الواقعية النيوكيلاسيكية:هجوم الكلاسيكيين الجدد
الواقعية الكلاسيكية الجديدة Neoclassical Realism:
تأسست الواقعية النيوكلاسيكية على محاولة إعادة الاعتبار، إلى أفكار الواقعيين التقليديين مع محاولة سد الثغرات النظرية، التي كانت محل انتقاد من طرف السلوكيين، أو حتى من طرف الواقعيين البنيويين. لذلك فقد أعادت الواقعية النيوكلاسيكية الاعتبار، إلى القوة كعامل محدد للسياسة الخارجية، وكذلك السياسات الدولية بشكل عام. ويقوم هذا الاتجاه انطلاقاً من ذلك على فرضية أساسية، مفادها أن نطاق وطموح السياسة الخارجية للدولة، يتوقف على مكانتها في النظام الدولي، من خلال قوتها المادية النسبية Relative material power capabilities. حيث تُمارس هذه الأخيرة تأثيراً غير مباشر Indirect، ومعقد Complex، على اعتبار أن تأثير الضغوط الخارجية Systemic pressures، لا يكون إلا من خلال تفاعلها مع المتغيرات المرتبطة بالبيئة الداخلية.
لم تكرر الواقعية النيوكلاسيكية خطأ الواقعيين الكلاسيكيين، فالافتراض بأن القوة عامل محدد للسلوك الخارجي للدول، لا يعني أنها تُمارس تأثيراً مباشراً في هذا المجال. إضافةً إلى توضيح الكيفية التي تُمارس القوة وفقها، تأثيرها على السياسة الخارجية، أي من خلال التفاعل مع العوامل والمؤثرات الصادرة عن البيئة الداخلية. فهذه الأخيرة هي التي تُحدد مدى الأثر، الذي تُمارسه مؤثرات النظام الدولي، حيث لا تمارس هذه السياسات الأثر ذاته على السياسة الخارجية للدول، وهو ما يظهر من خلال الاستجابة المختلفة لنفس المواقف، رغم التشابه الكبير في أوضاع الدول. وهو ما يعني في نفس الوقت، تصحيحاً لفرضيات الواقعيين الكلاسيكيين، القائلة بالانفصال الكامل بين البيئتين الداخلية والخارجية، ونقداً لفرضية الواقعيين البنيويين القائلة بهامشية تأثير البيئة الداخلية في تشكيل السياسة الخارجية للدولة.
جاءت الواقعية الكلاسيكية الجديدة انطلاقاً من ذلك، من أجل إعادة الاعتبار لدور القوة في العلاقات الدولية، لكن من خلال توضيح كيفية تفاعل هذا العامل، مع بقية العوامل على مستوى البيئتين الداخلية والخارجية. لذلك فقد انصبّ اهتمام هذا الاتجاه، في محاولة الإجابة على سؤال المركزي، عن القدر الكافي أو الضروري من القوة، الذي يجب أن يتوفر لدى الدولة، من أجل تحقيق أهداف سياستها الخارجية.
الواقعية الهجومية Offensive Realism:
شكلت هذه الانتقادات بشكل عام، أساساً لدعم فرضيات معاكسة للاتجاه الدفاعي، اتخذ تسمية الواقعية النيوكلاسيكية الهجومية، وهو الاتجاه الذي قاده كل من جون ميرشهايمر، وكذلك فريد زكريا...إلخ. وتظهر أفكار الواقعيين الهجوميين، أقرب نسبياً إلى الواقعية الكلاسيكية، بسبب الافتراض المسبق بالطابع الأناني للسياسة الخارجية، وكذلك هيمنة هاجس القوة كتوجه وهدف أساسي للسلوك الخارجي للدولة.
تنطلق الواقعية الهجومية من الافتراض بأن الفوضى الدولية، هي بشكل عام ذات طابع هوبزي Hobbesian Anarchy، وينطبق ذلك على مختلف الصور التي يُمكن أن تتخذها بنية النظام الدولي. وتسعى الدول ضمن هذه الفوضى إلى تحقيق أمنها، عن طريق ضمان تفوقها النسبي Maximizing their relative adventage، ويمكن في سبيل ذلك الانزلاق نحو الاستخدام المباشر للقوة العسكرية. كما يفترض رواد هذا الاتجاه النظري، أن الدول تتبنى توجهات دفاعية في تفاعلاتها الدولية، وبالتالي في سياستها الخارجية الوطنية، لكنها سرعان ما تتحول إلى توجهات هجومية، بتأثير من بنية النظام الدولي.
يمكن انطلاقاً من ذلك ملاحظة الموقع المميز، الذي تمنحه الواقعية الهجومية لتأثيرات بنية النظام الدولي، وهي بذلك تتقاطع مع أفكار الواقعيين البنيويين، رغم استمرار الواقعيين الهجوميين اعتبار أن بنية النظام الدولي، تؤثر في تحديد توجهات الدول، لكنها لا تكون العامل الوحيد في تشكيل السياسة الخارجية الوطنية. كما أن الدول لا تكتفي بالطابع السلبي أو الدفاعي للأمن، كما يذهب إليه البنيويون والواقعيون الدفاعيون، بل تسعى لحماية أمنها عن طريق تدعيم موقعها في تفاعلات الفوضى الدولية.
يتمثل الهدف الأساسي للدول حسب ميرشهايمر في ضمان البقاء، ضمن نظام دولي قائم على الاعتماد على الذات، وتكون الوسيلة الأساسية لتحقيق هذا الهدف، هو ضمان التفوق على بقية الدول في مجال القوة. وتذهب الفرضية الأساسية للواقعية الهجومية في هذا المجال، إلى اعتبار أنه كلما زادت قوة الدولة، كلما تراجع احتمال تعرضها للاعتداء من طرف الدول المنافسة، وبعلاقة متعدية تتراجع الأخطار التي تُهدد بقاء الدولة. أي أن هذه الأخيرة هي في حالة استعداد دائم للصراع، من خلال تنافس مستمر على تعظيم القوة Maximization of power، من أجل ردع القوى المنافسة وضمان البقاء.
لا تنحصر أهداف السياسة الخارجية الوطنية، وفق الواقعيين الهجوميين عن تحقيق الأمن والبقاء المادي، بل يُمكن أن تمتد السياسة الخارجية الوطنية إلى هدف أعلى، وهو تحقيق الهيمنة The hegemony في السياسة الدولية. فالوصول إلى تحقيق قدر أكبر من القوة، وبالتالي الحصول على ميزة نسبية مقارنة بالدول الأخرى، قد لا يمنع الدول من السعي لاكتساب المزيد من القوة. حيث لا يتوقف هذا المسار من البحث عن المزيد من القوة، إلا بفرض الهيمنة على تفاعلات السياسة الدولية. فالوصول إلى الميزة النسبية عسكرياً، لا يعني القدرة على منع استمرار التنافس بين قوى النظام الدولي، وبالتالي إمكانيات التراجع والضعف بسبب الطبيعة الصفرية للصراع حول القوة من المنظور الهجومي. أي أن الموقع المتميز الذي يُمكنه أن تحتله الدولة في أعلى هرم تراتبية النظام الدولي، لا يُمكن أن تحافظ عليه إلا من خلال فرض هيمنتها الكلية على النظام.
يتميز التنافس حول القوة في السياسة الدولية، بطابعه الصفري من جهة، وبالتالي سيكون السبب الرئيسي لحدوث ما يُطلق عليه باري بوزان اسم المعضلة الأمنية. وفي هذا السياق يعتبر ميرشهايمر أن الزيادة في قوة الدولة تُشكل تقليصاً من قوة الدول الأخرى، وهو ما يجعلها تتبنى "العقلية الصفرية" عند التفاعل مع بعضها. ما يؤدي إلى شكوك الدول الأخرى، أو حتى دفعها إلى تبني خيارات وتوجهات عدوانية في سياستها الخارجية، ومن ضمنها اللجوء إلى العنف والذي يعتبره الهجوميون طريقة تفكير طبيعية/غريزية لدى الدول. وهو ما يتناسب مع توصيف النيوكلاسيكيين الهجوميين، للبيئة الدولية على أنها ذات طابع هوبزي، تهدف الدول فيها إلى ضمان البقاء، حتى وإن أدى ذلك إلى المبادرة بالعدوان.
يُصاحب ذلك هيمنة حالة من الشك وعدم الثقة، في مواقف الدول تجاه الإجراءات الأمنية والعسكرية المتخذة من طرف دول أخرى، وفق ما يتضمنه مفهوم المعضلة الأمنية. ويؤدي ذلك إلى انعدام فرص الاندماج، في سياسات تقليص القوة العسكرية، أو الحفاظ عليها ضمن الحدود المقبولة من طرف الدول المعنية. لذلك يذهب البعض إلى اعتبار أن التنافس بين الدول حول تعظيم القوة، والسعي إلى تحقيق الهيمنة، أقرب إلى نموذج مأزق السجين Prisoner’s Dilemma. وبذلك يكون الخيار الأمثل المتاح أمام الدول، هو الاستمرار في مساعي زيادة القوة النسبية، في ظل المخاطر التي تتضمنها مختلف الخيارات.
فقد شهدت العلاقات الدولية خلال مرحلة ما بين الحربين، العديد من مساعي ومسارات تخفيض الترسانة العسكرية، ومنع تكرار الانزلاق إلى سباق للتسلح، قد ينتهي بمواجهة عسكرية جديدة. لكن هذه المساعي فشلت أمام إصرار الدول، على الاحتفاظ بقوتها العسكرية بسبب المخاوف من تجدد النزعة العسكرية الألمانية. وتكرر ذلك من خلال مسارات نزع السلاح، التي تمت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ابتداءً من سنة 1979، حيث تم تقليص حجم الأسلحة في نفس الوقت الذي سعت فيه كل من الدولتين، إلى تطوير التكنولوجيا العسكرية.
وبذلك فإن نهاية الحرب الباردة لم تكن سبباً كافياً، من أجل اندماج الدول الكبرى في تخفيض قواتها العسكرية، أو تخفيض ميزانياتها الدفاعية. بل كانت نقطة انطلاق من أجل تطوير التكنولوجيا العسكرية، والبحث عن السبل التي تسمح للدول بزيادة إنفاقها العسكري، حتى في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية. فقد دخلت روسيا على سبيل المثال، في مسار تخفيض حجم القوات المسلحة، إضافةً إلى تفكيك القدرات العسكرية الاستراتيجية، بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة، وعملية إعادة الهيكلة الاقتصادية المترتبة عنها. لكنها سرعان ما استأنفت مسار إعادة الاعتبار للقوات المسلحة، من خلال زيادة الإنفاق العسكري، وتطوير التكنولوجيات العسكرية الروسية، خاصةً في المجالات الصاروخية. بتأثير من تحسن الأوضاع الاقتصادية نتيجةً لارتفاع أسعار النفط، وكذلك بسبب العقيدة الاستراتيجية الأمريكية، وكذلك التوسيع المستمر لحلف شمال الأطلسي. ما أدى إلى عودة روسيا كأحد مصادر تهديد الأمن في أوروبا، والمنطقة الأوروأطلسية بشكل عام، وكأحد المنافسين على النفوذ في عدد متزايد من القضايا الإقليمية.
أعطت الواقعية الهجومية أهمية كبيرة، لدور البنية الدولية الفوضوية، في التأثير على السياسة الخارجية، ويتقاطع هذا الافتراض مع فرضيات الواقعية البنيوية، رغم الاختلاف حول درجة هذا التأثير. ويظهر الاختلاف سريعاً في مدى أهمية الدور الذي تلعبه البيئة الداخلية، في رسم السياسة الخارجية الوطنية، وتحديد توجهاتها العامة. وبذلك فقد شمل نطاق تحليل النيوكلاسيكيين الهجوميين، مختلف العناصر التي يُمكن أن تتضمنها البيئة الداخلية، مثل جماعات المصالح بشكل عام، وكذلك الأفراد على مستوى آلية صنع القرار أو الوحدة القرارية. وهي العوامل التي أهملتها الواقعية البنيوية، وكذلك الواقعية الكلاسيكية، فإذا كانت الأولى قد قللت من أهمية البيئة الداخلية، فإن الكلاسيكيين تجاهلوا الدور الذي يُمكن أن يمارسه صانع القرار، في تشكيل السياسة الخارجية الوطنية. أو على الأصح فقد اعتبروا أنها لا تُمارس أي تأثير على التفاعلات الخارجية للدولة (نموذج كرة البلياردو).
إن تحديد التوجهات الأساسية للسياسة الخارجية وتغييرها، لا يتوقف على الإرادة المنفردة لصانع القرار، أو انطلاقاً من إدراكه الشخصي لذلك. ويرتبط ذلك بالمقابل بشبكة المصالح الموجودة، على مستوى البيئة الداخلية للنظام السياسي والمجتمع بشكل عام، ما يدفع صانع القرار إلى ضرورة الحصول على التأييد الداخلي، للتوجهات العامة للسياسة الخارجية، والقرارات المتخذة لتنفيذها. ويتطلب هذا التأييد حسب توماس كريستانسن T. Christensen، قيام صانع القرار "بشراء المصالح Achter les intérêts"، من خلال القرارات التي تحضى بالتأييد الشعبي، في مجالات أقل أهمية بالنسبة لصانع القرار، أو النخبة الحاكمة/المسيطرة.
تُمارس هذه القرارات أثراً أكبر، إذا كانت مرتبطة بالمسائل الاجتماعية، التي تتضمن مصالح مباشرة للجماعات داخل المجتمع. ويُمكن أن تتكرس هذه الممارسات، من خلال إجراءات قد ترتبط بمشاكل الهوية الثقافية، أو المجالات الاقتصادية والمعيشية...إلخ. وتشمل هذه الممارسة دول تنتمي إلى أصناف مختلفة، المتقدمة منها وكذلك المتخلفة، وإن كانت تُمارس بشكل مختلف في دول العالم الثالث. ففي بعض الحالات يتم اتخاذ قرارات اقتصادية، توجه أنظار الأفراد والجماعات نحو قضايا أخرى، مثلما يحدث عادةً عند زيادة أو تخفيض أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية. كما يُمكن أن تعتمد الدول بدرجات مختلفة أسلوب تصدير الأزمات، من خلال افتعال مشاكل خارجية تضمن من خلالها التأييد الداخلي، لفترات زمنية محددة تعمل خلالها الدولة، على إعادة صياغة سياستها الخارجية مستفيدةً من التأييد، حتى وإن كان تأثير هذا الأخير مؤقتاً.
يُعتبر فريد زكريا أحد منظري النيوكلاسيكية الهجومية، لذلك فهو يؤكد على أهمية الدور الذي تلعبه البيئة الدولية، في التأثير على توجهات السياسة الخارجية الوطنية، وينتقد بالمقابل المقاربات التي أهملت هذا المتغير. حيث يعتبر زكريا أن "غالبية طريات السياسة الخارجية...يجري تطبيقها على مستويات تحليلية أدنى، وتعزوا سلوك الدول إلى السياسة الداخلية، أو الثقافة القومية. ولكن النظرية الجيدة تبدأ أولاً بدراسة تأثير النظام الدولي على السياسة الخارجية، حيث أن أهم الخصائص العامة للدولة في العلاقات الدولية، هو وضعها النسبي في المنظومة الدولية".
يتفق هذا التصور مع أفكار الواقعيين الهجوميين بشكل عام، فالبيئة الخارجية توجه الدول نحو تبني ردود فعل معينة. أو اختيار توجهات سياستها الخارجية، انطلاقاً من وضعها في النظام الدولي، المرتبط بعلاقة متعدية بحجم قوتها الاقتصادية والعسكرية. وبالتالي فإن كل تفسير للسياسة الخارجية، يستثني تأثيرات بيئة النظام الدولي، وتأثيرات حالة الفوضى ضمن هذه البيئة، سيتوصل إلى نتائج جزئية اختزالية. رغم أن هذا الافتراض لا يعني بالضرورة تبني خيار التصور البنيوي، حيث يختلف النيوكلاسيكيون عن بقية الواقعيين (الكلاسيكيين والبنيويين)، في المزاوجة في التأثير بين البيئتين الداخلية والخارجية.
انطلاقاً من ذلك يوسع فريد زكريا، من دائرة التحليل الواقعي للسياسة الخارجية، لتشمل عوامل من البيئة الداخلية، مثل تلك المرتبطة بطبيعة النظام السياسي وبنيته المؤسساتية، إضافةً إلى تصورات صانع القرار حول توزيع القوة السائد بين قوى النظام الدولي. وبذلك يكون صانعوا القرار على المستوى المركزي، مزودين بالسلطة لتسيير السياسة الخارجية، وبالتالي تحديد توجهاتها الأساسية، وكذلك اتخاذ القرارات المرتبطة بها. وهو ما يعني أن أية ضغوط داخلية، سواءً أكانت مؤسساتية أو مجتمعية، ستؤثر بشكل مباشر على عملهم وتصوراتهم، وبشكل مباشر على مخرجات الوحدة القرارية، بتعبير آخر على السياسة الخارجية الوطنية.
يظهر هذا التأثير في البيئة المؤسساتية اللبرالية، والتي تُمارس فيها المؤسسات السياسية، وجماعات المجتمع المدني نوعاً من الرقابة على أعمال السياسة الخارجية. مثل ما يحدث مراراً في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتشكل لجان برلمانية من أجل مساءلة السلطة التنفيذية، على أدائها في قضايا معينة، ثم ترفع توصياتها بشأن ذلك. وهو ما ينجر عنه إما منح مزيد من الدعم للسياسة الخارجية، أو تقليص الاعتمادات المخصصة لها، من أجل الدفع نحو تغيير التوجهات العامة. ومن أهم الأمثلة على ذلك قرار الكونغرس الأمريكي ابتداءً من سنة 1983، وقف المساعدات العسكرية لحركة الكونتراس في نيكاراغوا، من خلال الصلاحيات التي يمتلكها المجلس، في مجال إقرار الميزانية الفدرالية. وهو ما أدى إلى خرق الحضر المفروض منذ 1979، على تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية إلى إيران، من أجل ضمان استمرار التمويل لحركة الثورة المضادة في نيكاراغوا، ضمن ما عُرف صحفيا باسم فضيحة إيران غايت Irangate.
وينطبق نفس الوضع على تأثير حركات المجتمع المدني، على السياسة الخارجية للدول الأوروبية، خاصةً فيما يتعلق بالبناء الإقليمي الأوروبي. ويظهر ذلك بشكل أوضح، كلما اقتربت العملية من المجالات المعيشية والاجتماعية، حيث تهدف هذه الحركات إلى حماية المكاسب الاجتماعية والوظيفية، من السياسات فوق الحكومية الأوروبية. لهذا يزداد الضغط الشعبي على الحكومات الوطنية، في كل مرة يقترب الاتحاد الأوروبي من إجراء إصلاحات مؤسساتية، تعطي صلاحيات أكبر للمؤسسات الأوروبية على حساب المؤسسات على الوطنية. وقد ظهر تأثير هذا الضغط خلال مسار إقرار المعاهدة الدستورية (الدستور الأوروبي) سنة 2005، وهو ما دفع دول الاتحاد الأوروبي، إلى التخلي عن الكثير من الطموحات الفدرالية، والقبول بالحد الأدنى الممكن من خلال معاهدة لشبونة سنة 2007. إضافةً إلى التغيير الكلي في السياسة الأوروبية لبريطانيا، من خلال الاستفتاء حول الخروج من الاتحاد الأوروبي سنة 2015، بسبب ضغوط التيارات الشعبوية المطالبة بالانفصال عن البناء الأوروبي.
لا يتوقف تأثير البيئة الداخلية في السياسة الخارجية، عند دور المؤسسات السياسية والقوى المجتمعية، بل يمتد إلى إعطاء مساحة أكبر لدور الفرد صانع القرار. فالتأثيرات الناتجة عن قوى البيتين الداخلية والخارجية، لا تًمارس دورها بشكل آلي ومباشر، كما يُمكن أن يُفهم من خلال فرضيات نظريات العلاقات الدولية بشكل عام. فقد كانت فرضيات الواقعيين الكلاسيكيين والبنيويين، وحتى فرضيات الواقعية الدفاعية، مفتقدة للطابع التفسيري الذي وُجدت من أجله. حيث لا يُمكن تفسير السياسة الخارجية، واستشراف التحولات التي يُمكن أن تطرأ عليها، دون روابط حقيقة مع المفاهيم السائدة، والتي تتميز بطابع تجريدي لا يسمح بقياس تأثيرها على سياسات الدول.
لهذا يعتبر فريد زكريا أن هذه العوامل، خاصةً ما يتعلق منها بالتغيرات في توزيع القوة في النظام الدولي، لا تُمارس تأثرها إلا من خلال التأثير على تصورات صانع القرار. فالمفاهيم المجردة مثل الأمن والقوة...إلخ، لا يُمكن لها تفسير السياسة الخارجية الوطنية، إلا من خلال المعاني والمضامين التي يمنحها لها صانع القرار أو رجل الدولة. وعليه فإن تحديد مضامين وتوجهات السياسة الخارجية، يتوقف على إدراك صانع القرار للتغيرات في توزيع القوة، وكذلك تغير التهديدات التي يتعرض لها الأمن الوطني. هي ما قد يدفع صانعي القرار إلى تعريف فعلي للمصالح الوطنية، والتصرف عملياً وهذا التعريف، وليس استناداً إلى التصورات النظرية التي اعتمدها الواقعيون الكلاسيكيون والبنيويون.
يُمكن القول من خلال ذلك أن فريد زكريا، أعاد الأهمية التي منحتها النظريات الجزئية لعملية الإدراك، حيث يرتبط تأثير المصالح الوطنية وكذلك تغير توازنات القوة، بإدراك صانع القرار الذي ينعكس على مخرجات عملية صنع السياسة الخارجية. رغم ذلك فإن هذه الأخيرة لن تكون محصنة، من الإدراك الخاطئ الذي يُمكن أن يقع فيه صانع القرار، من خلال القراءة الخاطئة للتحولات في مضامين، وتوزيع القوة بين قوى النظام الدولي. وهذه القراءة قد تؤدي إلى نتائج معاكسة لطموحات الهيمنة، وهو ما توضحه بعض الأمثلة التي تستند إليها أفكار الواقعيين الهجوميين، مثل حالة ألمانيا النازية، وانتقالها من حالة القوة الاقتصادية إلى تعظيم القوة العسكرية، ثم إلى محاولة الهيمنة على تفاعلات العلاقات الدولية.
إضافةً إلى ذلك تتأثر السياسة الخارجية الوطنية، من خلال ربطها بإدراك صانع القرار للتحول في توزيع القوة، بعامل التغيرات التي يُمكن تطرأ، على السلطة السياسية والمسؤولين على صنع السياسة الخارجية، حيث تتأثر هذه الأخيرة بتغير النخب الحاكمة، تعاقب البرامج الحزبية. فرغم الثبات النسبي في السياسة الخارجية الأمريكية، خلال فترات الإدارات الجمهورية والديمقراطية، إلا أن هذه السياسة اتخذت توجهات مختلفة جذرياً، من خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب D. Trump، والتي أخذت طابعاً يوصف بالانعزالي، عكس الطابع التدخلي التقليدي، الذي عادةً ما تتميز به السياسة الخارجية للحزب الجمهوري.
لا تجيب الافتراضات التي تم استعراضها أعلاه، عن مختلف الأسئلة التي تطرحها عملية تحليل السياسة الخارجية، باقتصار تحليلات الواقعيين الهجوميين على القوى العظمى فحسب. وبالتالي فإن غالبية الدول سواءً أكانت قوى متوسطة أو صغرى، ستكون بمثابة الاستثناء للافتراضات التي وضعها الواقعيون الهجوميون. كما أن الافتراض بتوجه الدول، إلى نحو تفادي الإصابة بما أطلق عليه فريد زكريا اسم "المرض الهولندي"، سيجعل من الصعب تفسير تخلي الدول المُصنِّعة (ألمانيا، كندا، اليابان...إلخ)، عن طموحات الهيمنة في العلاقات الدولية، في فترة ما بعد نهاية الحرب الباردة، في حين صعود قوى عُرفت تقليدياً، بأنها متوسطة أو من الدرجة الثانية، رغم أنها ذات قدرات اقتصادية أقل.
يُمكن القول بتعبير آخر، أن طموح الدول نحو الهيمنة في صيغته النظرية، سيكون متعارضاً مع الصيغة العملية، لتوزيع القوة والنفوذ في العلاقات الدولية. فرغم أن الفترة التالية مباشرةً لنهاية الحرب الباردة، عرفت عملياً سيطرة فعلية للولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن هذه السيطرة تعرضت للتحدي، بسبب عودة روسيا إلى التنافس حول مناطق النفوذ، وكذلك تصاعد مجموعة من القوة الجديدة، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي، وكذلك الصين من خلال تصاعد قوتها الاقتصادية.
وبالتالي فإن الإبقاء على القوة الاقتصادية والتجارية، لا يعني إصابة الدول بالمرض الهولندي في معناه المستعمل في مجال العلاقات الدولية. فقدرة الدول الأوروبية، وكذلك الصين ومجموعة دول البريكس BRICS، على استعمال قوتها الاقتصادية في مواجهة الهيمنة النسبية للولايات المتحدة، يجعلها قادرة على تحقيق التوازن أو حتى الهيمنة، بوسائل غير عسكرية. حيث تمنح القوة الاقتصادية الدول، مساحة أكبر للمناورة في سياستها الخارجية، من خلال القدرة على تقليص الضغوط الخارجية، أكثر مما توفره تعظيم القدرات العسكرية. فالقوة التقليدية والنووية التي تملكها الولايات المتحدة، لا يجعلها في معزل عن الضغوط الناتجة عن السياسات الاقتصادية والمالية الصينية والأوروبية.
لقد ركزت النظرية الواقعية في تحليلها للسياسة الخارجية، على مجموعة من العوامل التي تؤثر متفرقة أو مجتمعة، في السلوك الخارجي للدول، وأنماط استجابتها للتحديات والمواقف المختلفة. لكنها في المقابل أغفلت مجموعة أخرى من العوامل، ذات الطابع الاقتصادي وكذلك المؤسساتي، والتي ستأخذ مساحة أكبر مع نظريات أخرى، مثل النظرية اللبرالية أو حتى الماركسية والبنائية...إلخ.