حركة الإصلاح الديني

تكرس الوجود المسيحي في أوروبا، انطلاقاً من القرن الرابع الميلادي، وتحديداً ابتداءً من سنة 313م، على إثر إصدار مرسوم ميلانو Edictum Mediolanense\Edict of Milan. وانطلاقاً من ذلك، فقد بدأت الكنائس المسيحية في الانتشار في أوروبا، كمظهر أساسي للممارسة الدينية، ثم تحولت تدريجياً إلى مركز للتأثير السياسي. وعليه فإن التحول التدريجي في موقع الكنيسة، حولها من مؤسسة دينية ذات طابع شعائري، إلى قوة سياسية معتمدة على قوة بشرية من المؤمنين. جعلها تعيد ترتيب أولوياتها، فيما يخص الدور الذي يجب أن تُمارسه، ومن خلالها رجال الدين بمختلف رتبهم، سواءً داخل المجتمع أو النظام السياسي في الدول الأوروبية، خاصةً في أوروبا الغربية.

 انطلاقاً من ذلك فقد وُصفت أعمال الكنيسة الكاثوليكية، سواءً على المستوى المركزي، أو على مستوى المقاطعات والإمارات الأوروبية، بالانحراف عن التعاليم المسيحية. وقد صدر هذا الرأي عن شخصيات سياسية (ملوك، أمراء...إلخ)، خاصةً في الإمارات الألمانية، إضافةً إلى الاعتراضات التي أبداها رجال الدين الكاثوليك، على تصرفات الإلكليروس الكاثوليكي. ونتيجة لذلك فقد بدأت الاعتراضات، على الممارسات الكنسية المتعارضة مع روح العقيدة المسيحية، إضافةً إلى رفض أفكار اللاهوتية، الاجتماعية والسياسية، وهو ما أنتج حرجة للاحتجاج على وضع المسيحية في أوروبا، عُرفت باسم البروتيستانتية. وسرعان ما تحولت هذه الحركة، إلى محاولة لإصلاح الكنيسة الكاثوليكية في مرحلة أولى، تحت مسمى حركة الإصلاح لديني، ثم في رحلة لاحقة تبني خيار الانفصال عن المركزية الكاثوليكية، والتأسيس للمذهب المسيحي الثالث، إضافةً إلى الكاثوليكية والأورثودوكسية. وأخيراً فقد نتج عن التحالف بين القادة السياسيين، ورجال الدين البروتيستانت، تغييرات جذرية في التطور السياسي الأوروبي، كنتيجة مباشرة للحروب الدينية، التي أسست نهايتها سنة 1648، لنوع جديد من الممارسة والتفكير السياسيين.  

أولاً: السياق الديني والسياسي لثورة الكنائس:

جاءت موجة الإصلاح الديني، إثر ما عُرف في التاريخ المسيحي باسم ثورة الكنائس، أو حركة الرفض والاحتجاج، والتي واكبت آخر مراحل الصراع بين السلطتين الدينية والزمنية. ورغم أن هذه الحركة جاءت ضمن سياق ديني لاهوتي محض، لكنها في نهاية المطاف أفرزت الكثير من الآثار، على مستوى الأدوار السياسية في أوروبا، بسبب التحالف بين الكنائس المتمردة، والإمارات الطامحة لتوسيع نفوذها السياسي. فقد تزامن صعود الدعوات الداخلية لإصلاح الكنيسة، مع تزايد الطموحات لدى الإمارات الألمانية، لتوسيع دورها داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة (حق انتخاب الإمبراطور)، التي بدأت سلطتها المركزية في الضعف.

وقد شكَّل هذا السياق الميزة الأساسية لهذه الحركة، عن سابقاتها في التاريخ المسيحي والأوروبي، حيث تجدر الإشارة، إلى أن حركة الاحتجاج المسيحي على السلوك الكاثوليكي، لم تكن الحركة الثورية الوحيدة في التاريخ المسيحي. فقد جاءت تالية للعديد من النماذج، التي عرفتها دول مثل فرنسا والنمسا، وهي التجارب التي انتهت بسبب الدرجة العالية، من القمع الذي جوبهت به من طرف الكنيسة والملوك. حيث لم تكن السلطة الكنسية، هي فقط المستهدفة بمطالب الإصلاح، بل شملت أفكار رجال الدين المتمردين، التشكيك في سلطة الملوك. ويكمن الاختلاف الأساسي، بين حركة الاحتجاج، وما سبقها من محاولات للإصلاح المسيحي، في السياق العام الذي جاءت فيه هذه الحركات.    

جاءت حركة الإصلاح الديني، ضمن مسار التطورات السياسية، التي عرفتها أوروبا بشكل عام، وبشكل خاص أوروبا الغربية. فالسلطة السياسية في هذه المناطق، لم تعد قلقة بشأن علاقاتها مع السلطة الدينية، وبالتالي فقد بدأ نفوذها بالتوسع على حساب الكنيسة الكاثوليكية. غير أن هذه الأخيرة مازالت تُمارس بعض التأثير، في تحديد مدى شرعية سلطة الملوك والأمراء، بالنسبة إلى الشعوب التي أقسمت لهم بالولاء. فحتى وإن كان هذا التأثير في كثير من الأحيان، نابع من التأكد من مدى احترام إجراءات وتفاصيل شكلية، إلا انها مع ذلك كانت ذات تأثير عميق، على قدرة الملوك على تنفيذ طموحاتهم السياسية الشخصية والوطنية في نفس الوقت. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، تدخل الكنيسة الكاثوليكية، في إدارة العلاقات القائمة، بين العائلتين الحاكمتين في كل إنجلترا وإسبانيا، بسبب مسائل شكلية تتعلق بمسائل اجتماعية كالزواج. ورغم ذلك، قد كان لهذا التدخل البابوي في هذه المسألة، تأثيرات سلبية على مساعي ضمان وراثة التاج البريطاني، وهو ما دفع الملك هنري الثامن إلى إعلان الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية، والتأسيس للكنيسة الوطنية -الأنجليكانية- التي تولى بنفسه رئاستها.

انطلاقاً من ذلك فقد ظهرت توجهات سياسية، من أجل فك ارتباط الدول وكنائسها الوطنية، مع الكنيسة الكاثوليكية المركزية، وهو ما مهد للتحالف بين رجال الدين ورجال السياسة. وبذلك فقد تجنبت حركة الإصلاح البروتيستانتي، المصير الذي عرفته المحاولات السابقة، رغم تعرض الكثير من زعمائها للاضطهاد، والإجراءات العقابية الكنسية (من خلال محاكم التفتيش)، وعلى رأسهم مارتن لوثر M. Luther (1483 - 1564). ويأتي هذا التوجه في إطار تصاعد النزعة الوطنية، في مواجهة السيطرة الإقليمية للإمبراطورية الرومانية المقدسة، على أغلبية الدول والمناطق الأوروبية.

شكلت قضية صكوك الغفران، المسألة الرئيسية والمباشرة، التي حفزت انطلاق المسار الحديث، لحركة الإصلاح الديني الأوروبي. وترتبط هذه المسألة بمساعي البابا

أما على الصعيد الفكري، فقد سبقت حركة الإصلاح الديني، أو الاحتجاج المسيحي، منظومة فكرية معارضة للدور الذي تُمارسه الكنيسة الكاثوليكية، على الساحة السياسية الأوروبية. وقد تجسد هذا التوجه مع أفكار الراهب الفرنسي جون كيدور Jean Quidort والمعروف بـ"جون الباريسي" (1255-1306) Jean de Paris، وكذلك الراهب الإنجليزي ويليام (غيوم) أوكام (1288- 1348) William of Ockham، والذين عاصروا تقريباً المفكر المسيحي توماس الإكويني. وتنبع أهمية أفكار كل منهما، من كونهما من رجال الدين المسيحي، وينتميان لنظام الرهبنة، سواءً الفرانسيسكانية أو الدومينيكانية، الذي ينتمي إليه أيضا القديس توماس الإكويني (الدومينيكانية). إضافةً إلى موقع تلك الأفكار، ضمن سياق مزدوج لفكر سياسي أوروبي، يتبنى تصورات مختلفة لدور الدين والكنيسة، في الحياة السياسية والاجتماعية. أي ضمن سياق الصراع الديني-الزمني. وسياق الدعوى الداخلية، لإصلاح الكنيسة المركزية الأوروبية، وإعادة تحديد لدورها الحقيقي أو الأصلي، كمؤسسة دينية محضة مهمتها نشر "كلمة المسيح"، وتحقيق "الوعد بالخلاص الأبدي".

وتجدر الإشارة، إلى أن الأفكار السياسية المعارضة لدور الكنيسة، خلال هذه المرحلة من العصور الوسطى، جاءت ضمن سياق فكري لا يقتصر على الإصلاح الديني. فقد اندرجت ضمن الفكر السياسي، المناصر لمبدأ سمو السلطة الزمنية، على حساب السلطة الدينية، التي يتوجب عليها الخضوع لسلطة الملوك. والمثير للانتباه، أن المفكرين القائلين بهذه الفكرة، قد اعتمدوا بدورهم على المبادئ المستمدة من الفكر السياسي الأرسطي، تماماً مثلما فعل المفكرون المدافعون عن سمو سلطة الكنيسة دينياً ودنيوياً، في مواجهة السلطة الزمنية. ومن أهم الأمثلة على هذه الأفكار، نجد الفيلسوف الإيطالي مارسيليو بادوا (1275-1342) Marsilius of Padua، والذي اعتبر أنه يتوجب على البابا والكنيسة، التخلي عن ادعاءات السلطة المطلقة، والالتزام في مقابل ذلك بمبادئ الزهد والتقشقف، التي تبناها المسيح ذاته.

غير أنه وحتى في هذا السياق، فقد ظهرت تصورات تتقاطع مع أفكار حركة الإصلاح الديني، وقد تجسدت مع المفكر الفرنسي جون كيدور Jean Quidort، المتضمنة في كتابة "حول السلطة الملكية والبابوية" أو "De potestate regia et papali". ويتمثل هذا التقاطع في الانتقادات الموجهة للكنيسة، بسبب حيادها عن مهمتها الأساسية، مقابل انشغالها بممارسة دور سياسي، يجعلها بعيدة عن المبادئ الأساسية للعقيدة المسيحية. ومن أهم النتائج المترتبة عن ذلك، اهتمام الكنيسة الكاثوليكية، سواءً على المستوى المركزي أو الفرعي (البابا والكهنة)، بتحقيق الرفاهية المادية على حساب المهام الروحية الأصلية. انطلاقاً من ذلك، يقترح كيدور J. Quidort، إخضاع الكنيسة للرقابة القانونية للسلطة الزمنية، وبشكل خاص المسائل المادية، وتلك المتعلقة بالملكية العامة للكنائس. وأن تقتصر حدود الملكية، على القدر الذي يسمح بأدائها لمهامها الروحية، دون أن يتحول ذلك إلى مصدر للرفاهية المناقضة للمبادئ المسيحية. ويتماشى هذا الموقف، مع الأسلوب الذي تبنته طوائف الرهبنة الدومينيكانية والفرانسيسكانية، الرافضة للرفاهية والبذخ في الحياة بشكل عام، وفي حياة رجال الدين المسيحي بشكل خاص. حيث تعتبر أن ذلك يتعارض مع أسلوب الحياة، الذي تبناه وشجع عليه المسيح، والمبشرون الأوائل بالمسيحية، مثل القديس بولس، والقديس بطرس...إلخ.

جاءت أفكار الراهب الإنجليزي ويليام (غيوم) أوكام (1288- 1348) William of Ockham، في نفس سياق أفكار جون كيدور، حيث يشترك معه في الانتماء لنظام الرهبنة، فقد كان أوكام عضواً بارزاً، في الطائفة الفرانسيسكانية الإنجليزية. كما يشترك أوكام مع غيره من الفلاسفة، والرهبان المعارضين لتوجهات الكنيسة، وتحديداً محاولات الدفاع عن السلطة المطلقة للبابا، خارج المجالات المنصوص عليها في التراث المسيحي (الإنجيل، أعمال آباء الكنيسة الأوائل). وقد نظر أوكام إلى ما ينبغي أن يكون عليه حال الكنيسة، بتأثير من انتمائه الفرانسيسكاني، من خلال محاولة تعميمه لمبدأ أساسي لهذه الطائفة، والقائل حتمية "فقر رجال الدين". وهو ما يتعارض مع الوضع الذي تميزت به الكنيسة، وأعضاؤها من مختلف الرتب، انطلاقاً من البابا، وصولاً إلى أدنى الأساقفة من حيث الرتبة الكنسية. وقد شكل هذا التصور، لما يتوجب أن يكون عليه وضع المؤسسة الدينية، المركزية والمتفرعة عنها على حد سواء، نقطة تحول في الفكر السياسي لويليام أوكام. فقد انتقل بشكل كامل، من المساعي الإصلاحية، إلى الاندماج في الصراع الفكري، المنبثق عن الصراع بين الكنيسة والسلطة الإمبراطورية، نتيجة للعقوبة المسلطة عليه من طرف البابا، على أفكاره حول ضرورة تقشف رجال الدين.

انطلاقاً من هذا التحول، يُمكن ملاحظة بعض التقاطع بين أفكار ويليام أوكام، ورائد حركة الإصلاح الديني مارتن لوثر، بشكل خاص حول دور الوسيط، الذي يُمارسه البابا بين الله والمؤمنين. فمثلما افترض لوثر تماماً، يعتبر الراهب أوكام أن الإرادة الإلهية la volonté devine هي غير محدودة Infinie، ولا تخضع لأية متطلبات للوساطة على الأرض. إضافةً إلى ذلك، يَعتبر أن الله لم يُفوض أي قدر من السلطة الإلهية، لا للكنيسة ولا لأي من الباباوات، بما في ذلك بطرس، حيث لا يُمكن حسبه تأكيد هذه الادعاءات من مصادر إنجيلية. وقد جاءت هذه الأفكار، عكس ما يقوم عليه التراث المسيحي، منذ القرن الرابع الميلادي على الأقل، انطلاقاً من حوار المسيح مع بطرس، المتضمن تصديق الله على قراراته. وستعيد حركة الإصلاح الديني، إنتاج نفس الفكرة من خلال رفض الادعاءات بالوساطة، التي تقوم عليها مكانة رجال الدين في المجتمع المسيحي، وقد تجسد ذلك من خلال القيام بترجمة الإنجيل، أولاً إلى اللغة الألمانية، ثم إلى اللغات الوطنية الأخرى.

وتجدر الملاحظة في هذا الصدد، إلى أن أية حركة داخلية، للرفض أو الاعتراض على سلوكات رجال الدين، وأعضاء الإكليروس الكاثوليكي، قد جاءت دائماً من خارج المركز. حيث لم يقم بانتقاد وضع الكنيسة، ودورها الاجتماعي والسياسي، إلا أعضاء جماعات الرهبنة الدومينيكانية والفرنسيسكانية، بسبب ميلهم نحو التقشف والزهد، باعتبارهما جوهر المسيحية. وفي مقابل ذلك لم يخرج أي من الأساقفة أو الكرادلة (الكاردينالات)، في المقر الرسمي للكنيسة الكاثوليكية، عن النظام المؤسساتي التي وضعته الأخيرة، والذي يفرض التحفظ وعدم الانتقاد، تحت طائلة الحرمان الكنسي Excommunication.  كما يُمكن القول أيضاً، أنه من خلال تتبع الحالات السابقة، لمحاولات الإصلاح الديني، فإن أي نجاح أو فرصة لانتشار الأفكار المعارضة للكنيسة، لابد وأن يكون مستنداً للتحالف مع السلطة الإمبراطورية. حيث توفر هذه الأخيرة، الفرصة لعدم التعرض للعقاب، الذي يُسلط على رجال الدين الخارجين عن طاعة الكنيسة، والذي قد يصل إلى حد الحكم بالإعدام.

ثانياً: الإصلاح الديني: نموذج مارتن لوثر:

يُعتبر مارتن لوثر (1483-1546) Martin Luther، أحد أبرز وجوه حركة الإصلاح الديني، في إطار الكنيسة الكاثوليكية، والإمبراطورية الرومانية المقدسة. فقد بدأت الحركة التي نُسبت إليه إسمياً (اللوثرية)، من مناقشة قضايا بسيطة في إطار ممارسات وتقاليد الكنيسة الرومانية، قبل الوصول إلى مناقشة مسائل جوهرية، في العقيدة المسيحية. وهو ما كان له أثر سياسي مباشر، أولاً على موقع الكنيسة في الحياة السياسية الأوروبية، وتطور الأنظمة والأفكار السياسية في مراحل لاحقة، والتأسيس لمرحلة الفكر السياسي الحديث.

كما تجدر الإشارة، إلى أن مارتن لوثر قد مرّ بأزمة يقين، بسبب التناقض الحاصل بين العقائد الدينية، وممارسات السلطة الكنسية. ومن أجل حسم هذا الصراع الداخلي، فقد انضم إلى أحد الأديرة، المتأثرة بالتراث اللاهوتي الأغسطيني، كما انشغل بإعادة دراسة التراث المسيحي، وبشكل خاص رسائل القديس بولس. وسيكون لهذا الوضع أثر بالغ، في صياغته لبعض أفكاره، لاسيما أفكاره حول السلطة الزمنية، وإعادة صياغة المفهوم البولسي للطاعة المسيحية. إضافةً إلى ذلك، فقد صاغ لوصر بعض أفكاره، على تصورات القديس أغسطين، حول الوجود المزدوج، والذي سيطبقه بصورة مشابهة لأسلوب أغسطين، على كل من الدولة والكنيسة. 

1.    الغفران كانطلاق لحركة الإصلاح الديني:

ارتبطت حركة الإصلاح الديني في شقها اللوثري، بمسألة انتشار بيع صكوك الغفران Indulgentia، كوسيلة لتمويل بناء هياكل كنسية (كنيسة القديس بطرس في روما). وذلك رغم كون مسألة الغفران، من المسائل الأساسية في العقيدة المسيحية، ومنح الكنيسة لوثائق (صكوك)، تتضمن هذا المعنى، لا يُعتبر ممارسة جديدة في الشعائر والتقاليد، التي اعتادت الكنائس الكاثوليكية ممارستها. فالغفران في العقيدة المسيحية، يرتبط بشعائر التوبة، والتي تتم بصور مختلفة، منها زيارة الأماكن المقدسة، في أوقات معينة من السنة، إضافةً إلى ممارسة الاعتراف لدى الكاهن...إلخ.

تجدر الإشارة إلى أن احتفاظ الكنيسة، بالحق المطلق في منح الغفران، وتحديد كيفيات منحه، والشروط المطلوبة لذلك، ترجع لمرحلة زمنية أقدم نسبياً، وهي مرحلة انطلاق الحملات الصليبية الأولى، على الشرق الإسلامي. ففي محاولة لإقناع المسيحيين، بالالتحاق بالجيوش الأوروبية، والمشاركة في "الحرب المقدسة" ضد المسلمين، اعتبر البابا أن من شأن المشاركة في هذا العمل، أن تمنح الغفران للمسيحي، عن ذنوبه السابقة، أو حتى الذنوب التي يُمكن أن يقترفها، خلال القتال ضد الكفار في الأراضي المقدسة. فقد شهدت هذه الحملات، قيام الجيوش الصليبية، بارتكاب مجازر ليس فقط في حق المسلمين، بل كذلك في حق المسيحيين الأورثودوكس، وهي الجرائم التي حصلت على الغفران البابوي، باعتبارها تضحية ضرورية، في سبيل تحرير الأراضي المقدسة.

ويتماشى هذا الوضع، مع تطور التراث الكنسي المسيحي، حول مسألة التوبة والغفران، والذي أصبح مرتبطاً بالكنيسة ابتداءً من مجلس لاتران الرابع سنة 1215 4e Concile de Latran. فقد نصت الوثيقة التي تضمنت القضايا التي تمت مناقشتها خلال هذا المجلس، على أنه "توجد كنيسة للمؤمنين واحدة، وجامعة، ولا خلاص لأحد خارجها". أي بتعبير آخر، لن يتمكن أي مسيحي، أو أي إنسان بشكل عام، من الحصول على الخلاص، والسعادة الأبدية، إلا من خيل نيل البركة والغفران، من الكنيسة الكاثوليكية.

تحولت مسألة الغفران، إلى عامل محفز على إطلاق مسارات الإصلاح الديني، بارتباطها بالبذخ والرفاهية، التي تميزت بها الكنيسة الكاثوليكية، خلال هذه المرحلة، حيث تحولت صكوك الغفران، إلى مصدر أساسي لدخل الكنيسة. فبعدما كانت وثائق رسمية، تُمنح لكل مسيحي قام بالاعتراف وإعلان التوبة، تحولت إلى وثائق مدفوعة الثمن، من أجل تمويل أسلوب حياة رجال الدين بشكل عام، ومن أجل تمويل إنجاز المباني المنسية الضخمة، مثل كاتدرائية القديس بطرس في روما. بسبب العجز المسجل على مستوى الخزينة البابوية، وغياب تمويل بناء الكاتدرائية، أطلق البابا حملة لبيع الصكوك الكنسية، المتضمنة الحصول على الغفران الكنسي، مقابل التزام المسيحي بدفع مقابل مادي. 

وعليه فقد انطلقت أفكار مارتن لوثر اساساً، من رفض بيع صكوك الغفران، باعتبارها لا تزيد عن كونها عملية احتيال، يقوم بها البابا ورجال الدين، باستغلال المكانة الدينية لأعضاء الكنيسة، وتأثيرهم في المجتمع. ثم ما لبثت أن تحولت إلى عملية نقد مستمر، لسلوك الكنيسة الكاثوليكية، ثم امتدت لتشمل مراجعة في التأويلات الرسمية، لأصول العقيدة المسيحية. ويُعبر مارتن لوثر عن تطور مساعيه الإصلاحية بالقول "لم أعقد العزم إلا على مهاجمة صكوك الغفران، ولو أُخبرت بأنه سيكون لي في غضون بضعة أعوام زوجة ومنزل خاص بي، لما صدقت ذلك". وقد شملت حملة التشكيك في الأصول العقائدية، مسألة حق الزواج وتكوين عائلة، بالنسبة لرجال الدين، والذي تمثل في قيام الكثير من القساوسة الكاثوليك، بالتخلي عن الرهبنة، والمضي في تكوين الأسر. وقد نجم عن ذلك التشكيك في السلطة الدينية للبابا، ورجال الدين الكاثوليك بشكل عام، وبالتالي الموقع السياسي والاجتماعي، الذي يتوجب أن تحتله الكنيسة، ومن خلالها الإمارة البابوية في الساحة السياسية الأوروبية.

2.    موقع السلطة الزمنية عند لوثر: تجسيد المنظور البولسي:

جاءت أفكار مارتن لوثر حول السلطة، في سياق تميز باشتداد الصراع، بين السلطتين الدينية والزمنية، تجسد بشكل واضح، خلال مسألة انتخاب الإمبراطور، في الإمبراطورية الرومانية المقدسة. حيث تحول العرف إلى قانون ملزم، يقضي بضرورة إقرار البابا لنتائج الانتخاب، قبل إقرارها بشكل نهائي، وتتوقف شرعية الانتخاب ونتائجه، على المصادقة البابوية عليها. وفي ظل هذا الصراع الديني الزمني، لم توجد الكثير من الأصوات، من داخل الكنيسة الكاثوليكية، التي تحلّت بالشجاعة على تبني مواقف مخالفة، للخطاب الرسمي للكنيسة الكاثوليكية. فحتى المفكرين المسيحيين، سواءً كانوا أعضاءً في الأديرة (الفرانسيسكان والدومينيكان)، أو حتى كانوا رجال دين في الكنيسة الكاثوليكية، لم يكن ممكناً لهم نشر أفكار مخالفة، تحت طائلة العقوبة. ولم يكن لهم من أجل ذلك، إلا طلب الحماية من الأمراء واللوك، وإلا سيكون مصيرهم الإعدام، أو الحرمان الكنسي على أقل تقدير.

تبنى مارتن لوثر -في هذا السياق-، تصوراً مختلفاً حول السلطة الزمنية، عن ذلك السائد لدى رواد الفكر السياسي المسيحي، منذ عصر آباء الكنيسة. حيث لم تقم أفكاره حول هذا الموضوع، على اعتبار سلطة الملوك تقع داخل نطاق الكنيسة وليس خارجه، مثل ما ذهب إليه القديس أمبروز، أسقف ميلانو. كما لم يعتمد على فكرة السيفين، كتجسيد للتعايش بين السلطتين الزمنية والدينية، مع منح الأولوية للأخيرة، كما ذهب إليه القديس أغسطين. وفي مقابل ذلك، فقد تميزت أفكار مارتن لوثر، ومواقفه حول السلطة الزمنية، بمسحة تقليدية "سلفية"، أعاد من خلالها الاعتبار، للأصول العقائدية المسيحية.  

اعتمد لوثر في بنائه الفكري، حول ظاهرة السلطة الزمنية، على إعادة الاعتبار لبعض المرجعيات المسيحية القديمة، مُجسدة في توجه القديس بولس. فقد اعتبر هذا الأخير، أن كل إنسان يتوجب عليه الخضوع للسلطة الزمنية، والتي لا تعدو في نهاية المطاف، أن تكون تجسيداً للإرادة الإلهية. وهو ما تضمنته رسالته لأهل مدينة روما، والتي جاء فيها أنه "على كل إنسان أن يخضع لأصحاب السلطة، فلا سلطة إلا من عند الله، والسلطة القائمة هو الذي أقامها. فمن قاوم السلطة قاوم تدبير الله، فاستحق العقاب". وقد أسس بذلك لمبدأ الطاعة المسيحية، والتي تُعتبر واجباً دينياً على كل مسيحي مؤمن، بغض النظر عن شكل وطبيعة السلطة، أو حتى درجة إيمان الشخص الموكل بممارستها.

وقد أكد لوثر على هذا المبدأ، من خلال توجه ديني محض، يُستخلص من المبدأ المتضمن في مبدأ الطاعة، باعتبار السلطة جزء من التقدير الإلهي. وكذلك اعتماداً على أساس براغماتي، يتمثل في الدور الذي يتوجب على السلطة ممارسته في المجتمع، حيث لا يُمكن أن يسود النظام، إلا من خلال وجود قوة القهر، التي تُمارسها السلطة السياسية/الزمنية. فبمفهوم المخالفة، سيكون أي عصيان للسلطة الزمنية، أو محاولة تقليص دورها التنظيمي، بمثابة إحلال الفوضى وعدم النظام في المجتمع. وسواءً تم ذلك من طرف الشعب، أو من طرف السلطة الدينية المُنافِسة، فإن ذلك سيُعتبر عصياناً وتمرداً على الإرادة والسلطة الإلهيتين.

وعليه فإن السلطة الزمنية، ليست منفصلة عن تعاليم الله، بل هي إحدى الوسائل المرتبة من أجل إنفاذ الإرادة الإلهية في هذا العالم، باللجوء إلى استخدام القوة عند الاقتضاء. ويتوجب ذلك الطاعة المسيحية المطلقة، حيث أن أفراد لمجتمع، بطاعتهم لهذه السلطة، إنما يُطيعون التدابير المنبثقة عن إرادة الله المنفردة والمطلقة. فهو المدبر الوحيد والأعلى لهذا العالم، وهو ما ينسجم مع ما ورد في رسالة القديس بولس. ويعتبر لوثر في هذا الصدد، "إن الله لم يُعطِ الحكام ذنب الثعلب لرفع الغبار، وإنما أعطاهم سيفاً، إن الرحمة ليس لها ما تفعله في مملكة العالم، لأن هذه المملكة ليست إلا خادمة لغضب الله، ضد الأشرار...لهذا فإنها يجب أن تبدو شديدة وقاسية وساخطة في وظيفتها وعملها". فالقهر الذي تُمارسه السلطة الزمنية، هو وسيلة إلهية لمحاربة كل أنواع الشر، فهو بذلك أكثر ضرورة، وأكثر فائدة من الدور الذي تُمارسه الكنيسة في هذا الشأن. فالدولة، التي أطلق عليها لوثر اسم مملكة العالم، بتأثير من أفكار القديس أغسطين، لا يُمكن لها القيام بدورها، بدون الاحتكام إلى السيف.

وبهذا فإن وظيفة السلطة السياسية، لا تقتصر على المسائل الدنيوية أو الزمنية، فهي باعتبارها وسيلةً لتجسيد الإرادة الإلهية، لابد وأن يمتد نشاطها إلى مجالات أخرى، تدخل تقليدياً ضمن صلاحيات الكنيسة. ويتمحور هذا الدور حول البعد الأخلاقي للمجتمع المسيحي، من خلال تبني المبادئ الإصلاحية، التي جاءت بها الحركة البروتيستانتية بشكل عام. فهذا الدور، لا يتطلب تحول الملوك إلى علماء لاهوت، أو إلى قساوسة ورجال دين، فكل مسيحي حسب لوثر، يُمكنه أن يكون عالماً بالأمور الدينية. غير أن الأمر مع ذلك، يتطلب تسخير القوة التي تملكها السلطة، من أجل محاربة الممارسات السائدة، المتجسدة في المجتمع المسيحي منذ عصور طويلة. فحركة الإصلاح الديني، لا يُمكن لها أن تنجح -حسب لوثر-، بدون توفر قوة تحميها، من التهديدات والاعتداءات، التي يُمكن أن تصدر عن سلطة دينية قوية، يُمكن لها أن تُفشل كل مسعى لإصلاح المعتقد والممارسة الدينية.

لا ترتبط الطاعة كواجب على الفرد المسيحي، بصلاح أو إيمان الحكام، وغيرهم من القائمين على شؤون السلطة الزمنية، بل ترتبط وجوباً بدرجة إيمان المحكومين، ويتبنى في ذلك نفس مذهب القديس بولس. وقد ظهر هذا الموقف بشكل جلي، خلال الاضطرابات التي عرفتها ألمانيا، والتي أخذت شكل الثورة التي قادها الفلاحون، ضد سلطة الأمراء خلال الفترة الممتدة ما بين 1524-1526. فخلال هذه الثورة، رفض مارتن لوثر تأييد موقف الفلاحين، حتى مع تسليمه بتعرضهم للظلم والاضطهاد، وحرمانهم من الكثير من الحقوق. غير أنه في المقابل، يتخذ موقفاً مؤيداً لموقف الأمراء، حتى وإن تم ذلك بشكل غير مباشر في بداية الأمر، من خلال اعتبار أن "كون الحكام أشرار وظالمين، لا يُشكل عذراً لقيام الفوضى والثورة".

يُمكن في هذا السياق، إثارة التساؤل حول الدوافع الحقيقية، لموقف مارتن لوثر من السلطة الزمنية، ودورها السياسي والاجتماعي، المتعارض مع سياق تطور الفكر السياسي المسيحي. أي مدى إمكانية اعتباره موقفاً مبدئياً، يتأسس على الإيمان بمبادئ القديس بولس، حول الطاعة المسيحية، أم أنه توجه براغماتي محض، يستهدف استمالة الملوك، لتأييد الإصلاح الديني، من أجل الحصول على الحماية. ومنع الكنيسة الكاثوليكية، من تكرار إجراءاتها القمعية، التي مارستها ضد رجال الدين الذين تبنوا مواقف معارضة، من الناحيتين الدينية والسياسية. وهو ما يؤكده سياق الأحداث السياسية، وبشكل خاص منح الأمراء الحماية للكثير من رجال الدين المؤيدين لمارتن لوثر، وقد شملت هذه الحماية مارتن لوثر نفسه.

غير أن إجراء قراءة في كتابات لوثر، تُظهر أن مواقفه كانت مبدئية، منبثقة عن توجهات المبشرين المسيحيين الأوائل، وعلى رأسهم القديس بولس. إضافةً إلى اعتبار أن أسلوب الفهم والتأويل السائد في تلك المرحلة، لا يقبل بأسلوب الممارسة الدينية، والدور الذي تُمارسه الكنيسة في المجتمع. فرجال الدين الكاثوليك، وعلى رأسهم البابا، يعيشون بأسلوب حياة، ويُمارسون تأثيراً سياسياً في المجتمع، لا يتفق مع أسلوب الحياة، والدور الاجتماعي والسياسي الذي تبناه المسيح -عليه السلام-، والمبشرون الأوائل بالعقيدة المسيحية، مثل القديس بولس والقديس بطرس...إلخ.

3.    تصور لوثر للدولة: إعادة الاعتبار للمنظور الأغسطيني:

تأثرت أفكار لوثر حول السلطة، بإعادة قراءته لتراث القديس بولس، لاسيما رسائله الموجهة لسكان روما، وتلك الموجهة لسكان غلاطيا. غير أن نظرته للدولة، وكذلك الكنيسة، قد تأثرت بأفكار القديس أغسطين، المتضمنة في كتاب مدينة الله، الذي يقيم الفرق والعلاقة بين مدينة الله الأبدية، ومدينة العالم الدنيوية. ولابد من الإشارة إلى تبني كل من لوثر وأغسطين، لفكرة الوجود المزدوج، لا يعني بالضرورة تطابق دوافع والخلفيات لدى كل من المفكرين. فإذا كانت أفكار الأول قد جاءت في سياق لاهوت الدفاع، فإن تصورات الثاني جاءت في سياق مختلف، يرتبط بالتأسيس لنظرية مسيحية جديدة حول الدولة والكنيسة.

غير أنه من المثير للانتباه، التطابق شبه التام، بين تعبير كل من القديس أغسطين ومارتن لوثر، عند الحديث حول الوجود المزدوج للدولة أو "الممالك". فقد استعمل القديس أغسطين، وصف مدينة الله والعالم، للحديث عن كيانين متكاملين، أما مارتن لوثر فقد تحدث عن مملكة الله ومملكة العالم، لكن ذلك قد تم بإعطائهما نفس المعاني. ويعتبر مارتن لوثر أن "هناك نوعين من الممالك: الأولى هي مملكة الله، والثانية هي مملكة العالم، إن مملكة الله هي مملكة العفو والرحمة، وليست مملكة الغضب أو العقاب، لأنه لا يوجد فيها إلا العفو...لكن مملكة العالم هي مملكة الغضب والشدة، لأنه لا يوجد فيها العقاب والمقاومة، والحكم، والإدانة، بغية قهر الأشرار وحماية المستقيمين".

ويظهر من خلال هذا الموقف، أن الشرور المرتبطة بمملكة العالم، تأخذ طابعاً الحتمية الإلهية، بمعنى هي بمثابة القضاء والقدر، المنصوص عليه في التراث المسيحي. كما تنتج هذه الحتمية كذلك، من الشرور المتضمنة في الطبيعة الإنسانية، سواءً صدرت من الشعب، واستحقت العقاب من طرف الله، باستخدام القهر الممنوح للأمراء والملوك. كما يُمكن أن تكون هذه الشرور صادرة عن الحاكم، وبالتالي فلا يجوز حسب لوثر، استخدام هذه الشرور والظلم، كتبرير للتمرد والفوضى، وهو الموقف الذي تبناه إثر ثورة الفلاحين، المشار إليها سابقاً.

إن التطابق الكبير بين أفكار كل من أغسطين ولوثر، لا تعني الاتفاق الكلي في تصوراتهما حول الدولة، أو حول المدينتين أو المملكتين الإلهية والدنيوية. فإذا كان الأول يُشير إلى إمكانية التكامل بين الكيانين، حيث تكون الكنيسة الممثل لمدينة الله في العالم، وتهيئ السبيل للمؤمنين للانتماء إليها. في حين يعتبر لوثر أن الجمع بين الكيانين، سيؤدي إلى حالة فوضى وعدم انسجام، بسبب التعارض الشديد، بين آليات إدارة العلاقات الاجتماعية، في كل من المدينتين. حيث يعتبر لوثر أن محاولة "المزج بين هاتين المملكتين، لن يكون إلا أمراً مفجعاً، لقد وضع الله مملكة العالم، تحت حد السيف والقانون، باعتبار أن العالم بأسره سيء...لهذا فإن من يريد تجاهل السيف والقانون في هذه المملكة، وإدخال الرحمة إليها، سيعمل على ترك الميدان حراً للأشرار". 

وينسجم هذا الموقف بشكل كلي، مع موقف لوثر من السلطة الزمنية، وينتج عنه بالضرورة، التحييد الكلي للكنيسة، عن ممارسة أي دور سلطوي في المجتمع، حتى تلك المتعلقة بالجوانب الأخلاقية للعلاقات الاجتماعية. فمنذ تكريس نظرية السيفين في الفكر السياسي المسيحي، خضع المسيحيون لنوعين متزامنين من السلطة القضائية، تُمارسها في نفس الوقت الكنيسة والسلطة الزمنية. وكثيراً ما تحل محاكم التفتيش، ورجال الدين والقساوسة، محل السلطة القضائية، في توجيه الاتهام للأفراد، وإصدار الأحكام القضائية ضدهم، ليس بموجب القانون، بل بموجب التأويل الفردي للنصوص الدينية. ويتعارض ذلك مع موقف لوثر، حيث لا يكون للكنيسة أي دور قضائي أو سلطوي، بل سيقتصر دورها على المجال الديني، ودعوة الرعايا للتمسك بماورد في النصوص المقدسة.

4.      موقع الكنيسة من وجهة نظر الإصلاح اللوثري:

تشكل الفكر السياسي المسيحي، خلال مدة زمنية طويلة، على محاولة تثبيت الموقع المركزي للكنيسة، في الحياة الاجتماعية وكذلك السياسية. لذلك فقد تحولت سلطة الكنيسة تدريجياً، على إحدى المسلمات، في هندسة الحياة السياسية في أوروبا خلال العصور الوسطى. ولم يكن من المسموح لأي فكر سياسي، التشكيك في هذه المسلمة، تحت طائلة تسليط العقوبات الدينية والجزائية، والتي تصل إلى حد الإعدام، كنتيجة للاتهام بارتكاب التجذيف والهرطقة، والتي يُرادفها الكفر والزندقة في المصطلحات الحالية.

ظهرت حملة التشكيك في سلطة الكنيسة، كموضوع جانبي للموضوع الأساسي، الذي ناقشه المصلحون البروتيستانت، وهو مشروعية بيع صكوك الغفران. فإلى جانب غياب أي دليل ديني، على قدرة الكنيسة على منح وثائق، تشهد بالحصول على الغفران من الذنوب، لا سيما إذا تعلق الأمر بدفع مقابل مالي، فقد أثار مارتن لوثر، إشكالية حقيقة حصول تفويض إلهي بمنح الغفران من الأساس. وينطلق هذا الافتراض، من اعتبار أن الإيمان المسيحي، هو مسألة داخلية منفصلة عن الصور والشعائر الشكلية، التي تظهر في ممارسات رجال الدين والكنائس، والتي لا تعدو أن تكون مجرد وسائل مُكمِّلة. فإذا كان الإيمان المسيحي مسألةً داخلية، فهذا يعني تجريد المؤسسة الكنسية، من دورها كحارس للمسيحية ومعتقداتها، وهو ما يُجردها من موقعها الاجتماعي، إضافةً إلى امتيازاتها الاقتصادية، أو حتى نفوذها السياسي.

ناقش مارتن لوثر، دور ومكانة الكنيسة في المجتمع المسيحي، كموضوع جانبي خلال مناقشته لمفاهيم الدولة والسلطة الزمنية، حيث انتهى في ذلك، إلى ضرورة تقليص دور الكنيسة، وحتى وضعها تحت سلطة الدولة/الملوك. غير أنه بتوجيه تركيز خاص على موضوع الكنيسة، فإنه يقترب بشكل واضح نحو الأسس الأغسطينية، للتفكير السياسي والديني. ولا يُقصد بهذا الاتفاق بين لوثر وأغسطين، حول المكانة التي يجب أن تتلها الكنيسة في الحياة الاجتماعية، السياسية وحتى اللاهوتية. بل بشكل أصح، تبني لوثر لنفس المبدأ الذي تأسس عليه منهج التفكير الأغسطيني، أي الافتراض بالطبيعة المزدوجة للمفاهيم، على غرار الدولة المتجسدة في مدينة الله ومدينة العالم.

يعتبر لوثر انطلاقاً من ذلك، أن الكنيسة الحقيقية ليس لها وجود مادي، فلا تتجسد من خلال مباني الكنائس والكاتيدرائيات، بل هي على تتجسد من خلال فكرة الإيمان. وبناءً على ذلك لا تكون الكنيسة خاضعة للبابا، هي الشكل الوحيد الذي يُمكن أن تكون عليه الكنائس، فهذا الشكل يُطلق عليه لوثر اسم الكنيسة المنظورة، في مقابل الكنيسة الحقيقية، أو الكنيسة المسيحية المقدسة. ويُعرف لوثر هذه الأخيرة على أنها "شَركة القديسين، أي جميع المؤمنين بالمسيح، لأن جميع المؤمنين، والمؤمنين فقط هم أعضاء في هذه الكنيسة". وبذلك فإن الكنيسة تسمية تُطلق على جماعة المؤمنين، وليس بالضرورة على الهياكل والمباني الدينية، وبذلك فهذه التسمية ذات الدلالة الأصح من غيرها. ويُقصد بالإيمان ضمن هذا التصور، الشعور الداخلي الذي يُميز الفرد المسيحي، ويظهر في موقفه من الله والمسيح -عليه السلام-، وغيره من مرتكزات الإيمان المسيحي.

إن اعتبار الكنيسة تجسيد لجماعة المؤمنين، يُلغي كل التصورات التي تراكمت مع الزمن، وبذلك تفقد السلطة الدينية، لتأثيرها السياسي والاجتماعي، باعتبارها مفتقدة للمضمون الحقيقي، الذي استمده لوثر من النصوص المقدسة. وفي مقابلها يتحدث لوثر، عن مظهر آخر للكنيسة، يحتل مكانةً أدنى من الأولى، بسبب طبيعة ودرجة الإيمان الذي يُميز أعضاءها، ويُطلق عليها اسم "الكنيسة المنظورة". والتي تتشكل -حسب لوثر- من "مجموعة الذي يستخدمون كلمة الله، ويُعلنون الإيمان المسيحي. ولكن إلى جانب المسيحيين الحقيقيين، هناك في الكنيسة أيضاً، المسيحيون غير الحقيقيين (المراؤون)".

يُمكن من خلال التعريفين السابقين، ملاحظة الاختلافات الجوهرية، بين أعضاء الكنيستين، ودرجة ونوعية الإيمان التي يتمتعون بها. ففي الأولى يتحدث لوثر عن "المؤمنين، المؤمنين فقط"، ويُعبر هذا الوصف عن ترسخ إيمان حقيقي، لدى أعضاء الكنيسة المقدسة أو غير المنظورة. أما فيما يخص الكنيسة المنظورة، فيتحدث لوثر عن الذين "يستخدمون كلمة الله"، وكذلك من يُعلنون الإيمان المسيحي"، وهنا قد تشمل عضوية الكنيسة المنظورة، المؤمنين غير الحقيقيين، والذين قد يستخدمون الكنيسة، لخدمة أغراض دنيوية ليست لها علاقة بالإيمان، أو بخدمة الدين والله. وفي هذه الحالة، ستكون الكنيسة مكاناً للعبادة، قد يُلجأ إليه المؤمنون وغير المؤمنين، لأغراض وغايات مختلفة، تختلف وتتنوع من حيث السمو، باختلاف درجة الإيمان.

لقد جاءت هذه التصورات في إطار ديني لاهوتي محض، وردت ضمن كتاب "أصول التعليم المسيحي"، والذي وضعه لوثر لإعادة تعريف وتعليم التعاليم المسيحية الحقيقية، للمسيحيين الراغبين في تبني المذهب الجديد. غير أن هذه الأفكار حول الكنيسة، قد انتقلت من المجال اللاهوتي، إلى مجالات الصراع بين البابا والسلطة الزمنية، حول النفوذ الاجتماعي، والسلطة السياسية. فقد تم تبني أفكار لوثر حول الكنيسة، من أجل تقليص مكانة البابا، ضمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة، خاصةً في إطار الإمارات الألمانية التي تمتلك حق انتخاب الإمبراطور. فمن خلال تبني أفكار لوثر، حول الكنيستين المنظورة وغير المنظورة، تم تجريد الكنيسة الكاثوليكية والبابا، من أهم الأسلحة الفكرية، التي ساعدتها على فرض سيطرتها على الدول والشعوب، منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية، وقيام الإمبراطورية الجرمانية.

ثالثاً: تبعات الإصلاح الديني على أوروبا: فكرياً وسياسياً:

بدأت حركة الإصلاح الديني في ألمانيا، ثم امتدت لتشمل الكثير من المناطق والدول في أوروبا، خاصةً الوسطى والغربية. حيث بدأت -كما سبقت الإشارة إليه-، من احتجاج داخلي، ضمن نطاق الكنيسة الرومانية، ثم تحولت إلى مذهب ديني، تحت مسمى اللوثرية، وكذلك توجه سياسي تحت مسمى البروتيستانتية. وتتوجب الملاحظة أن التسمية الأخيرة (أي البروتيستانتية)، قد امتد نطاقها، لتشمل البعدين السياسي واللاهوتي في نفس الوقت. وبالإضافة إلى ذلك، فقد خرجت الأفكار اللوثرية، من نطاقها اللاهوتي للتحول إلى فكر سياسي، يُقدم تصورات مختلفة عن الظاهرة السياسية، لا سيما حول الدولة والسلطة السياسية. لهذا يُمكن القول أن الإصلاح الديني، قد انبثقت عنه تبعات، شملت الجانب الديني والفكري، وأخرى ذات طابع سياسي، أطلقت مساراً للتغير الجذري، في توزيع الأدوار بين الفاعلين السياسيين، على المستويين الوطني والدولي.

1.      تبعات الإصلاح الديني: التوجه نحو الفكر السياسي الحديث:

بدأت الآثار الأولى لحركة الإصلاح الديني، على مستوى المعتقدات الدينية المسيحية، باعتبارها الموضوع الأساسي لهذه الحركة. فقد تكرست "الحرية المسيحية"، كمبدأ أساسي في المعتقدات المسيحية، وفق توجهات رجال الدين البروتيستانت، وعلى رأسهم مارتن لوثر. وقد كانت الحرية المسيحية، كشعور داخلي لدى الإنسان المسيحي، نابعةً من إيمانه الشخصي، وليس له بالضرورة أية مظاهر أو انعكاسات مادية، على المستويين الاجتماعي والسياسي. فالإيمان لا يحتاج فيه المسيحي، لأي مرافقة من طرف المؤسسة الدينية، وبذلك فقد كانت الحرية المسيحية، وفق تصور لوثر وسيلةً للتخلص من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية. فهذه الأخيرة، لم تكن إلا تجسيداً للكنيسة المنظورة، يجب ألا يتم المزج بينها وبين الكنيسة الحقيقية، التي تضم المؤمنين الحقيقيين.

واستمراراً لذلك، فقد توجهت الكنائس البروتيستانتية، نحو تحويل الطقوس والشعائر الدينية، خاضعة للخصوصية اللغوية والثقافية، التي تُميز المجتمعات عن بعضها البعض. ونتيجةً لذلك فقد تم تحرير الإنجيل من هيمنة اللغة اللاتينية، التي حلت محل اللغات القديمة، وتكرست من خلالها هيمنة الكنيسة ورجال الدين، على الحياة العلمية والفكرية. فقد كانت هذه اللغة الوحيدة، التي تم عبرها نسخ النصوص الدينية الأساسية، وعلى رأسها الإنجيل. وهو ما جعل من الكنيسة الرومانية، لفترة زمنية طويلة، الوسيط الوحيد بين مضمون التراث المسيحي والمؤمنين. حيث لم يكن يُمكن أو يُسمح بالتعرف على العقيدة المسيحية، من خلال استعمال اللغات الوطنية (الألمانية، الفرنسية.، أو الإنجليزية)، تحت طائلة الاتهام بالهرطقة، والتعرض لحكم الإعدام. فترجمة النصوص المقدسة من اللغة اللاتينية، إلى اللغات المحلية في الدول الأوروبية، يجعل من الناس في غنى عن اللجوء إلى الكنيسة لفهم الدين، وهو ما أدى إلى تهميش دور الكنيسة حتى في الحياة الدينية، ناهيك عن المجالات السياسية.

ويمتد تأثير ذك، ليشمل الحياة العلمية والفكرية بشكل عام، والذي بدا يتخلص تدريجياً، من الرقابة الدينية الممارسة من طرف رجال الدين، على المستويين الفرعي والمركزي. سواءً بسبب حركة الترجمة نحو اللغات الجديدة، غير اللغة اللاتينية، أو بفضل الحماية التي كان يوفرها الملوك والأمراء، الذين تبنوا المذهب البروتيستانتي، للتخلص من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية. وهو ما فتح الطري نحو السير إلى عصر الأنوار، حيث تخلصت المعرفة من الهيمنة الدينية، والتحول تدريجياً نحو المناهج العقلية في التفكير والبحث العلمي.

وينعكس ذلك بدوره على الفكر السياسي، الذي تحرر من التبعية لموضوع الصراع بين الكنيسة والسلطة الزمنية، والتحول في مقابل ذلك، نحو التأسيس لعلم السياسة الجديد. فقد كان من شأن تخفيف القيود، على التفكير الفلسفي والسياسي، إلى التعرض لمواضيع جديدة/قديمة في علم السياسة، بمعزل عن ارتباطها بالسلطة الدينية، أو الإيمان...إلخ. ونتيجةً لذلك فقد بدأ التوجه نحو دراسة الدولة، السلطة، السيادة، وغيرها من المواضيع، على ضوء الفكر السياسي اليوناني والروماني، بعد زوال القيود الدينية، وتزايد وتيرة ترجمة التراث الأوروبي القديم. وهو ما أعاد الاعتبار للعقل، كوسيلة أساسية للبحث في المواضيع السياسية، بمعزل عن النصوص الدينية المقدسة، والتي لا تقبل التشكيك أو النقد.

وعليه يُمكن القول، أو ثورة الكنائس الأوروبية، وحركة الإصلاح الديني بشكل عام، بمختلف فروعها، كانت الخطوة الأساسية للمرور نحو مرحلة الحداثة Modernity، في التفكير السياسي. والتي ستشهد المذاهب والأفكار السياسي الكبرى، المميزة للعصر الحديث، مثل اللبرالية، الاشتراكية وكذلك الاشتراكية العلمية، المعروفة عموماً باسم الماركسية. والتي ستنبثق عنها تيارات فكرية فرعية، مازال تأثيرها مستمراً في الفكر السياسي، وعلم السياسة بشكل عام، إلى غاية المرحلة المعاصرة.   

2.      تبعات الإصلاح السياسي: نحو تغيير توزيع الأدوار في أوروبا:

شكلت مبادئ الإصلاح الديني، وسيلة في يد السلطة الزمنية لتقليص مجال نفوذ الكنيسة، وبعلاقة متعدية زيادة مجال نفوذ السلطة الزمنية داخل المجتمع. أي إلغاء -أو على الأقل تقليص- نفوذ الكنيسة الكاثوليكية، سيعني بالضرورة اختلال التوازن، لصالح إطلاق يد السلطة الزمنية وتحريرها من كل القيود، التي شكلتها منذ فترات طويلة سلطة الكنيسة. فجعل الكنائس البروتيستانتية ذات طابع وطني، يعني إخراجها من دائرة النفوذ الكاثوليكي المركزي، وجعلها تحت السلطة المباشرة للسلطة الزمنية، باعتبارها قد تحولت إلى جزء من السياسة الوطنية للدولة. وهو ما يزيد من الهيمنة التي يُمارسها الأمراء والملوك، على الحياة الاجتماعية والسياسية، بما يؤسس للسلطة السياسية المطلقة، أو ما يُعرف بالإطلاقية السياسية Absolutisme politique.

استمراراً لذلك، فقد خرجت مناطق كثيرة داخل الإمبراطورية الرومانية المقدسة، من الولاء للكنيسة الكاثوليكية، نحو تبني المذهب البروتيستانتي، كمذهب رسمي للدولة أو المقاطعة. وهو ما أثر على مجالات النفوذ والسيطرة، بين معسكرين أساسيين من الدول الأوروبية، المعسكر الكاثوليكي في مواجهة المعسكر البروتيستانتي. وقد أدى ذلك إلى الدخول في سلسلة من المصادمات العسكرية المحدودة، بين الكاثوليك والبروتيستانت، سواءً داخل الدولة الواحدة، أو فيما بين الدول. وقد انتهى ذلك، إلى اندلاع الحروب الدينية، التي استمرت من 1618 إلى غاية 1648، والتي انتهت بتوقيع معاهدة ويستفاليا، التي تُعتبر بدايةً للعلاقات الدولية الحديثة، تحت مسمى نظام ويستفاليا.

ورغم أن الحدود الدينية بين الكاثوليك والبروتيستانت، لم تكن بالغة الأهمية في تطور الصراع بين الطرفين، حيث قامت بعض الدول بالدخول في تحالفات ضد بعضها، بغض النظر عن مذهبها الديني. إلا أن الصراع قد أخذ في بعض أبعاده، صراعاً بين التوجهات الحديثة في ممارسة الحكم، ضد توجهات تقليدية جسدها البابا، وكذلك الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والتي كانت أهم الدول التي تتبنى المذهب الكاثوليكي.

خاتمة:

نشأت حركة الإصلاح الديني، على مبدأ رفض صكوك الغفران، ومحاولات إقناع الكنيسة والمجتمع، بأن المسيحي يُمكنه الحصول على الغفران، من خلال الإيمان. ولم تتضمن في البداية، أية توجهات لتكريس الانفصال، بين الكنائس البروتيستانتية، والكنيسة الكاثوليكية المركزية، بل كانت مجد حركة إصلاحية داخلية. ويُمكن القول أن حركة الإصلاح الديني، لم يكن ممكناً أن يكون لها أي مساهمة في الفكر السياسي، لو حظيت أفكارها الإصلاحية بالقبول، من طرف الكنيسة الكاثوليكية. أي أن الفكر السياسي لحركة الإصلاح الديني، قد جاء نتيجةً لتطور الصراع، في مسار أول بين الكنيسة الرومانية والمصلحين البروتيستانت، وفي مسار ثاني الصراع بين البابا والسلطة الزمنية. وبالتالي فقد شكلت حرجة الإصلاح الديني، مصدراً للتصورات الفكرية والسياسية، التي خدمت مصالح السلطة الزمنية، وأدت في مرحلة ثانية، نحو التأسيس لفكر سياسي حديث، بعيد كل البعد عن القيود والمضامين الدينية.

وعليه فإن أهمية الفكر السياسي لحركة الإصلاح الديني، تنبع من كونه فكراً سياسياً دينياً، على غرار المدارس الفكرية التي تم التطرق غليها سابقاً (القديس أغسطين، القديس توماس الإكويني). غير أنها قد انتجت في النهاية فكراً سياسياً، بعيداً عن المضمون الديني، وكذلك شكلت الأساس لبداية الأفكار السياسية، ذات الطابع العلماني، على غرار اللبرالية بمختلف تياراتها. والتي جاءت للتعامل مع أهم النتائج السياسية، الناتجة عن نجاح حركة الإصلاح الديني، المتمثلة في صعود الحكم المطلق، حتى وإن وصف هذا الحكم في كثير من الأحيان، بأوصاف أفلاطونية، مثل الاستبداد المستنير Le dispotisme éclairé


Modifié le: lundi 29 avril 2024, 08:42