الفكر السياسي الأفلاطوني: النموذج السياسي في محورة الجمهورية

تمهيـــــــــــــــــــــــــد:

تُصنف محاورة الجمهورية La république/Politeia، ضمن مؤلفات أو محاورات الشباب، والتي ـاثر فيها أفلاطون بشكل كبير بسقراط، بحيث لا يُمكن الفصل بشكل تام بين أفكار الفيلسوفين. كما توصف أفكار أفلاطون في هذه المرحلة، بالطوباوية، حيث قامت أفكاره السياسية، على المبدأ الأخلاقي القائل بتطابق الفضيلة والمعرفة.

يُعالج أفلاطون في مؤلف الجمهورية، مجموعة من المواضيع والأفكار، يحاول من خلالها تحديد المضامين الحقيقية، لجملة من المفاهيم السياسية والأخلاقية، تُشكل في مجموعها نموذجه المثالي للمدينة. مستعملاً في ذلك المنهج الجدلي السقراطي، الذي يظهر في محاوراته من خلال شخصية سقراط، والتي يستعمل عبرها منهج الجدل والتشكيك، الذي لطالما استعمله سقراط في نقاشاته، حول مفاهيم الخير والعدالة...إلخ. غير أنه لابد من الإشارة إلى أن شخصية سقراط في محاورة الجمهورية، ليست الشخصية الحقيقية، بل هي استعارة مجازية بحيث يكون مجرد شخصية يطرح من خلالها أفلاطون أفكاره الخاصة.

وعلى سبيل المثل يُمكن المقارنة في هذا الصدد، بين استعمال أفلاطون لشخصية سقراط، بين محاورة الجمهورية، ومحاورة الدفاع. فهذه الأخيرة نقل فيها أفلاطون كلام سقراط، خلال محاكمته التي تمت في أثينا، وانتهت بالحكم عليه بالموت، بينما لم يعتمد نفس الأسلوب والهدف في محاورة الجمهورية، والتي كانت الأفكار فيها خاصة بأفلاطون، قم بسردها على لسان سقراط.

وقد تضمنت محاورة الجمهورية، مناقشةً للمواضيع الأساسية للفكر السياسي الأفلاطوني في هذه المرحلة، ويُمكن تلخيصها في العناصر التالية:

1.      مفهوم العدالة La justice:

شكل مفهوم العدالة أحد أهم مواضيع محاورة الجمهورية، فقد حاول أفلاطون إبراز معناها الحقيقي كما يتصوره، كبديل للمفهوم السائد والموروث عن الفلسفة السفسطائية. فهذه الأخيرة تجعل من المفاهيم ذات أبعاد ومضامين متعددة، تخضع لميزان القوة السائد داخل المجتمع، وكذلك تغير نظرة الإنسان لمصلحته الشخصية. فخلال محاورة الجمهورية، ورداً على تساؤل أفلاطون (على لسان سقراط)، حول المعنى الحقيقي لمفهوم العدالة، تم طرح مجموعة من التعاريف من طرف المشاركين في المحاورة، تعرضت بدورها للتشكيك والتفنيد. وقد كان ذلك كمايلي:

-          تعريف سيفاليس Céphale: العدالة هي قول الحقيقة وإعطاء الناس حقوقهم.

-          نقد التعريف: يعتبر أفلاطون أن هذا التعريف يعني تضمن العدالة الكثير من السلوكات المنافية للعقل، مثل قول الحقيقة للأعداء، أو منح الأموال والأسلحة للمجانين. وبذلك تكون العدالة مرادفة للظلم واللاعدالة. فإذا كان من العدل قول الحقيقة للأصدقاء، فإنه من الظلم واللاعدل فعل نفس الأمر مع الأعداء.

-          تعريف بوليمارك Polémarque: العدالة هي فعل الخير للأصدقاء وارتكاب الشر أو الظلم للأعداء.

-          نقد التعريف: يعتبر أفلاطون أن هذا التعريف لا يقوم على أساس مقبول، حيث لا يمكن إيجاد تعريف شامل للأصدقاء والأعداء. كما أن أصناف من الناس لا يُمكنهم تطبيق هذا المفهوم، لأنه يتعارض مع أخلاقيات المهن التي يُمارسونها، مثل الأطباء، قادة السفن...إلخ.

-          تعريف تراسيماك Thrasymaque: العدالة هي مبادرة الإنسان بارتكاب الشرور والظلم، بدل التعرض لذلك، أي أنه من غير العادل أن يتعرض الإنسان للشرور التي يرتكبها الآخرون بحقه، ومن العدل حماية نفسه من ذلك بالمبادرة بارتكابها بحق الآخرين.

-          نقد التعريف: يعتبر أفلاطون أن هذا المفهوم يعتمد على التفسير الشخصي للعدالة، وبذلك ستكون العدالة مرتبطة بقدرة الإنسان على المبادرة بارتكاب الظلم ضد الآخرين، أو بسبب عدم قدرتهم على دفع هذا الظلم ومقاومته. وبالتالي فهي خاضعة لتوازن القوة داخل المجتمع، وليس خيراً في حد ذاته.

-          تعريف أفلاطون Platon: في مقابل هذه التعريفات يقدم أفلاطون تصوره للعدالة، من خلال اعتبارها على أنها انعكاس لجوهر الدولة، والتي تنشأ بموجب الحاجة المتبادلة، وعدم قدرة الإنسان على تحقيق الاكتفاء اعتماداً على قدراته الذاتية. ويتطلب ذلك حسب أفلاطون نوعاً من التخصص في آداء الوظائف الاجتماعية، لاستحالة إتقان الإنسان لكل الوظائف والمهن. لذلك يعتبر أفلاطون أنه استناداً إلى هذا المبدأ تكون العدالة "انشغال كل واحد في المدينة، فقط بالمهمة المؤهل لها بالطبيعة".

بتعبير آخر تكون العدالة التزام الفرد أو المواطن بجوهر الدولة، أي التزامه بالوظائف التي أهلته قدراته الطبيعية والمكتسبة القيام بها، وبذلك تتحول العدالة إلى مفهوم عام ومجرد، مرتبط بعوامل مستقلة عن الإرادة الذاتية للأفراد، وتأويلهم لما يعتبرون أنه من صميم العدالة.

2.    الدولة كنتاج للحاجة المتبادلة:

اعتبرت الدولة/المدينة في العصر اليوناني، على أنها مظهر للتطور الحضاري اليوناني، كما اعتبرها المفكرون اليونانيون قبل العصر الكلاسيكي، على أنها منحة إلهية، وليست مجرد مظهر للتجمع البشري. كما يعتبرها اليونانيون أهم مظاهر الفرق بين الشعوب المتحضرة، وغيرها من الشعوب الهمجية، التي تعيش في أشكال الدول المختفة، بدون بناء سياسي ومؤسساتي. لذلك فقد بقي النموذج المعتمد للدولة في العصر اليوناني، جامداً دون أي شكل من أشكال التغيير، إلى غاية انهياره نتيجة لتوسعات الإسكندر المقدوني.

لم يخرج أفلاطون في نظرته للدولة، عن هذا المنظور الحضاري/الميتافيزيقي، أي أنه لم يقترح شكلاً مغايراً، لشكل الدولة السائد في بيئته وعصره. بل استمر في تسمية مخطط الدولة، المقترح في محاورة الجمهورية، باسم المدينة ويصفها بالعادلة، انطلاقاً من تأسسها على مبدأ العدالة، المشار إليه سابقاً. فالدولة من هذا المنطلق هي مجموعة من الوظائف الاجتماعية، التي يُمارسها الأفراد، بهدف تبادل إشباع الحاجات المختلفة. ويعتمد ذلك على مبدأ التخصص، أي أن العمل على تلبية حاجات أعضاء المجتمع، يقوم على قدرة الأفراد على أداء مختلف الوظائف، بدرجة عالية من الدقة والتمكن.

انطلاقاً من ذلك، فإن أساس وجود الدولة، ليس الطبيعة البشرية، أي أنها ليس نتيجة الميل الطبيعي للتجمع، والذي يتميز به الإنسان، باعتباره حيوان اجتماعي. كما أنها ليست نتيجة لعقد اجتماعي، مبرم بين الدولة وأعضائها، تلتزم بموجبه فقط، بأداء وظيفة الحماية والأمن، ضد مختلف التهديدات الداخلية والخارجية. فالدولة من وجهة نظر أفلاطون، هي جهاز تنظيم عملية الإشباع المتبادل للحاجات الاجتماعية، في مختلف أشكالها، المادية والمعنوية. لذلك تكون الوظيفة الأساسية للدولة كجهاز، تقسم العمل بين أعضائها، بناءً على قدراتهم الطبيعية، وكذلك المكتسبة بواسطة مسار التعليم الإلزامي التعليم. وينعكس مبدأ العدالة في الدولة، من خلال تقسيم العمل، بناءً على عامل التخصص، وبالتالي الكفاءة في أداء الوظائف الاجتماعية. علماً أن الحياد عن هذا المبدأ، يُؤدي حتماً إلى إدخال الدولة العادلة، في مسار دائري مستمر من التغيرات القيمية والهيكلية، تعكسها سيرورة الأنظمة السياسية.   

3.    الطبقات الاجتماعية:

جاء كتاب الجمهورية بتنظيم اجتماعي بديل، لم يكن معروفاً في المدن اليونانية، والتي انقسمت مجتمعاتها إلى ثلاث طبقات هي:

-          المــــــــــــــــواطنون: المتمتعون بالحرية والانتماء الطبيعي للمدينة (الانتساب إلى أبوين منتميين إلى نفس المدينة)، ويتمتعون كذلك بحق المشاركة السياسية، سواءً من خلال الترشح وشغل المناصب السياسية والقضائية وحتى العسكرية.

-          الأجانب: يتمتعون بالحرية الكاملة دون أن يصاحب ذلك الحق في الممارسة السياسية، نظراً لعدم الانتساب الكلي للمدينة (أحد الوالدين أو كلاهما أجنبي)، أو لكون الشخص ذاته من مدينة أخرى انتقل للعيش في مدينة أخرى بشكل مؤقت أو دائم. فالمدن اليونانية لم تكن تعرف نظام اكتساب المواطنة أو الجنسية، حيث يبقى الشخص أجنبي وكل ذريته، مهما طالب مدة الاستقرار في المدينة.

-          العبيد: لا يتمتعون بأي من الحقوق المدنية أو السياسية، نظراً لفقدانهم حريتهم سواءً بالولادة (أبناء العبيد)، أو بالقوة الخارجية (الديون أو الوقوع في الأسر). يقتصر دور هذه الطبقة فقط في القيام بالأعمال اليدوية والزراعية، وفي بعض الأحيان التجارية، لصالح السادة المالكين لهم. وبالتالي يمكن القول بتحفظ أن العبيد لم يكونوا أكثر من آليات للعمل، يمكن شراؤهم أو حتى تأجيرهم من طرف المدينة أو الأشخاص.

في مقابل هذا التنظيم السائد عملياً، يقترح أفلاطون تنظيما اجتماعياً بديلاً، على أساس جوهر الدولة المقترح سابقاً، أي تبادل تلبية الحاجات المختلفة لأفراد الدولة. وبناءً على ذلك يعتبر أن هناك ثلاث حاجات أساسية، يتطلب تلبيتها وهي:

-        إشباع الحاجات المادية لأفراد المجتمع.

-        الحاجة إلى الحماية والأمن والدفاع عن المدينة.

-        الحاجة إلى حكم فاضل لإدارة شؤون المدينة.

وبناءً على مبدأ التخصص من أجل آداء الوظائف الاجتماعية سابقة الذكر، فإن استمرار المدينة يتطلب وجود ثلاث طبقات وهي:

-          طبقة المنتجون (عامة الشعب):

يعتبر أفلاطون أن هذه الطبقة تتميز بالحد الأدنى من الفضيلة، مقارنة ببقية الطبقات، على اعتبار أنها لم تتحصل إلا على الحد الأدنى من التعليم. وبذلك فهذه الطبقة لم تتخلص من شهوة التملك والترف، فأفراد هذه الطبقة لا يحركهم العقل الذي يُميز الفلاسفة، ولا فضيلة الشجاعة التي تميز الجنود.

وفي مقابل ذلك تُمثل هذه الطبقة البعد الاقتصادي في مجتمع المدينة العادلة، حيث يتساهم في تلبية الحاجات المادية للمجتمع، بسبب منع بقية الطبقات من ممارسة أية أنشطة اقتصادية من منطلق التخصص. وفي المقابل فإن غياب هذه الطبقة، أو السماح للطبقات الأخرى بالاعتماد على نفسها، تلبية حاجاتها، يتناقض مع مبدأ التخصص في آداء الوظائف من جهة، وبالتالي مع مبدأ تبادل إشباع الحاجات من جهة أخرى.

-          طبقة الحراس (المساعدون):

تضم هذه الطبقة كل أفراد المدينة المسؤولين عن أمن وسلامة المدينة، نظراً لمؤهلاتهم الطبيعية والمكتسبة بالتعليم (القوة والشجاعة). وعلى عكس الطبقة السابقة، خصص أفلاطون مساحة أكبر للحراس في محاورة الجمهورية، من خلال شرح أساليب الإعداد والتدريب، والمهام الأساسية التي يتولون القيام بها. 

يكتسب الحراس خلال تدريبهم المهارات والقدرات، التي تؤهلهم للدفاع عن المدينة ومواجهة الأعداء، غير أنهم كذلك يكتسبون المعارف التي تزيد من فضائلهم وحكمتهم. بحيث تجعلهم قادرين على تغيير سلوكهم آلياً، عن التعامل مع بقية أفراد المجتمع، أين يتم التخلي عن الحزم والقسوة اللصيق بسلوك الجنود.

-          طبقة الفلاسفة الملوك (السوفوقراطيون):

يقتصر المعيار الوحيد للانتماء إلى هذه الطبقة، على الاستعدادات الطبيعية، والوصول إلى أرقى درجات التعليم، التي توازيها أرقى درجات الفضيلة. حيث يجتاز هؤلاء اختبارات قاسية، تؤهلهم لدراسة الحكمة/الفلسفة، قبل التفرغ الكلي (ابتداءً من سن الـ50)، إلى زيادة الخير الداخلي، والتعمق في إدراك جوهر المفاهيم والأشياء، والتخلص من أوهام المعرفة (أسطورة الكهف)، في انتظار استلامهم للسلطة، من أجل إدارة الشؤون السياسية للمدينة.

يعتبر أفلاطون أن التعليم يبقى المعيار الوحيد لتصنيف الطبقات الاجتماعية، غير أنه ترك الباب مفتوحاً أمام الوراثة، أي انتقال الخبرات والمهارات من الآباء إلى الأبناء عن طريق الملاحظة. وبالتالي فإن الوراثة وإن كانت موجودة من خلال انتقال القدرات الطبيعية من الآباء إلى الأبناء، فإنها تشكل في نفس الوقت أحد مظاهر التعلم، على اعتبار أن انتقال الخبرة بين الأجيال هو أحد مظاهر التعلم، لأنه يرتبط بإتقان مهارات مكتسبة.

 

4.    الأنظمة السياسية:

خصص أفلاطون الكتاب الثامن من محاورة الجمهورية، لدراسة أنظمة الحكم السائدة، أو تلك التي عرفتها بلاد اليونان سابقاً، ليتم تصنيفها في مجموعتين من الأنظمة، تضم الأولى الأشكال الصالحة، والتي تقابلها أخرى فاسدة، ويأتي على رأس قائمة الأنظمة السياسية، النظام السوفوقراطي، المتشكل من مجموعة من الفلاسفة، تخضع لإرادة حاكم فيلسوف. وبالتالي فإن الاقتراب أو الابتعاد من مبدأ العدالة والفضية، يُشكل المعيار الأساسي لتصنيف الأنظمة السياسية. والتي جاءت كما يلي:   

-          أنظمة الأقلية (التيموقراطية في مواجهة الأوليغارشية):

تتميز المدينة العادلة بنظام حكم أشبه بالنظام الارستقراطي، حيث تتولى السلطة مجموعة قليلة من الأشخاص، تتمتع بالقدر الأعلى من الفضائل، انطلاقاً من مستويات التعليم العالية المحصل عليها. غير أن الإخلال بمبدأ العدالة، يؤدي إلى تحول هذا النظام إلى أشكال أخرى، أقل فضيلة في بعض الحالات، أو حتى تنعدم فيها الفضيلة.

ينتج الإخلال بمبدأ العدالة عن سعي طبقة المنتجين إلى السيطرة على السلطة في المدينة، وهو ما يتسبب في الدخول في حرب أهلية ضد طبقة الجنود. غير ان انتصار هذه الأخيرة في هذه المواجهة، لا ينتج عنه عودة النظام السوفوقراطي، بل إقامة النظام العسكري أو ما يعرف بـ"التيموقراطية". وهو نظام سياسي قائم على الفضائل العسكرية (الشجاعة، التضحية، الشرف...إلخ).

غير أن التوجه نحو تخلي الطبقة العسكرية الحاكمة، عن هذه الفضائل مقابل السعي لزيادة الثروة، يجعل النظام ينتقل من حالته الصالحة، إلى حالته الفاسدة التي يُطلق عليها أفلاطون اسم النظام الأولغارشي. وهو نظام يفتقد لكل الفضائل، سواءً تلك المكتسبة عن طريق التعليم، أو تلك التي تميز الطبقة التيموقراطية. ويعتمد في المقابل فقط على تركيز الثروة، بحيث تتضاءل أعداد هذه الطبقة، كلما تركزت الثروة في يد فئة قليلة من الأفراد. وهو ما يعني بالضرورة زيادة عدد الفقراء في المجتمع، ما يُمكن اعتباره على أنه مقدمة لحدوث الصراع الداخلي، بين الأقلية المحتكرة للثروة، والأغلبية الفقيرة والمستعبدة.

-          أنظمة الأكثرية (الديموقراطية في مواجهة الديماغوجية):

يؤدي الانقسام الذي تعاني منه المدينة، بين أقلية غنية وأغلبية فقيرة، إلى وقوع المواجهة المباشرة بين الفئتين، والتي ستنتهي بانتصار الأكثرية الفقيرة، وبالتالي تحويل النظام نحو الديمقراطية. والتي لا تعني حكم الشعب لنفسه بنفسه، لكن على الأصح سيطرة الشعب على السلطة السياسية، من اخلال احتكار منح الشرعية عن طريق التصويت. وعليه فخلال هذه المرحلة سيتم إزالة كل آثار النظام الأوليغارشي، وإقرار قيم سياسية واجتماعية جديدة، تتمحور حول المساواة المطلقة بين الأفراد، وغياب أي شكل من أشكال التمايز.

يؤدي هذا الوضع إلى تحول الشعب إلى قوة عددية، يقتصر دورها على منح الشرعية، خلال عمليات الاقتراع حول شغل المناصب السياسية. وبذلك فسيتم اللجوء إلى الخطابات الشعبوية والعاطفية، من أجل ضمان التأييد الشعبي، وهو ما يؤسس حسب أفلاطون إلى نظام خالي تماماً في الفضائل يُعرف بنظام الغوغاء أو النظام الديماغوجي. وينتج عن هذا النظام المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار داخل المجتمع، بسبب التغير المستمر في المواقف الشعبية، وهو ما يتطلب تدخل قوة خارجية، تتميز بالحزم من أجل إعادة الانضباط للحياة السياسية.

-          الأنظمة الفردية (الملكية في مواجهة الطغيان):

يتطلب عدم الاستقرار الذي يعاني منه المجتمع، إلى ظهور الحاجة إلى قيادة أحادية، حيث يعتبر افلاطون أن الشعوب في مثل هذه الحالات، تبحث عن قائد يُمكنه إعادة الأمن والاستقرار إلى الدولة. وبسبب هذه الحاجة فإن الزعيم عادةً ما يتحول إلى مستبد، بسبب التأييد الشعبي الكبير الذي يتمتع به، بفضل الإصلاحات التي يقوم بها، ويفرضها في بعض الأحيان عن طريق القسوة والعنف. وسيزيد هذا التأييد، بسبب ربط المكاسب الاجتماعية والاقتصادية التي يتمتع بها الشعب، بوجود مثل هذا الحاكم المستبد، والذي يسعى إلى فرض المصلحة العامة، كقيمة أساسية لممارسة السلطة.

غير أن ابتعاد النظام عن مساعيه لخدمة المصلحة العامة، يجعله أحد أسوأ اشكال الأنظمة السياسية، حيث يتحول النظام الملكي تدريجياً نحو الاستبداد والطغيان. وتتكرس السلطة الأحادية المطلقة، مع تهميش للمؤسسات السياسية والقضائية. زيادة على سيطرة الخوف من المؤامرات على شخصية الحاكم، وهو ما يتسبب في زيادة القسوة والعنف في التعامل مع الشعب، بما في ذلك الفئات المؤيدة للنظام. ونتيجة لذلك فإن هذا النظام يتعرض للتغير، مع توجه نخبة من المجتمع تتميز بالمستوى الاقتصادي والتعليمي الجيد، إضافة إلى الانتماءات الأسرية العريقة، والتي تؤسس لنظام جديد، خاضع لسيطرتها تحت مسمى النظام الارستقراطي. وبذلك تعود الأنظمة السياسية نحو نقطة البداية، ليتعرض النظام الجديد إلى تغيرات قيمية (مرحلة أولى)، تؤدي إلى تغيرات هيكلية (مرحلة ثانية).

إن هذا الطرح للأنظمة السياسية، من طرف أفلاطون في محاورة الجمهورية، يُثير نوعاً من التساؤل، بهدف تفسير نشأة الأنظمة السياسية. فإذا كانت المدينة العادلة قد تأسست -افتراضياً-، على سلطة الحاكم الفيلسوف، في إطار نظام سوفوقراطي، يتميز بأعلى درجات المعرفة والفضيلة، فما هي الحاجة لسرد مجموعة الأنظمة الصالحة والفاسدة؟ وقد يبدو هذا التساؤل، ناتج عن تناقض واضح في أفكار أفلاطون، فإذا حل نظام الحاكم الفيلسوف، كأساس لإدارة المدينة، تنتفي معه الحاجة لبقية أشكال الأنظمة السياسية.

لتوضيح هذا التناقض، لابد من التذكير أن النموذج السياسي، المتضمن في محاورة الجمهورية، يتمحور حول المدينة القائمة على مبدأ العدالة. ويظهر ذلك في التنظيم الطبقي للمجتمع (منتجين، حراس وفلاسفة)، وكذلك تقسيم العمل، أو الوظائف الاجتماعية بين هذه الطبقات. غير أن انحراف هذه الطبقات، عن الالتزام بمبدأ العدالة، يُعتبر حسب أفلاطون، السبب الأساسي في التحول نحو أنظمة سياسية غير مستقرة، أو بتعبير آخر التأسيس لصيرورة الأنظمة السياسية.

تكون البداية -حسب أفلاطون-، مع النظام التيموقراطي، القائم على الفضائل العسكرية، المكتسبة من المستوى الجيد من التعليم، الذي تلقاه الجنود أو الحراس. ويتأسس هذا النظام نتيجة الصراع، الذي افترض أفلاطون أنه ينشأ، بسبب إحساس طبقة المنتجين بأهمية الدور الذي يؤدونه في المجتمع، وهو ما يدفعهم لمحاولة السيطرة على السلطة. فتهديد طبقة المنتجين، لمبدأ العدالة السائدة في المجتمع والدولة، يدفع العسكريين إلى محاولة كبح هذه المحاولة، بحيث ينتهي الصراع بسيطرتهم على السلطة، بسبب تدريبهم العسكري، وإتقانهم وظيفة الدفاع. وبذلك تفقد الدولة لصفة العدالة، لتتحول إلى دولة عادية، تتغير أنظمتها السياسية، نتيجة للتغيرات القيمية والهيكلية، المشار إليها سابقاً.

يبدو أن أفلاطون تبنى هذا السيناريو، من أجل توضيح خصوصية نموذج الدولة الذي اقترحه في محاورة الجمهورية. حيث يُفهم من ذلك، أنه لا يُمكن إصلاح الدولة، بدون تبني المبادئ والمعايير الأخلاقية، المستمدة من المبدأ السقراطي، أي المعرفة كمصدر للفضيلة. ومن خلال المبدأ التنظيمي السوسيوسياسي، القائم على التخصص والكفاءة في تقسيم العمل، انطلاقاً من مبدأ العدالة. فالأنظمة السياسية المشار إليها، هي النتيجة الحتمية لتخلي المجتمعات والدول، عن هذه المبادئ والمثل العليا، أي الفضيلة والعدالة.   


Last modified: Sunday, 8 December 2024, 8:22 PM