الفكر السياسي الأفلاطوني: التوجه نحو الواقعية السياسية

تمهيد:

عكس المحاورتين السابقتين، لم تتضمن محاورة القوانين استخدام أفلاطون لشخصية سقراط، كأحد أطراف الحوار. المتتبع لمسار تطور محاورات أفلاطون، يجد أن سقراط احتل مكانة أساسية في محاورة الجمهورية، ثم منحه أفلاطون مكانة ثانوية، من خلال تنال سقراط عن مكانته لمحاور آخر، أطلق عليه أفلاطون اسم سقراط الشاب. لينتهي أفلاطون في محاورة القوانين، إلى عدم إشراك شخصية سقراط في المحاورة، وتعويضه بشخصية أخرى باسم الرجل الأثيني. وبالتالي فقد تحول التعبير عن أفكار أفلاطون في محاوراته تدريجياً، من سقراط إلى شخصيات أخرى مختلفة، تُعبر بدورها عن تحول تدريجي في أفكاره الفلسفية والسياسي.

يُمكن اعتبار هذا التحول، على أنه إشارة إلى التوجه نحو التخلي عن الأفكار القديمة، التي لطالما اقتبسها عن سقراط، والتي تدور حول اعتبار الفضيلة هي المعرفة. وكبديل لذلك لابد أن تتأسس الدولة على حكم القانون، الذي يعرفه على أنه تعبير عن العقل المتحرر من الانفعال، ويعتبره البديل للحكم الإلهي الذي كان البشر يعيشون في ظله. وعليه فإن مختلف الأفكار التي تضمنتها محاورة القوانين، ستقوم على هذا العامل الجديد، أي القانون كبديل نهائي للفضيلة.

1.      إعادة الاعتبار نهائياً للقانون:

تبدأ هذه محاورة القوانين بسؤال افتتاحي، يوجهه أحد المشاركين في الحديث، وهو الرجل الأثيني الذي حل محل سقراط للدلالة إلى شخصية أفلاطون كاتب المحاورة. ودار التساؤل حول مصدر القوانين، التي تسير شؤون المدن اليونانية القديمة، فهل هي حسب تعبير الرجل الأثيني/أفلاطون "هل واضع قوانينكم هو إله أم إنسان؟". أي بتعبير آخر، هل هي من صنع الإله وبالتالي هي ذات طبيعة مقدسة، أم أنها من صنع إنساني، وتكون بذلك عرضةً للانتقاد وحتى عدم الالتزام بها.

  اتفق المتحاورون أ القوانين في المدن اليونانية كلها، هي من صنع الآلهة ولست من صنع المشرِّعين، ما يجعلها مُقدسةً بين الناس، ونتيجةً لذلك ستكون القوانين مُلزمة لمواطني المدينة. كما أنها ستكون مصدراً للقيم الأخلاقية والاجتماعية، وبالتالي أساساً لتنظيم مختلف صور التفاعلات الإنسانية، وقد يمتد لك حتى إلى المجالات السياسية. فالقانون حسب المحاورة "هو الذي يُدمر الأشرار ويُعين الأخيار كي يحكموا أنفسهم"، ويكون ذلك من خلال جهاز قضائي، تكون مهمته تنفيذ المنظومة القانونية للمدينة.         

إن أهمية القوانين في المجتمع حسب أفلاطون، تنبع من دورها في تكريس الفضائل الأخلاقية، وضبط سلوك أفراد المجتمع، وكذلك مساهمتها في حماية المبادئ الاجتماعية. حيث يقول أفلاطون أنه يجب توقيع العقاب بموجب القانون، على الشعراء والأدباء وكل من ينشرون أفكاراً مثلا تلازم الشر والسعادة، أو عدم فاعلية أو فائدة من الحق والعدالة. فالسماح بنشر هذه الأفكار، سيؤدي إلى تجريد القوانين من قدسيتها، وبالتالي دفع أفراد المدن أو المواطنين، نحو تبني مبادئ اجتماعية وأخلاقية، تتعارض مع الفضيلة والخير العام.

وفي مقابل ذلك، يجب حسب أفلاطون عدم الاكتفاء بالإكراه. بل يتوجب شرح الغاية من تشريع القوانين، قبل إلزام الناس بطاعتها باستخدام التهديد بالعقاب. ويرجع ذلك إلى أن القوانين لا تكون في حاجة إلى العنف والعقوبة، إذا كانت الغايات من تشريعها واضحة للناس، في حين أنهم سيرفضون الالتزام بها، إذا كانت الغايات من التشريع غير واضحة، أو لم تُقدم بالشكل المقنع والصحيح. لذلك فقد ربط أفلاطون بين عمليتين اجتماعيتين أساسيتين، هما التعليم والتشريع، عبر عن ذلك بالقول أن "التعليم هو إجبار وإرشاد الشباب نحو ذلك العقل الحق، يؤكده القانون والذي وافق عليه أكبر الرجال سناً وأفضلهم". ويشبّه أفلاطون هذا الوضع بحالة الطبيب الجيد، الذي يعتبر أنه من الضروري أن يقوم بشرح الغاية من العلاج، أو تغيير العلاج لمريضه قبل أن يطبقه عملياً.

تعتبر محاورة القوانين أن الغاية الأساسية من القانون، لا تمكن كما هو الحال في بعض المدن في المنع، أو التقشف، أو الاستعداد الدائم للحرب، بل على الأصح تتمثل في ضبط السلوك الإنساني. وينتهي أخيراً في هذه المحاورة إلى اعتبار أنه لا يُمكن إيجاد الحاكم الفاضل المستند إلى العقل والمعرفة، فإنه يجب القبول بأنه على البشر أن يضعوا قوانين ويعيشوا وفقها، وإلا فإنهم سيشبهون الحيوانات الأكثر وحشية. ورغم ذلك لا يعتبر أفلاطون أن موقفه هذا، مناقض لموقفه السابق المتضمن في الجمهورية، على اعتبار أن القانون هو نتاج العقل، وبالتالي فإنه ينتج عن المعرفة تماماً مثل الفضيلة. غير أن القانون في المقابل يتميز عن الفضيلة بالثبات، حيث يُمكن أن تمر فترات طويلة دون أن يتم تعديل القوانين ولو بشكل جزئي، رغم الحاجة الدائمة لتنقيح القوانين.

2.      نظرية الدولة:

حاول أفلاطون تقديم مخطط مغاير لإنشاء الدول، لا يقوم على العدالة وتبادل إشباع الحاجات، بل على مبادئ شائعة ضمن المجتمعات اليونانية. فالمدينة يجب أن تؤسس على موقع جغرافي محدد، وبقوة بشرية محددة، وتقوم على نشاط اقتصادي خاص، إضافةً إلى نظام اجتماعي يبتعد عن ذلك المقترح في الجمهورية. وفي هذا السياق فإن المدن لا يجب أن تكون محاذية للبحر، حتى تكون بعيدة عن أخلاق التجار والبحارة، والتي يعتبرها غير جديرة بالاحترام. فالمدن الساحلية تمزج بين أخلاق التجار والبحارة الفاسدة، وكذلك السلبيات المترتبة عن إنشاء القوة البحرية، والتي يُمكن أن تُمارس دوراً سلبياً على سلطة القانون في المدينة.

واستمراراً للموقع الجغرافي للمدينة، فإن هذه الأخيرة يجب أن تكون قائمة على النشاط الزراعي، وليس على الأنشطة التجارية أو الحرفية. فالارتباط بالأرض يؤدي إلى اكتساب القوة البدنية، والتي احتلت مكانة مهمة في الفكر السياسي الأفلاطوني خلال مراحله الأولى. إضافة إلى ما ينتج عن النشاط الزراعي من فضائل، مثل الصبر والاعتدال...إلخ، وهي الفضائل التي يسعى القانون تكريسها في المجتمع. كما أن هذا الوضع يعني ارتباط المواطنين مع الأرض، وهو ما يمنح المدينة أفضلية الدفاع ضد الاعتداءات الخارجية، حيث سيكون على المواطنين الدفاع عن جوهر وجودهم، أي الأرض التي يمتلكونها.

إن تفضيل النشاط الزراعي للمدينة كمحور اقتصادي أساسي، لا يعني فتح المجال أمام التفاوت في ملكية الأراضي، والتأسيس لما عُرف لاحقا بالنظام الإقطاعي. ففي نموذجه للمدينة المثالية، يجب أن يتكرس التفاوت في الملكية، على اعتبار أن هذا التفاوت هو أحد أهم أسباب النزاع الداخلي بين الطبقات الاجتماعية. كما أن الملكية ستكون مشتركة ليس بين المواطن وغيره، بل بينه وبين المدينة

أما من الناحية البشرية، فقد تم تحديد عدد السكان في 5040 مواطن، حيث يعتبر أن هذا التعداد هو الأمثل بالنسبة للمدينة، من أجل ضمان القدرة على تقسيم الأرض بالطريقة الموضحة سابقاً. وفي سبيل ذلك يجب أن تتخذ المدينة، كل الإجراءات الضرورية، لمنع تجاوز عدد السكان للحد المقترح، مثل نظام محدد للوراثة من أجل عدم التأثير على ملكية الأرض ومساحتها. كما يتم تقسيم هذا التعداد إلى أربع طبقات اجتماعية، تختلف حسب مساحة الأرض التي يمتلكها المواطنون، يُضاف إليهم طبقة من الأجانب يُسند إليها ممارسة التجارة والحرف اليدوية (الصناعة).

3.      النظام المختلط:

تشترك الكثير من الأفكار السياسية حول مبدأ صيرورة الأنظمة، وعدم القدرة على الحفاظ على قيم وهيل النظام السياسي لفترات طويلة. فكل نظام لابد أن يشهد تغييراً في القيم، تُمهد إلى تغيير في الهيكل، وبالتالي الانتقال من نظام إلى آخر، كما هو الحال بالنسبة للانتقال من النظام الديمقراطي إلى الغوغائي (تغيير قيم النظام)، قبل الانتقال إلى النظام الملكي (تغيير هيكل النظام). وهو ما يُدخل الأنظمة السياسية، في مسارات مستمرة من التغيير، تؤثر سلباً على استقرار الدول، وقد تؤدي إلى تهديد وجودها المادي.

ولإنهاء التحول المستمر في قيم وهيكل النظام السياسي، يقترح أفلاطون مبدأ الدستور المختلط، الذي يستهدف تحقيق التوازن، بين عناصر أساسية للأنظمة السياسية، خاصة الديمقراطية والارستقراطية. وبذلك يتكون هذا النظام من:

-          هيئة مكونة من 37 قاضي من أجل ضمان احترام القانون، بحيث يشكلون ضمانة أساسية لبقاء التوازن، كسمة مميزة للنظام السياسي.

-          مجلس للشيخ مكون من 360 عضو، ينتمون إلى الطبقات الاجتماعية الأربع، المالكة للأراضي، أي بمعدل 90 عضو عن كل طبقة. ورغم ضمان المساواة بين الطبقات، إلا أن هذا لا يمنع عمل النظام بشكل عادي، من خلال التحالفات التي يمكن أن تنشأ ضمن المجلس.

-          جمعية عمومية تضم مختلف المواطنين، تُمارس المهام التقليدية التي تُمنح للجمعية العمومية في المجتمع اليوناني (خاصة في أثينا). حيث يدخل ضمن اختصاصاتها انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ، وبالتالي يُمكنها ممارسة بعض التأثير على قراراته.

رغم التغيرات العميقة التي أدخلها أفلاطون في فكره السياسي، منذ محاولة الجمهورية وصولاً إلى محاورة القوانين. إلا أن هذه الأخيرة وإن تضمنت تغييرات جذرية، إلا أنها اكتفت بإعادة صياغة أفكار أخرى، حتى تتلاءم مع الوقائع السياسية والاجتماعية السائدة. فتقسيم المجتمع على أساس الملكية، كان أحد عناصر الإصلاحات القانونية التي عرفتها أثينا في عهد المشرع صولون Solon (640 ق.م - 560 ق.م). وبالتالي يُمكن القول أن الفكر السياسي الأفلاطوني، قد وصل إلى مرحلة الواقعية الفكرية، والتي لا تعني قابلية الأفكار للتجسيد العملي، بل على الأصح استنادها إلى أسس واقعية، يُمكن ملاحظتها في البيئة السياسية والاجتماعية. ويُمكن تشبيه أفكاره في هذه المرحلة بأفكار تلميذه أرسطو، الذي بنى أفكاره السياسية على تشريح الدساتير والأنظمة السياسية السائدة في عصره.   


Modifié le: dimanche 8 décembre 2024, 21:06