الواقعية الكلاسيكية
الواقعية التقليدية/الكلاسيكية Classical Realism:
تؤرخ بعض الدراسات إلى أن النظرية الواقعية، تستمد أسسها الفكرية من جذور عميقة في تاريخ الفكر السياسي، يرجع إلى العصر اليوناني ممثلاً في ثيوسيدايد Thucydide (460 ق.م - 395 ق.م)، مروراً بعصر النهضة ممثلاً نيكولو ميكيافيللي N. Machiavelli (1496 - 1527)، وكذلك توماس هوبز T. obbes (1588 - 1679) في العصر الحديث. فقد تضمنت هذه الأفكار السياسية لشكل متفرق، مختلف الفرضيات والمسلمات، التي تم جمعها وإضفاء الطابع النظري عليها، من خلال أعمال الواقعيين التقليديين، ابتداءً من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ليتطور بعدها البناء النظري ليمتد إلى واقعية بنيوية، ثم واقعية نيوكلاسيكية Neoclassical Realism، بشقيه الدفاعي والهجومي. وتجدر الإشارة إلى أن النظرية الواقعية، ليست نظرية جزئية تقتصر جهود روادها، على تحليل السياسية الخارجية كحقل جزئي، بل جاءت كنظرية كلية لتحليل العلاقات الدولية ككل، وإسقاط النتائج المتوصل إليها على مختلف الحقول الجزئية، مثل السياسة الخارجية، النزاعات الدولية، أو حتى مسارات التكامل الدولي والإقليمي.
1. القوة والمصلحة الوطنية: من أجل تفسير عقلاني للسياسة الدولية:
يتأسس البناء النظري للواقعية التقليدية، على ثلاثة مفاهيم أساسية هي: القوة Power، المصلحة الوطنية National Interest، توازن القوى Balance of Power. والتي تُشكل هاجس الدولة القومية، كفاعل وحيد (ثم أساسي) في العلاقات/السياسة الدولية. حيث تكون سياسات الدول، عبارة عن سعي مستمر، لتعظيم القوة والمصلحة، والحفاظ على توزيع دائم للأدوار والقوة، يسمح لها بالحفاظ على مصالحها الوطنية. كما تعتبر الواقعية أن نظام توازن القوى، هو الآلية الوحيدة لضبط التفاعلات الدولية، وضمان عدم اللجوء إلى العنف، واستقرار توزيع الأدوار القائم، حتى وإن كان بقاء الوضع القائم، يتميز بالهشاشة واستمرار المخاوف، من محاولات تغيير وضع النظام الدولي.
يحتل مفهوم المصلحة الوطنية مكانةً أساسيةً، في الإطار النظري الموجه، لمحاولة فهم سلوك الدول، وتحديد الصور المستقبلية، التي يُمكن أن يتخذها. ويرفض هانز موغنثاو H. Morgenthau في مقابل ذلك، الاستناد إلى مفهوم الدوافع Motives، كمحرك سلولك صانع القرار، وبالتالي الاعتماد عليه في تحليل السياسات الخارجية للدول، والتي تُمثل مظهر التفاعلات الدولية. حيث يفترض مورغنتاو، أن ذلك سيؤدي إلى التوصل لنتائج خاطئة ومُضللة، على اعتبار أنه من غير الممكن، التحقق من الدوافع الحقيقية لصانع القرار، باعتبارها ذات خاصية نفسية محضة. حيث عادةً ما يخضع تقدير هذه الدوافع، لمصالح الفاعل Interests of Actor أو عواطف أو حتى تفضيلات المحلل/المراقب Emotions of Observer.
أي أن دوافع صانع القرار، أو حتى معتقداته الفكرية والأخلاقية، لا تمتلك الخاصية التفسيرية الضرورية، لفهم السياسة الخارجية للدولية، وبعلاقة متعدية السياسة الدولية. وهو أساس الانتقادات، التي وجهها الواقعيون الكلاسيكيون، للمدارس الفكرية، في حقل العلاقات الدولية، على رأسها دراسات التاريخ الدبلوماسي، أو حتى رواد المدارس المثالية، التي سادت خلال مرحلة ما بين الحربين. والتي كانت استناداً إلى وجهة النظر الواقعية، أقرب إلى الدعوة لإقامة السلام العالمي، منه إلى إطار نظري يقدم تحليلات عقلانية للعلاقات الدولية خلال تلك المرحلة. وهو ما يُفسر الإصرار، على التركيز على منطلقات وأسس فكرية، غير موجودة فعلاً، في واقع التفاعل الدولي، المتميز بالصراع من أجل القوة والمصالح الوطنية، بين الدول ذات السيادة. والتي لا تلجأ في تفاعلاتها، إلى المبادئ الفلسفية والأخلاقية، التي عادةً ما تؤثر في التفاعلات الإنسانية، وتحدد صور وأنماط السلوك الفردي للإنسان، في علاقاته المتبادلة، مع بقية أعضاء الجماعة الإنسانية أو المجتمع.
يمتد ذلك ليشمل كل المتغيرات المجردة، غير القابلة للإثبات عن طريق التجربة (العواطف الفلسفية والسياسية لصانع القرار)، والتي يعتبرها الواقعيون التقليديون، على أنها عوامل لاعقلانية. لذلك فإن أية نظرية في السياسة الدولية، لابد أن تتجرد من كل المتغيرات غير العقلانية Irrational elements، وتبحث في المقابل عن تقديم صورة واقعية للسياسة الدولية، تقدم الجوهر العقلاني The rational essence، الذي يُمكن تثبته التجربة العملية/الوقعية. وبدون ذلك فلن يكون بالإمكان، بناء نظرية ذات تفسير عقلاني في هذا الحقل، أي دون إمكانية التحقق من الأسس، التي يتم استناداً إليها في دراسة ظواهره.
يقترح الواقعيون في مقابل ذلك، أساساً أكثر مصداقية لتحليل السياسة الدولية، ويتمثل في مفهوم المصلحة الوطنية، والتي تُشكل حسب الواقعية الكلاسيكية جوهر السياسة The essence of politics، الذي لا يتأثر بتغير ظروف الزمان والمكان. وينطبق ذات الأمر على مفهوم القوة Power، من خلال اعتبارهما كمحرك ثابت ودائم لسلوك الدول الخارجي، وبالتالي يوفر المفهومان أساساً ثابتاً لدراسة السياسة الدولية، انطلاقاً من القدرة على تفسير السياسة الخارجية للدول، وكذلك القدرة على التنبؤ بتطورها. وهو ما عجزت عنه الأطر الفكرية السابقة، القائمة على التاريخ الدبلوماسي أو القانون الدولي، والتي تكتفي بالسرد دون القدرة على ممارسة التحليل، المؤدي إلى فهم سلوك الدول، وتوفير القدرة على التنبؤ بتطوره. وهو ما يُعتبر من أهم عناصر النظرية العلمية، على الأقل في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية.
لا يُمكن فهم السياسة الدولية، عبر السياسات الخارجية، وفق التصور الواقعي، من خلال مفهومي المصلحة الوطنية والقوة، إلا من خلال افتراض جوهري، حول طبيعة هذه السياسات. فهذه الأخيرة، ومن حيث المبدأ، تتميز بالعقلانية Rational Foreign policy، والرشادة Good Foreign Policy، من خلال السعي المستمر من أجل تقليص المخاطر Minimze Risks، في مقابل تعظيم المكاسب Maximze Benefits. أي أن صانع القرار (في أطار الدولة)، سيكون ذو طبيعة اقتصادية، أو بتعبير آخر إنساناً اقتصادياً، دائم السعي للحصول على القدر الأكبر من العائدات والمكاسب، مع الميل إلى تحمل القدر الأقل من التكاليف. وهذا هو السياق الذي يتوجب على الباحثين، وضع السياسات الخارجية، والسياسة الدولية بشكل عام في إطاره، بحيث تكون هذه العقلانية المسلمة الأساسية، عند دراسة السلوك الخارجي للدولة، باعتباره متماشياً مع متطلبات حسابات التكاليف والعائدات.
تنطلق الكثير من الانتقادات، الموجهة للواقعية الكلاسيكية، من اعتبار أن هذه الأخيرة، لم تُحدد المضمون الدقيق، لمفهومي القوة والمصلحة الوطنية، رغم أنهما يُشكلان الأساس لفهم السياسة الدولية. وقد يكون ذلك مدخلاً لمنح المفهومين المعاني المختلفة، التي تراها كل دولة، متوافقة مع حجمها وأهدافها، ويبقى المعنى الوحيد الذي منحه الواقعيون للمصلحة الوطنية، هو مطابقتها بمفهوم القوة، بحيث تكون هذه الأخيرة مصلحة في حد ذاتها. وبغض النظر عن مناقشة الانتقادات، التي وُجهت للواقعيين الكلاسيكيين في هذا الموضوع، فإنه لا يُمكن تحديد مضمون محدد، للقوة أو المصلحة الوطنية، باعتبارهما مُتغيرين حسب حالة، وحاجة وأهداف كل دولة.
2. الدولة ككرة البليارد:
تعتبر الواقعية الكلاسيكية منظوراً أُحادياً، في نظرية العلاقات الدولية، من خلال اعتبار أن الدولة القومية، هي فاعل وحيد وموحد. أي أن تفاعلات العلاقات الدولية، ليست إلا تفاعلات سياسات الدول الخارجية، وهو أساس إطلاق وصف السياسة الدولية على هذه التفاعلات. وانطلاقاً من ذلك، تنفي الواقعية الكلاسيكية، أي دور لفاعل من طبيعة أخرى غير الدول Non-State Actor، في تشكيل العلاقات الدولية. رغم أن المرحلة الزمنية، التي جاءت في إطارها الأفكار الواقعية، قد شهدت انتشار الكثير من الهيئات والمنظمات الدولية، وبدأ تأثيره في الظهور على المستوى الدولي، مثل الأمم المتحدة، محكمة العدل الدولية، الأحلاف العسكرية...إلخ. غير أن هذا الوضع يبقى حسب الكلاسيكيين، أحد الدلائل على عدم وجود فاعلين من غير الدول، حيث تبقى هذه الأخيرة، هي محرك الأحداث والظواهر الدولية، وأنه حتى عبر هذه الفواعل الجديدة، تتفاعل الدول من خلال سياساتها الخارجية، التي تتم في إطار المنظمات الدولية الحكومية.
يعتبر الواقعيون الكلاسيكيون، أن الدولة إضافةً إلى كونها فاعلاً وحيداً في العلاقات الدولية، فهي كذلك فاعل موحد، من خلال وحدة إدراك البيئة الداخلية، لوضع البيئة الدولية. حيث لا يوجد تضارب بين الفاعلين الداخليين، حول الطبيعة الصراعية -أو على الأقل التنافسية- للعلاقات الدولية، إضافةً إلى وحدة تعريف منطلقات السياسة الخارجية للدولة، أو على الأقل عدم تضاربها بشكل جذري.
تتفاعل الدول انطلاقاً من ذلك، من خلال سياساتها الخارجية، في إطار بيئة دولية، متميزة بالصراع الدائم بين الدول الأعضاء، من أجل تعظيم القوة والمصلحة الوطنية. وبذلك يكون هذا الصراع، صفة ملازمة للنظام الدولي Universal in time and space، ومن غير الممكن حسب الواقعيين الكلاسيكيين، نفي المسلمة القائلة بأن الدول، وبصرف النظر عن أوضاعها الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية Social, economic and political conditions، عادةً ما تميل إلى التنازع من أجل القوة Contests for power. وهو ما يُضفي على المصالح الوطنية صفة التعارض، حيث ترتبط هذه المصالح، بتلبية الحاجة المستمرة إلى القوة، أو إلى تعظيم القوة.
لا يمتد تأثير هذا الصراع المستمر، إلى داخل البيئة السياسية الوطنية، والتي يتم في إطارها السياسة الخارجية الوطنية، رغم أن هذه الأخيرة تُعتبر إحدى آليات هذا الصراع. رغم أن الواقعية تعتبر بأن السياستين الداخلية والخارجية، هما مظهران مختلفان للصراع من أجل القوة، إلا أن الاختلاف يكمن في الخصائص والأوضاع التي تتميز بها كل من السياستين، وبالتالي البيئتين الداخلية والخارجية. حيث لا تتأثر انطلاقاً من ذلك البيئة الداخلية، بنتائج الصراع في البيئة الخارجية، ويرجع ذلك إلى درجة التماسك الاجتماعي الداخلي، ووجود سلطة داخلية قادرة على ضبط التفاعلات بين مختلف الفواعل. كما أن الدول وإن كانت أكثر ميلاً لاستخدام العنف في سياساتها الخارجية، إلا أنها مع ذلك لا تميل إلى استخدام نفس الأداة في إدارة العمل السياسي الداخلي.
وقد اشتهر هذا الوضع تحت مسمى نموذج الدولة ككرة البليارد Stats as a billiard ball، وهو النموذج الذي يفصل تماماً بين السياسة الداخلية والخارجية، بمعنى أن صياغة التوجهات الأساسية لهذه الأخيرة، وصنع القرار الخاص بها، يتم بمعزل عن التأثيرات القادمة من البيئة الخارجية، بتعبير آخر انعدام المدخلات الخارجية External inputs. كما يدفع انعدام مؤثرات البيئة الدولية، على عملية صنع السياسات الخارجية، يجعل من هذه العملية تتم وفق نموذج موحد، بحيث لا تختلف مسارات صنع القرار في الحالات الاعتيادية، عن تلك التي تتميز بالاستعجالية خلال حالات الأزمات. ويكون ذلك بسبب ثبات أنماط السلوك الخارجي، الناتج عن ثبات الأسس التي تقوم عليها سياسات الدول، أي المصلحة الوطنية والسعي الدائم لاكتساب القوة.
تأخذ السياسة الخارجية من منظور الواقعية الكلاسيكية، ثلاث توجهات أساسية تختلف باختلاف سياسات القوة Power Politics، التي عادةً ما تتبناها الدول. ففي إطار الصراع المستمر حول القوة، تتوجه الدول نحو السعي لاحتكار القوة Keeping Power، وبالتالي السعي للإبقاء على الوضع القائم Status quo. ويُمكن أن تتخذ الدول وضعاً هجومياً، من خلال السعي لتعظيم حجم القوة Maximization of Power، من أجل إدخال تعديلات على توزيع القوة والأدوار، وبالتالي تعديل وضع النظام الدولي (كسر توازن القوى والسعي للهيمنة). أو حتى قيام الدولة بزيادة حجم القوة، ضمن سياسة استعراض القوة، لكن دون الاستعمال الفعلي لها في علاقتها مع القوى المنافسة. ويكون الهدف من هذا السلوك، إقناع بقية القوى في النظام الدولي، باستعدادها إلى اللجوء إلى العنف، من أجل حماية مصالحها الوطنية ضمن النظام القائم. أو حتى من أجل تغيير بنية النظام الدولي وتوزيع الأدوار فيما بين الفاعلين الدوليين. وتدخل هذه السياسة ضمن توجه الدول، لإثبات مكانتها الدولية أو الدفاع عنها Policy of prestige.
3. توازن القوى كهيكل للنظام الدولي:
تتفاعل الدول من خلال سياساتها الخارجية، ضمن نظام دولي تحتل فيه المكانة الأساسية، من خلال سعيها المستمر من أجل اكتساب القوة، وزيادة حجمها. وهو ما يؤدي إلى تحديد هيكل النظام الدولي. ضمن بنية متعددة الأقطاب، بتوجهات وسياسات خارجية مختلفة، تمتد بدرجات مختلفة بين التوجهات المحافظة من جهة، والتوجهات التعديلية من جهة أخرى. غير أنها في المقابل تتفاعل ضمن حالة من التوازن، وعدم القدرة على إحداث تغيير جوهري، في توزيع الأدوار بين الفاعلين الأساسيين (الدول)، ضمن هيكل النظام الدولي. أي بتعبير آخر، تفادي وقوع النظام الدولي ككل، تحت هيمنة قطب واحد، وبالتالي تحوله نتيجة لذلك، من حالة التعددية إلى حالة الأحادية القطبية.
يرتبط توازن القوى من منظور الواقعية الكلاسيكية، بالأمن الوطني للدولة، حيث تسعى هذه الأخيرة بشكل منفرد، إلى اكتساب القوة الكافية، للحفاظ على وجودها الفيزيولوجي، ولمنع وقوعها تحت الهيمنة المباشرة/غير المباشرة للقوى الأخرى. ويؤدي هذا المسعى الجماعي للدول، إلى عدم امتلاك دولة وحدة للتفوق الكلي على بقية فواعل النظام، وهو ما يفتح المجال أمام انتشار الأحلاف العسكرية، بشكليها الدائم وغير الدائم. والتي تُعد استمراراً لسياسات القوة، من خلال السعي لسد الفجوات التي قد تحدث على مستوى قدرات الدولية في ممارسة حقها في الدفاع عن نفسها، أو محاولتها لتعديل وضع النظام الدولي، كأحد ميكانيزمات حماية الأمن الوطني.
ويُمكن أن تتم المحافظة على الأمن الوطني كذلك، من خلال مبادرة بقية فواعل النظام، بالتكتل ضد أية محاولة اعتداء، قد تشنها دولة أو مجموعة من الدول، ضد أخرى. ولا ينتج هذا التوجه حسب الواقعية الكلاسيكية، عن رغبة بقية الفواعل في الدفاع، عن الدول الضعيفة في النظام، بل من أجل منع أية توجهات تعديلية، قد تتبناها القوى الأخرى، ما يُهدد بنية النظام من جهة، ويُهدد مصالحها وأمنها الوطني. وهو ما تعكسه حالة النظام الدولي، خلال مرحلة توازن القوى، بشكل خاص خلال القرن الـ19.
ونتيجة لذلك، فإن نظام توازن القوى بهذه الصورة، سيكون أقرب إلى حالة السلام، أو على الأقل حالة اللاحرب، من خلال "نموذج العقربين". حيث لا تمتلك الدولة ضمانات كافية، بامتلاك القدرة والقوة الكافيتين، على تغيير وضع النظام الدولي، كما لا تملك ضمانات كافية، بعدم تغير وضعية الأحلاف العسكرية، ومدى وجود تأييد كافي من طرف بقية الدول، أو على الأقل حلفائها المباشرين. وهو ما يمنع الدولة من المخاطرة، بمحاولة اكتساب نفوذ أكبر في النظام، دون التأكد الكامل من قدرتها على تحقيق الهدف، بسبب الخوف من فقدانها لمكاسبها ومكانتها القائمة فعلا على مستوى النظام الدولي.
4. عدم كفاية التحليل الكلاسيكي: نظرة نقدية:
تأثر تحليل الواقعيين الكلاسيكيين للسياسة الخارجية، بمجموعة من الثغرات التي ظهرت في البناء الفكري للنظرية، خاصةً فيما يتعلق بأسس وأهداف السياسة الخارجية، وكذلك انعدام أي تأثير للبيئة الخارجية في عملية اتخاذ القرار. فقد بقيت المصلحة الوطنية للدولة ذات معنى غامض وعام، في حين كان المعنى الوحيد الذي منحه الواقعيون الكلاسيكيون لها هو القوة. وهو المعنى الذي لا يُمكن الاستناد إليه لفهم السياسة الخارجية للدولة، والتي لا تسعى لاكتساب القوة كهدف في حد ذاته، بل كوسيلة لتجسيد أهداف السياسة الخارجية المختلفة.
حتى أن المعنى الغامض الذي اتخذه مفهوم القوة، لا يسمح باكتساب القدرة التفسيرية، حيث يعرف الواقعيون الكلاسيكيون القوة، على أنها أقرب إلى السيطرة على توجهات الدول الأخرى. أو بتعبير أدق السيطرة على عقول بقية اللاعبين، لكن دون أن يتبع ذلك تحديد المضمون الدقيق لذلك، أو توضيح الآليات التي تسمح بتحقيق هذا الهدف. وبالتالي فإن التحليل الواقعي للسياسة الخارجية، قد وقع في نفس التحذيرات التي أطلقها هانز مورغنثاو، من نتائج الاعتماد على أسس وعوامل غير واضحة/غير عقلانية، لا يُمكن إثباتها بالتجربة العملية، على تحليل السياسة الخارجية للدولة، ومصداقية النتائج المتوصل إليها من طرف الباحثين.
كما أن فصل البيئة التي يتم فيها صنع السياسة الخارجية، عن البيئة التي يُفترض أن تُنفذ فيها، يُفضي إلى تصورات غير دقيقة. فإذا كانت السياسة الخارجية من حيث التعريف، تشكل مختلف الإجراءات الموجهة للتأثير في البيئة الخارجية، فهذا يعني أن صانع القرار ومسارات صنع السياسة الخارجية ككل، تتأثر بشكل مباشر بمؤثرات ناتجة عن نشاط قوى البيئة الخارجية. وبهذا تواجه الواقعية الكلاسيكية، مخاطر الفشل في توفير إطار نظري لتحليل السياسة الخارجية، بسبب قطعها الروابط بين بيئة صنع القرار (البيئة الداخلية)، وبيئة تنفيذ القرار (البيئة الخارجية). وهو ما يعني أن عملية صنع السياسة الخارجية، تتم كلياً بمعزل عن مختلف العوامل الخارجية، التي تُحدد شكل ومضمون هذه السياسة، وبالتالي فإن هذا التحليل يتميز بطابع اختزالي.
أدت هذه الانتقادات وغيرها بالمنظرين الواقعيين، إلى إعادة النظر في بعض عناصر البناء الفكري للواقعية الكلاسيكية، خاصةً فيما يتعلق بمكانة الدولة في السياسات الدولية من جهة، وعلاقتها ببنية النظام الدولي. إضافةً إلى أسس السلوك الخارجي، أو بالأحرى أسس السياسة الخارجية الوطنية، ودوافع اللجوء إلى استخدام القوة ضمن هذه السياسة...إلخ. وقد قاد منظروا الواقعية الجديدة، والتي تُعرف كذلك باسم الواقعية البنيوية، عملية تنقيح الأفكار الواقعية الكلاسيكية، التي فقدت قدرتها التفسيرية إثر الهجوم الذي تعرضت له، من طرف الاتجاه السلوكي.