رابعا: مدارس ونظريات الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك
نركز في هذ المحور على أهم الأفكار والتصورات التي عرفها
حقل الجغرافيا السياسة والجيوبوليتيك منذ نشأته، ومن الجدير بالذكر أن معظم التراث/الفكر
الجيوسياسي، نجده يتمحور حول التنافس والصراع العالمي بين القوة البرية (القارية) والقوة
البحرية، حيث تسعى كل قوة إلى توسيع سيطرتها العالمية ومحاصرة القوة الأخرى. وقد
كان هذا النمط من التنافس والصراع بين البر والبحر تاريخيا، وفي هذا الصدد يرى ماكيندر
أن التاريخ يمثل صراعا بين البر والبحر، وأن الجولة الأولى في تطور قوة البحر،
اكتملت بإغلاق البحر الأبيض المتوسط من قِبَل المقدونيين، أما الجولة الثانية
فكانت في تغلُّب روما البرية على قرطاجنّة البحرية، حيث أُعيد غلق البحر الأبيض
المتوسط مرة أخرى، وفي هاتين الجولتين تمكنت القوى البرية من تحدي القوى البحرية
بنجاح؛ إذ تحدى المقدونيون اليونان وتحدت روما قرطاجنّة، أما في العصور الحديثة
فقد تمكنت بريطانيا كقوة بحرية من الهيمنة على البحر[1]، لكن مع بداية القرن
العشرين أصبح ذلك صعباً في ظل تحدي وضغط القوى البرية خاصة ألمانيا.
1. المدرسة الألمانية (راتزل، هاوسهوفر)
أطلق الكاتب الفرنسي فيليب مورو ديفارج عبارة "ألمانيا
بلد الجغرافيين"، وكان معظمهم بين عامي 1860 و1880، يرفضون مغامرة الخوض في
المجال السياسي[2]،
لكن تاريخ ألمانيا منذ حرب الثلاثين عاماً التي انتهت مع صلح ويسفاليا 1648 وحتى
الوحدة بعد الحرب ضد فرنسا بين 1870 و1871. فبعد التناحر بين الولايات الألمانية الـمُشتتة
لأكثر من قرنيين، أدرك الألمان بعد الوِحدة أهمية الجغرافيا للحفاظ على قوة بلدهم.
أ.
فريديريك راتزل (1844-1904):
يؤكد راتزل أهمية بناء
القوة الألمانية من خلال جغرافيتها، وطرح على نطاق واسع مسألة العلاقة بين العلم (الجغرافي)
والممارسة (السياسية)، وأسّس على إثر ذلك الجغرافيا السياسية (التقليدية). بعد
كتابه الأول، ألّف كتاب "المجال الحيوي" 1901، ثم كتاب الأرض والحياة
1902، وقد تناول مجالات متعددة في الجغرافيا والأنثروبولوجيا والتاريخ والبيولوجيا
والسياسة والديموغرافيا والمسائل المتعلقة بالحروب والأنشطة الاستعمارية في
القارات المختلفة.
يُعدّ راتزل المؤسس الحقيقي للجغرافيا السياسية، وأول من
قدّم معالجة منظمة للموضوع، وتدور أهم الأفكار التي جاء بها حول اعتبار الدولة
(التي تعد اتحادا بين الأرض والشعب) تُشبه الكائن العضوي الذي يشغل حيزا أو فضاءً
مُعيّناً وتنمو ككل كائن حي، وقد تم تضمين هذا التصور في مقال له بعنوان: "قوانين
النمو الأرض للدول"[3]، والتي تتمثل في:
1.
تنمو رقعة الدولة بنمو
الحضارة الخاصة بالدولة، فكلما انتشر السكان وحملوا معهم طابعًا خاصًّا للحضارة
فإن الأرض الجديدة التي يحتلها هؤلاء تزيد مساحة الدولة.
2.
نمو الدولة عملية لاحقة
لمختلف المظاهر الخاصة بنمو السكان، ذلك النمو الذي يجب أن يتم قبل أن تبدأ الدولة
بالتوسع، وهو بهذا يسلم بصحة مقولة "أن العَلَمَ يتبع التوسع التجاري".
3.
يستمر نمو الدولة حتى يصل
إلى مرحلة الضم، وذلك بإضافة وحدات صغرى إليها.
4.
حدود أي دولة هي العضو
الحي/المتحرك المغلف لها والذي يحميها، فالحدود لا ترتبط بسلامة الدولة فحسب، بل
توضح مراحل نموها أيضًا.
5.
تسعى الدولة في نموها إلى
امتصاص الأقاليم ذات القيمة (السياسية، الاقتصادية، العسكرية...)، بمعنى أن هذه الأقاليم
إما أن تكون سهولًا أو مناطق ساحلية أو مناطق تعدينية أو ذات قيمة معينة.
6.
أن الدافع/الحافز الأول
للتوسع يأتي للدولة البدائية من الخارج، معنى هذا أن الدولة الكبرى ذات الحضارة
تحمل أفكارها إلى الجماعات البدائية التي تدفعها زيادة عدد السكان إلى الشعور
بالحاجة إلى التوسع.
7.
أن الميل العام للتوسع
والضم ينتقل من دولة إلى أخرى ثم يتزايد ويشتد، فتاريخ التوسع يدل على أن الشهية للتوسع
تزداد حتى تصل المواجهة والصدام نتيجة التنافس على مناق النفوذ.
ب.
كارل هاوسهوفر (1869-1946):
ولد
هاوسهوفر عام 1869 وتحصل على الدكتوراه عن دراسته لجغرافية اليابان عام 1911، كان
ضابطا في الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى وتقاعد منه برتبة لواء، وتم
تعيينه مدرسا للجغرافيا والتاريخ بمعهد ميونخ عام 1815، ونظرا لاهتمامه بالجغرافيا
السياسية والجيوبوليتيك، أسس معهد الجيوبوليتيك بميونخ. و بعد وصول هتلر للحكم عين
هاوسهوفر رئيسا للمدرسة الجيوسياسية الألمانية، و قد آمن بأن الحياة للدولة
الكبيرة، أما الدولة الصغيرة فمصيرها الزوال، كما آ من أيضا بفكرة الدولة مثل الكائن الحي و أن
الدولة يجب أن تتبع سياسة الاعتماد عل الذات، ورغم الهالة التي كان يتمتع بها
علميا، وأفكاره التي استفاد منها قادة الرايخ الثالث، وتبوئه لمناصب رفيعة في
الدولة النازية، إلا أنه لم ينتسب إلى الحزب النازي، كما لم يكن على وفاق مع
الكثير من أفكار هتلر خاصة مع بداية الأربعينيات، مما أدي إلى إقصائه من مناصبه
العلمية والسياسية، وقد كان ابنُه من بين الذين شاركوا في محاولة اغتيال هتلر عام
1944، توفي منتحرا سنة 1946.
كان من بين الأوائل الذين
بدأوا استخدام مصطلح "الجيوبوليتيك" الذي ابتكره رودولف كيلين، حيث
أن هزيمة الحرب العالمية الأولى، واقتطاعات الأراضي التي فرضتها معاهدة فرساي، أدت
إلى سخط الجغرافيين الألمان وجعلتهم يقومون بمراجعات دقيقة للخرائط الجيوسياسية
الجديدة، يرفضون عمليات التفكيك التي طالتهم وطالت الشعوب المنهزمة في أوروبا وروسيا
والامبراطورية العثمانية، وأعاد ذلك إلى الأذهان التقسيمات التي حدثت بموجب صلح
ويسفاليا بعد حرب الثلاثين سنة.
قبل التطرق للقضايا
الأساسية المتعلقة بالأفكار والتوجهات الجيوسياسية التي جاء بها هاوسهوفر، لابد من
التذكير بأن كتابات البريطاني هالفورد ماكيندر (صاحب نظرية قلب الأرض التي
سنعود لها لاحقاً)، والتي لم تلقَ الاهتمام الكافي في بريطانيا، كانت محلّ
اهتمام بالغ من طرف الألمان وعلى رأسهم هاوسهوفر، والذين استفادوا منها أكثر من
غيرهم حيث كانت المعارف الجيوسياسية تقوم مقام العلم الرسمي (علم الدولة). ويوضح جيرار
ديسوا، أن العقل الألماني كان أكثر فضولا في مجال الجغرافيا والاستراتيجية،
وبالتالي أكثر استيعابا للمفاهيم الماكيندرية، وأكبر قدرة على استخلاص النتائج
المتعلقة ببلده[4]،
خاصة وأن الظروف التي وجدت ألمانيا نفسها فيها (انتزع منها دورها بوصفها قوة عظمى،
والإملاءات التي فُرضت عليها بموجب تسويات 1919)، جددت عقدة العُزلة القديمة،
والمخاوف التي تعود إلى بداية تاريخ بروسيا (دولة بدون حدود طبيعية محاطة بجيران
أقوياء).
كل ذلك، عزّز لدى
هاوسهوفر قناعته بأن القوة البحرية الأنجلوساكسونية الطامحة للهيمنة العالمية،
ستمنع نهوض ألمانيا (وبكل الوسائل)، كإجراء لمنع توحيد الكتلة الأوراسية[5] أو قيام قوة برية عظمى تهدد
هيمنة القوة البحرية، (وقد عبّر فعلاً سياسيون ودبلوماسيون عن خشيتهم من اليوم
الذي يمكن أن تتحالف فيه ألمانيا وروسيا واليابان)، لذلك كان هاوسهوفر من الداعمين
للحلف الجرماني السوفياتي والداعين إليه.
كان الملح والضروري
بالنسبة لهاوسهوفر ورفاقه تعيين الأراضي التي يعتبرها الشعب الألماني مِلكا له
وتشكل هويته القومية، خاصة الأجزاء الحيوية منها، وكان التوجه بهذا التصور نحو
الشعب أكثر منه نحو السلطة التي كانت ضعيفة في البداية (الأولوية للأمة الألمانية
قبل السلطة السياسية)، ويُلاحظ في بداية الأمر وجود معارضة من قِبل بعض الجغرافيين
الذين كانوا مع هاوسهوفر لهذا العلم الجديد (الجيوبوليتيك)، لاختلافه في المطلقات
والمضامين التي جاء بها راتزل، لكن اتضّح لاحقا أنه كان يتكِئُ في العديد من
تصوراته على الجغرافيا السياسية الراتزلية وقوانينها.
عندما أطلق هاوسهوفر علمه
الجديد (الجيوبوليتيك) مطلعَ العشرينيات من القرن الماضي، لم يكن الحزب النازي
بارزا في الحياة السياسية، غير أنه أبدى اهتماما شديدا بالجيوبوليتيك، وكانت
الطموحات النازية بحاجة إلى تعميق الوعي الأرضاني لدى الألمان، خاصة وأنها كانت قد
نجحت في إيصال الفكر القومي الملتزم باستعادة الأراضي الألمانية، بفضل الخرائط
التي كانت تستهدفها المقاربات الجيوسياسية، مع العلم أن الحزب النازي لم يتبنَّ
مجلة الجيوبوليتيك التي كان يديرها هاوسهوفر، وانحرف عن توجيهاته نحو الطمع في
الأراضي غير الألمانية. (الجيوبوليتيك في منشأها ليست نازية، والحديث الذي جرى
لاحقا عن التطابق بينها والنازية غير دقيق).
شهِدت ثلاثينيات القرن
العشرين إغراق جيوبوليتيك هاوسهوفر بالجيوبوليتيك النازية، بعد قيام الرايخ الثالث
(1933-1945)، كما أن السلطة النازية قد أوكلت
لهاوسهوفر العديد من العديد من المهام الدبلوماسية التي كان يضطلع بها على أكمل
وجه، وبدأت الخلافات بين الطرفين مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، عندما ذهب
هتلر بعيدا في مطامعه التوسعية في الأراضي غير الألمانية، الأمر الذي عارضه
هاوسهوفر ورفاقه، حتى من كان منهم عضوا في الحزب النازي أمثال رودولف هس R. Hess، خاصة الهجوم على
الاتحاد السوفييتي.
يمكن القول أن مطلع الأربعينات قد شهد مواجهة بين جيوبوليتيك
دفاعية يتزعمها هاوسهوفر، ملتزمة باستعادة الأراضي التي خسرتها ألمانيا عقب الحرب
العالمية الأولى، وإحلال شروط يتوفر معا المجال الحيوي للأمة الألمانية ودولتها،
وجيوبوليتيك هجومية عدوانية يقودها الرايخ الثالث-هتلر تتعدى ذلك إلى التوسع على
حساب أراضي الدول الأخرى، وقد تم تبني ذلك رسميا في المدارس والجامعات بجعل
الأراضي المستهدفة على الخرائط أكثر مما هي عليه الحقائق التاريخية والوقائع
الجغرافية على الأرض.
يلاحظ من كل ما سبق، أن الجيوبوليتيك (الجيوسياسة) التي أسسها،
وقبل أن يتم تحريفها من قِبَل الرايخ الثالث، كانت تعبّر عن حالة النزاع والصراع
بين الوحدات السياسية على مساحات معينة من الأراضي من منطلق أحقيتها بها، غير أن
تطوير وتطويع الجيوبوليتيك لأغراض استراتيجية توسعية أفقدها معناها الأصلي. بمعنى آخر،
تحمِل الجيوبوليتيك في الأصل (من حيث منهجها الذي تُقارب به النزاعات المذكورة)
اتجاهات مغايرة للاتجاهات التوسعية، وتتجه نحو مبدأ أنّ "على كل أمة أن تتولى
شؤونها الأرضية".
2.
المدرسة الأمريكية (نظرية القوة البحرية)
برز
التفكير الجيوسياسية الأمريكي في ظروف تفوق إقليمي، رافقه تطلُّع نحو التوسع
البحري، تمهيدا للخروج من العزلة إلى المنافسة الإقليمية والدولية، حيث؛ قامت
بشراء ألاسكا من روسيا سنة 1867؛ دعمت وشاركت في الثورة الكوبية سنة 1895؛ بداية ن
1898، تتبعت سياسة إمبريالية نشطة جدّاً تجاه (حرب اسبانيا بخصوص كوبا، الحصول على
غوام Guam وبورتوريكو،
ثم هاواي والفلبين، وتطبيق مبدأ مونرو للدفاع عن المصالح الموجودة في محيطها
الجيوسياسي؛ بناء قناة بنما الذي نجم عنه قيام دولة بنما (افتتحت القناة في 1914
وبقيت تحت السيطرة الأمريكية إلى غاية 1999)؛ إنشاء اتحاد الجماعة الأمريكية 1910،
وفضلا عن ذلك، كانت الو.م.أ مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قوة
صناعية عظمى تسيطر على البحار.
*نظرية القوة البحرية ألفريد ثاير ماهان (1840-1914): كان ماهان ضابطا في البحرية الأمريكي (أميرال)، وضع بين
علمي (1890-1910) تصورا لجملة من النظريات الاستراتيجية التي ضمّنها في مؤلفاته
العديدة (مثل كتاب: القوى البحرية في التاريخ الذي يعتبر من النصوص الكلاسيكية في
الاستراتيجيات العسكرية، كتاب: تأثير القوة البحرية على الثورة الفرنسية، كتاب:
القوة البحرية وعلاقتها بالحرب، وغيرها). وقد اهتم بالقوة البحرية الأمريكية
وضرورة تعزيزها حتى تتمكنن من لعب دور مهم بين القوى العظمى، وذلك بحكم موقعها
المهم المطل على المحيط الهادي من جهة والمحيط الأطلسي من جهة أخرى، لذلك تكون
سيطرتها على البحار والمحيطات مهمة على طريق السيطرة على القارات الأخرى. وكان
ماهان من أكثر الذين أصغت قيادة بلدانهم لآرائهم واستوعبتها، خاصة الرئيس روزفلت.
تستند مفاهيم ماهان الاستراتيجية إلى الفكر الجيوسياسي
البحري، والذي اعتبر مرجعا أساسيا للسياسة الخارجية الأمريكية الجديدة (التدخلية)،
حيث كانت الرابطة البحرية التي يترأسها ماهان نفسه، دافعا قويا للإدارة الأمريكية
نحو الابتعاد عن العزلة والتخلي عن عقيدة مونرو، لتشن سياستها التدخلية باسم حرية
التجارة.
·
نظرية القوة البحرية:
ينطلق ماهان في نظريته من رؤيته للحالة البريطانية، حيث
استفادت إنجلترا من موقعها الجزري الهام لمركزيته بالنسبة للمحيط الأطلسي والبحار
الأخرى، إذ سمح هذا الموقع بالقيام بعمليات ضد أي قوة معادية دون الابتعاد عن
القواعد العسكرية، وهذا ما كان يعتبر مفتاح النجاح الدائم، إضافة إلى امتلاك بريطانيا
لجبل طارق، مما يسمح لها بمراقبة حركة الملاحة بكل أنواعها. ومع مطلع القرن
العشرين، رأى ماهان أن الدور التاريخي لبريطانيا قد وصل إلى نهايته، قد حان الوقت
لينتقل هذا الدور إلى الولايات المتحدة، لكن بفعالية أكبر وقدرة أفضل في التصدي
للتحديات العالمية من أجل الهيمنة البحرية العالمية للقوة الأنجلوساكسونية.
يمكن عرض نظريـ(ـا)ـة ماهان حو القوة البحرية من خلال
التركيز على ثلاث منطلقات مركزية:
01.التأكيد
على تفوق القوة البحرية، انطلاقا من أن التعارض بين القوة البحرية والقوة
البرية/القارية هو المحرك الأساسي للتاريخ. والمسلمة الثابتة المستخلصة من ملاحظة
الأحداث التاريخية في أوروبا، وعلى نحو خاص الصراع الأنجلو-فرنسي على الهيمنة
الأوروبية، هي أن بريطانيا تمكنت من منع الهيمنة الفرنسية بفضل مناعتها
الاستراتيجية التي يوفرها موقعا الجزري. لذلك فإن الفرصة مناسبة لتستفيد الولايات
المتحدة من ميزة قوتها البحرية.
02.السيطرة
على البحار، فمن خلال المقارنة بين الاستراتيجيات المتبعة من قبل الانجليز
والفرنسيين، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ثم بداية القرن العشرين، انتهى
إلى أن سيطرة البريطانيين كانت بفضل مركزة قواتها البحرية، والتي جعلت الأسطول
البريطاني يكسب المعارك الحاسمة دائما (وهذه نقطة مهمة في نظرية ماهان البحرية)،
لذلك أوصى بعدم تشتيت الأسطول الوطني بين مختلف البحار والمحيطات، ليبقى دائما قويا
في المناطق الحساسة والحاسمة.
03.الدفاع
عن الخطوط البحرية، وهنا يرى أن الاتصالات تشكل أهم عنصر في الاستراتيجية السياسية
والعسكرية، لذا من الضروري الدفاع عن الخطوط البحرية لتأمين ربط المركز
بالأطراف.
وفي كتابه: "المصلحة الأمريكية في القوة
البحرية"، يوصي ماهان بــ:
-التعاون والمشاركة مع القوة البحرية البريطانية،
للسيطرة على البحار، وقطع الطريق على القوى الأخرى خاصة الطموحات البحرية
الألمانية، ومن ثَمّ احتواء ألمانيا في دورها القارّي.
-مراقبة التوسع الياباني في المحيط الهادي باعتباره
مجالا حيويا للنفوذ الأمريكي.
-حماية الحظيرة الخلفية (الجنوبية) للو.م.أ باعتبارها
مجال نفوذ أمريكي.
ويعتقد بـأن الهيمنة العالمية للولايات المتحدة ستكون
بفضل السيطرة على البحار، لذلك يؤكد على ضرورة ضمان وجود نقاط إسناد/ارتكاز تسمح
ببلوغ التفوق والهيمنة البحرية، كالموانئ والقواعد العسكرية البحرية والموانع
الطبيعية الحصينة، ويجب بوجه خاص امتلاك القوة البحرية القادرة على التنقل والوصول
بالسرعة المطلوبة إلى النقاط الاستراتيجية، لضمان المصالح التجارية والأمنية
ومواجهة القوى المعادية بالفعالية المطلوبة.
وفي ضوء تركيزه على الأهمية والأولوية التي يجب أن تعطى
للقوة البحرية، يؤكد على جملة من الشروط التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار ضمن
متطلبات هذه القوة، وهي كالتالي:
01.الموقع الجغرافي للدولة: بالنسبة للبحار والمحيطات التي تُطلّ عليها الدولة،
وميزة وصلاحية هذه البحار للنشاطات التجارية والعسكرية، ومدى اتصال هذه البحار مع
بعضها البعض ومع أعالي المحيطات، وأخيرا مدى تحكم الدولة وسيطرتها على طرق الملاحة
البحرية.
02.مورفولوجية الساحل: من حيث طبيعتها، شكلها، امتدادها وعمقها، حيث أن السواحل
الغاطسة هي الأفضل للملاحة والقوة البحرية، لأنها تجعل الوديان البحرية بمثابة
خُلجان بحرية عميقة، ويحوّل المرتفعات والقمم الجبلية إلى رؤوس، فيصبح الساحل
مناسبا لقيام السواحل الطبيعية الجيدة، ويوفر الحماية للسفن في المياه الداخلية
الهادئة، كما تزيد الخُلجان والرؤوس البحرية من عمق الدولة وامتدادها بحرياً،
وبالتالي حرية حركة واتصال أكبر وملاحة وموارد بحرية أكثر.
03.صفات ظهيرة الساحل: أي خصائص أرض الدولة التي تقع خلف الشريط الساحلي، بحيث
تكون عامل جذب للسكان نحو الداخل إذا كانت جيدة (توجه داخلي وليس بحري)، ومثال ذلك
فرنسا التي تطل على ثلاث بحار ومع ذلك لم تكن قوة بحرية مثل بريطانيا. ويرى ماهان
أن أفضل أنواع الظهير الساحلي ما كان فقيرا، حيث أبدى تخوفه من أن يكون ظهير
الساحل الأمريكي الغني، عاملا لصرف الولايات المتحدة عن انشاء قوة بحرية عظمى
تدافع بها عن سواحلها الطويلة.
04.مساحة الدولة وعدد سكانها: وهما عملان مهمان في بناء القوة البحرية وتطورها، حيث
يساهم ذلك في تنوع الموارد الطبيعية والتضاريس الساحلية، والقدرات البشرية التي
تعمل على بناء الأساطيل البحرية وصيانتها وتطويرها.
05.الشخصية القومية: المتعلقة بالخصائص والمميزات البحرية للمواطنين،
واهتمامهم بالنشاطات البحرية الاقتصادية والعسكرية، كسبيل للقوة والنفوذ.
06.طبيعة السلطة السياسية للدولة: هو العامل الأهم والحاسم، إذ من خلاله يتم توجيه مقومات
الدولة وخصائصها الطبيعية والبشرية، نحو بناء القوة البحرية والانتشار والتحكم
التجاري والاستراتيجي في البحار والمحيطات.
ملاحظة مهمة: من المهم ملاحظة أن فكر ماهان سبق الفكر الجيوسياسي
الألماني، رغم أن ماهان لم يذكر أيّاً من المصطلحات الجيوسياسية، وتنطلق أفكار
ماهان من اعتقاده الخاص بأن الدول إمّا أن تتوسع أو تضمحل، وليس هناك دولة تستطيع
أن تحافظ على مكانتها أو تقدمها إذا بقيت ساكنة، هذه الفكرة فتحت آفاقا جديد أمام
صناع القرار الذين يؤيدون مبدأ "المصير المحتوم"، الذي يقضي بالتوسع
الطبيعي للولايات المتحدة الأمريكية في قارّة أمريكا الشمالية بشكل سلمي. والملاحظ
هنا هو التطابق الكبير بين الفكر الجيوسياسي الألماني المرتبط بالمجال الحيوي ورؤية
ماهان (الجيوسياسية)، حتى أن هاوسهوفر أوصى بتدريس أفكار ماهان في ألمانيا.
يؤكد ماهان في الأخير أن الخطر على الدولة البحرية،
يتمثل في الكتلة القارية الأوراسية (روسيا والصين) بالدرجة الأولى، وذلك قبل قيام
النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي بعقدين، وفي الصين بنصف قرن، ثم ألمانيا
بالدرجة الثانية، وقد كان لذلك أثره على صياغة الاستراتيجيات السياسية والعسكرية
الأمريكية.
03. المدرسة البريطانية
(ماكيندر ونظرية قلب الأرض).
يعتبر الجغرافي البريطاني والسياسي
الليبرالي هالفورد ماكيندر (1861-1947)، أحد الشخصيات البارزة في الجغرافيا البريطانية
الجديدة في مطلع القرن. وهو الذي لم يستخدم مصطلح Geopolitics أبدًا لوصف تفكيره، ولكنه
كان ينوي ببساطة استخدام علم الجغرافيا باعتباره "وسيلة
مساعدة في فن الحكم"[6]. وقد سبق وأشرنا من قبل أن
ماكيندر من الشخصيات الرئيسية في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك. حيث كانت
مفاهيمه الخاصة بــ: "قلب الأرض"، "الجزيرة العالمية"،
"أوراسيا"، من أكثر المفاهيم عرضة للنقاش، ومساهمة في تطور وإثراء
التصورات التي عرفها حقل الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك وحتى العلاقات الدولية خلال
القرن العشرين. ومن أهم أعماله مقال "المحور الجغرافي للتاريخ (1904)"،
وكتاب "الـمُثُل الديمقراطية والواقع(1942)".
·
ملخص نظرية
قلب الأرض
يُلخص
أغلب الكتّاب نظرية ماكيندر حول القوة البرية/ قلب الأرض (Theory Heartland)، في
مقولته الشهيرة "من يسيطر على أوروبا الشرقية يسيطر على قلب الأرض، ومن
يسيطر على قلب الأرض يسيطر على الجزيرة العالمية، ومن يسيطر على الجزيرة العالمية
يحكم العالم".
يعرض ماكيندر في "المحور الجغرافي للتاريخ"،
نظريته المبنية على رؤية خاصة لتطور العالم من الناحية السياسية، حيث أن هذا
التطور قد صنعته وتصنعه المواجهات العسكرية عبر التاريخ، أما مسار تلك المواجهات
فتتحكم فيه المواقع الجغرافية لتلك الدول بالنسبة للقارات والمحيطات، ويذهب إلى أن
الصراع الدائر بين الدول الكبرى (في الحقب التاريخية التي عاشها)، محسوم لصالح
الدولة التي تتحكم في الأماكن الاستراتيجية المركزية من الكرة الأرضية، وتحقيق
السيطرة العالمية يأتي عبر تحقيق السيطرة على هذه الأماكن.
من هذا المنطلق، يرى أن القارات الثلاث المتلاصقة (آسيا،
أوروبا وإفريقيا) تشكّل ثلاثة أرباع اليابسة، ويعيش عليها غالبية سكان العالم،
وتمثل في ترابطها الجزيرة العالمية بالنظر إلى أن المحيطات تلفها من جميع الجهات،
بينما تمثل القارة الأمريكية (الجديدة) موقعا هامشياً بالنسبة للتفاعلات الأساسية
الحاصلة آنذاك، والصراع البشري الحاصل من أجل السيطرة على المساحات الجغرافية. ومن
خلال ذلك يصل إلى أن مساحة اليابسة التي تجمع أوروبا مع آسيا، هي المساحة المفصلية
في عملية السيطرة العالمية (الجزء الغربي من آسيا والجزء الشرقي من أوروبا)،
واللذان يشكلان مركز/قلب الجزيرة العالمية، في حين تبقى إفريقيا في معزل عن
المواجهات الكبرى باستثناء الجزء الشمالي منها.
لذلك، كانت أكبر مخاوف ماكيندر، أن يحدث تحالف
روسي-ألماني؛ يجمع الفاعلية التكنولوجية والاقتصادية الألمانية مع الموارد
الطبيعية والبشرية للإمبراطورية الروسية، ويتم إحكام السيطرة على الجزيرة
العالمية، وبذلك يتم وضع حد للهيمنة التقليدية لبريطانيا، ومن هنا تأتي مهمة
بريطانيا للعمل على منع حدوث هذا التحالف الخطير.
لقد كان ماكيندر يريد أن يجعل من الجغرافيا علما
تصوُّرياً؛ يقدم رُؤىً تحقق الدمج بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، في إطار
التربية الوطنية (السياسة التعليمية لبلده)، لترسيخ الفكر الأمبريالي في الأجيال
الجديدة، وقد كان هذا الأمر ضروريا بالنسبة لمن كان يقوم باستكشاف واستقصاء
الأراضي واحتلالها، لتوسيع سلطة بريطانيا الاستعمارية.
ومثلُه مثلَ راتزل، كان مقتنعا بأن، المستقبل ملك الدول
الكبرى، كما لم يعد ممكنا في وقته الراهن أن تميل كفة الميزان لصالح القوة
البحرية، لا سيما إلى جانب بريطانيا العظمى التي أهملت تصوراته وتوجيهاته
الجيوسياسية، في الوقت الذي استفاد منها الألمان والروس الأمريكيين، وقد تحققت
مخاوف ماكيندر لاحقا بالتراجع الفعلي للسيطرة البريطانية على البحار، ولم تستطع الحفاظ
على تماسكها مع انتهاء ارتباطها مع استراليا وكندا ونيوزيلاندا وإيرلندا الحرة،
وذلك بين عامي (1926-1931)، كما كان يخشى من القوى الجديدة كالولايات المتحدة التي
أخذت تسيطر على البحار، أو التحالف الألماني الروسي الذي أوصى به بسمارك وأكد عليه
هاوسهوفر لاحقاً. ولعله من الجدير بالذكر أن ماكيندر كان من المشاركين في الإعداد
لمؤتمر فرساي الذي بوجبه تم اقتطاع أجزاء مهمة من ألمانيا لمنعها من التطلع نحو
الشرق واستعادة مكانتها في أوربا.
وجدد
تحذيره في مؤلفه "المثل الديمقراطية والواقع"، من أن انتصار
المثل العليا للديمقراطية قد يكون قصير الأجل، ما لم تؤخذ "الحقائق الجغرافية
التي لها تأثير دائم على السياسة العالمية" بعين الاعتبار بالكامل؛ فالقوة
التي من شأنها السيطرة على كل من أوروبا الشرقية والقلب ستكون قادرة على السيطرة
على جزيرة العالم (أوروبا، أفريقيا وآسيا) ، وبالتالي على العالم كله. ووِفقًا لذلك،
أوصى بإنشاء "طبقة وسطى" من سبع دول دائمة ومستقلة بين روسيا وألمانيا.
لقد رسمت نظرية قلب الأرض خريطة التنافس والصراع الدولي
بعد الحرب العالمية الأولى، وخلال الحرب العالمية الثانية، وأثناء الحرب الباردة
وحتى بعد نهاية الحرب الباردة. وقد أيّد زبيغنيو بريجينسكي (مستشار الرئيس
الأمريكي جيمي كارتر 1977-1981)، بعد 93 عاما من طرح ماكيندر لنظريته، أي في سن
1997 عندما نشر يريجينسكي كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى"، أيّد أطروحة قلب
الأرض والجزيرة العالمية، عندما ذكر:
"...، إن أوراسيا تشكّل محور
العالم (...)، وهي تؤلف رقعة الشطرنج للجغرافيا السياسية الحاسمة ".
[5] الكتلة الأوراسية أو "أوراسيا"، مصطلح
أطلقه هالفورد ماكيندر، الكتلة اليابسة القارية المشتركة لأوروبا
وآسيا، وتمثل الداخل الآسيوي الأوروبي، والذي نعرفه
اليوم بالكتلة البرية الممتدة من بحر الصين حتى المحيط الأطلسي.
[6] [6] Mackubin Thomas Owens, In Defense of Classical
geopolitics, (Naval War College Review, AUTUMN 1999, Vol. 52, No.4
(AUTUMN1999), p73.