مدخل مفاهيمي: علم العلاقات الدولية

تـمهيـــــــــد:

اهتم علم السياسة، منذ عصر المدينة اليونانية على الأقل، بدراسة مختلف الظواهر السياسية، على رأسها ظاهرة الدولة، وأسس العلاقات الاجتماعي، ومحددات التفاعلات السياسية...إلخ. وقد استندت المعرفة في المجال السياسي، أولاً إلى منظومة معرفية ومنهجية، ذات طابع ميتافيزيقي تجريدي، اندرجت ضمن المناهج الفلسفية، الذي عرفه علم السياسة خلال العصور القديمة والوسطى. ثم المناهج الوضعية Positivism، التي ظهرت مع جهود رواد فلسفة العلوم، خلال القرن الـ19، والتي حفّزت السعي المستمر، إلى إضفاء الطابع العلمي التجريبي، على الدراسات السياسية، انطلاقاً من المرحلة السلوكية، بدايةً من منتصف القرن الـ20.

أفضى التطور الطويل، الذي شهده علم السياسة، منذ فترات زمنية طويلة، إلى فتح المجال أمام دراسة بعض الظواهر السياسية، سواءً تلك التي تقع، أو تلك التي يمتد أثرها إلى خارج نطاق بيئة النظام السياسي الوطني. فبعد أن تمت معالجة الأحداث والظواهر الدولية، ضمن علم السياسة الوطني، ظهر التوجه إلى اعتماد إطار مفاهيمي وأكاديمي بديل، تحت مسمى علم العلاقات الدولية. والذي شهد أبرز مراحل تطوره، من خلال النشاط الأكاديمي للآباء المؤسسين، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بتأثير من التحول الجذري في السياسة الخارجية الأمريكية، باختيار الخروج من حالة العزلة. وقد شهد حالة تطور مفاهيمي، مشابهة نسبياً لمسار التطور الذي عرفه علم السياسة، من خلال الانتقال من المناهج الفلسفية، إلى مناهج تدعي العلمية والحياد، المتأثرة بالثورة السلوكية، وصولاً إلى الأطروحات التي جاءت بعد نهاية الحرب الباردة.

بدأ مجال العلاقات الدولية -انطلاقاً من ذلك-، مساراً طويلاً من النقاش، من أجل إثبات استقلاليته المعرفية، أولاً عن علم السياسة، وبدرجة أقل عن العلوم الاجتماعية الأخرى. ثم إثبات تمتعه بخصائص المعرفة العلمية، من خلال الجهود المبذولة من طرف المؤسسين، والتي اتخذت في كثير من الأحيان، طابع الاقتباس والاستعارة، من مجالات معرفية أخرى. وقد استمر الجدل طويلاً، حول مدى إمكانية إضفاء صفة العلمية، على البحوث المجراة حول الظواهر الدولية، وقد تأسس هذا الجدل، على غياب أطر نظرية في هذا الحقل، قابلة للاختبار، الإثبات وكذلك التعميم. إضافةً إلى عدم مطابقة المفاهيم المختلفة، مثل النظرية العلمية، النماذج الإرشادية (أو المنظورات)، مع طبيعة الظواهر المدروسة، المشكلة لموضوع حقل العلاقات الدولية. فعلى سبيل المثال، فإن النظرية في هذا الحقل، لا تخضع لنفس المسار الإبستمولوجي، الذي تنتهجه عملية وضع النظريات العلمية، في حقول معرفية أخرى. ويُثير هذا الجدل -على هذا المستوى-، التساؤل حول مدى إمكانية اعتبار العلاقات الدولية، حقلاً معرفياً مستقلاً عن علم السياسة؟ وهل يُمكن -بعلاقة متعدية-، اعتبار النتائج المتوصل إليها، أنها ذات طابع علمي؟

أولاً: العلاقات الدولية باعتباره حقلاً معرفياً:    

يُكتب مصطلح العلاقات الدولية، في اللغتين الفرنسية والإنجليزية، بطريقتين مختلفتين، وهو ما يُفضي إلى استخلاص دلالتين مختلفتين، رغم التطابق -أو على الأقل التشابه- في الكلمات المستعملة. ففي الحالة الأولى يُترجم إلىinternational relations، والذي يعني وفق ما تم التطرق إليه سابقاً، مختلف التفاعلات الواقعة، بين مختلف الفاعلين، الدولاتيين وغير الدولاتيين، على مستوى بيئة النظام الدولي. أما العلاقات الدولية International Relations (IR) (تكتب الحروف الكبيرة في كل المواضع)، فتشير إلى الحقل المعرفي، المهتم بدراسة وتحليل التفاعلات المشار إليها، في الدلالة الأولى. لذلك عادة ما يتم اختصار تسمية العلاقات الدولية، كحقل علمي في اللغة الإنجليزية -وبدرجة أقل في اللغة الفرنسية-، بالحرفين الأولين للمصطلح (IR).

تخضع محاولة تحديد ماهية العلاقات الدولية، كحقل أكاديمي مستقل، لنفس الجدل النظري حول جوهر التفاعلات الدولية، والأطراف الأساسية في هذه التفاعلات. بين الاتجاه القائل بمركزية الدولة State-Centrism، والاتجاهات التعددية المعارضة، التي تفتح المجال أمام تعدد وتنوع الفواعل. لذلك فقد تم تعريف العلاقات الدولية، من منظور مركزية الدولة، على أنها تفاعلات بين الدول المستقلة ذات السيادة، ويدخل في هذا النطاق المنظمات الدولية الحكومية. أما من منظور تعددي وبنيوي، فإن العلاقات الدولية هي تفاعلات، تتم فيما بين مجموعة متعددة من الفواعل، تتنوع في طبيعتها بين فاعلين دولاتيين، وآخرين ذوي طبيعة غير حكومية/غير دولاتية.

وبعلاقة متعدية، فقد انعكس هذا الجدل، وبنفس الدرجة نسبياً، على تعريف علم العلاقات الدولية، وكذلك حول الموضوعات الأساسية، التي يهتم بها الباحثون ضمن هذا الحقل. لذلك يُمكن أن نلاحظ، تركيز الباحثين في هذا الحقل، حسب التيار الواقعي/الأحادي، على الأمن الوطني، ودوافع السلوك النزاعي من جهة. أو حول دور المنظمات الدولية، حقوق الإنسان، وكذلك المواضيع المندرجة ضمن ما يُعرف بـ"الاقتصاد السياسي الدولي"...إلخ، حسب الاتجاهات التعددية والبنيوية. ويبقى الجدل قائماً، حتى مع تكريس التعددية في فواعل العلاقات الدولية، نظراً لاستمرارية الاعتقاد الواقعي، بمركزية الدولة كفاعل، رغم الاعتراف بوجود فاعلين آخرين.    

1.    علم العلاقات الدولية من منظور مركزية الدولة:

ينطلق المنظور المتمحور حول مركزية الدولة، من افتراض أساسي، يعتبر من خلاله أن "الدولة تشكل محوراً أساسياً، في دراسة العلاقات الدولية، وسوف تظل كذلك في المستقبل المنظور. والسياسة التي تنتهجها الدولة، تشكل الموضوع الأكثر شيوعاً في التحليل...والعلاقات الدولية كحقل معرفي as a discipline". وبتعبير آخر، فإن الدولة تبقى المحرك الفعلي للعلاقات الدولية، في حين تلعب بقية الفواعل، بدرجات متفاوتة أدواراً هامشية، تجعل منها موضوعاً لعلم العلاقات الدولية، فقط بقدر ارتباطها بالتفاعلات الناتجة عن الدول. فمختلف الظواهر الدولية، التي يُمكن أن يهتم بها الباحثون، ترتبط بشكل مباشر، أو غير مباشر بسياسات وقرارات الدول، سواءً تعلق الأمر بالشؤون الأمنية والدفاعية، السياسات الخارجية والاقتصادية، إضافةً إلى الشؤون الاجتماعية والبيئية.

يُعرف علم العلاقات الدولية، ضمن هذا السياق، ووفق تصور ضيق، على أنه "علم يختص بدراسة وتحليل، كل ما يترتب عن ممارسة السلطة في المجال الخارجي، أي خارج حدود الدولة...[و] يُعنى بكينونة علاقات ما بين السلطات السياسية، لمختلف المجموعات الاجتماعية". وقد جاء هذا التعريف ضمن إطار ضيق، يقصر اهتمام هذا الحقل المعرفي، بالسلوكات السلطوية للدولة، دون غيرها من التفاعلات، حيث يتم إهمال بقية السلوكات بشكل كلي. حتى أن هذا التصور، قد يستبعد بعض التفاعلات الدولية، الصادرة عن الدولة، من دائرة اهتمام علم العلاقات الدولية، بسبب غياب الطابع السلطوي. وينطبق ذلك، على العلاقات الخارجية للدول، في مجالات السياسة الدنيا للتعاون الدولي، مثل الشؤون الاجتماعية، البيئة، أو حتى التفاعلات الثقافية والرياضية. رغم أن هذه الأحداث، أصبحت تُشكل جزءً مهماً، من المؤشرات التي تسمح بدراسة طبيعة العلاقات بين الدول، وحتى توجهات السياسات الخارجية الوطنية.

وفي نفس السياق، يعتبر المنظور الأحادي أن "العلاقات الدولية كحقل معرفي as a discipline تهتم في المقام الأول بما تفعله الدول على المسرح العالمي، وبالتالي كيف تؤثر أفعالها على الدول الأخرى. وعليه تشكل الدول وحدة تحليل مشتركة في نظريات العلاقات الدولية". والملاحظ أن هذا التصور، ربط علم العلاقات الدولية، بسلوك الدول تجاه البيئة الدولية، دون تضييق نطاق هذا السلوك، وحصره في ممارسة السلطة على الصعيد الخارجي. ونتيجة لذلك فإن علاقات التعاون مع فاعلين من غير الدول، قد تندرج ضمن دائرة اهتمام هذا الحقل، وهو ما يفتح المجال نسبياً، أمام الاهتمام بسلوك الفاعلين الآخرين، بالقدر المرتبط بسلوك الدول.

يُمكن القول -انطلاقاً مما سبق-، أن علم العلاقات الدولية، يهتم بشكل خاص بالتفاعلات السياسية الدولية، المتمحورة حول الدولة، وبعلاقة متعدية حول أمنها وبقائها المادي، ومصالحها الوطنية الحيوية. ويُحافظ هذا الحقل على هذا المفهوم، حتى مع الاعتراف بوجود تفاعلات دولية، ناتجة عن سلوك فاعلين آخرين من غير الدول، بشكل خاص المنظمات غير الحكومية، الشركات متعددة الجنسيات...إلخ. على اعتبار أن تعددية الفاعلين، لا يجعل منهم صانعين للتفاعلات الدولية، والتي تبقى مرتبطة بسياسات الدولة ذا السيادة. وينتج عن ذلك، تهميش التفاعلات الناتجة عن هذه الفواعل، وبعلاقة متعدية يستثني هذا التصور، من دائرة اهتمام علم العلاقات الدولية، مجموعة كبيرة من الظواهر، التي تندرج ضمن ما يُعرف بالسياسات العالمية World Politics.

2.    علم العلاقات الدولية من منظور تعددي:

انطلاقاً من زيادة تعقيد ظواهر العلاقات الدولية، فإنه لا يُمكن استثناء التفاعلات الدولية، التي تقع خارج نطاق السياسة الدولية International Politics. وهو ما يعني توسيع نطاق تعريف علم العلاقات الدولية، ليشمل الاهتمام بالمواضيع المتعلقة بالأدوار، التي تُمارسها الفواعل من غير الدول. وتأسيساً على ذلك، يُعتبر أنه "وعلى الرغم من صفة "دولي"، فإن هذا المجال يهتم بأكثر من العلاقات بين الدول. فالجهات الفاعلة الأخرى، مثل المنظمات الدولية، والشركات المتعددة الجنسيات، والمنظمات البيئية والجماعات الإرهابية، كلها جزء مما يمكن تسميته بشكل أكثر صواباً، بالسياسة العالمية. كما ركزت الدراسات على العوامل الداخلية للدولة، مثل مؤسساتها، والتحالفات الحكومية البيروقراطية، وجماعات المصالح، وعمليات صنع القرار، فضلاً عن الاستعدادات الإيديولوجية والإدراكية للقادة الأفراد".

وتكون الدولة -من هذا المنطلق-، موضوعاً أساسياً لعلم العلاقات الدولية، من خلال بعدين أساسيين، يتمثل أولهما في الدور الذي تُمارسه في التفاعلات الدولية. ورغم أهمية الدور الذي تُمارسه الدولة، إلا أنها مع ذلك، تُشكل موضوعاً تتم معالجته، بالموازاة مع دور الفاعلين من غير الدول (منظمات دولية غير حكومية، جماعات مسلحة...إلخ). حتى أن بعض التصورات النظرية، تعتبر أن دراسة دور الدولة، لا يتم بمعزل عن التأثيرات هذه الفواعل، حتى في حالة اعتبار أن الدولة، تُمارس الدور الأكثر أهمية، في العلاقات الدولية.

أما البعد الثاني، فيتمثل توظيف دراسات علم السياسة، لفهم دور الدولة في العلاقات الدولية، من خلال الاهتمام بالخصائص الفردية والمحلية، مثل البنية المؤسساتية، وتوزيع الأدوار داخل النظام السياسي الداخلي. أي أن النتائج المتوصل إليها في إطار علم العلاقات الدولية، لا يُمكن تتجاهل أدوار الفاعلين الرسميين وغير الرسميين الداخليين، والبنية السياسية الداخلية. وهو ما يُلغي تأثير نموذج الدولة ككرة البلياردو State as a Billiard Balls، وبعلاقة متعدية، تراجع تأثير تيار مركزية الدولة، في تعريف العلاقات الدولية، كمجال للتفاعل وكحقل أكاديمي.

جاء في نفس السياق، تصور آخر يُحاول تعريف العلاقات الدولية، من منظور تعددي، وبشكل أكثر تفصيلاً، من خلال تحديد ماهية الفاعلين. ويكون هذا الحقل من هذا المنظور "فرعاً رئيسياً من فروع علم السياسة، ويختص بدراسة التفاعل، وعلاقات التداخل والتوتر، بين أطراف النظام الدولي، التي تشمل إلى جانب الدول المستقلة ذات السيادة، المنظمات الدولية كالأمم المتحدة، المنظمات الإقليمية كجامعة الدول العربية...الشركات متعددة الجنسيات، مثل شركات النفط الكبرى...ومنظمات التحرر الوطني". فهذا التصور حدد بشكل واضح، الفاعلين المتعددين في هذا المجال، والتي تشكل موضوع الاهتمام الأساسي لهذا الحقل الأكاديمي.   

يبرز بين هذين التيارين المتعارضين إلى حد كبير، تصوراً ثالثاً يُمكن وصفه -بتحفظ-، بالتصور التركيبي أو التوفيقي، يُعبر عنه تصور جون بيرتون J. Burton، لعلم العلاقات الدولية. ويعتبر بيرتون من خلال ذلك، أن "العلاقات الدولية International Relations، هي التسمية/اللقب، الممنوح عادة للتخصص Discipline المهتم بدراسة السياسة العالمية World politics، والمجتمع العالمي World society". فالموضوع الأساسي لهذا الحقل الأكاديمي، يشمل التفاعلات المتحورة حول الدولة، والتي عادةً ما يتم التعبير عنها باسم السياسة الدولية، في الأدبيات النظرية الواقعية. كما تشمل دائرة اهتمام علم العلاقات الدولية كذلك، التفاعلات المختلفة، المندرجة ضمن مفهوم السياسة العالمية، والذي يشمل تعددية الفواعل، إضافةً إلى تعددية مواضيع التفاعل: السياسية والاستراتيجية، الاجتماعية والبيئية، الاقتصادية...إلخ.

تضمن تعريف جون بيرتون  J. Burton، التوفيق، بين أبعاد السياسات الدولية والعالمية، إلا أنه كذلك يندرج ضمن التصورات الحديثة، التي تتماشى مع التغيرات التي عرفتها العلاقات الدولية، منذ المرحلة السلوكية. كما أن هذا التصور، يقترب أكثر من التعريف التعددي، وبذلك يمكن وصفه بأنه ذو طبيعة توفيقية، بصبغة تعددية، بمجرد فتحه المجال أمام تعددية الفواعل، وبعلاقة متعدية تعددية مواضيع علم العلاقات الدولية.

ثانياً: علم العلاقات الدولية: مسارات التأسيس التاريخية:    

يُمكن الافتراض -بتحفظ-، أن مسارات تشكيل علم العلاقات الدولية، كحقل معرفي مستقل، مرّ بنفس المسارات التاريخية والإبستمولوجية، التي عرفها مجال علم السياسة. وبناءً على هذا الافتراض، يُمكن القول بعلاقة متعدية، أن هذا الحقل الأكاديمي، لم يظهر بشكل مستقل، إلا خلال مرحلة استقلال العلوم الإنسانية والاجتماعية، الذي تكرس في فترات مختلفة، من القرنين الـ19 والـ20، وقد ورد قبل ذلك كإشارات متفرقة، ضمن الفكر السياسي.

1.    الفكر السياسي الدولي: علم العلاقات الدولية في إطار الفكر السياسي:

ترجع ظواهر العلاقات الدولية، كما ورد في التعريفات المخلفة، وعلى رأسها تعريف ريمون آرون R. Aron، إلى فترات تاريخية قديمة، أرجعها آرون إلى عصر دولة المدينة اليونانية على الأقل. غير أن المعرفة النظرية/الفلسفية حول هذه الظواهر، لم تواكب هذه الظواهر والتفاعلات، بسبب طبيعة وموضوعة البحوث المعرفية السائدة في العصر القديم. فقد ركزت المعرفة في هذه المرحلة، على إبراز الطابع الاجتماعي، وكذلك الأخلاقي للظواهر السياسية والدولية، مثل محاولة تفسير ظاهرة الدولة، ونزوعها نحو تبني العنف في سلوكها الداخلي والخارجي.

اتفق -انطلاقاً من ذلك-، المنظرون الأساسيون في حقل العلاقات الدولية، على غرار هانز مورغنثاو H. Morgenthau، وصولاً إلى ستانلي هوفمان S. Hoffmann، وكينيث والتز K. Waltz...إلخ، حول موقع الفكر السياسي في دراسة العلاقات الدولية. ويتجسد ذلك في الافتراض القائل، بأن نظرية العلاقات الدولية، اعتمدت بشكل أساسي، على موروث الفلسفة السياسية، رغم الاختلاف حول حجم هذا التأثير. فقد أدرج المفكرون السياسيون، ظواهر تتقاطع خصائصها العامة، مع خصائص ظواهر العلاقات الدولية، على غرار ظاهرة الحرب، باعتبارها سلوكاً إنسانياً. وقد تمت معالجة هذه المواضيع، انطلاقاً من الاعتبارات الفلسفية المعيارية أو الأخلاقية، في محاولة للوصول إلى تقديم حلول نهائية لها.

توجه أفلاطون -في هذا السياق-، إلى اعتبار أن الدولة تنشأ من تبادل الحاجات، بين أفراد المجتمع الواحد، وهو ما ينشأ بقيام الكل بآداء الوظائف الاجتماعية، الموكلة إليه. فالدولة في هذا الحالة هي انعكاس، لحالة التكامل الوظيفي، التي تُميز أعضاءها، ويُمكن القول بعلاقة متعدية، أن اختلال مسارات تلبية الحاجات، تؤدي إلى اختلال آداء الدولة لوظائفها. غير أن مسار التطور الطبيعي، الذي يجب أن تمر عبره الدولة، يفتح المجال حسب الفكر السياسي الأفلاطوني، لتفسير أحد مظاهر العلاقات الدولية، ونقصد في هذا الصدد، مسارات الحرب والسلام أو التعاون.

تتوجه الدول نحو الحرب حسب افلاطون، بسبب عدم كفاية الموارد، التي تحتاجها الجماعة الإنسانية، لتلبية حاجاتها الأساسية، خاصة الحاجات المادية منها. ويتطلب عدم التلاؤم بين الموارد المتاحة، وتطور الحاجات من جهة ثانية، إلى ظهور النزعة نحو توجهات عدوانية خارجية، لتوسيع نطاق الإقليم، وبالتالي زيادة حجم الموارد. ويعتبر أفلاطون في محاورة الجمهورية، أن "البلاد التي كانت كافية مرةً لدعم سكانها الأصليين، ستصبح الآن صغيرة حداً...[و] سنكون آنئذٍ بحاجة إلى قطعة من أرض جيراننا للرعي والحرث، وسيحتاجون بدورهم لقطعة من أرضنا".  وتتقاطع هذه الفرضية، مع الكتابات الأولى لفريدريك راتزل F. RatzeI، ضمن مسار تأسيس حقل الجغرافيا السياسية، ثم تصورات المفكرين -والسياسيين- النازيين لاحقاً، حول فكرة المجال الحيوي Lebensraum\Living Space.

تشترك الدول في هذا السياق، في مسارات التطور التي تعرفها علاقة الموارد، بتلبية الحاجات المادية والاجتماعية، ضمن نطاق الدولة. فالدراسات المجراة في هذا الصدد، تعتبر في أغلبها أن الدولة، هي عبارة عن كائن حي، يتطور من حيث الحجم، وكذلك البنية البشرية، وبالتالي من حيث الحاجات، التي تكون في مسارات متعارضة مع الموارد المتاحة. وهو ما يجعل من التوجه نحو الحرب، خياراً مشتركاً فيما بين الدول، على اعتبار أن تلبية الحاجات هو جوهر وجودها، وهو ما يعني أن الحرب كخيار حتمي، ينبع اساساً، من جوهر وجود الدولة ذاتها.  

وقد كانت الحرب موضوعاً للتفكير السياسي الأرسطي، الذي تحدث عنها في نفس السياق الفكري اليوناني، وبالتالي لم يقدم تحليلاً علمياً قابل للتعميم، حول الأسباب التي تدفع الدول للدخول في الحرب. وفي إطار الفكر الأرسطي، فإن الحرب كسلوك للدول والأفراد، لا تكون إلا للأسباب الدفاعية، وليست للهيمنة على الغير، أو من أجل التسلية والأمجاد الشخصية. ويعتبر في هذا الصدد "نحن نشن الحرب فقط للحصول على السلام...لذا لا أحد يريد الحرب على الإطلاق، أو حتى يستعد للحرب من أجل الحرب". وسوف يعكس هذا التصور، في نفس الوقت، من خلال المبدأ الروماني الشهير، القائل إذا أردت السلام فاستعد للحرب Si vis pacem, para bellum. إضافةً إلى ما سوف يُعرف في مراحل تاريخية لاحقة، باسم الحرب العادلة Bellum iustum، ضمن الأفكار السياسية للقديس أغسطين. حيث لا تكون الحرب، مرتبطة بغايات سياسية أو اقتصادية، بل تكون موجهة فقط للدفاع عن النفس، والمحافظة على البقاء المادي للدولة، أو عقيدتها الدينية وهويتها الثقافية.

تنعكس من خلال التصورات الفكرية المقترحة، من الفكر السياسي القديم، وبشكل خاص في العصر اليوناني والروماني، صورةً عن العلاقات الدولية ضمن التراث الفكر الإنساني. ويُمكن القول من خلال ذلك، أن التفكير السياسي القديم، لم يتطرق إلى العلاقات الدولية بشكل مباشر، بل اكتفى بأهم مظاهرها، التي تتمحور حول تشكيل الدولة من جهة، وتفسير الحرب كسلوك مُفضل من جهة ثانية. رغم أن هذا التفسير، لم يخرج عن الأطر الفكرية الأخلاقية، التي تنظر إلى الحرب باعتبارها سلوكاً إنسانياً خاضعاً للتقييم المعياري، أي لمبادئ الصواب والخطأ، أو بتعبير آخر الخير والشر.   

غير أن الملاحظ، أن أياً من الأفكار السياسية القديمة، لم تهتم بالتوصل إلى تفسير الحرب كظاهرة سياسية، بسبب موقعها في الذهنية والثقافة اليونانية، كأحد مصادر الإلهام لكتاب الملاحم الشعرية. بينما يعتبرها التحليل السياسي، على أنها نتيجةً اعتبار الحرب لدى اليونانيين، على أنها جزءٌ من الحياة اليومية للمدن اليونانية، ولا تُشكل -مثلما هو عليه الحال اليوم- ظاهرةً فريدة، أو حتى نادرة الحدوث على الأقل. لذلك فقد كانت تفسيرات ثيوسيديدس Thucydide، للحرب الأثينية الإسبرطية، المعروفة باسم حرب البيلوبونيز The Peloponnesian War (431 ق.م - 404 ق.م)، مخالفة لنمط التفكير السائد حول الحرب، في تلك المرحلة. فقد تم تفسير الحرب، وفق منظور أقرب إلى المنظورات المعاصرة، أي باعتبارها نتيجة حتمية للتضارب المحتمل، بين القوى المهيمنة من جهة، وطموحات القوى الصاعدة من جهة مقابلة. وتجسّد ذلك من خلال تهديد القوة الصاعدة لإسبرطة، الهيمنة الأثينية الناتجة عن قيادة أثينا للحرب، وتحقيقها النصر ضد الإمبراطورية الفارسية، في الحرب الميدية Medean Wars (490 ق.م-479 ق.م). ويُستعمل هذا التصور، في إطار نظرية العلاقات الدولية المعاصرة، باسم فخ ثيوسيديدس Thucydide Trap، الذي يرجع إلى مقال غراهام أليسون G. Allison، المنشور سنة 2012.  

يُمكن القول أنه -وفي كل الحالات-، لم تكن هناك خلال هذا العصر وما بعده، أية محاولات فردية أو جماعية، لدراسة التفاعلات الدولية، بشكل منفرد عن النمط المعرفي السائد في كل مرحلة (العصور القديمة، العصر الوسيط...إلخ). فحتى الأحداث الدولية الكبرى، على غرار الحروب اليونانية الكبرى، مسارات التوسع الروماني، وحتى الحروب الصليبية خلال العصور الوسطى، لم تجد تفسيرات خارج الباراديغمات التقليدية، بشكل خاص الدينية والأخلاقية منها. فقد اندرجت ضمن محاولات تفسير، أو حتى تبرير السلوك الإنساني، خارج نطاق العلاقات الدولية، كما يتم تعريفها بشكل تقليدي.

انطلاقاً من ذلك فقد شكلت أفكار ثيوسيديد Thucydide، وكذلك نيكولو ميكيافيللي N. Machiavelli، إضافةً إلى توماس هوبز T. Hobbes، وإيمانويل كانط E. Kant، وحتى جون جاك روسو J. Rousseau، كحالات شاذة تؤكد القاعدة. حيث بقيت ضمن محاولات تفسير العلاقات الدولية، من خلال التركيز على ظاهرة الحرب، مع الإبقاء على اعتبارها امتداداً للسلوك الإنساني، الطبيعي والسياسي الداخلي. رغم أنها شكلت في نفس الوقت أساساً مهماً، لتأسيس البناء النظري لعلم العلاقات الدولية، خلال القرن الـ20، حيث عادةً ما يتم الربط بين المدرسة الواقعية، وأصولها اليونانية التي يُجسدها ثيوسيديد، وكذلك أسسها الميكيافيللية. إضافةً إلى الحوار بين المبادئ الهوبزية-الكانطية، الذي ينعكس من خلال الحوار الواقعي اللبرالي⁄المثالي، الذي يُمثل أولى الحوارات النظرية في إطار نظرية العلاقات الدولية.    

2.    تأسيس علم العلاقات الدولية: ميراث حروب القرن الـ20:

عرفت بداية القرن الـ20، سلسلة من الأحداث، بدأت بأزمتي المغرب (أزمة طنجة 1906، أزمة أغادير 1911)، ثم أزمة وحربي البلقان الأولى سنة 1912، والثانية سنة 1913. ليُتوج مسار الأزمات الدولية، باندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914، والتي أدخلت تغيرات جذرية على مفهوم الحرب، من حيث الوسائل، النطاق وكذلك النتائج. وقد أعادت أزمات وحرب بداية القرن إلى الواجهة، السؤال المستعصي المتمحور حول، سبب لجوء الدول إلى الحرب، كآلية لإدارة علاقاتها الدولية، وتجسيد أهداف سياستها الخارجية. ويُمكن في هذا السياق الافتراض -بتحفظ-، بأن السؤال حول أسباب الحرب، وخصائص السياق التاريخي، الذي ورد ضمنه هذا السؤال، هما الأساس الذي يستند عليه نموذج مركزية الدولة، في تعريف العلاقات الدولية، كمجال للتفاعل، وكحقل أكاديمي مستقل.

بقيت العلاقات الدولية كحقل معرفي، مرتبطة خلال القرن الـ19، بالجهود الفردية للفلاسفة والمفكرين السياسيين، ثم تحولت إلى مجال دراسي سنة 1919، أي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وتم في سياق هذا التحول، إنشاء تخصص الدراسي، تحت مسمى كرسي السياسة الدولية ضمن جامعة ويلز University College of Wales، على بتمويل من الاقتصادي الإنجليزي ديفيد دايفيس D. Davies. وقد بدأت انطلاقاً من هذه المرحلة، عمليات متعددة لإنشاء تخصصات أكاديمية جامعية، بمسميات وعناوين مختلفة حول العلاقات الدولية. ومن الأمثلة على ذلك، مساهمة الأكاديمي ورجل الأعمال البريطاني، السير مونتاغ بيرتون Sir Montague Burton  (1885-1952)، في تأسيس كرسي العلاقات الدولية، في كل من جامعة القدس سنة 1929، وجامعة أوكسفورد سنة 1930.  وكما تم فتح المجال أمام تزايد ملحوظ في الدراسات الدولية، حول ظاهر الحرب وسياسات القوة، وساهم ذلك في توفير أدبيات فلسفية وعلمية، داعمة لهذا التحول الأكاديمي في دراسة العلاقات الدولية.

يُمكن الافتراض -نتيجةً لذلك- أن علم العلاقات الدولية، كان محاولة لتلبية حاجة لدى صانع القرار، وبشكل عام لدى الرأي العام، لفهم ظواهر دولية محددة (الحرب وسياسات القوة)، أكثر من كونه نتيجةً تطور منطقي للمعرفة في هذا المجال. فقد مرت الحقول والتخصصات الأكاديمية الأخرى، مثل علم الاجتماع، علم الاقتصاد وبشكل خاص علم السياسة، بمسار تاريخي محدد، جعلها تتطور أولاً في إطار الفلسفة، قبل أن تخرج كحقول مستقلة بمناهجها البحثية، وأطرها النظرية المفسرة للظواهر. عكس علم العلاقات الدولية، والذي نشأ في إطار العلوم السياسية، فقد كان استجابةً مباشرة لمنبِّه الحرب العالمية الأولى، الناتجة بشكل مباشر عن سياسات القوى الكبرى، منذ مرحلة توازن القوى، ثم مرحلة الوفاق الأوروبي.  

إن الافتراض بأن ولادة علم العلاقات الدولية كان سنة 1919، لا يُمكن الاستناد عليه من أجل الافتراض، بأن هذا العلم قد تأسس مزوداً بطابع علمي، وبإطار نظري ومنهجي واضح. فقد احتفظت دراسة العلاقات الدولية، بخصائص الموروث الفلسفي الذي أثر على دراسة الشؤون الدولية، خلال مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى. فجعل العلاقات الدولية حقلاً أكاديمياً La disciplinarisation des Relations internationales ، لم يكن كافياً للنظريات والأطر الفكرية في هذا الحقل، بالتغلب على العائق الإبستمولوجي، الناتج عن شكلها الفلسفي -ما قبل العلمي-، وبالتالي التوصل إلى حقل علمي طبيعي Normale وتراكمي Cumulative.

فقد تأثرت دراسة العلاقات الدولية في هذه المرحلة، بالتراث الفلسفي والتاريخي السائد على مستوى الدراسات الاجتماعية، وقد ظهر ذلك من خلال الأطر النظرية الأولى، التي ميزت مرحلة ما بين الحربين 1919-1939. فقد ظهرت الأفكار اللبرالية التقليدية، تحت مسمى المدرسة المثالية، برغبة قوية في تحقيق السلام، ودفع/إقناع الدول بالتخلي عن سياسات القوة، مقابل التوجه نحو مأسسة العلاقات الدولية، وتكريس سيادة القانون الدولي. وظهرت في مقابل ذلك الأفكار الواقعية، المتأثرة بفلسفة ثيوسيديد، ميكافيللي وتوماس هوبز، والتي تستند إلى الطبيعة الإنسانية، الدافعة للاعتقاد بحتمية الحرب واللجوء إلى القوة. وتشترك هاتين المدرستين، في تأسيس تصوراتهما على افتراضات مسبقة، حول الطبيعة الإنسانية التي تنعكس على سلوك الدولة، وتأويل رغائبي للتاريخ، أي اختزال مسارات التاريخ وفق ما يخدم مسلمات كل اتجاه نظري. ففي حين يعتبر اللبراليون المثاليون، أن التاريخ الإنساني هو حلقات مستمرة من التعاون، حتى وإن شهد حالات من الصراع والحروب، يعتبر الواقعيون مقابل ذلك، أن التاريخ هو حالة مستمرة من الصراع الدولي، حتى مع وجود حالات استثنائية للتعاون.

عرف علم العلاقات الدولية، دفعة أخرى شكلتها الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، تجسدت في كثافة الدراسات الدولية، المجراة في هذه المرحلة بهدف فهم الحرب وسياسات القوة. غير أن دراسة العلاقات الدولية في هذه المرحلة، لم تعد مهتمة بشكل أساسي بتحييد الحرب، كآلية لإدارة السياسة الخارجية للدولة، بقدر الاهتمام بمحاولة وضع أسس فكرية تفسيرية، للإجابة على التساؤل المستمر "لماذا تحدث الحرب؟". رغم استمرار الأفكار المثالية لمرحلة ما بين الحربين، متمثلة في الأفكار اللبرالية بمختلف التعديلات التي عر فتها، والتي حافظت على تطلعاتها لمنع تكرار الحروب، من خلال دور المؤسسات والقانون الدوليين.

 شهدت تفاعلات العلاقات الدولية، خصائص إضافية ارتبطت بثنائية الحرب والسلام، مثل الأسلحة النووية، وتوسيع نطاق الدمار الناتج عن مواجهة محتملة، باستعمال القدرات العسكرية غير التقليدية. يُضاف إلى ذلك التحول في بنية النظام الدولي، من التعددية إلى الثنائية، وظهور العديد من الدول الجديدة، نتيجةً لمسارات التحرر وبناء الدولة في العالم الثالث. إضافة إلى تغير خيارات السياسة الخارجية الأمريكية، بالخروج من سياسة العزلة، والتحول نحو الاندماج الكامل في العلاقات الدولية، بغرض منع تكرار الحرب، أو حتى الاستفادة من المزايا المحصّل عليها. فالتحولات المختلفة التي أفرزتها تسويات سنة 1945، أوجدت سياقاً مختلفاً للدراسات الدولية، من حيث المواضيع، عدد وطبيعة المؤسسات الأكاديمية، وصولاً إلى حجم الأدبيات الفكرية والنظرية. وقد دفعت هذه التحولات وغيرها، إلى الافتراض بأن نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت بمثابة التأسيس الثاني لعلم العلاقات الدولية.

استمرت الدراسات الدولية خلال هذه المرحلة، في تبني الطابع الفلسفي عند محاولة تفسير الطواهر، مثل الحرب وعلاقات القوة، وهو ما تجسد مع تصورات الواقعيين الكلاسيكيين، وحتى بقايا الاتجاه اللبرالي المثالي. فقد ساد الاعتقاد لدى أعضاء الاتجاه الواقعي، مثل هانز مورغنثو، ورينالد نيبار...إلخ، أن سلوك الدول تحكمه قراءات عقلانية للمصلحة الوطنية، وسعي مستمر لتعظيم القوة. وقد تم افتراض هذه العلاقة السببية، بين أفعال/ردود أفعال الدول، ومتغير المصلحة الوطنية، دون توضيح حقيقة الرابط بين المتغيرين، أو حتى توضيح الاستثناءات الممكنة لهذا التعميم المفترض. وإذا كان هذا الافتراض، قد تماشى خلال فترة زمنية معينة، مع أوضاع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنه لم يكن كافياً لتفسير أوضاع العلاقات الدولية، في مراحل لاحقة، شهدت تداخل الأبعاد الاستراتيجية، الاقتصادية...إلخ.

واجه حقل العلاقات الدولية، انطلاقاً من الهيمنة التي مارسها التقليديون، وعلى رأسهم الواقعيون على الدراسات المجراة في هذا الحقل، مشكلة منهجية تتعلق بكفاية الإطار النظري السائد، لتفسير الظواهر الدولية. وهو ما فتح الحوار النظري المنهجي، المعروف باسم النقاش الواقعي السلوكي، حيث تعرض التقليديون لانتقادات، مست البناء الإبستمولوجي لتحليلاتهم للعلاقات الدولية. فعلى سبيل المثال، اعتبر ريتشارد سنايدر R. Snyder، أنه قبل اختيار وصياغة الأدوات المفاهيمية، ينبغي صياغة الاستفسارات الأساسية، التي من شأنها توجيه البحث بوضوح وبشكل ذي معنى. ومن الأمثلة على الأسئلة الواجب طرحها، ماذا نرغب في دراسته؟ هل نريد أن تُسفر استفساراتنا عن مقترحات وصفية أم تنبؤية؟...إلخ. ويعتبر سنايدر في دراسته لبعض مؤلفات التقليديين، ومنها مؤلف السياسة بين الأمم، أنه باستثناء بعض الحالات، لم تقدم دراسات التقليديين، مثل هذه الأسئلة بشكل منهجي.

ساهمت الانتقادات التي وجهتها السلوكيون، لمناهج البحث التقليدية، نتيجةً لذلك في إدخال تعديلات منهجية على علم العلاقات الدولية، تحت مسمى الثورة السلوكية. ومنها التوجه نحو إدخال الدراسات الكمية، واستعارة المبادئ والمناهج المستعملة في العلوم الاجتماعية، على غرار علم النفس، علم الاجتماع وكذلك العلوم الاقتصادية والتاريخ. وقد جاءت هذه المساعي في سياق محاولات السلوكيين، إضفاء الطابع العلمي على الدراسات الدولية، وتقليص نفوذ المناهج التقليدية المهيمنة على هذا الحقل، منذ تأسيسه سنة 1919. وفي هذا السياق، يُمكن القول أن الثورة السلوكية، قد فتحت المجال أمام مسار مستمر من التعديلات، شهدها حقل العلاقات الدولية. وتوصلت في نهاية هذه التعديلات المطاف، إلى تكريسه كحقل معرفي علمي مستقل، بعدما اُعتبر لفترات طويلة مجالاً معرفياً مندرجا ضمن علم السياسة.

ثالثاً: علم العلاقات الدولية والمجالات المعرفية الأخرى:     

نشأ حقل العلاقات الدولية، كما سبقت الإشارة إليه، عقب الحرب العالمية الأولى، ضمن محاولات البحث عن بدائل لسياسات القوة، التي سادت كآلية لإدارة السياسة الخارجية للدول. وقد عرف في مسار تأسيسه وتطوره، العديد من التحولات المنهجية، التي استهدفت إضفاء الطابع العلمي على الدراسات الدولية، وبعلاقة متعدية تقليص تأثير المناهج التقليدية. ولتحقيق هذا الهدف، كان على حقل العلاقات الدولية، أن يتفاعل مع غيره من المجالات العلمية والمعرفية، من أجل استغلال مخرجاتها في تفسير الظواهر الدولية، واكتساب القدرة على استشراف تحولاتها المحتملة أو الممكنة. وقد أصبح هذا منتشراً بشكل واضح، في مختلف الدراسات الدولية، بتأثير من تصورات السلوكيين، حول مناهج الدراسة المعتمدة من طرف التقليديين.

1.    علم العلاقات الدولية وعلم السياسة:

   يسود الإجماع في أوساط الباحثين، بأن حقل العلاقات الدولية، قد نشأ في البداية ضمن علم السياسة، باعتباره حقلاً معرفياً أكبر، وأكثر استقراراً من الناحية الإبستمولوجية. غير أن الجدل قد تمحور بالمقابل حول ما إذا كان حقل العلاقات الدولية، سيُنظر إليه باعتباره حقلاً فرعيا Subfields، أو حقلاً ضمن العلوم الاجتماعية، ومستقل بشكل كلي عن علم السياسة. وفي هذا السياق يعتبر فريق من الباحثين، أن حقل العلاقات الدولية، بغض النظر عن كونه قد نشأ فعلاً ضمن الدراسات السياسية، إلا أنه انتهى إلى تحقيق الاستقلالية عن علم السياسة. وهو ما ينعكس من خلال النقاشات النظرية الأساسية، بشكل خاص تلك التي دارت بين التقليديين والسلوكيين، والتي استهدفت التوصل إلى مناهج بحثية مستقلة عن علم السياسة. أي أن هذه النقاشات كانت بغرض تأكيد الاستقلالية، التي أصبح يتمتع بها حقل العلاقات الدولية منهجياً، وبالتالي تأكيد اعتباره مجالاً علمياً، مستقلاً من حيث المواضيع، المناهج وأدوات البحث.

يعتقد اتجاه آخر في المقابل، أن حقل العلاقات الدولية وإن كان مجالاً معرفياً، بمواضيع ومناهج خاصة به، إلا أنه يبقى حقلاً فرعياً لعلم السياسة، ويسود هذا الاعتقاد لدى مجموعة من الباحثين، على رأسهم أول ويفر O. Wæver. ويعتبر هذا الأخير أن هذا الحقل، قد نشأ وتطور ضمن مجال علم السياسة، وقد حاول البرهنة على ذلك من خلال تتبع مسارات تشكيل مجال العلاقات الدولية، في كل من الولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا والمملكة المتحدة. ويُشير ويفر إلى الخصوصية الأمريكية، التي تعتبر أن حقل العلاقات الدولية، حقلاً فرعياً من علم السياسة، على النقيض من الوضع في أوروبا الغربية، حيث سادت الرغبة في اعتبار العلاقات الدولية، حقلاً أكاديمياً مستقلاً، يقف على قدم المساواة مع العلوم الأخرى.

وبغض النظر عن هذا الجدل المستمر، يُمكن اعتبار أن نشأة علم العلاقات الدولية، ضمن نطاق علم السياسة، بمثابة الحقيقة الثابتة لدى الاتجاهين. غير أن هذا الحقل في المقابل، وسواءً بقي مجالاً فرعياً ضمن علم السياسة أم لا، فقد توصل إلى تكوين منظومة معرفية ومنهجية مستقلة إلى درجة كبيرة، عن تلك المعتمدة في مجال الدراسات السياسية. ويبقى الارتباط الوثيق بين هذين الحقلين، واضحاً من خلال اعتماد الباحثين في مجال العلاقات الدولية، على بعض المناهج المعتمدة في حقل علم السياسة، إضافةً إلى استخدام مخرجات هذا الأخير، في محاولة فهم وتفسير الظواهر الدولية. فعلى سبيل المثال، يعتمد فهم دور الدولة في العلاقات الدولية، مسارات صنع واتخاذ قرارات السياسة الخارجية، وغيرها من المواضيع المطروحة ضمن الدراسات الدولية، يعتمد بشكل كبير على النتائج المتوصل إليها، في دراسات النظم السياسية ونظرية الدولة.   

2.    علم العلاقات الدولية وعلم الاقتصاد:

يهتم علم الاقتصاد كما هو معروف، بدراسة العمليات والأنشطة الاقتصادية، الهادفة إلى تحقيق الربح والتراكم المادي، مثل الاستثمار والإنتاج، التبادل التجاري، والأنشطة المندرجة ضمن قطاع الخدمات...إلخ. إضافةً الاهتمام بأثر السياسات والإجراءات السياسية والقانونية، على مختلف الأنشطة الاقتصادية، وقدرتها على تحقيق أهدافها الأساسية. أما من الناحية المفاهيمية، فيُعرّف علم الاقتصاد على أنه "علم اجتماعي...يهدف إلى دراسة العلاقات بين الحاجات المتعددة والموارد المحدودة، بقصد تحقيق أكبر قدر ممكن من إشباع الحاجات، عن طريق الاستخدام الكفء للموارد المتاحة، والعمل على إنمائها بأقصى الطرق الممكنة، وتنظيم العلاقات الاقتصادية، التي تنشأ بين أفراد المجتمع، وتتعلق بإنتاج وتبادل وتوزيع السلع والخدمات". فعلم الاقتصاد يدرس علاقة التناسب العكسي، بين حجم الموارد المتاحة في مقابل الحاجات المستهدف إشباعها، أو ما يُعرف ضمن أدبيات هذا الحقل باسم المشكلة الاقتصادية.

لا تندرج المشكلة الاقتصادية، ضمن جدول أعمال الدراسات الاقتصادية فحسب، بل تُشكل موضوعاً أساسياً لعلم العلاقات الدولية، والمنطقة الرمادية الفاصلة بين الحقلين، المعروفة باسم الاقتصاد السياسي الدولي. فضمان توفر الموارد الاقتصادية، الموارد تُشكل هدفاً أساسياً للسياسات الخارجية الوطنية، وبذلك فهو موضوعٌ أساسي لعلم العلاقات الدولية. كما أن التوصل إلى تحليل وتفسير السلوكات الدولية، لمختلف الفواعل الدولاتيين وغير الدولاتيين، يمر عبر استكشاف الأبعاد، الأسباب والمخرجات الاقتصادية لهذا السلوك. وتسمح النتائج المتوصل إليها، على مستوى الدراسات الاقتصادية، بدعم تفسيرات علم العلاقات الدولية، للتفاعلات القائمة بين مختلف الفواعل. لذلك تعتبر العوامل الاقتصادية، من أبرز المؤثرات على العلاقات والتفاعلات الدولية، وهذا ما يُشكل فضاءاً مشتركاً بين علمي الاقتصاد والعلاقات الدولية.

جاءت تأثيرات علم الاقتصاد إلى حقل العلاقات الدولية، كإحدى نتائج النقاش المنهجي بين السلوكيين والتقليديين، بفتح آفاق جديدة أمام الدراسات الدولية. فالاستناد إلى مؤشرات ومعطيات اقتصادية، وتكميم الظواهر الدولية، يُمكن الباحثين -حسب الاعتقاد السائد حينها-، من اكتساب القدرة على مراقبة مواضيع الدراسة، والقدرة بعلاقة متعدية على التنبؤ بتطورها. فالوضع الاقتصادي لدولة ما، يُمكن أن يمنح صورة تقريبية على مدى توفر الأدوات لتجسيد أهداف سياستها الخارجية، وكذلك قدرتها على واجهة التحديات الأمنية، أو التأثير على سلوك الفاعلين الآخرين. ويندرج ضمن هذا المعنى، ميزانية الأمن والدفاع الوطنيين، وكذلك برامج تمويل المساعدات الخارجية، والاستثمارات الخارجية المباشرة.

تشكل المعطيات الاقتصادية المختلفة، مؤشراً دالاً على التغيرات التي يُمكن أن تطرأ على سلوك الفواعل، كما تقترح أبعاداً إضافية تُساعد على توضيح مفاهيم القوة، الاعتماد المتبادل...إلخ. إضافةً إلى ذلك فقد ساهمت الاستعانة بعلم الاقتصادي، في تنويع مواضيع حقل العلاقات الدولية، والذي امتد ليشمل قضايا التنمية، التكامل الاقتصادي، وكذلك التطرق لأبعاد جديدة في العلاقات بين الدول، فبعدما اقتصرت الدراسة منذ تأسيس هذا الحقل، على العلاقات بين القوى الأساسية في النظام الدولي، زاد الاهتمام بالعلاقات الدولية من منظور أكثر شمولاً، من خلال توسيع دائرة الاهتمام نحو التفاعلات بين الدول المتقدمة والمتخلفة اقتصادياً، أو بتعبير آخر العلاقات بين المركز والأطراف. لذلك فقد استدعى هذا التحول، اللجوء إلى أطر نظرية جديدة في هذا الحقل، تأسست بتأثير من طبيعة العلاقات الاقتصادية الدولية، وتجسد ذلك من خلال نظرية التبعية.  

3.    علم العلاقات الدولية وعلم الاجتماع:

إن علم الاجتماع معني بدراسة الحياة الاجتماعية، والجماعات والمجتمعات الإنسانية، إنه مشروع مذهل وشديد التعقيد، لأن موضوعه الأساسي هو سلوكنا ككائنات اجتماعية. ومن هنا فإن نطاق الدراسة الاجتماعية يتسم بالاتساع البالغ، ويتراوح بين اللقاءات العابرة بين الأفراد في الشارع من جهة، واستقصاء العمليات الاجتماعية العالمية من جهة أخرى. فهذا الحقل الاجتماعي يهتم انطلاقاً من ذلك، بدراسة الإنسان ككائن اجتماعي، ضمن بيئته الاجتماعية بمختلف أبعادها الداخلية والعالمية. وهذه الأخيرة -أي البيئة العالمية- هي ما يُشكل حلقة الوصل، ضمن علاقة علم الاجتماع بحقل العلاقات الدولية، وبذلك فإن الظاهرة الدولية كموضوع مشترك، لا تعدو أن تكون ظاهرة اجتماعية ذات نطاق دولي/عالمي.

تحولت ظواهر العلاقات الدولية، إلى أحد مخرجات التفاعلات الاجتماعية، على المستويين الداخلي والخارجي، وبالتالي فقد اتخذت خصائص الظاهرة الاجتماعية. ويعتقد مارسيل ميرلM. Merle  -في هذا الصدد- أن "ولوج علام العلاقات الدولية من باب علم الاجتماع، يُمكن أن يُلقي بأضواء جديدة على طبيعة هذه العلاقات، ويُبرز جانباً من سماتها، التي يُمكن أن تكون غابت عن نظر المتخصصين الآخرين. ولا نستطيع حقيقةً أن نفهم لماذا يتعين على العلم الذي يُعالج قضايا المجتمع، أن يتوقف عند حدود الدول، ويُحرم على نفسه اجتياز تلك الحدود، في محاولة لفهم العلاقات الاجتماعية، التي تدور على مستوى الكون".

وعليه فقد تحولت الظواهر الدولية وفق هذا التصور، إلى ظواهر اجتماعية دولية، تتطلب معالجة اجتماعية قد توفرها بدرجة ما، المقاربات العلمية التي يُفرها علم الاجتماع. ونتيجةً لذلك فقد اندرجت الكثير من الدراسات الدولية، تحت مسمى سوسيولوجيا العلاقات الدولية، والذي يُمكن اعتباره -بتحفظ- علم اجتماع للعلاقات الدولية، أو بتعبير آخر علم اجتماع دولي. ويُعبر تصور مارسيل ميرل للعلاقة بين علمي الاجتماع والعلاقات الدولية، عن إحدى الحجج النقاش النظري، بين السلوكيين والتقليديين، حول الفوائد المحتملة لتوسيع آفاق علم العلاقات الدولية، نحو متغيرات وظواهر جديدة.    

ساهم علم الاجتماع انطلاقاً مما سبق، في فتح آفاق جديدة في دراسة العلاقات الدولية، خارج النطاق الضيق للاتجاهات التقليدية. فمن جهة لم تعد عمليات تفسير الظواهر الدولية، متمحورة فحسب حول الحرب والسلام، حيث أضفت الدراسات الاجتماعية الدولية، مزيداً من التنوع على قائمة المتغيرات، التي من شأنها التأثير على التفاعلات الدولية. ويندرج ضمن هذه العوامل، بنية المجتمعات والعلاقات الاجتماعية، إضافةً إلى الأفكار، الثقافات وكذلك الهويات القومية والدينية. إضافةً إلى ذلك، فإن هيكل العلاقات الدولية، انتقل من فكرة النظام الدولي، القائم على أسس وأبعاد مؤسساتية وظيفية، إلى فكرة المجتمع العالمي، المكون من تفاعلات اجتماعية دولية، ناتجة عن تفاعل لاعبين من طبيعة، أهداف مختلفة، كما تعتمد أساليب وميكانيزمات متباينة لتحقيق الأهداف.   

4.    علم العلاقات الدولية وعلم التاريخ:

يُعتبر علم التاريخ أحد فروع المعرفة الاجتماعية، يهتم برصد وتحليل الأحداث الماضية، بغرض فهم أسبابها ونتائجها، ومدى تأثيرها على الحاضر وكذلك المستقبل. ويُعرف من وجهة نظر المتخصصين في هذا الحقل، بشكل موسع على أنه "نتاج لتراكم الفعل الإنساني على مر الزمن، وهدف الدراسات التاريخية الحديثة ينصب على تحليل هذا التراكم ومكوناته، سعياً إلى فهم الحاضر واستشراف آفاق المستقبل". فالكثير من الوقائع والأوضاع الراهنة، تمتد جذورها الماضية إلى فترات تاريخية سابقة، ما يعني أنه لا يُمكن فهم هذه الأوضاع، دون إدراك خلفياتها التاريخية. وهو أساس الارتباط بين علمي التاريخ والعلاقات الدولية.

تساعد الدراسات التاريخية -انطلاقاً من ذلك-، الباحثين في مجال العلاقات الدولية، على فهم أنماط السلوك الدولي، المتضمن في مختلف الظواهر المدروسة، بشكل خاص توجهات الدول نحو خيارات الحرب والسلام. حيث يُمكن أن تتكرس هذه الخيارات، ضمن تاريخها الوطني، من خلال تكرار أنماط ردود فعلها تجاه المواقف الدولية، وبالتالي إمكانية التنبؤ برد فعل الدولة، في حال تكرار مواقف مشابهة. فلجوء الولايات المتحدة الأمريكية، إلى استخدام القوة العسكرية في سياستها الخارجية، بعد "هجمات" 11 سبتمبر 2001، يُشبه إلى حد كبير نمط رد الفعل بعد تعرضها لهجمات بيرل هاربر سنة 1941. أو حتى إمكانية فهم توجه بريطانيا نحو الخروج من الاتحاد الأوروبي Brexit سنة 2015، من خلال تتبع موقفها من مسارات التكامل والاندماج الأوروبي عند انطلاقه سنة 1955، وبعد انضمامها إليه سنة 1971.  

أنتج التداخل بين علمي التاريخ والعلاقات الدولية، نمطاً هجيناً يُعرف باسم تاريخ العلاقات الدولية History of international relations، والذي وإن اعتمد على الدراسة التاريخية، للظواهر والأحداث الدولية، فإنه يستهدف تحقيق نتائج أبعد من مجرد التدوين التاريخي. فهذا المجال الفرعي يهتم بدراسة تاريخ السياسات والسلوكات الدولية، وتطور أساليب إدارة المواضيع والمواقف الدولية، وهو في هذا المجال يتقاطع مع علم التاريخ. فهذا الأخير يهتم بالوقائع التاريخية، باعتبارها حالات منفردة من حيث أسبابها ونتائجها، رغم إمكانية التشابه بينها بدرجات متفاوتة. فالثورتين والفيتنامية (1946-1954) والجزائرية (1954-1962)، تبدوان متشابهتين بدرجة ما، من حيث الأسباب، النتائج وحتى أساليب القتال الثوري، غير أنهما تبقيان منفصلتين من حيث الظروف الخاصة بكل منهما.

أما فيما يخص تاريخ العلاقات الدولية، فإن اهتمامه بدراسة الأحداث والمواقف الدولية، فيرجع إلى الاهتمام بمحاولة تحديد الأحداث المتكررة، كأنماط سلوكية محددة. فإذا كانت الثورة في فيتنام والجزائر، حدثين تاريخيين فريدين، إلا أنهما شكلا نمطاً متكرراً في العلاقات الدولية، بأسباب ونتائج متكررة. فتكرار حالات الاستعمار في كل من آسيا وإفريقيا، جعل الثورة رد الفعل المتكرر على هذه الظاهرة، وهو ما يجعل منها بشكل عام، أحد أنماط سلوك الدول الصغيرة، في مواجهة الدول المهيمنة. وينسحب ذلك بدرجات متفاوتة، على مختلف أنماط السلوك الدولي الأخرى، مثل التعاون، النزاع، التحالف...إلخ، حيث تتكرر أنماط استجابة الفواعل وخياراتهم، رغم اختلاف الأوضاع والمواقف الدولية، أو حتى ظروف الزمان والمكان.

يرتبط التداخل بين المجالين المعرفيين كذلك، بمسارات بناء النظرية في العلاقات الدولية، والتي تعتمد بشكل أساسي بمخرجات الدراسات التاريخية، سواءً في إطار علم التاريخ العام، أو في إطار دراسات تاريخ العلاقات الدولية. ومن هذا المنطلق يفترض رواد نظرية العلاقات الدولية أنه "سواءً كان التاريخ خلفية سياسية أو مختبرًا سلوكيًا، فهو لا ينفصل أبدًا عن النظريات والبحوث الدولية. عندما تُبنى النظرية من القاعدة إلى القمة، يُشكّل التاريخ حجر الأساس. أما عندما تُبنى النظرية من القمة إلى القاعدة، فيُستخدم التاريخ لاختبار المفاهيم النظرية أو دحضها". أي أن علم التاريخ، يُشكل آلية "تجريبية/أمبريقية" تُساهم في الوقت ذاته، في بناء النظرية وكذلك التأكد من مصداقية افتراضاتها الأساسية. علماً أن المقصود بوصف تجريبية، لا يُفضي إلى درجة اليقين، التي تتميز بها العلوم التجريبية، لكنه مع ذلك يتجاوز الافتراضات المجردة، المسلم بصحتها. غير أن اللجوء إلى هذه الآلية، لا يكون من خلال عمليات انتقائية، على غرار استشهاد التاريخي الذي مارسته الاتجاهات التقليدية (الواقعية الكلاسيكية والمثالية). بل يتطلب اعتماد مناهج علمية، تجعل من التاريخ مساراً مرتبطاً من الأحداث، بما يُمكِّن الباحثين من خلاله، من تأكيد أو نفي الافتراضات النظرية، حول نشأة الظواهر الدولية، ومساراتها المستقبلية المحتملة.

5.    علم العلاقات الدولية وعلم النفس:

يُعرف علم النفس Psychology، على أنه "الدراسة العلمية للسلوك والعمليات العقلية Behavior and mental processes". فهذا المجال المعرفي لا يعتمد فقط على تقديم افتراضات مسبقة، أو في أحسن الحالات الملاحظة العامة، لشرح السلوك والعمليات العقلية الإنسانية. بل يستند إلى معرفة علمية، ذات مناهج ووسائل عمل معترف بها، تُفضي إلى نتائج منسجمة مع المناهج والشروط العلمية المعتمدة. وهو ما يُتيح الإمكانية لفهمٍ أعمق للأفعال وردود الفعل الإنسانية، سواءً كان ذلك على المستوى الفردي، أو في إطار التفاعلات الاجتماعية الأكثر تعقيداً، وبدرجة ما القدرة تحديد أنماط السلوك الإنساني، وبعلاقة متعدية إمكانية التنبؤ بردود الفعل المحتملة، خلال مواقف نفسية أو اجتماعية متوقعة.

وقد ورد في التصور السابق حول ماهية علم النفس، أن هذا الأخير يهتم بشكل أساسي بالسلوك Behavior، والعمليات العقلية Mental processes. ويُعرّف الأول -أي السلوك- على أنه كل ما يصدر عن الإنسان، من أقوال وأفعال يُمكن ملاحظتها بشكل مباشر، كالكتبة، القراءة، قيادة السيارة، الصراخ والرسم وغيرها. بينما تُعرف العمليات العقلية على أنها الأفكار Thoughts...والمشاعر Feelings، والدوافع Motives، اتي نختبرها بصورة ذاتية، ولا يُمكن ملاحظتها بشكل مباشر. ويتجسد ذلك من خلال مجوعة من المواضيع، التي يهتم بها علم النفس بشكل عام، والتي يُمكن فهمها من خلال تحليل المفهومين السابقين. حيث أن الكثير من علماء النفس، أو حتى المحليين النفسيين، يفترضون أن ملاحظة السلوك، تُشكِّل إحدى وسائل التعرف على العمليات العقلية، بتعبير آخر المشاعر، الأفكار أو حتى الدوافع.  

نشأت العلاقة بين علم النفس وعلم العلاقات الدولية، في إطار علاقة أشمل ربطت علم لنفس بعلم السياسة، باعتبار أن علم العلاقات الدولية، نشأ في البداية ضمن نطاق الدراسات السياسية. فقد توجهت بعض الجامعات، إلى التأسيس لمسارات دراسية، وحتى تخصصات أكاديمية، تحت عنوان علم النفس السياسي Political Psychology. والذي يُعرّف على أنه "العلم الذي يدرس التفاعل بين السياسة وعلم النفس، وخصوصًا تأثير علم النفس في السياسة...ويُمكن تصور علم النفس السياسي بكل بساطة، كجسر بين علمين". وتمثل هذا الجسر في إدراج مفهوم الدوافع، في تحليل السلوك السياسي بشكل عام، والعلاقات الدولية بشكل محدد، كبديل عن الافتراضات المسبقة، أو المسلمات ذات الطبيعة الفلسفية، التي تأسست عليها الاتجاهات التقليدية.

سمح الارتباط بين لم العلاقات الدولية وعلم النفس، بتحويل السلوك السياسي الدولي، قابلاً للدراسة العلمية بشكل أكثر دقة، من خلال تحويله إلى سلوك إنساني. فالنظر لفترة زمنية طويلة، إلى الدولة بذاتها على أنها الفاعل في العلاقات الدولية، وأن هذه الأخيرة هي محصلة أفعال وردود أفعال الدول، لا يجيب عن السؤال الأساسي عن محركات سلوكها. وتعمق هذا الفشل في تفسير سلوك الدول، مع ظهور عدم كفاية البعد التفسيري، الذي مارسته مفاهيم مثل المصلحة الوطنية، القوة...إلخ. وفي مقابل ذلك، فقد أثارت المناهج السلوكية الانتباه، إلى الآثار الإيجابية المحتملة، لتركيز الاهتمام ليس على الدولة بذاتها، بل على أولئك الذين يتصرفون باسمها. ويتعلق الأمر بصانع القرار، أعضاء الوحدة القرارية، أعضاء الهيئات التنفيذية المكلفة بتنفيذ القرار، في إطار السياسة الخارجية الوطنية، وحتى السياسات الأمنية والدفاعية...إلخ. ويتطلب ذلك الإحاطة بدرجات مختلفة، بالجوانب السلوكية والنفسية الخاصة بصانع القرار، وقد يصل التحري إلى غاية البحث في مسارات تكوين شخصيته. وقد تم في هذا المجال إجراء العديد من الدراسات النفسية، على شخصيات سياسية مارست السلطة في فترات تاريخية مختلفة، لكن دون اللجوء إلى أساليب علم النفس الإكلينيكي/العيادي، بل من خلال دراسة السيرة الذاتية، أو التاريخ العائلي، أو الشهادات الموثقة...إلخ.

ضمن هذا السياق شكّلت الافتراضات، التي تم استخلاصها من المبادئ العامة لعلم النفس، وسيلةً إضافية لمحاولة فهم السلوك السياسي لصانع القرار. فقد اعتبر عالم النفس الأمريكي دافيد ماكليلاند D. McClelland (1917-1988)، أن نظرية الدافع Theory of motivation، تتعلق بكيفية بدأ السلوك How behavior gets started، وتنشيطه Is energized، واستدامته Is sustained، وتوجيهه Is directed، وإيقافه Is stopped، بعبارة أخرى فإن الدافع له علاقة بأسباب السلوك". وبإسقاط هذا المبدأ على مجال الدراسات السياسية، تنتفي العلاقة الآلية بين السلوك والعوامل أو الأسباب، التي عادةً ما تُشكل قوالب جاهزة للتفسير. فبدون معرفة الدافع وراء السلوك الإنساني، لا يُمكن التوصل إلى فهم وتفسير هذا الأخير، حيث لم يعد ممكناً الثقة بالتفسيرات الشمولية، المستندة على مبادئ فلسفية لا يُمكن التحقق من مصداقيتها.  

وينطبق ذلك بدرجات متفاوتة، على مختلف أوجه السلوك الإنساني، بدايةً من أبسط الأنشطة اليومية، إلى أكثر أوجه السلوك تعقيداً، والمرتبط بالمجال السياسي، وبشكل خاص على المستوى الخارجي. لذلك يُمكن انطلاقاً من هذا الافتراض، دراسة سلوك صانع القرار بنفس الوسائل النظرية، المعتمدة لدراسة السلوك الإنساني في إطار علم النفس. فكل السلوكات الإنسانية مرتبطة بواحد أو مجموعة من الدوافع، يؤدي فهمها بطريقة آلية إلى فهم السلوك، وامتلاك القدرة على التنبؤ بأنماط الفعل أو ردود الفعل، التي يُمكن أن تصدر عن صانع القرار. وهو ما يُجيب على التساؤلات المطروحة، حول بعض الخيارات التي يتخذها صانع القرار، دون مراعاة العوامل ومحركات السلوك، التي افترضتها النظريات التقليدية للعلاقات الدولية (الواقعية، اللبرالية...إلخ).

يظهر من خلال علاقة علم العلاقات الدولية، بالمجالات والحقول المعرفية الأخرى، أنه يتميز بخاصية تعددية نقاط التقاطع مع غيره من لمجالات، وذلك نتيجة للسعي إلى توفير الأدوات التحليلية، لفهم، تفسير والتنبؤ بالظواهر الدولية. فقد أثار السلوكيون الانتباه، إلى أن الظواهر والمواقف الدولية، عادةً ما تتضمن أبعاداً متعددة، حيث تشمل الجوانب السياسية، الاقتصادية، النفسية والاجتماعية. أي أن الاقتصار على الأطر المفاهيمية والنظرية السياسية، في دراسة هذه الظواهر سيُفضي إلى نتائج جزئية، عاجزة عن تفسير يتميز بالشمولية -نسبياً- للظواهر المدروسة. وقد نتج عن هذا الوضع جدلاً مستمراً، حول مدى تمتع علم العلاقات الدولية بالاستقلالية، التي تحافظ على خصوصية هذا العلم، بالمقارنة مع العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى.

 خـــــــــــاتمة:

يُمكن القول انطلاقاً مما سبق، أن دراسة الظواهر الدولية، وإن بقيت ضمن الإطار العام لعلم السياسة، إلا أن علم العلاقات الدولية أصبح بشكل غير قابل للشك، الإطار الأكاديمي المفضل لدراسة هذه الظواهر. وقد تكرس ذلك بدراجات متفاوتة، وعبر مراحل زمنية طويلة، منذ تأسيس الدراسات الدولية الأولى، قبيل ثم بعد لحرب العالمية الأولى. حيث شكلت النقاشات النظرية المختلفة، بداية بالنقاش المثالي الواقعي، مؤشراً على التطور المنهجي والنظري، الذي عرفه علم العلاقات الدولية منذ نشأته.

إضافةً إلى ذلك، فإن التقاطعات الموجودة بين علم العلاقات الدولية، وغيره من الحقول المعرفية الأخرى، لا تُشكل حسب وجهة نظر العاملين في هذا الحقل، تقييداً لاستقلاليته، بل مصدراً للثراء المعرفي. فهذه العلاقة هي مصدر لدعم إمكانيات التوصل إلى نتائج، ذات خاصية علمية من جهة، وذات مصداقية من جهة ثانية، اعتماداً على نتائج أكثر استقراراً، توصلت إليها الحقول المعرفية الأخرى، اعتماداً على أساليب ومناهج علمية أكثر صلابة. كما أن ذلك فتح أمام الباحثين في مجال العلاقات الدولية، آفاقاً بحثية أوسع من المواضيع التقليدية، تُساعد على توضيح الأبعاد المتداخلة للظاهرة الدولية.  


Modifié le: lundi 28 avril 2025, 16:44