المنهج الواقعي في الفكر السياسي اليوناني: النموذج الأرسطي

يُمثل الفكر السياسي الأرسطي، استمراراً للفكر السياسي الأفلاطوني، ليس في محاورة القوانين فحسب، بل منذ محاورة الجمهورية. على اعتبار أن الفكر السياسي اليوناني بشكل عام، حاول في هذه المرحلة التعامل مع الوقائع السياسية، بمنطق تعديلي، أي البحث عن تغيير البيئة السياسية والاجتماعية، نحو نموذج أحسن للتنظيم السياسي. غير أن الاختلاف الأبرز بين النموذجين الأفلاطوني والأرسطي، لا يكمن في قابلية أو عدم قابلية الأفكار للتطبيق الميداني، بل يكمن على الأصح في الأسس التي اعتمد عليها كل مفكر، في بناء نموذجه الفكري، أي الاختلاف بين المنهج المثالي أو المجرد (أفلاطون)، والمنهج الواقعي (أرسطو).

يلتقي الفكر السياسي لكل من أفلاطون وأرسطو، في الإطار الاجتماعي لممارسة العمل السياسي، والمتمثل في دولة المدينة دون غيرها. فهذه الأخيرة ليست نظاماً سياسياً فحسب، بل هي الخاصية المميزة للشعوب اليونانية المتحضرة، عن بقية الشعوب البربرية، التي قلت التخلي عن نقائها الإثني والقومي. فحتى مع إنشاء بعض المدن ليونانية لمستعمرات، إلا أنها لم تنقل إليها أي شكل من أشكال الممارسة السياسية السائدة في تلك المدن. كما أنها لم تنح لسكان تلك المستعمرات، نفس الموقع السياسي الذي تمتع به مواطنها. لذلك فقد اهتم الفكر السياسي لكل من أفلاطون وأرسطو خلال هذه المرحلة، بالبحث في مختلف المواضيع المتعلقة بدولة المدينة، سواءً تعلق الأمر بمحاولة تفسير وجودها، الأنظمة السياسية الي ترتبط بها، وصولاً إلى اقتراح الصيغ الأمثل لهذا الإطار السياسي، وأحسن أوجه ممارسة السلطة فيهاـ تحت مسمى المدينة المثالية.    

1.      المنهج الواقعي وعلم السياسة الجديد:

جرت العادة على المقابلة بين المنهج الأرسطي، باعتباره منهجاً واقعياً، مع المنهج المثالي الأفلاطوني باعتباره مثالياً، اعتماداً على قياس القابلية للتجسيد الميداني. واعتماداً على ذلك لا يُمكن أن نلاحظ فرقاً كبيراً بين المنهجين، حيث لم تتوصل الأفكار السياسية للمدرستين الأفلاطونية والأرسطية، إلى التحول نحو نموذج سياسي مادي. لذلك لا يجب أن تكون المقابلة بين القابلية للتطبيق، بل اعتماداً على اعتبار المثالية والواقعية، أساساً معرفياً للفكر السياسي. فأفلاطون انطلق من مسلمات لا حاجة لإثباتها، مثل اعتبار الفضيلة هي المعرفة، وعلى أساس ذلك تم بناء الفكر السياسي الأفلاطوني. وفي المقابل استخلص أرسطو المبادئ الأساسية، من الدراسة الميدانية التحليلية، لدساتير وأنظمة الحكم السائدة، وبناءً على النتائج المتوصل إليها، وضع الأسس لفكره السياسي.

تأثر المنهج الأرسطي في هذا الصدد، بالملاحظة المستمرة، للدراسات الطبية وعلم التشريح، وهي الأنشطة التي كان يُمارسها والد أرسطو، باعتباره طبيباً لفيليب المقدوني (ملك مقدونيا). وعليه فقبل إطلاق أحكام على الأنظمة السياسية، والدساتير السارية في المدن، كان من الضروري إجراء عملية تشريح لتلك الأنظمة السياسية والدستورية. حيث تمت دراسة حوالي 158 دستور ونظام حكم، دراسة تحليلية مقارنة انتهت بتحديد خصائص الأنظمة السياسية، وكذلك أسس واقعية لبناء نموذج للمدينة المثالية. مع ملاحظة أن هذا النموذج موجه لأغراض الدراسة السياسية، وليس للتطبيق العملي كبديل للمدن القائمة فعلاً.

يُعتبر كتاب السياسة لأرسطو، أحد مؤشرات الدالة على تحرر أرسطو، من الناحية المنهجية والإبستمولوجية، من تأثير أفكار ومنهج أفلاطون، التي تأثر بها خلال تواجده بالأكاديمية. ويظهر ذلك من خلال التحول إلى الاعتماد بشكل واضح على التشريح والاستقصاء، بدل الاعتماد على الافتراضات المجردة، التي اعتمد عليها أفلاطون. ويُمكن ملاحظة ذلك، في انتقال أرسطو من محاولات تقليد أفلاطون، في تصور مخطط مثالي للمدينة، إلى البحث عن تفسير لوجود الدول، وتطورها، وذلك أسباب التحولات التي تطرأ على بنيتها، وأنظمتها السياسية...إلخ.

رغم الاختلافات العميقة بين كل المفكرين، إلا أنهما يشتركان بدرجة ما في تصوراتهما حول علم السياسة، كمجال معرفي مستقل. فقد اترح أفلاطون علم السياسة باعتباره بديلاً مؤقتاً عن الحكمة/الفلسفة، في انتظار تفر إمكانية العودة إلى تبني الفلسفة كمجال معرفي وحيد، يُمكنه دون غيره الوصول إلى الحقائق المطلقة. وفي مقابل ذلك اقترح أرسطو صيغة مختلفة نسبياً، ينظر من خلالها إلى علم السياسة على أنه مجال معفي مستقل بذاته، وبمواضيعه ومجالات عمله، إضافةً إلى تزويده بإطار منهجي إبستمولوجي منفصل عن الفلسفة.

يتميز هذا العلم حسب أرسطو، بانفصاله عن المثل السياسية والأخلاقية، ويهتم بدلاً عن ذلك بالوقائع السياسية القائمة. كما يعتبر أرسطو أن العلم السياسي في صيغته الجديدة، يجب أن يستهدف تلقين أساليب وفنون ممارسة السياسة، وكيفيات تنظيم الدول وعمل الحكومات. ويكون بذلك ابتعد نسبياً عن مبادئ سقراط وأفلاطون، ليقترب من حيث المبدأ من المبادئ السفسطائية، التي استحدثت فكرة تعليم أساليب ممارسة السياسة مقابل أجر. غير أن أرسطو يختلف عن السفسطائيين، في تأسيس علم السياسة على أساس تحقيق الخير العام، بدل تحقيق المنفعة الذاتية للأشخاص.

انطلاقاً من ذلك يُمكن القول أن أرسطو، من خلال دراسته المشار إليها أعلاه، قد توجه نحو التأسيس لما عُرف باسم "علم السياسة الجديد". والذي يختلف تماماً عن علم السياسة السائد خلال تلك المرحلة، حيث يُمكن ملاحظة الاختلافات العميقة، بين أفكار أرسطو وأفكار أفلاطون الأخلاقية، أو حتى الأفكار البراغماتية للسفسطائيين. وفي هذا الصدد، يُمكن تلخيص الأسس العامة للعلم السياسة الجديد، من المنظور الأرسطي في المبادئ التالية:

-           توسيع نطاق الدراسة السياسية أو علم السياسة، من خلال التطرق لمواضيع أشمال، تتجاوز البعد الأخلاقي للدولة والنظام السياسي. حيث يدرس علم السياسة الأنظمة السياسية وأشكال الدول، كما هي عليه فعلاً في البيئة السياسية القائمة.

-           إن دراسة الأنظمة والدول القائمة، لا يُغفل محاولة التوصل إلى نماذج كاملة أو مثالية للدولة، والنظام السياسي الأصلح، ليس باعتبارها نماذج قابلة للتطبيق، بل باعتبارها نماذج للدراسة المقارنة، تسمح بإطلاق أحكام موضوعية على موضوع الدراسة.

-          عدم حصر الدراسة السياسية في البعد الأخلاقي، بل دراسة غايات وأساليب العمل السياسي، بما في ذلك تلك المتعارضة مع المنظومة الأخلاقية للأفراد. حيث يُمكن أن تكون الغايات السياسية، والأساليب المعتمدة لتحقيقها، غير أخلاقية أو كما يصفها أرسطو بـ"الوضيعة"، مع ذلك لا يعني هذا الوصف، أنه سيتم استبعادها من مواضيع علم السياسة. عكس ما كان عليه الوضع ضمن الفكر السياسي الأفلاطوني، الذي استبعد الممارسات المناقضة لمبدأ الفضيلة، من فكره السياسي.

2.    الدولة ككائن حي:

مثل التنظيم السياسي السائد والمتمثل في دولة المدينة، المرحلة الأخيرة من التطور السياسي والحضاري للإنسان، حسب التصور اليوناني قبل أرسطو. حيث يعتبر اليونانيون القدماء، أن هذا التنظيم السياسي هو الفرق بين اليونانيين المتحضرين، والشعوب البربرية التي تعيش في إمبراطوريات، خاضعة لإرادة الفرد الواحد. غير أن أرسطو انطلاقاً من منهجه، ينظر إلى الدولة على أنها وجود طبيعي، أكثر من كونه كيان حضاري، يُمثل مرحلة نهائية للتطور الطبيعي الذي يبدأ من الأشكال الأولى للجماعة الإنسانية.

تتأسس المدينة (أو الدولة وفق التعبير السياسي العام)، من خلال التأسيس للجماعة الإنسانية الأولى، والتي تتماشى مع الطبيعة الإنسانية، باعتباره أولاً كائناً اجتماعياً، وثانياً باعتباره غير قادر على تلبية حاجاته المختلفة بشكل منفرد. وهاتين الخاصيتين ستواصلان التأثير على مسارات التجمع البشري، عبر مراحل متعددة وصولاً إلى الدولة. وعليه فإن تشكيل الأسرة كأبسط أشكال الجماعة، يرتبط بتلبية الحاجات اليومية البسيطة، وقد أدى تطور الحاجات الإنسانية، إلى تطور طبيعة الجماعة الإنسانية، والتي أخذت حجماً أكبر بتعدد الأسر. واستمراراً لهذا المسار انتقلت الجماعة إلى مرحلة القرية، التي ظهرت مع ظهور الحاجة إلى الأمن، وضمان المعيشة، وغيرها من الحاجات التي لم يكن ممكنا تلبيتها ضمن الجماعة البسيطة الأولى. غير أن الحاجة إلى التنظيم السياسي والإداري ظهرت مع ازدياد عدد القرى، بحيث كان من الضروري الانتقال إلى مرحلة الدولة.

وبذلك يُمكن القول أن الدولة لا تختلف من حيث المبدأ، عن بقية أشكال الجماعات الإنسانية، فهي استمرار للنزعة الطبيعية نحو التجمع والعيش المشترك. غير أنها في المقابل تختلف في الطابع السياسي، الذي يُميزها عن بقية الأشكال، خاصةً في الحاجة إلى استعمال السلطة، والهيكل المؤسساتي غير الموجود على مستوى الأسر، أو القبائل أو حتى القرى. كما يهر الفرق الجوهري بين الدولة وبقية الجماعات الإنسانية، في استهداف تحقيق الخير العام، أو ما يُشبه إلى حد ما مفهوم المصلحة العامة.

3.    الأنظمة السياسية:

لا تختلف الأفكار السياسية لأرسطو حول الأنظمة السياسية، عن أفكار أفلاطون المكونة حول نفس الموضوع، وذلك من حيث تعداد الأنظمة، تصنيفها بين الصالحة والفاسدة، إضافةً إلى الموقف من بعض الأنظمة. غير أن الاختلافات تبرز بوضوح بين المفكرين، عند الحديث عن معايير التصنيف، والنظام السياسي الأحسن والأسواء. إضافةً إلى النظام السياسي النموذجي، والذي يُشكل أساساً لقياس صلاح أو فساد، الأنظمة السياسية القائمة فعلاً في المدن اليونانية.

فقد حدد أرسطو معيار المقارنة بين الأنظمة، في الحكم الدستوري وما ينتج عنه من خير عام، وليس كما ذهب إليه أفلاطون، من اعتماد معيار الفضيلة (محاورة الجمهورية)، أو حكم القانون المحض (محاورة القوانين). فالأنظمة القائمة فقط على حكم القانون، لا تملك الضمانات الكافية لأن تكون أنظمة صالحة، لأنها لا تعتمد على الإرادة الكاملة والحرة للمواطنين. وعليه فإن النظام الدستوري، القائم على حكم القانون، والمستهدف لتحقيق المصلحة العامة، يكون حسب أرسطو هو النظام النموذجي، الذي يُمكن من خلاله إجراء المقارنة، بين الأنظمة الصالحة والفاسدة.

واعتماداً على ذلك تنقسم الأنظمة السياسية إلى 3 أصناف، يتضمن كل صنف منها نسختين مختلفتين من النظام، أي النظام الفاسد والنظام الصالح، اعتماداً على معيار الحكم الدستوري، واستهداف الخير العام. ويتجسد هذا المبدأ، من خلال الافتراض بأن الأنظمة الصالحة، تعمل على تحقيق مصلحة المجتمع، أو خيره العام، في حين تعمل الأنظمة الفاسدة، على خدمة المصلحة الذاتية، أو الضيقة للنخب الحاكمة. وفي النهاية يُمكن تلخيص تصنيف أرسطو للأنظمة السياسية كما يلي: 

-          الأنظمة الفردية (الملكية في مواجهة الاستبداد):

يشمل الحكم الفردي اعتماداً على معيار الحكم الدستوري، واستهداف الخير العام، النظام الملكي والذي يقابله نظام الاستبداد. وفي هذا المجال يرفض أرسطو إمكانية حكم الفرد الفاضل، دون الاستناد إلى الأساس القانوني، فالفضيلة لا تُغني عن حكم القانون، لأنه لا توجد ضمانة كافية لمنع انحراف الحاكم، دون قواعد قانونية تُحدد بدقة الخير العام.

واستمراراً للمبدأ السابق، يقوم النظام الملكي على حكم الفرد المتقيد بالقانون، والمستهدف لخدو المصالحة العامة لأفراد المجتمع. ويتناقض ذلك مع الحكم الاستبدادي الذي يقتصر هدفه على البقاء في السلطة، وخدمة المصلحة الضيقة للحاكم والفئة المحيطة به. وهو ما يعني بالضرورة استبعاد القواعد القانونية، كأساس لممارسة السلطة، والممارسة السياسية بشكل عام.

-          أنظمة الأقلية (الأرستقراطية في مواجهة الأوليغارشية):

يخضع حكم الأقلية لنفس المبدأ المشار إليه سابقاً، وبذلك يضم هذا الصنف من الأنظمة، حكم الأقلية الفاضلة بطبيعتها أولاً، ولاستهدافها خدمة المصلحة العامة، بما يتماشى مع المبادئ القانونية السائدة. ويقابله الحكم الأوليغارشي، المستند إلى الثروة وما يرتبط بها من مساعي لخدمة المصلحة الخاصة للفئة الحاكمة، والتي تدور حول استمرار السيطرة الاقتصادية على المدينة، وزيادة احتكار مصادر الثروات في المدينة.

-          أنظمة الأكثرية (الديموقراطية في مواجهة الديماغوجية):

يشترك أرسطو مع أفلاطون في تعريف النظام الديمقراطي، باعتباره سيطرة الأغلبية على السلطة السياسية في المدينة. غير أن المفكرين يختلفان في الأحكام المعيارية المكونة حول هذا النظام. فالديمقراطية هي أسوأ الأنظمة الصالحة في الفكر السياسي لأفلاطون. غير أن لأرسطو لا ينظر إلى النظام من نفس الزاوية الأفلاطونية. وبالتالي لا يكون الأسوأ من حيث المبدأ، بل بالنظر إلى مخرجات النظام وطريقة عمله. فالنظام يكون صالحاً أولاً بمدى اقترابه من الشكل النموذجي للنظام الدستوري، أي أن الخضوع للقانون واستهداف الخير العام، يجعل منه بشكل عام نظاماً جيداً. في حين أن الابتعاد عن هذا المعيار يجعل منه أحد أسواء الأنظمة السياسية، وهو نظام الغوغاء، أو نظام الديموغوجيا.

كما أن النظام الديمقراطي يتضمن خاصية لا توجد في بقية الأنظمة السياسية، وهي خاصية العدد أو التناسبية العددية، والتي تزيد من فرص الابتعاد عن الانحراف، نحو الأشكال الأسوأ للأنظمة. حيث يعتبر أرسطو أن كثرة العدد تزيد في فرص توفر فضائل العقل، مقارنة مع الأنظمة السياسية القائمة على العدد الأقل، أي الحكم الفردي أوحكم الأقلية.

تأسست أفكار أرسطو في دراسة النظم السياسية على العناصر التي تم ذكرها أي المنهج الواقعي أو القيام بعملية تشريح للأنظمة السائدة من جهة، وكذلك تبني أساس مختلف لعمل النظام السياسي، أي الخير العام بدل العدالة. وتجدر الإشارة إلى ملاحظته التي أبداها حول دراسة الأنظمة السياسية، استناداً إلى تشريح الدساتير والنظم، ففي هذا الصدد لابد وأن يؤخذ بالاعتبار الفرق بين الدستور كوثيقة قانونية مكتوبة، والطريقة التي يتم من خلالها تطبيق الدستور، ويظهر في هذا الصدد الكثير من الأمثلة حول التفاوت بين النصوص الدستورية، والتفسير القانوني لتلك النصوص من جهة ووضعها حيز التنفيذ من جهة ثانية. فالدستور قد يقر نظاماً محدداً من الناحية المجردة، لكن تجسيد المبادئ الدستورية قد تُفضي إلى نظام مختلف من حيث التجسيد الواقعي، وإن احتفظ بالتسمية الدستورية. فالأنظمة الديمقراطية تعرف ممارسة فعلية أوليغارشية، حتى وإن لم تأخذ هذه التسمية رسمياً.

على سبيل المثال:

-          لا يعني النظام الديمقراطي حكم الشعب لنفسه بنفسه، بل على الأصح سيطرة الشعب على ممارسة السلطة، بينما من يقوم بممارسة السلطة فعليا هي جماعة منتخبة من طرف الشعب وتخضع لرقابته. لهذا فإن السلطة وإن كان قد تم إسنادها عن طريق الأغلبية، إلا أنها تُمارس من طرف الأقلية.

-          لا تتخذ الأنظمة السياسية تجسيداً واحداً رغم احتفاظها بنفس التسمية، فتطبيق النظم الدستورية يختلف باختلاف البيئة السياسية والاجتماعية التي تحتضن تلك الأنظمة. فالديمقراطية في المجتمعات الزراعية، تميل إلى العمل النيابي بسبب انشغال المواطنين بالنشاط الزراعي، كأساس للمكانة الاجتماعية، وعليه تكون الديمقراطية أقرب إلى الأوليغارشية. في حين تكون المجتمعات التجارية حيث يهتم المواطنون بالمشاركة السياسية، حيث تُسند إدارة الأنشطة الاقتصادية إلى وكلاء وموظفين، وفي هذه الحالة تزيد هوامش النظام الديمقراطي مقارنة مع المجتمع الزراعي.

4.       المدينة النموذجية من منظور علم السياسة الجديد:

  اهتم أرسطو بشكل خاص الديمقراطية والأوليغارشية، على اعتبار أنهما يتضمنان العناصر التي تؤهلهما بشروط محددة أن يكونا أحسن الأنظمة السياسية. غير أنهما في المقابل يتضمنان عناصر قد تؤدي إلى تحويلهما إلى أسوء الأنظمة القائمة. فالقوة البشرية التي يتميز بها النظام الديموقراطي، قد تكون أساساً لعمل النظام من خلال تأثيرها على نتائج الاختيار أو الانتخاب، كما أنها في حالة تطر فها في ممارسة هذه القوة ستؤدي بالنظام إلى الفوضى والغوغائية. ونفس الشيء بالنسبة للنظام الأوليغارشي، والذي يقوم على وجود فئة من كبار الملاك، واستاع هذه الفئة يعني نظام أقلية في أحسن صوره، بينما يؤدي تركيز الملكية إلى زيادة فساد النظام.

انطلاقاً من دراسته المقارنة للأنظمة السياسية، يُمكن استخلاص منهجين لوضع نموذج للدولة، وهما:

أولاً: الوصفة المجردة للمدينة الفاضلة:

يعتبر أرسطو أن عالم السياسة يجب أن يكون مدركاً لأفضل النظم السياسية، سواءً أكانت قائمة فعلاً أو يُمكن قيامها، بتعبير آخر أنه يُمكنه وضع مخطط لقيام المدينة المثالية، وإدامتها على هذا الوضع المثالي، علما أن المثالية في هذا الصدد يُقصد بها الكمال.

ثانياً: الوصفة العملية للمدينة الفاضلة: يجب على المشتغلين بأي من المجالات، إدراك ما هو ممكن وغير ممكن من الأهداف. فعالم السياسة الساعي إلى وضع تصور للمدينة الكاملة أو المثالية، عليه أن يدرك أن هذا المخطط قد يكون غير منسجم مع ما هو سائد في البيئة السياسية والاجتماعية، وبالتالي فإنه من غير الممكن وضع هذا التصور حيز التنفيذ. وبالتالي فإن عالم السياسة مطالب بالبحث بين أحسن الصيغ الممكنة، والتي يُمكن إيجادها ضمن النماذج السائدة.

انطلاقاً من ذلك فإن المدينة الفاضلة وفق التصور الأرسطي، تكون بالجمع بين مزايا النظامين الديمقراطي والأوليغارشي، والمستوحاة من الأنظمة السائدة فعلاً في بلاد اليونان. ويتجسد ذلك من خلال تشكيل ما يُعرف في الزمن المعاصر باسم الطبقة الوسطى، والتي تتميز بكونها في منطقة وسط بين الفقر والغنى، والتي تمنح الديمقراطية طابعاً معتدلاً، يزيل الغوغائية المستندة إلى أغلبية الفقراء، أو الطغيان المستند إلى الأقلية الغنية المحتكرة للثروة. فهذه الطبقة تتميز بخصائص الديمقراطية من خلال اتساع القاعدة العددية (التناسبية العددية للنظام) من جهة، والتحرر من الأهواء والغايات المادية، نتيجة للمستوى الاقتصادي أو المعيشي المعتدل الذي تتمتع به.

وبالتالي فإن هذه الطبقة قادرة على ممارسة الرقابة التي يتضمنها على الموظفين والمنتخبين وفق الأسلوب الديمقراطي، لممارسة السلطة وفق الأسلوب الأوليغارشي. حيث أن عملية الانتخاب تعني تفويض الأغلبية لصلاحيات وشرعية ممارسة السلطة للأقلية، في مقابل بقاء الممارسة السياسية تحت السيطرة والرقابة الشعبية ممثلة في الطبقة الوسطى.  

5.    هندسة المدينة النموذجية:

عادةً ما يتم استعمال تعبير المدينة المثالية، لوصف النموذج الكامل من الدولة، الذي تتضمنه الأفكار السياسية اليونانية، خاصةً لدى أفلاطون أو أرسطو. غير أننا في هذه المحاضرة سنستخدم تعبير المدينة النموذجية، على اعتبار أن الفكر السياسي الأرسطي، لم يتضمن إقامة مدينة بديلة لتلك القائمة في البيئة السياسية اليونانية. فقد أشرنا في عنصر سابق، إلى أن أرسطو أسس لعلم السياسة الجديد، والذي يستهدف التوصل إلى أفكار واقعية، حول الظاهرة السياسية القائمة، بصرف النظر عن الأحكام الأخلاقية التي تُطلق حولها. وبالتالي فإن تصوراته حول الأنظمة السياسية، وأشكال المدن لم يكن لأهداف بنائية، بل على الأصح اتخذت أفكاره في المقام الأول بعداً تفسيرياً. مع العلم أن المقصود بالبعد البنائي، هو السعي لوضع فكر سياسي لبناء واقع سياسي واجتماعي جديد، بينما يركز البعد التفسيري على شرح وتفسير الظواهر السياسية.

تقوم المدينة النموذجية أو المثالية بتعبير آخر، على مجموعة من الأسس الشكلية، مثل الحجم والسكان...إلخ، وكذلك الأسس الموضوعية أو السياسية. علماً أنه لا أنه لا يقترح نموذجاً مجرداً، استناداً إلى الأسلوب الأفلاطوني، بل يستمر في الالتزام بالمنهج الواقعي، الذي تأسست عليه أفكاره السياسية ككل. وبذلك تكون المدينة المثالية كما يلي:

-          من حيث الشكل:

تتوسط المدينة النموذجية من حيث الحجم بين طرفي نقيض، حيث يجب أن تحتل مكانة متوسطة بين الدولة صغيرة الحجم، والتي لا يُمكنها تحقيق الاكتفاء. كما لا يجب أن تكون كبيرة الحجم، يمكنها تلبية حاجاتها لكنها في نفس الوقت تفقد جوهرها كمدينة، ولا يكون بذلك ممكنا إقامة سلطة سياسية، يُمكنها التحكم في الإقليم الواسع.

وينطبق نفس المبدأ على عدد السكان، والذي يجب أن يكون ضمن الحدود العددية، التي يُمكن من خلالها تحقيق الاكتفاء. فتجاوز هذه الحدود سيؤثر سلباً على العلاقات والروابط، التي يُفترض أن تربط بين أفراد المدينة، كما سيكون من الصعب ضمان ملاءمة الأشخاص لأداء الوظائف. رغم ذلك لم يتوجه أرسطو نحو تحديد سقف لعدد السكان، كما فعل أفلاطون في مدينته النموذجية، المتضمنة في محاورة القوانين.

-          من حيث المضمون:

يقوم النموذج الأرسطي للدولة المثالية، على العناصر الدستورية، المرتبطة بماهية النظام السياسي الأمثل، لكي يكون أداةً لإدارة المدينة. وفي هذا الصدد يكون النظام الدستوري، قائماً من حيث المبدأ على خاصية التوازن، التي تمنع فقدان النظام لخصائصه الصالحة، وبالتالي زيادة مخاطر تحوله إلى النظام الفاسد. فكل نظام سياسي معرض إلى مخاطر التطرف، وفي حالة المدينة المثالية التي يقترحها أرسطو، فهي تقوم بين النسخة المتوازنة من النظام الأوليغارشي، ونسخة متوازنة من النظام الديمقراطي.

يقوم النظام السياسي المتوازن، على الدمج بين عامل الكم أو العدد المرتبط بالنظام الديمقراطي، وعامل الكيف او الخصائص الفردية المرتبط بالأوليغارشية. أي بتعبير آخر الجمع بين عنصر المكانة الاجتماعية الناتج عن الثروة والانتماءات العائلية، وقوة الأغلبية الشعبية. وينتج عن ذلك طبقة سياسية متوسطة من حيث العدد وكذلك الثروة، تُمارس المهام والوظائف الإدارية والسياسية. وتكون الميزة الأساسية هي اكتساب ثقة الطبقة الغنية والأغلبية الشعبية في نفس الوقت.

كما أن القوى الشعبية المتوفرة في بيئة النظام السياسي، يُمكنها أن تمنع تحول النظام إلى الأوليغارشية المتطرفة، بينما تمنع القوى الأوليغارشية، تحول النظام إلى الصفة الديمقراطية المتطرفة، أي منع التحول نحو الطابع الفوضوي الغوغائي. وهو ما يُعرف في أدبيات الفكر السياسي باسم النظام المختلط، الذي يؤدي توازن القوى الأساسية فيه إلى ضمان استمراريته، وعدم تحوله قيمياً أو هيكلياً.

وفي الأخير يُمكن القول أن الفكر السياسي الأرسطي، تميز ببناء منهجي ومعرفي أقوى، مقارنة مع الأفكار السياسية الأفلاطونية. حيث اعتمد على ملاحظة الظواهر السياسية وتشريحها، انطلاقاً من الوقائع السياسية وليس من التفضيلات أو المعايير الأخلاقية، قبل التوصل إلى استخلاص نتائج نظرية حولها. وبذلك فقد شكل أرسطو مدرسة فكرية موازية للمدرسة الأفلاطونية، واللتان سيتكرر طرح أفكارهما بأشكال مختلفة، عبر مسار التطور التاريخي، وصولاً إلى العصر الحديث.

غير أن الواقعية المشار إليها في هذه المحاضرة، تتعلق بالمناهج المتبعة، وبأسلوب دراسة الظواهر السياسية، ولكنها لا تتعلق بإمكانية التطبيق العملي للأفكار والنماذج السياسية. فبالنظر إلى هذا المعيار تبقى كل الأفكار السياسي في المرحلة اليونانية، أفكاراً نظرية لم تعرف طريقها للتطبيق، وهو الحال بالنسبة لكل الأفكار السياسية.


Modifié le: jeudi 19 décembre 2024, 09:06