويني صوراً متعددة للقانون، فعكس ما هو شائع في الفكر السياسي، والأدبيات القانونية بشكل عام، تتجاوز هذه الصور ثنائية القانون الوضعي في مواجهة القانون الديني. واستنادا إلى توماس الإكويني فإن القانون يتخذ أربعة صور أساسية وهي: القانون الأزلي، القانون الطبيعي، القانون الإلهي، القانون الإنساني. وتظهر من خلال هذه الصور المزاوجة بين المصادر الفكرية القديمة (الأرسطية والرواقية)، والتي تُنسب إليها الأفكار المتعلقة بالقانون الأزلي والطبيعي وكذلك الإنساني، بينما يستمد أفكاره حول القانون الإلهي من المصادر المسيحية. غير أنه وفي كل الحالات لا يعتمد على النصوص الدينية، لإثبات وجود الصور السابقة للقانون أو الشرائع، بل يعتمد على المنهج العقلي الذي يُذكرنا دائما بالفكر الأرسطي. فعند محاولته إثبات وجود هذه الصور، عادةً ما يكرر استعمال أسلوب "بما أن...فإن"، أي الانطلاق من مقدمات مسلم بها إلى نتائج لازمة عنها بالضرورة. 

-   القــانون الأزلــي/الشريعة الأزلية Lex aeterna:

ينطبق على هذه الصورة من القانون أو الشريعة، المبدأ العام الذي يعتبر القانون هو تسيير الجماعة، بالاستناد إلى قواعد يضعها وينظمها العقل العملي، لذلك فإن القانون الأزلي هو الوسيلة الإلهية، لإدارة الجماعة الأكبر على الإطلاق. ويعتبر الإكويني أنه "إذا كان العالم يُدبر بالعناية الإلهية...وكان مجموع الكائنات بأسرها مدبراً بالعقل الإلهي، فكان مبدأ سياسة الكائنات المتصور في عقل الله من حيث هو سلطانها يُعتبر شريعة. ولما لم يكن شيء من تصورات العقل الإلهي زمنياً بل كلها أزلية...وجب أن يُقال لشريعة العقل الإلهي أزليةً".

ويُفهم من ذلك أن الشريعة الأزلية هي قانون كلي أو شامل، ينطبق على الكون بأكمله باعتباره جماعة تتطلب الإدارة والتسيير الإلهيين. وبذلك فإن أحكام القانون الأزلي تشمل كل المخلوقات، والتي يجمع بينها الانتماء إلى الجماعة الكونية، سواءً أكانت مخلوقات عاقلة (الإنسان)، أو حتى غير عاقلة (الحيوانات...إلخ). كما أن أحكام القانون الأزلي مستمرة، وغير محددة بزمان فهي مرتبطة بالعقل الإلهي، وليست مرتبطة بظواهر الكون أو ما يتضمنه من مخلوقات متغيرة ومختلفة.

غير أنه يتوجب التساؤل عن جدوى وجود صور أخرى للقانون، في حال وجدت شريعة أزلية شاملة، صالحة لإدارة الكون بما يحتويه من كائنات، بما في ذلك الإنسان وبعلاقة متعدية الجماعات على مختلف أشكالها. مع ذلك يعتبر الإكويني أن القانون من حيث المبدأ، يتضمن القدرة على المشاركة في وضع الشرائع، على أن يُنتج ذلك صوراً أقل درجة من الأولى. فعلى اعتبار أن القانون هو تنظيم للأفعال، يُنتج معرفة ما ينبغي القيام به من الأفعال وما لا ينبغي، فإن وجود القانون الأزلي لا يمنع وجود صور أخرى، تتضمن نفس المبدأ، لكن ليست من نتيجة مباشرة للعقل الإلهي، بل يُمكن أن تصدر عن ما يُطلق عليه اٌلإكويني اسم المخلوق العاقل، وهو ما يقصد به بتعبير آخر الإنسان. وانطلاقاً من ذلك فإن صورة أخرى من القانون، تنبثق مباشرة من الشريعة الأزلية، وتتمثل في القانون الطبيعي.

-   القــانون الطبيعي/الشريعة الطبيعية Lex naturalis:

ينطلق القديس توماس الإكويني من النصوص الدينية، من أجل إثبات خطأ تصور القديس أوغسطين، والذي ينفي من خلاله وجود القانون الطبيعي، على اعتبار أن القانون الأزلي شمل كل التفاصيل، وبالتالي لا حاجة لأي قانون آخر. وعلى ذلك يورد الإكويني نصاً مقتبساً من رسالة القديس بولس، جاء فيه أن "غير اليهود من الأمم، الذين بلا شريعة، إذا عملوا بالفطرة ما تأمر به الشريعة، كانوا شريعةً لأنفسهم...فيثبتون أن ما تأمر به الشريعة مكتوب في قلوبهم وتشهد لهم ضمائرهم وأفكارهم".

ينتج القانون الطبيعي في تصور توماس الإكويني، من خلال الإقرار بإمكانية المشاركة العقلية في الشرائع أو القوانين، فإذا كانت هذه الأخيرة هي عملية عقلية بالأساس، فيمكن إعمال العقل في استنباط قواعد السلوك المختلفة. ويقول الإكويني في هذا الصدد أن الإنسان، أو ما يُطلق عليه اسم الخليقة الناطقة "تحصل لها المشاركة أيضاً في العناية، لعنايتها بنفسها وبغيرها، فهي إذن مشاركةٌ أيضاً في العقل الأزلي الذي به يحصل عندها الميل الطبيعي إلى ما ينبغي من الأفعال والغايات، وهذه المشاركة للخليقة الناطقة في الشريعة الأزلية يُقال لها شريعة طبيعية".

يُمكن القول انطلاقاً من ذلك أن القانون الطبيعي (الشريعة الطبيعية)، هو تدخل العقل الإنساني من أجل تخصيص أحكام القانون الأزلي، بهدف جعله قابلاً للإدراك. بتعبير آخر فإن القانون الطبيعي، هو التفسير العقلي الإنساني للقانون الأزلي، والذي يحتاج إلى قدر كبير من الجهد العقلي من أجل استخلاص مبادئه وأحكامه وتخصيصها. لذلك وإن كانت الصورتان السابقتان للقانون غير منفصلتين، فإن الاختلاف الجوهري بينهما يتمثل في أن القانون الطبيعي عكس الأزلي، يختص بالإنسان دون غيره من المخلوقات. فهو نتاج مشاركة عقلية في القانون الأزلي، وبالتالي فإن التوصل العقلي إلى تحديد الميل الطبيعي لما ينبغي من الأفعال والغايات، لا يكون إلا من خلال الاجتهاد العقلي للإنسان. وفي هذا الصدد يعتبر الإكويني أنه "لما كانت مشاركة الخليقة الناطقة [في العقل الأزلي] تحصل على وجه عقلي وذهني، كما يُقال لمشاركتها في الشريعة الأزلية شريعةً حقيقية...وأما الخليقة غير الناطقة فليست مشاركتها فيه على وجه عقلي ولذلك لا يجوز أن يقال لها شريعة إلا على وجه التشبيه".

تتميز قواعد القانون الطبيعي، بأنها في غاية العمومية والغموض، وبذلك فهي تفتقد إلى الصفة الواجب توفرها في القانون، الذي يُشكل وسيلة لإدارة الجماعة. وعليه فإن القانون الطبيعي يحتاج إلى المزيد البحث العقلي في قواعد هذا القانون، من أجل تحديدها وتخصيصها وجعلها مناسبة لإدارة الجماعة وتحقيق الخير العام. وهو ما يُنتج صورة ثالثة من القانون، يُطلق عليها توماس الإكويني اسم القانون الإنساني، والذي يُعرف في الأدبيات الحديثة باسم القانون الوضعي Droit positif. غير أن هذا افتراض أن القانون الطبيعي هو نتاج مشاركة عقلية إنسانية، لا يعني إمكانية المزج بين مفهوم القانون الطبيعي والقانون الإنساني، رغم أن كلاهما هو نتاج الجهد العقلي الإنساني، وفق تعريف القديس توماس الإكويني لمفهوم القانون.

القــانون الإنساني/الشريعة الإنسانية Lex humana:

يعتبر القديس توماس الإكويني أن القانون الإنساني أو الوضعي، ما هو إلا توضيح وتخصيص للمبادئ العامة المُشكِّلة للقانون الطبيعي. وهو نفس المبدأ المتضمن في تحصيل المعرفة، انطلاقاً من مقدمات مُدركة بالفطرة، وصولاً إلى نتائج لا يُمكن التوصل إليها بنفس الطريقة، بل باستعمال العقل. ويعتبر الإكويني أنه "كما أن العقل العملي يحصل علن المبادئ البينة بنفسها، المدركة بالفطرة، نتائج العلوم المختلفة التي ليست معرفتها حاصلة لنا بالفطرة، بل مستنبطة باجتهاد العقل. كذلك من الضروري أن ينتقل العقل الإنساني من أوامر الشريعة الطبيعية، التي هي بمثابة مبادئ عامة بينة بنفسها، إلى تدبير أمور أخص، وهذه التدابير الخاصة مستنبطة بالعقل الإنساني يُقال لها شرائع إنسانية".

فرغم أن مبادئ القانون الطبيعي مُدركة بالفطرة، إلا أنها مع ذلك غير مناسبة للتعامل مع الشؤون المختلفة، الناتجة عن الحياة الاجتماعية. فهذه المبادئ تُشكل ما يُعرف في الأدبيات المعاصرة باسم "روح القانون"، أي الأهداف أو المقاصد السامية المراد تحقيقها، من تشريع القواعد القانونية الوضعية أو الإنسانية. فعلى سبيل المثال فإن استمرارية النوع الإنساني يُعتبر من مبادئ القانون الطبيعي، لكن ذلك يحتاج تشريعات واضحة وقابلة للتطبيق، تُحرم كل ما من شأنه أن يتعارض مع هذا المبدأ. كما يضع القانون الإنساني تنظيماً عقلياً، لكل ما يتعلق بهذا المبدأ من ظواهر وعلاقات اجتماعية، كتكوين الأسرة، وإشباع الحاجيات الاقتصادية...إلخ.

إن اعتماد القانون الوضعي على العقل الإنساني، يجعله عرضة للخطأ وعدم اليقين، وهو ما يتعارض مع الهادف الأساسي للقانون والسلطة السياسية. وهو ما يُفقد القانون سبب وجوده، كما يُمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية، تتعارض مع مفهوم الخير العام والمصلحة العامة. لذلك يعتبر القديس توماس الإكويني أن القانون الوضعي أو الإنساني، يحتاج إلى مَعلَم واضح يُمكن من خلاله تصحيح أي اختلال، أو خطأ في تحديد قواعد السلوك الواجب اتباعها، ومعرفة ما ينبغي تشريعه من قواعد، بما يخدم الخير العام. ويتمثل هذا المعلم في صورة أخرى من القانون، يُطلق عليها الإكويني اسم القانون الإلهي أو الشريعة الإلهية، والذي يلعب دوراً مزدوجاً، فهو من جهة ضامن لعدم انحراف العقل، عن جوهر الشرائع السابقة (الأزلية والطبيعية)، ومن جهة ثانية يُشكل مرجعية لتشريع القوانين.

القــانون الإلهي/الشريعة الإلهية Lex divina:   

يُقصد بالشريعة الإلهية مُجمل الأحكام والقواعد، الوارد ذكرها في النصوص المسيحية المقدسة، وعلى راسها الشريعة العتيقة (التوراة أو العهد القديم)، وكذلك الشريعة الجديدة (الإنجيل أو العهد الجديد). ويعتبر الإكويني أنه لابد من وجود شريعة أو قوانين إلهية، إلى جانب الصور المذكورة سابقاً للشرائع، وذلك للأسباب التالية:

‌أ.   يحتاج العقل الإنساني المشرع للقانون الوضعي، إلى توجيه إلهي نحو إدراك الخير العام ووسائل تحقيقه، وهو ما يتجاوز القدرة المحدودة للعقل الإنساني.

‌ب.  يتصف العقل الإنساني بعدم يقينية النتائج التي يتوصل إليها، واتساع هامش الخطأ في العمليات العقلية الهادفة إلى تشريع القواعد القانونية، إضافةً إلى الصفة المتغيرة للظروف الزمانية والمكانية. وهو ما يستوجب توجيهات ثابتة ويقينية، قادرة على الاستجابة لتغير الظروف الاجتماعية، وكذلك القضايا التي يُواجهها العقل الإنساني.

‌ج.   يضطر العقل الإنساني في تشريعه للقوانين الوضعية، إلى اتخاذ مواقف توفيقية بين ما هو ممكن، وما يجب أن يكون من جهة مقابلة. فهو في كثير من الأحيان يُراعي الضرورات والمصالح، وهو ما يجعله يغض الطرف عن بعض السلوكات والظواهر الاجتماعية. وفي مقابل ذلك فإن الشريعة الإلهية فهي تواجه الظواهر والسلوكات الاجتماعية السلبية، بغض النظر عن المصالح والضرورات العملية، والتي تفرضها العادات التقاليد الاجتماعية، وكذلك المصالح والإكراهات السياسية.

‌د.    يهتم القانون الوضعي بالأفعال والسلوكات الإنسانية الظاهرة، أما الشرائع الإلهية فتتجاوز هذا الحد، إلى معالجة الظواهر والسلوكات الظاهرة وحتى الباطنة، والتي لا تظهر في شكل أفعال ملموسة.

تُشكل الصور السابقة مجموعة متكاملة من الشرائع، بحيث تساهم كل منها في تفسير وتخصيص الأخرى، وبالتالي جعلها صالحة لتحقيق ما يُطلق عليه المسيحيون اسم الغاية القصوى أو السعادة الأبدية. كما تُساهم من وجهة نظر الأرسطية المسيحية، في تحقيق السلطة للهدف الجوهري لوجودها، وهو الخير العام أو المصلحة العامة. كما يُساهم القانون بمختلف صوره، كمتغير أساسي في تكوين الأفكار السياسية لتوماس الإكويني، وبشكل خاص تلك المرتبطة بالأنظمة السياسية، التي لم تكن موضوعاً أساسياً في الفكر السياسي المسيحي، خلال المراحل السابقة للعصر المدرسي.

رابعاً: تصنيف الأنظمة السياسية: تكريس الأرسطية المسيحية:

لا تختلف معالجة القديس توماس الإكويني لموضوع النظم السياسية، عن معالجة المفكرين اليونانيين لنفس الموضوع، رغم تبنيه لمنهج مختلف في دراسة النظم، عن المنهج المتبع من طرف المفكرين اليونانيين بشكل عام، وأرسطو بشكل خاص. فقد اعتمد هذا الأخير على تحليل مضمون الدساتير اليونانية السائدة (دراسة لـ158 دستور)، وتأسيس أفكاره حول النظم السياسية، انطلاقاً من النتائج المتوصل إليها. في المقابل لم يعتمد الإكويني على تشريح الدساتير والأنظمة السياسية السائدة، بل اكتفى باقتباس أعمال أرسطو، ثم محاولة إثباتها أو على الأقل تعزيزها، من خلال اللجوء إلى النصوص الدينية، أو على الأقل إثبات انسجامها مع الشرائع الدينية. فعلى سبيل المثال، لم تشهد مرحلة العصور الوسطى، أية ممارسات سياسية ديمقراطية أو شعبية، مع ذلك فقد تضمنت دراسة الإكويني الإشارة إلى النظام الديمقراطي القائم على حكم الأغلبية.  

انطلاقاً من ذلك يُمكن ملاحظة التطابق الكبير، بين تصنيف الأنظمة السياسية لدى كل من توماس الإكويني وأرسطو، حيث فرق الإكويني بين ثلاثة أصناف وهي: الحكم الفردي، حكم الأقلية، حكم الأغلبية، ويُمكن تفصيلها كما يلي:

-   الحكم الفردي:

يتضمن هذا الصنف الحكم القائم على حكم الفرد الواحد، ويُطلق عليه بشكل عام النظام الملكي أو بتعبير آخر الملكية La royauté. ويعتبر الإكويني أن هذا النظام يتميز بممارسة السلطة على أساس فضيلة العقل، ومختلف الفضائل والقدرات التي تُميز الأفراد الذين يملكون الاستعداد الطبيعي لممارسة الحكم. كما يتميز باستهداف تحقيق الخير العام ومصالح الشعب. وفي مقابل هذا النظام يظهر الطغيان La tyrannie، القائم على العنف والحكم المطلق، وغياب أي مظهر من مظاهر المشاركة الشعبية.

-   حكم الأقلية:

يتضمن هذا الصنف من الأنظمة السياسية، حكم فئة أو نخبة يتم انتخابها لممارسة السلطة، انطلاقاً مما تتميز به من خصائص ذاتية، غير متوفرة في أغلبية الشعب. ومن أهم هذه الخصائص التمتع بقدر كبير من الفضائل الشخصية، التي تؤهل أفراد هذه النخبة لتوجيه السياسات نحو الخير العام، وهو ما يُعرف في الأدبيات السياسية باسم الارستقراطية L’aristocratie. ويقابل هذا النظام صنف آخر لحكم الأقلية، يُعرف باسم الأوليغارشية L’oligarchie، والذي يعتبره الإكويني نظام الأقلية المتمتعة بالثروة والقوة، والتي تعمل في سبيل خدمة المصلحة الخاصة والشخصية فحسب.  

-   حكم الأغلبية:

يتميز هذا النظام بتمتع أفراد الشعب بالمساواة الكاملة، لممارسة السلطة والوظائف الحكومية، عن طريق الاقتراع ولمدة زمنية محددة وقصيرة. وبذلك يتم تجاهل الفضائل الذاتية الواجب توفرها من أجل ممارسة السلطة، في ظل النظام الأرستقراطي أو حتى الملكي. تحتفظ ضمن النظام الديمقراطية الهيئة الشعبية (الجمعية الشعبية)، بامتلاك السلطة المطلقة والتي تسندها وفق منطق تداولي، بمعنى ضمان قدرة كل مواطن/فرد من الشعب، على الترشح للمناصب الحكومية. غير أن الإكويني يعتبر أن الاعتماد على التناسبية العددية، وكذلك التنوع بين نسب الفقراء والأغنياء ضمن المجتمع، سيعني احتكار السلطة من طرف الطبقة الفقيرة، والتي عادةً ما تُشكل الأغلبية الساحقة للمجتمع.

يظهر من خلال ما سبق الاقتباس الكلي، لأفكار أرسطو من طرف توماس الإكويني، حيث لا نلاحظ أي اختلاف بين المفكرين في تصنيفهما للأنظمة السياسية. ويمتد التطابق بينهما إلى تبني نفس معيار المفاضلة بين الأنظمة السياسية، فقد تبنى أرسطو مبدأ احترام القانون/الدستور، ومدى السعي لتحقيق الخير العام. وهو نفس المعيار الذي تبناه القديس توماس الإكويني، والذي يعتبر أن عدد من يتولون ممارسة السلطة، ليس بالعامل الأساسي في تصنيف الأنظمة والمفاضلة فيما بينها. غير أن البعد المسيحي يفرض ذاته إلى جانب المبادئ الأرسطية، حيث لا تقتصر نظرة الإكويني للأنظمة السياسية، على اقتباساته من أفكار أرسطو، بل يعتمد كذلك على تأويل النص الديني.  

يستند الإكويني إلى الأفكار الطبيعية، لتصنيف الأنظمة السياسية من الأحسن إلى الأسوأ، انطلاقاً من فكرة الخير العام التي تتجسد من خلال وحدة الدولة وازدهارها. لذلك فإن مختلف أشكال السلطة التي تعرفها الطبيعة، تتماشى مع السلطة الفردية، وينطبق ذلك على مملكة الحيوانات كما ينطبق على الكون، الخاضع للسلطة الإلهية المنفردة. لذلك يعتبر الإكويني أن "كل إقليم أو مدينة لا تتم إدارتها من طرف ملك واحد، تكون ممزقة بالخلافات...في حين تنعم المدن المحكومة بملك واحد، بالسلام والازدهار في ظل العدالة". فالإنسان كان اجتماعي بطبعه، وهو بذلك كجميع المخلوقات التي تعيش في جماعات يخضع للسلطة، وفق الكيفيات التي أقرتها القوانين الطبيعية. غير أن السلطة الإنسانية حسب الإكويني، تختلف عن بقية أشكال السلطة في الطبيعة، بأنها سلطة واعية وخاضعة للعقل.    

لا يُعارض الإكويني فكرة وجود النظام الأفضل، ضمن الأنظمة السياسية المعروفة في الفكر السياسي، لكنه مع ذلك لا يخرج عن القاعدة اليونانية-الرومانية، القائلة بأن النظام يفقد أفضليته بتأثير مبدأ الصيرورة Le devenir. وانطلاقاً من ذلك فإن أفضل الأنظمة قد يتحول إلى النقيض، بسبب تغير قيم وأسس النظام السياسي، رغم احتفاظ هذا الأخير بهيكله الخارجي. فرغم تسليم الإكويني بأن النظام الملكي يتماشى مع السنن الإلهية في الكون، إلا أنه غير محصن من التحول إلى أسوأ الأنظمة السياسية، حيث يعتبر أن "المُلك [النظام الملكي] أفضل ما يُساس به الشعب إذا لم يِعراه فسادٌ، إلا أنه لعظم السلطان الذي يخوَّله الملك، يسهل أن تصير سياسة الملك إلى سياسة جورية، ما لم يكن صاحب هذا السلطان مستكمل الفضيلة".

وبذلك فإن إيجاد صيغة جيدة لممارسة السلطة، تفرض العودة إلى التقاليد الفكرية اليونانية والرمانية، والتي تعتبر أن وقف تحول الأنظمة السياسية، لا يكون إلا من خلال التأسيس لنظام مختلط. ويتأسس هذا النظام بالجمع بين خصائص الأنظمة السياسية السائدة، والتي تؤدي إلى إحلال حالة من التوازن، وبالتالي استقرار النظام السياسي في صورة ثابتة/دائمة. كما يتضمن النظام المختلط مبدأ "المشاركة السياسية"، أو مبدأ مشاركة الشعب في ممارسة السلطة، كأساس لإقامة السلم الاجتماعي والسياسي. ويعتبر الإكويني في هذا الصدد أن "مساهمة الجميع نوعاً ما في الرئاسة [السلطة]، فإن ذلك يدعو إلى حفظ السلام بين الشعب، ويحمل الجميع على محبة هذا النظام ورعايته".

لا يتأسس النظام السياسي المقترح كبديل للأنظمة القائمة، على أساس الوراثة أو الحق الإلهي، الذي تتأسس بموجبهما الأنظمة الملكية خلال العصور الوسطى. وفي مقابل ذلك يقوم هذا النظام على أساس الشرعية الشعبية، أي من خلال الانتخاب الشعبي وليس من خلال التعيين. وعليه فإن النظام المقترح يتضمن المزج بين الفضائل الملكية والارستقراطية من جهة، على أن يكون ذلك مستنداً على الإرادة الشعبية. ويعتبر الإكويني في هذا الصدد أن "أفضل ترتيب للرؤساء أن يكون في المدينة أو المملكة، واحدٌ تحصل له الرئاسة بحسب فضيلته ويتسلط على الجميع، وأن يترتب تحته رؤساء تحصل لهم السيادة بحسب فضيلتهم، ولكن بحيث يكون للشعب يد في هذه السيادة، أولاً لجواز أن يكون المُنتخَبون لها من الشعب، وثانياً لانتخاب الشعب إياهم".

لم يوضح الإكويني الفضائل التي تؤهل الأفراد لتولي السلطة، أو الكيفيات التي يتم بموجبها انتخابهم، كما أن فتح المجال أمام مختلف شرائح الشعب، للترشح أو المشاركة في الاختيار، قد لا تضمن توفر الفضائل التي اشترطها الإكويني في اختيار الحاكم (الملك)، والارستقراطيين الذين يُشاركونه ممارسة السلطة. كما أن هذه أن هذه الممارسات السياسية في إسناد السلطة، لم تكن معروفة في هذه الفترة الزمنية، أو على الأقل لم تكن معروفة بهذا الشكل. فقد كان الانتخاب وسيلة معتمدةً في اختيار البابا، أو حتى بعض الملوك خاصة في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، غير أن هذا الأسلوب لم يكن يعني منح حق الانتخاب لكل أفراد الشعب، حيث يقتصر على أقلية تنحصر في بعض أعضاء الكنيسة الكاثوليكية، أو حتى من طرف الأمراء المنتمين إلى الأرستقراطية الحاكمة.

خامساً: الصراع الديني الزمني: الأسانيد الفكرية:

لا ينتمي القديس توماس الإكويني إلى الصف الأول من رجال الكنيسة، الذين تولوا إدارة الصراع مع السلطة الزمنية، على غرار القديس أمبروز وكذلك غريغوري السابع. لذلك فقد كانت أفكاره متحررة من الضغوط المرتبطة بهذا الصراع، على اعتبار أن الإكويني شغل مناصب تعليمية وليس كنسية، وبالتالي فقد اندرجت أعماله ضمن الأعمال الفلسفية في المقام الأول. وانطلاقاً من ذلك لا نجد الصبغة العدوانية، التي ميزت أعمال الكثير من آباء الكنيسة، المتأثرة بالرغبة في تكريس سمو سلطة الكنيسة، في مواجهة سلطات الملوك. رغم ذلك فقد تبنى الإكويني نفس الموقف الذي تبناه رجال الدين، والذي تولى إثباته انطلاقاً من أسس عقلية، وليس بالاعتماد على الخطاب اللاهوتي المستند إلى النصوص الدينية.

يستند موقف الإكويني من السلطتين الزمنية والدينية، إلى طبيعة المهام الموكلة لكل سلطة، وكذلك علاقتها بطبيعة المصلحة التي يسعى كل إنسان إلى تحقيقها. ويظهر أثر هذا المبدأ من خلال الهدف النهائي، الذي يسعى إلى تحقيقه كل من الملوك ورجال الدين، فهو يُحدد المكانة التي يتمتع بها كل منهما، في المجتمع أو الدولة من جهة، وفي مواجهة بعضهما البعض من جهة أخرى.

تُشير القراءة المجراة حول أفكار القديس الإكويني، في المجالين اللاهوتي والسياسي، إلى أن كل من الكنيسة والسلطة السياسية، تُمارسان وظائف مختلفة وتسعيان إلى تحقيق غايات متباينة. فوجود السلطة الزمنية مرتبط بفكرة تحقيق الخير العام، وهو غاية أرضية أو زمنية بالتعبير المسيحي، بمعنى أنه مرتبط بالوجود المادي للإنسان وشؤونه الدنيوية. وبالتالي فإن الخير العام في هذه الحالة يُفضى إلى سعادة محدودة من حيث الزمن، كما أنها لا تشمل كل نواحي الحياة الإنسانية. وفي مقابل ذلك فإن الكنيسة تستهدف تحقيق الغاية القصوى، أي ما يُعرف في الأدبيات المسيحية باسم السعادة الأبدية، أو الخلاص الأبدي. وعليه فإن مهمة الكنيسة تستمر إلى ما بعد حياة الإنسان، كما أنها لا تشتمل على المجالات الروحية، بل تمتد لتشمل كل الجوانب الاجتماعية والسياسية...إلخ.

وانطلاقاً من ذلك فإن تحقيق السلطة الزمنية للخير العام، يكون من خلال الشريعة الإنسانية (القانون الوضعي)، والذي يعتبره الإكويني قاصراً عن تجسيد المجتمع الفاضل، ومعرضاً للخطأ في تقدير ما يجب أن يكون من السلوكات الاجتماعية. وهو نفس القصور الذي يُصيب مختلف أعمال السلطة الزمنية، المعرضة للخطأ وسوء التقدير، وكذلك الانحراف عن الغاية الأساسية من وجود السلطة والقانون، بتعبير آخر الانحراف عن السعي لتحقيق المصلحة العامة. ويعتبر الإكويني في هذا الصدد أن السلطة لا تتضمن بعداً واحداً، حيث يذهب إلى أنه "كما أن من أحسن الأمور أن يُحسن المتسلط استعمال سلطانه في سياسته غيره، كذلك من أقبح الأمور أن يُسيء استعماله، فالسلطة إذا تتعلق بالخير والشر".

ويُفهم مما سبق أن طبيعة المهام التي تؤديها كل سلطة، وما ينتج عن آدائها يُحدد المكانة التي تحتلها كل منها، ضمن البيئة الاجتماعية والسياسية المسيحية. فإمكانية انحراف السلطة الزمنية عن الهدف من وجودها، يجعل سموها السياسي والاجتماعي، قابلاً للمراجعة أو حتى التشكيك. لذلك فقد توجهت أفكار توماس الإكويني، إلى "شرعنة Légitimation" إسقاط طاعة السلطة الزمنية، في حال انحرفت عن تحقيق الخير العام، أو تعارضت أحكامها مع الشرائع الإلهية. ويعتبر في هذا الصدد أن "الشريعة التي تُحَمِّل الرعايا وقراً غير عادل، فإن هذا أيضا مجاوز لترتيب السلطان الممنوح من الله، فالإنسان لا يجب عليه في هذا أيضاً أن ينقاد للشريعة إذا استطاع أن يُعاندها بدون تشكيك أو ضرر أعظم". وهو ما يُعتبر تعديلاً لموقف الفكر السياسي المسيحي، المبني على فكرة الطاعة المسيحية المطلقة، والذي استمر منذ مرحلة القديس بولس. وذلك من خلال إمكانية نزع الشرعية عن الحاكم، ويتوقف ذلك على ألا يؤدي ذلك إلى تهديد الاستقرار والأمن داخل الدولة أو المجتمع.

يعتبر الإكويني تأسيساً على ما سبق أن الغاية التي تسعى كل سلطة إلى تحقيقها، تُحدد مكانتها وطبيعة العلاقة مع السلطة المقابلة لها. فالكنيسة قبلت بدخولها تحت نطاق السلطة الزمنية، على اعتبار أنهما كانتا تتوافقان في الغاية المراد تحقيقها، أي تحقيق الخلاص باعتناق الديانة المسيحية من طرف الرومان الوثنيين، برعاية الإمبراطور قسطنطين المتحول من الوثنية إلى الإيمان المسيحي. غير أن هذا الوضع تغير تدريجياً، بسبب التغيرات التي عرفتها السلطة السياسية/الزمنية، وكذلك تطور المكانة التي احتلتها الكنيسة منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية. فقد انتقلت السلطة الزمنية إلى محاولة تحصيل الخيرات المادية المحضة، وهو ما يعني نهاية الانسجام بين الكنيسة والملوك، حتى مع استمرار اعتناقهم للدين المسيحي.

اعتبر توماس الإكويني في هذا السياق، أن سعي الكهنة ورجال الدين الوثنيين، وحتى ضمن الديانة اليهودية، إلى تحصيل المكاسب والمصالح الدنيوية/الزمنية Tomporal goods، جعلهم خاضعين لسلطة الملوك. على اعتبار أن هذه المصالح أو المنافع، تدخل ضمن مجال الصلاحيات الحصري للسلطة الزمنية، والتي تتولى إدارتها وفقاً لإرادتها المنفردة. غير أن هذا الوضع ينعكس ضمن إطار المسيحية، حيث لا تسعى الكنيسة إلى تحقيق الغايات الزمنية/المادية، بل تهدف أساساً إلى تحقيق غايات سماوية Heavently goods، أي تحقيق الخلاص والسعادة الأبدية للمسيحيين. وهذه الغايات تجعل من السلطة الزمنية، خاضعة بشكل كامل لسلطة رجال الدين، أو لسلطة الكنيسة الكاثوليكية بتعبير عام.

تتماشى أفكار توماس الإكويني حول العلاقة بين الكنيسة والسلطة الزمنية، مع المواقف التي اتخذها آباء الكنيسة خلال مراحل مختلفة، بدايةً مع القديس أمبروز وصولاً إلى غريغوري السابع. غير أن أفكاره تتميز عن مواقف سابقيه في:

-   استند توماس الإكويني إلى المنهج العقلي، من أجل إثبات سمو الكنيسة في مواجهة السلطة الزمنية، ولم يعتمد على البراهين النقلية، أي النصوص الدينية المقدسة، التي استند إليها آباء الكنيسة.  

-   لا تتضمن أفكار الإكويني توسيع نطاق صلاحيات الكنيسة، بتولي إدارة الشؤون الزمنية كبديل للسلطة الملوك، على أن تعمل على تحقيق الانسجام بين أعمال السلطة الزمنية، مع القوانين والشرائع الإلهية.  

-   لا تتضمن أفكار الإكويني نفس المواقف الهجومية، التي تبناها آباء الكنيسة تجاه الملوك، مثل أو تطبيق الحرمان الكنسي، مثل حالتي القديس أمبروز أو غريغوري السابع. فرغم تبني الإكويني لفرضية تزع الشرعية عن الحكام، إلا أن ذلك يكون في أضيق الحدود، فعدم طاعة الملوك لا تتجاوز السياسات والقوانين المخالفة للشرائع الدينية. وعليه يُمكن اعتبار هذه الأفكار، توفيقاً بين المبادئ الدينية من جهة، والضرورات السياسية والاجتماعية من جهة أخرى، فعدم طاعة السلطة الزمنية مشروط بعدم تهديد الاستقرار الداخلي للمجتمع.

شكلت أفكار القديس توماس الإكويني، تحولاً عميقاً في مسار تطور الفكر السياسي بشكل عام، والفكر السياسي المسيحي بشكل خاص. فقد شكلت أعماله مواءمةً بين المرجعية الدينية المسيحية، والبعد العقلي المستوحى من التراث القديم، خاصةً أفكار أرسطو وكذلك الفلسفة الرواقية. وهو ما يُمكن ملاحظته من خلال مؤلفه الخلاصة اللاهوتية، والذي لا يقتصر فيه على الاقتباسات الدينية، بل يتعدى ذلك إلى نقد مختلف الأفكار الدينية والسياسية، بالاستناد إلى أعمال أرسطو والذي يطلق عليه في هذا الكتاب اسم "الفيلسوف".

إن إضفاء الطابع العقلي على الفكر السياسي المسيحي، يُشكل مرحلةً أولى في مسار الإصلاح الديني، ثم في نهاية المطاف نهاية الصراع بين السلطتين الدينية والزمنية. فرغم أن الإكويني قد تبنى مبدأ سمو سلطة الكنيسة، في مواجهة السلطة السياسة أو الزمنية، إلا أن الاعتماد على المناهج العقلية الأرسطية، كان على حساب النصوص المقدسة، والتراث الديني المسيحي بشكل عام. وهو المبدأ الذي ستعتمده حركة الإصلاح الديني، التي تأسست على مبدأ عدم تجريد الكنيسة الكاثوليكية من احتكار تأويل النصوص الدينية. وقد أدى ذلك إلى تهميش دورها في العلاقة بين الإنسان والله، وبالتالي تقليص تأثيرها الاجتماعي والسياسي، وهو ما سمح للسلطة الزمنية بزيادة تأثيرها على حساب السلطة الدينية.  

لا يتوقف تأثير توماس الإكويني عند هذا الحد، بل يمتد إلى غاية العصور الحديثة، حيث ساهمت أعماله في إعادة الاعتبار للتراث الفكري الأرسطي، وهو ما شكّل خطوة مهمة نحو عصر الأنوار في أوروبا. فخلال هذه المرحلة تم التخلص بشكل شبه كلي، من تأثير الدين والميتافيزيقا في الفكر السياسي الأوروبي الحديث، وقد واكب ذلك التأسيس لعلم السياسة الحديث، الذي بدأ في التوجه نحو النظريات السياسية العلمية، كبديل للنظريات السياسية ذات الطابع الفلسفي، القائمة على مقدمات مسلم بصحتها دون الحاجة إلى البرهان المنطقي/العلمي. 

 

 


Modifié le: vendredi 15 mars 2024, 22:29