مدخل إلى الفكر السياسي المسيحي

ارتبطت المسيحية كديانة ومرجعية للتفكير السياسي، بالتطور السياسي للإمبراطورية الرومانية، وذلك منذ سنة 311م على الأقل. فانطلاقاً من هذا التاريخ ألغت الدولة، قوانين اضطهاد الأقليات الدينية، وكذلك قوانين اضطهاد الأقلية المسيحية، التي ترجع إلى عهد الإمبراطور نيرون والذي لحقه إصدار اتفاق أو مرسوم ميلانو Edictum Mediolanense\Edict of Milan سنة 313م، من طرف الإمبراطورين قسطنطين (الإمبراطورية الغربية) وليكينوس (الإمبراطورية الشرقية). فبموجب هذا المرسوم أصبح لكل رعايا الإمبراطورية، الحق والحرية في اعتناق ما يشاؤون من ديانة، فقد جاء في هذه الوثيقة أنه "المسيحيين وكل من سواهم من الناس، لهم الاختيار أن يعتنقوا الدين الذي يريده كل واحد ويجلب لنا جميعاً رضى الآلهة السماوية". غير أن هذا الإعلان عن التسامح مع المسيحية، لم يتضمن تبني المسيحية كديانة رسمية وحيدة للإمبراطورية الرومانية، في هذه المرحلة على الأقل. فعكس ما يعتقد البعض، فإن مرسوم ميلانو لم يكن إعلاناً عن تبني روما للديانة المسيحية، كديانة وحيد تحل محل الديانات والمعتقدات الأخرى، بل فرض حالة من التعايش الديني، بين طوائف تمتلك جميعاً الحق في ممارسة شعائرها الدينية دون إكراه.

انطلاقاً من منتصف القرن الرابع الميلادي، انتقلت المسيحية إلى المرحلة الثالثة من علاقتها مع السلطة، فقد تحولت تدريجياً إلى الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية، ثم إلى الديانة الوحيدة للإمبراطورية ابتداءً من سنة 380م. وبذلك فقد تحولت تدريجياً إلى مصدر لشرعية ممارسة السلطة، من خلال دعم الكنيسة خلال الأزمات السياسية، ثم انتقلت في مراحل لاحقة إلى مرجعية لتنظيم ممارسة السلطة، من خلال وضع تصورات حول ما يجب أن تكون عليها هذه الأخيرة، والعلاقة التي تجمع بينها وبين المؤسسات الدينية. وقد شكلت هذه التصورات بشكل عام، أساس العلاقة بين الكنيسة والمفكرين المسيحيين من جهة، والسلطة السياسية من جهة ثانية، والتي كانت بدورها أحد أهم محاور الفكر السياسي المسيحي.

أولاً: تأويل النصوص كأساس للفكر السياسي المسيحي: 

تُشكل النصوص الدينية أساساً للفكر السياسي المسيحي، باعتبارها مصدراً للتصورات حول ظاهرة السلطة السياسية، ومرجعية أساسية لممارستها. وتشترك الأفكار السياسية المسيحية في هذا الصدد، مع كل أشكال الفكر السياسي الديني، بما في ذلك الفكر السياسي الإسلامي. غير أن ما يتميز به الفكر المسيحي، هو خضوع تأويل النصوص الدينية، لتوازن القوى السائد في المجتمع، بين الكنيسة ورجال الدين من جهة، والسلطة السياسية في الجهة المقابلة. لذلك يُمكن الافتراض بأن التغير في ميزان القوة، يؤدي بالضرورة إلى تغير المواقف بين الطرفين، من خلال الاستناد تأويل مختلف للنص المقدس. واستناداً إلى هذا الافتراض، يُمكن تقسيم مراحل تطور الفكر السياسي المسيحي إلى:

- تيار الخضوع أو الطاعة المسيحية: رسالة القديس بولس:

تميزت المسيحية خلال هذه المرحلة بالضعف، سواءً من الناحية الدينية أو السياسية، فرغم اعتناق "الدولة" إلى الديانة المسيحية، إلا أن هذه الأخيرة لم تتحول بعد إلى قوة سياسية، يُمكنها فرض تصوراتها كمرجعية سياسية. لذلك فقد توجهت الكنيسة إلى تبني مبدأ "الطاعة المسيحية"، كأساس للعلاقة بين الإنسان المسيحي والسلطة السياسية، وبذلك يكون الخضوع للحاكم، جزءً من التعاليم الدينية الواجبة. ويتم الاستناد في هذا الموقف إلى النصوص الإنجيلية المقدسة، التي تجعل من الخضوع للحاكم بمثابة الخضوع للتقديرات الإلهية. فقد جاء في رسالة القديس بولس:"على كل إنسان أن يخضع لأصحاب السلطة، فلا سلطة إلا من عند الله، والسلطة القائمة هو الذي أقامها. فمن قاوم السلطة قاوم تدبير الله، فاستحق العقاب".

ويتضح من هذا النص أن الخضوع للسلطة السياسية (الحاكم)، لا يرتبط بالمعتقدات الدينية للحاكم، فعلى المسيحي طاعة السلطة ليس لأنها تعتنق نفس ديانته، بل لأنها من الترتيبات الإلهية. وبذلك لا يجوز للإنسان المسيحي إلا الإيمان والتصديق بها، وإلا سيواجه العقوبة -الدينونة في يوم الحساب- المترتبة على العصيان. ولا تنفرد المسيحية بهذا التوجه، والذي نجده متكرراً بشكل أو بآخر، في مختلف أوجه الفكر السياسي الديني، الذي يذهب تيار كبير منه إلى اعتبار السلطة السياسية تقديراً سماوياً، يُواجه بالعقوبة كل من يعارضه، ويستمر وجود هذه الأفكار حتى في العصور الحديثة.  

- تيار التوازن بين الكنيسة والسلطة: الولاء لله والقيصر:

استمرت فترة الطاعة المسيحية إلى غاية تحول الكنيسية، إلى مؤسسة دينية قائمة بذاتها، وتحولها إلى محاولة ممارسة دور سياسي، كقوة موازِنة لقوة السلطة السياسية. فانتشار المسيحية كديانة رسمية وحيدة في أوروبا، جعل من الكنيسة قادرة على تجاوز حالة الخضوع الكلي، والبحث عن توسيع مجال نفوذها، والخروج من الدائرة الدينية الضيقة، إلى دائرة أوسع تجمع فيها بين النفوذ الديني والتأثير السياسي. ومن أجل ذلك فقد تم اللجوء مجدداً إلى تأويل النصوص المقدسة، بهدف إعطاء الشرعية الدينية للمطالب الكنسية، بالمساواة مع السلطة السياسية. وفي هذا الصدد يُشار إلى النص الإنجيلي، المتضمن السؤال المطروح على المسيح عليه السلام، حول أحقية السلطة السياسية بالحصول على الجزية، فقد جاء في الإنجيل:"فعرف يسوع مكرهم، فقال لهم...أروني نقد الجزية فناولوه ديناراً، فقال لهم لمن هذه الصورة وهذا الاسم قالوا: للقيصر فقال لهم ادفعوا اذاً إلى القيصر ما لقيصر، وإلى الله ما لله".

إن الاحتكام إلى العبارة "ما لقيصر لقيصر...وما لله لله"، يعني أن طاعة المسيحي لابد وأن تكون للسلطتين السائدتين في المجتمع أو الدولة. وبذلك تكون الكنيسة ممثلة لسلطة الله، وبذلك تحصل على نفس المكانة التي تتمتع بها السلطة السياسية، وهو ما تأسست عليه تسمية السلطة الزمنية (الملك/الإمبراطور)، في مواجهة السلطة الدينية التي تمثلها الكنيسة. غير أن العلاقة بينهما لا تكون الخضوع المطلق (الذي ميز المرحلة الأولى)، أو الصراع الصفري Zero Sum  (الذي ميز المرحلة الأخيرة). وفي مقابل ذلك تسود حالة من التوازن، تُشبه إلى حد كبير حالة الفصل بين السلطات، من خلال احتكار الكنيسة للوظائف الدينية، في حين تنفرد السلطة السياسية بالمسائل القانونية والدنيوية بشكل عام.

- تيار الصراع الصفري على السلطة: البابا في مواجهة الإمبراطور:

تستند الكنيسة في القول بالأولويتها على السلطة الزمنية، إلى حادثة تاريخية التي جرت بين البابا ليون الثالث Leo III، والإمبراطور شارلمان Charlemagne سنة 800م. فقد وفرت السلطة الزمنية الحماية العسكرية للبابا، مقابل قيام هذا الأخير بتتويج الإمبراطور في روما، رمز السلطة البابوية/الدينية. غير أن عملية التتويج وإن كانت ترمز بشكل سطحي، لسلطة الإمبراطور المطلقة على رجال الدين، إلا أنها زادت من مكانة الكنيسة في مواجهة الإمبراطور، حيث لم يقم البابا بأي من سلوكات التبجيل أو التعظيم لرمز السلطة الزمنية. وقد اُعتبر ذلك على أنه تعبير عن الندية، أكثر من التعبير عن الخضوع الذي تضمنته عملية التتويج.

غير أن هذه الحادثة تستند بدورها إلى النص الديني، الذي تضمن محاورة بين المسيح عليه السلام، وبطرس أحد تلاميذه المقربين. فقد جاء في الإنجيل "أنا أقول لك أنت صخر، وعلى هذا الصخر سأبني متيستي، وقوات الموت لن تقوى عليها. وسأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فما تربطه في الأرض يكون مربوطاً في السماء، وما تحله في الأرض يكون محلولاً في السماء". وبذلك فإن التأويل المسيحي للنص الأخير، يتضمن إعطاء بطرس صلاحيات الحل والربط في كل المسائل، سواءً أكانت ذات طبيعة دينية أو دنيوية. وهو ما يعني أن سلطة الكنيسة ستتجاوز بموجب ذلك، الحدود المرسومة لصلاحياتها والمحددة في المسائل الدينية، وإجراء الشعائر والعبادات، لتُمارس الرقابة الأخلاقية والدينية حتى على أعمال السلطة الزمنية. فقد اعتبرت الكنيسة أنا البابا  هو خليفة بطرس، وبذلك فإن كل الصلاحيات التي منحه إياها المسيح عليه السلام، تنتقل بشكل آلي إلى من يتولى مهام رئاسة الكنيسة، وهو ما يعطي لهذه الأخيرة القوة والنفوذ في المجالين الديني وكذلك الزمني (السياسي).

يُمكن ملاحظة أهمية النص الأخير، من خلاله استخدامه من طرف رجال الكنيسة، في إدارة صراعها مع السلطة الزمنية، وتبرز في هذا الصدد أفكار القديس أمبروز أسقف ميلانو  St Amobrois of Milan ، وكذلك سياسات البابا غريغوري السابع Gregory VII. فقد اعتبر أمبروز أن الملوك، هم ضمن نطاق سطلة الكنيسة وليسوا فوقه، أما غريغوري السابع فقد استند إلى نفس النص، عند معاقبته للملك هنري (ملك ألمانيا وإيطاليا) بنزع الشرعية الدينية عنه.

لابد من الإشارة إلى أن التيارات الفكرية التي سبقت الإشارة إليها، لا يجب أن يُنظر إليها من منظور التعاقب، بل هي على الأصح تيارات متداخلة، كان من الضروري الفصل بينها لأغراض التوضيح والدراسة. أما من الناحية العملية فنجد تداخل بين هذه المواقف المسيحية من السلطة السياسية، حتى خلال الفترات الزمنية الأولى لظهور هذه الديانة ضمن الإمبراطورية الرومانية. فدعوات القديس بولس لطاعة السلطة، قابلتها رفض مسيحي للالتزام بقوانين السلطة الوثنية. وفي نفس السياق فقد تعارضت أفكار القديس أمبروز، مع أفكار القديس أغسطين الذي دعا إلى التوزان بين السلطلتين، وليس سمو الكنيسة كما نادى به أمبروز، الذي تلقى أغسطين على يديه تكوينه الكهنوتي، ورغم التقارب الزمني بين المفكرين/الأسقفين.

ثانياً: المواضيع الأساسية للفكر السياسي المسيحي:

ركز المفكرون السياسيون المسيحيون أفكارهم بشكل عام، على موضوع أساسي وهو العلاقة بين السلطتين الزمنية والدينية، وإدارة الصراع بينهما بهدف إدخال الملوك ضمن نطاق صلاحيات الكنيسة. وسيشكل هذا الموضوع المحور الأساسي للأفكار السياسية المسيحية، بدرجات وصياغات مختلفة باختلاف مناهج المفكرين السياسيين، وظروف البيئة السياسية والاجتماعية التي يتواجدون في إطارها. واستناداً إلى هذا المحور يُمكن تحديد المحاور الأساسية للفكر المسيحي، في:

- الكنيسة والسلطة السياسية:

شكلت العلاقة بين الكنيسة والسلطة، الموضوع الأساسي للفكر السياسي المسيحي، وهو ما جاءت الإشارة إليه أعلاه كمحور أساسي تندرج تحته مجموعة من المواضيع الفرعية. إضافةً إلى المساحة التي خصصها هذا الفكر للسلطة السياسية بشكل مجرد عن الصراع الديني الزمني، رغم أن هذا البحث جاء من أجل دعم حجج الكنيسة في إدارتها للصراع. والملاحظ في هذا الصدد استمرار طرح تصورات فكرية، بتأثير من الخلفيات الفكرية اليونانية والرومانية، وهو ما نلاحظه بدرجة متفاوتة في أفكار القديس أغسطين، وكذلك القديس توماس الإكويني.  

- القانون والشرائع:

يحضر القانون في الفكر السياسي المسيحي، بتأثير من الخلفيات الرومانية بشكل خاص، إضافةً إلى تأثيرات الفكر الأرسطي، الذي انتقل إلى أوروبا عن طريق الترجمات الإسلامية، التي جردته من مضمونه اليوناني الوثني. فقد ركز القديس أغسطين على فكرة القانون الطبيعي، والتي تجد آثاراً لها في الفكر السياسي الرواقي بشكل خاص، إضافةً إلى النصوص الدينية خاصة أعمال القديس بولس. أما توماس الإكويني فقد كانت أفكاره حول القوانين والشرائع أكثر تفصيلاً، حيث ينطلق في تدرج رتب القانون من القوانين الأزلية وصولاً إلى القوانين الإنسانية/الوضعية.

- الأنظمة السياسية:

لم تكن الأنظمة السياسية موضوعاً رئيسيا في الفكر السياسي المسيحي، ويرجع ذلك إلى البيئة السياسية والاجتماعية، التي ميزت أوروبا خلال فترة العصور الوسطى. حيث عرفت أوروبا نفس النظام السياسي بشكل عام (الإطلاقية السياسية L’absolutisme)، وبالتالي لم يكن طرح نظام بديل أو مختلف عما هو سائد، توجهاً شائعاً لدى المفكرين السياسيين. فحتى أعمال توماس الإكويني حول الأنظمة السياسية، انتهت إلى تأكيد الوقائع السياسية السائدة، باعتبارها منهجاً كونياً طبيعياً.

ثالثاً: تطور الفكر السياسي المسيحي:

لا ينفصل الفكر السياسي عن الأوضاع السياسية والاجتماعية، السائدة في بيئة ما خلال فترة زمنية معينة، وهو ما يعني أن تغير عناصر البيئة السياسية والاجتماعية، يعني بالضرورة إحداث تغييرات متفاوتة على مضمون وتوجهات الأفكار السياسية. وانطلاقاً من ذلك فإنه لا يُمكن فهم الفكر السياسي بشكل عام، وبما في ذلك الفكر السياسي المسيحي، بمعزل عن التغيرات الاجتماعية والسياسية، التي عرفتها أوروبا منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية (الغربية). واستناداً إلى هذا الافتراض، فإنه يُمكن التمييز بين ثلاث مراحل لتطور الفكر السياسي المسيحي، تنطلق من مرحلة التأسيس الفكري، وصولاً إلى مرحلة التراجع بتأثير من ثورة الكنائس، والمعروفة تاريخياً باسم حركة الإصلاح الديني.

- المرحلة الأولى: التأسيس للفكر السياسي المسيحي:

لم تتضمن الأفكار السياسية المسيحية في هذه المرحلة، نماذج سياسية واجتماعية بديلة لتلك السائدة، بل يُمكن القول -بتحفظ-، أن الجهود الفكرية في هذه المرحلة، كانت بمثابة محاولات التبرير للوضع السياسي السائد. فرغم تحول المسيحية إلى ديانة معترف بها، ثم إلى ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، إلا أنها مع ذلك لم تدخل في صراع مع السلطة السياسية. فالكنيسة خلال هذه المرحلة، لم تظهر كقوة موازنة للسلطة الزمنية، وبالتالي لم تكن هناك الحاجة لأطر فكرية، لتقوية الموقع السياسي للكنيسة أو البابا في مواجهة الإمبراطور.

وفي المقابل فقد تميزت أوروبا خلال هذه المرحلة، بحالة من الفوضى السياسية، بسبب حالة الضعف العام التي ميزت الإمبراطورية الرومانية، ثم سقوطها إثر غزو القبائل القوطية والجرمانية. لهذا فقد كان من الضروري على آباء الكنيسة، ورجال الدين المسيحي بشكل عام، التأسيس للأطر الفكرية والنظرية، والتي استهدفت في البداية ليس التنظير للظاهرة السياسية والاجتماعية، بل الدفاع عن الدين المسيحي، وإنكار العلاقة السببية بين هذا الأخير والأوضاع السائدة. وهو الاتهام الذي وجهته الطوائف غير المسيحية، والتي اعتبرت أن اعتناق الرومان لهذا الدين، هو السبب الأساسي وراء ضعف وانهيار الإمبراطورية. وتندرج الأفكار السياسية الأوغسطينية ضمن هذه المرحلة، المعروفة باسم عصر آباء الكنيسة Patristic Period، والتي اقتصر العمل الفكري فيها على كبار رجال الدين المسيحي، وهو ما جعلها ذات إنتاج ضئيل مقارنة مع العصر المدرسي.

- المرحلة الثانية: عصر المدارس الفكرية المسيحية:

يُمكن -بتحفظ- اعتبار هذه المرحلة، بمثابة العصر الذهبي للفكر السياسي المسيحي، تجسدها وفرة الإنتاج الفكري مقارنة بالأوضاع السياسية والاجتماعية، التي عرفتها هذه المرحلة. والتي تميزت باحتدام الصراع حول النفوذ، بين الكنيسة والسلطة الزمنية، وعليه فقد توجهت الجهود الفكرية في هذا الصدد، نحو إثبات سمو السلطة الدينية، باعتبارها استمرار للسلطة الإلهية. كما ظهرت خلال هذه المرحلة وبدرجات مختلفة، تأثيرات التراث الفكري اليوناني والروماني، وهو ما ظهر بشكل خاص في أعمال توماس الإكويني، والتي تعكس تأثيرات الفكر الأرسطي، المعتمد على منهج التشريح الواقعي. ويُمكن كذلك ملاحظة آثار الفكر السياسي الرواقي، الذي تضمن أبعاداً تلتقي بشكل عام مع المبادئ المسيحية، مثل الطابع الإنساني العابر للحدود السياسية والثقافية، وكذلك استهداف السعادة أو الخلاص الأبديين، وهو ما يُعرف لدى الرواقيين باسم "العصر الذهبي".    

- المرحلة الثالثة: ثورة الكنائس والإصلاح الديني:

رغم القوة والنضج الذي عرفهما الفكر السياسي المسيحي، بتأثير من شدة الصراع مع السلطة الزمنية، إلا أن ذلك لم يمنع من انحراف الكنيسة عن المبادئ المسيحية. فحالة الرفاهية والبذخ التي تميز بها آباء الكنيسة، تعارضت وفق تصور الكثير من رجال الدين، مع التقشف والزهد الذي أوصى بهما المسيح عليه السلام. وقد كان لكثير من سلوكات آباء الكنيسة، آثاراً عكسية سواءً في إطار الدعوة الدينية، أو في إطار الصراع السياسي مع السلطة الزمنية. وهو ما ظهر في حركة الإصلاح الديني، والتي أسست لما عُرف فكرياً باسم "ثورة الكنائس"، أو حركة الاحتجاج الديني Prtestantisme. وقد قامت الحركة البروتيستانتية على قاعدتين أساسيتين، تتمثل الأولى في الاعتراض على السلطة التعليمية (التفسيرية) للبابا والهيئات الكنسية، وبالتالي تجريدها من صلاحياتها في الفصل في تفسير النصوص الدينية. بينما تتمثل القاعدة الثانية فيما يُعرف باسم في الأدبيات المسيحية باسم "لاهوت التحرير"، والذي يقصد به صلاحيات الكنيسة في مجال غفران الخطايا. وهو ما أدى في النهاية إلى تجريد الكنيسة من قوتها الروحية والسياسية، ما ساعد في إضعاف موقفها في مواجهة السلطة الزمنية. أما من الناحية الفكرية فتعتبر هذه المرحلة، بدايةً لظهور الحداثة في التفكير الفلسفي عموماً، والتفكير السياسي بشكل خاص، من خلال تعويض هيمنة الدين بهيمنة العقل، كمقدمة لعصر الأنوار.

انطلاقاً من هذا المدخل فإن المحاور الأساسية، التي سنتطرق إليها في هذا المحور الخاص بالفكر السياسي المسيحي، ستكون ثلاثة محاور أساسية وهي:

-        الفكر السياسي الأغسطيني: أفكار القديس أغسطين St Augustin.

-        الفكر السياسي الإكويني: أفكار القديس توماس الإكويني St Thomas d’Aquin.

-        حركة الإصلاح الديني: ثورة الكنائس Protestantism (نتطرق إلى هذا العنصر بشكل منفصل).

 

 

 

 

 

 

 

 


Modifié le: vendredi 15 mars 2024, 22:48