النظرية في حقل العلاقات الدولية

تـمهيـــــــــد:

تُعتبر النظرية Theory\Théorie، أداةً أساسية للتحليل في مختلف الحقول المعرفية، ومؤشراً على الالتزام، بشروط المنهج العلمي، في تكوين المعرفة العلمية حول الظواهر والحقائق المختلفة. لذلك فقد ارتبطت النظرية، بالعلوم التجريبية والدقيقة، التي قطعت مسافةً كبيرة، في مسار اليقين العلمي، وتقليص هوامش الخطأ، في النتائج المتوصل إليها. وبذلك فقد اكتسبت النظريات العلمية، طابعاً تفسيرياً قابلاً للتعميم بدرجات كبيرة، أنتجت في النهاية م يُطلق عليه اسم "القوانين العلمية". وتجسد ذلك -على سبيل المثال-، من خلال القوانين العلمية المختلفة، في مجال الطب، الفيزياء وكذلك الرياضيات وعلم الأحياء. رغم بقاء الكثير من الظواهر العلمية، المندرجة ضمن مجال تخصص هذه الحقول، خاضعة للتخمين وعدم اليقين، إضافةً إلى الحركية المستمرة وعدم الثبات.

أما على مستوى الحقول المعرفية، المندرجة ضمن مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، فقد بقي استعمال مصطلح النظرية، بدلالات مختلفة إلى حد كبير، عن مجال العلوم التجريبية والدقيقة. وذلك بسبب الانخفاض الواضح، في مستويات اليقينية، في النتائج المتوصل إليها، نتيجة للمناهج المستعملة في البحث، والتي لا تتضمن البعد التجريبي. وبالتالي تبقى العلاقات المنطقية، القائمة بين المتغيرات المختلفة المتضمنة في الظواهر، علاقات نسبية غير قابلة للإثبات القطعي. وهو ما يُفضي بالضرورة إلى نتائج متنازع حولها، لا تتجاوز مستوى الافتراضات الأولية، التي تم الانطلاق منها، وهو ما يُبقي النتائج المتوصل إليها، في خانة ما قبل النظرية Pre-theorical.

يُمكن الملاحظة انطلاقاً من ذلك، أن الحقول المعرفية في غالبيتها، تستعمل ضمن مفرداتها مصطلح النظرية، مع الادعاء بالتمتع بالطابع العلمي. ويبقى التأكد من هذا الادعاء، مرتبطاً بتحديد ما يقصده الباحثون، في مختلف الحقول المعرفية، بمصطلح النظرية العلمية، وتحديد طبيعتها، ومسارات تشكيلها. وينطبق ذلك بشكل خاص على حقل العلاقات الدولية، باعتباره مجالاً علمياً متنازع حوله، ناهيك عن ادعاء الباحثين فيه، بقدرتهم على وضع نظريات علمية، حول ظواهره المختلفة.

أولاً: النظرية كضمانة للعلمية:    

تُشتق كلمة نظرية Theory\Théorie، من الأصل اللغوي اليوناني Theoros وتعني المتفرج أو الشاهد، وكذلك الفعل Theorein والذي يعني الملاحظة الفضولية والمتعجبة، بغرض الوصف والفهم. ويُشير المعنى اللغوي بذلك، إلى الملاحظة بشكل العام، المستهدفة للوصول إلى فهم الظواهر، لكن دون أن يتضمن ذلك اللجوء إلى الوسائل والمناهج العلمية. وعليه يُمكن اعتبارها انطلاقاً من المعنى اللغوي، ممارسة عامة ويومية، تتم بدافع الفضول أو التعجب، ولا تقتصر بذلك على المجتمعات المعرفية، بل تُمارس من طرف جميع الأفراد.

وتُستعمل النظرية، في نفس الوقت، بوصفها مجموعة من الحقائق، ذات درجة عالية من اليقين، وكذلك بوصفها تصورات لا تتجاوز مستوى التخمين. ففي حين تُشير الدلالة الأولى، إلى الاستعمال المتخصص في أحد الحقول المعرفية، فإن الاستعمال الثاني، عادةً ما يكون على مستوى الاستعمال العام، في الكلام الدارج بين الأفراد، على اختلاف مستوياتهم المعرفية والثقافية. غير أننا في هذا الصدد، يجب أن نركز اهتمامنا، على الاستعمال العملي المتخصص، على اعتبار أن الهدف من البحث، هو تحديد معنى النظرية، باعتبارها أحد ضمانات الطابع العلمي للبحوث ولدراسات الأكاديمية.

انطلاقاً من المنظور التبسيطي، يُعتبر أن "النظرية هي الفكر التأملي، فنحن نخوض في التنظير، حين نفكر بعمق وبشكل مجرد حول شيء ما". ورغم أن هذا النوع من التفكير، قد اُعتبر لفترة طويلة، المظهر الأساسي للمعرفة والبحث العلمي، تجسد من خلال الفكر الفلسفي. غير أن هذا التصور مع ذلك، يتميز بالعموم ليشمل إلى جانب النظرية العلمية، الكثير من الظواهر الفكرية، قد لا تتقيد بالمبادئ والشروط المنهجية، المميزة للنظرية العلمية. حيث اعتمدت المعرفة العلمية، خلال فترات تاريخية طويلة، على التفسيرات غير العقلانية، القائمة على الأساطير والروايات الخرافية، لتفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية.

تُعرف النظرية من وجهة نظر تجريدية، على أنها "تفكير منهجي Systematic reflection حول الظواهر، مصممة لتفسيرها، وإظهار الترابط فيما بينها، في نمط ذكي وذو معنى Meaningful, intelligent patten، بدلاً من مجرد عناصر عشوائية في عالم غير منسجم merely random items in incoherent univers". أي أنه لا يجب إغفال الفرق بين النظرية، والعناصر التفسيرية ذات الطبيعة العشوائية، فهذه الأخيرة تفتقد إلى النمط التفسيري مترابط العناصر، الذي تتميز به النظرية العلمية، والمستمد مباشرة من الأسلوب المعتمد لبناء النظرية، والذي حدده التعريف في التفكير المنظم والمنهجي Systematic reflection، والذي يُساهم في نهاية المطاف، في توضيح العلاقة المنطقية، القائمة بين عناصر الظواهر المدروسة، وتحديد تطورها مستقبلاً.  

تُعرف النظرية من منظور أقل عمومية، على أنها "مجموعة من المصطلحات والتعريفات والافتراضات، لها علاقة ببعضها البعض، والتي تقترح رؤية منظمة للظاهرة، وذلك بهدف عرضها والتنبؤ بمظاهرها". ويتضمن هذا التصور للنظرية، جملة من الوسائل العلمية (المصطلحات والتعريفات والافتراضات)، والتي تعمل مجتمعةً بشكل متكامل، على تفسير الظاهرة والتنبؤ بتطورها. ويُعتبر التفسير والتنبؤ، خاصية جوهرية للنظرية العلمية، غير أن هذا التصور لم يأخذ بالاعتبار، المسار المتبع لوضع واعتماد النظرية، وتزويدها بأبعادها وخاصيتها العلمية. ورغم ذلك، فإن هذا النوع من التفكير، قد اُعتبر لفترة طويلة، المظهر الأساسي للمعرفة والبحث العلمي، تجسد من خلال الفكر الفلسفي. والذي يُشكِّل إلى غاية اليوم، خلفية فكرية للكثير من الأطر المعرفية، والنظريات العلمية، المعتمدة في الكثير من الحقول العلمية، وبشكل خاص في مجالات العلوم الاجتماعية. 

حاولت بعض التصورات، إضفاء شيء من الدقة على مفهوم النظرية العلمية، وتُعرف هذه الأخيرة انطلاقاً من ذلك، على أنها "تفسير موحد ومتسق ذاتياً لعمليات أو ظواهر طبيعية أساسية. وهذا التفسير يتم تشكيله من مجموعة من الفروض التي يتم تأييدها، فالنظرية إذاً تُبنى من المعرفة الموثوق فيها، وهي الوقائع العلمية". أي أن النظرية العلمية، هي نتاج تأكيد الفرضيات العلمية السابقة للنظرية، وتحويلها إلى تفسير منسجم، ومقبول نسبياً للظواهر المدروسة. رغم أن هذا التصور للنظرية العلمية، لا يوضح الأساليب المعتمدة، لتأكيد الفرضيات المطروحة، بهدف تحويلها إلى "حقائق علمية"، حيث تعامل مع النتيجة، دون مراعاة المسار المتبع.

انطلاقاً مما سبق، فإنه تماشياً مع أغراض هذه الدراسة، يُمكن إجرائياً اعتبار النظرية العلمية على أنها الحقائق العلمية المثبتة بالأساليب، الأدوات والمناهج العلمية، التي تنسجم مع طبيعة وخصوصية كل حقل معرفي. ويكون الغرض الأساسي منها، الوصول إلى تفسير مقبول نسبياً للظواهر المختلفة (الطبيعية، الكونية، الاجتماعية والإنسانية...إلخ)، إضافةً إلى ضمان قدر مقبول من القدرة، على استشراف تطور هذه الظواهر، والتنبؤ بمآلاتها، بما يوفر تفسيراً مستقبلياً للظواهر الجديدة، الناشئة عن هذا التطور.  

ثانياً: النظرية العلمية والمفاهيم المشابهة: التداخل والاختلاف

تُستعمل النظرية العلمية، كمصطلح أساسي في مجال البحث العلمي، في كثير من الأحيان، بالتكامل أو حتى التداخل مع مصطلحات أخرى. حيث يكون الهدف الأساسي من ذلك، زيادة توضيح التفسيرات المقترحة، للظواهر الطبيعية والاجتماعية المختلفة، من خلال استنباط المبادئ المتضمنة في النظرية، أو الأدوات المرتبطة بتعميم النتائج. غير أنه في المقابل، يحدث استعمال غير مضبوط للمفاهيم العلمية، بشكل يتداخل مع المعاني الشائعة لهذه المفاهيم، وهو ما يُفضي إلى نتائج خاطئة، أو استنتاجات تتصف بدرجة عالية من الغموض وعدم الوضوح. ويُمكن في هذا الصدد طرح مجموعة من المفاهيم، على سبيل المثال لا الحصر، والتي يُمكن أن تتداخل من حيث المعنى أو الاستعمال، مع مفهوم النظرية العلمية. ومن بين هذه المفاهيم نذكر النظرية (بمعناها العامي)، القانون العلمي، المقاربة/المقترب، النموذج...إلخ. 

- النظرية العلمية والحدسية: العلمية في مواجهة التخمين:

إذا كانت النظرية العلمية، تُستعمل لأسباب وغايات علمية واضحة، فإنه يُمكن ملاحظة الانحراف في استعمال المصطلح، للتعبير عن دلالات مختلفة. وتكون النظرية انطلاقاً من ذلك، أقرب إلى التخمين Speculation\Guessing، من خلال افتراض وجود علاقة منطقية ما، بين عناصر الظاهرة موضوع الدراسة (علاقة سببية، تأثير وتأثر...إلخ). بحيث لا يستند القول بوجود مثل هذه العلاقة، إلى أي من الآليات المنهجية المستخدمة، من طرف الباحثين في حقل معرفي معين، لإثبات الافتراضات المقترحة للتفسير.

وتظهر في هذا الصدد النظريات الحدسية Intuitive Theories، والتي يتم الاستعانة بها في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، على رأسها علم النفس وعلم الاجتماع. وتُعرف النظريات الحدسية بشكل عام، على أنها أنظمة متكاملة Integrated systems، من القوانين السببية Causal laws، والمفاهيم Concepts، التي تنطبق على الظواهر في مجال معين. وتفترض النظريات الحدسية، وجود كيانات "خفية" وغير قابلة للملاحظة، مثل القوى Forces، الجراثيم Germes، المعتقدات Belifs، السمات Traits والأنواع Kinds وغيرها، والتي تعمل سببيًا، بطرق محددة لإنتاج ظواهر، يمكن ملاحظتها في العالم". فهذه النظريات تفترض وجود علاقة منطقية، بين أسباب خفية مفترضة، والنتائج المراد تفسيرها، بحيث يصعب في الكثير من الأحيان، إثبات أو على الأقل تأكيد هذه العلاقة. وتندرج ضمن هذا السياق، التفسيرات التي عادة ما تُعرف باسم "نظرية المؤامرة"، والتي تستند إلى سلوك تقوم به أطراف خفية، من أجل الوصول إلى أهداف معينة. وهو ما تم الاستناد إليه، عند محاولة تفسير الكثير من الأحداث، مثل الحالات الوبائية العالمية، مثل أنفلونزا الخنازير، كوفيد 19...إلخ، أو حتى الظواهر الطبيعية، مثل العواصف والزلازل.

- القانون العلمي كمكون للنظرية العلمية:

يظهر إلى جانب مفهوم النظرية العلمية، مصطلح القانون العلمي Scientific law، باعتباره مفهوماً شائعاً، في مجالات الإبستمولوجيا، ومجال البحث العلمي. غير أنه في المقابل لا يُستعمل كمرادف للنظرية، بل كأداة للتحليل والتفسير، يُعتقد أنها تتميز بدرجة أعلى من الدقة، بسبب القناعة المشكلة حول ما يتمتع به من يقينية، نتيجةً للمسار المتبع من أجل إثباته. ويُعرف القانون العلمي على أنه "الصيغة التي تعبر عن علاقات ثابتة بين ظواهر الأشياء...فهي قوانين طبيعية توحي بها الملاحظة، وتحققها التجربة...وليست هذه القوانين قواعد إنشائية، تُعبر عما يجب أن يكون، وإنما هي أحكام وجودية خبرية، تعبر عما هو كائن بالفعل". فالقوانين العلمية يُمكن أن تكون أساساً، أو عنصراً ضمن النظريات العلمية، حيث يُستند إليها لإثبات العلاقة بين المتغيرات المتضمنة في الظاهرة، وهو ما يجعل النظرية العلمية، أشمل من حيث نطاقها مقارنة بالقانون العلمي.

غير أنه في المقابل، فإن القوانين العلمية، تكون قد تعرضت للاختبار العلمي الأمبريقي/التجريبي، وبذلك فإنها تتضمن حقائق ثابتة قابلة للتعميم. فقوانين الجاذبية، قوانين السوق كالعرض والطلب، قوانين الرياضيات، قد تأكدت العلاقات المنطقية المتضمنة فيها، بحيث تكون أساساً لتفسير الكثير من الظواهر. حتى أنه يُمكن استعارة بعض القوانين العلمية، فيما بين التخصصات والحقول المعرفية، انطلاقاً من قدرتها المنطقية على تفسير الظواهر المختلفة. فعلى سبيل المثال، استعار الفيلسوف شارل دو مونتيسكيو C. Montesquieu (1689-1755)، الذي استعار قانون الفعل ورد الفعل، بالقول في نظريته حول فصل السلطات، أنه يجب بموجب نظام الأشياء، أن تقوم السلطة بإيقاف السلطة.  

  - المقاربة كبديل ممكن:

تُستعمل المقترب/الاقتراب/المقاربة العلمية Scientific approach، في كثير من الأحيان، على أنها البديل الممكن للنظرية العلمية، بسبب الاعتقاد بأنه لا يُمكن وضع نظرية علمية، بكل خصائصها في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية. غير أنه يُمكن القول في المقابل، أن هذا الاعتقاد لا يعدو أن يكون -إلى حد كبير-، تصور عامي ناتج عن عدم القدرة، على توضيح التداخل بين المصطلحات والمفاهيم. فالمقاربة العلمية هي "إطار تحليلي يؤخذ كأساس عند دراسة الظهرة الاجتماعية والسياسية، كما أنه طريقة تفيد في معالجة الموضوع، سواءً تعلق الأمر بوحدات التحليل المستخدمة، أم الأسئلة التي تُثار، وتحديد نوعية المادة اللازمة للإجابة عن ذلك، وكيفية التعامل معها".

أي أن المقاربة العلمية، هي أقرب إلى الإطار الإجرائي المنهجي، المُحدد للإطار العام لدراسة الموضوع، وبالتالي فهو يتعلق بالبعد العملي للبحث العلمي. فدراسة مواضيع تتعلق بالعلاقات والأبعاد المؤسساتية، يتطلب الاستعانة بالمقاربة المؤسساتية، في حين أن دراسة البعد القانوني، تتطلب اللجوء إلى المقاربة القانونية. فالتركيز يكون منصباً على أبعادٍ محددة دون غيرها، مثل العوامل والعلاقات الاجتماعية، التي تخرج عن الإطار المحدد في المقاربة المختارة. سواءً تعلق الأمر بالمقاربة القانونية (الأطر والعلاقات القانونية)، أو المقاربة المؤسساتية (العلاقات والأطر القائمة ضمن المؤسسة)، أو المقاربة السلوكية (محددات وأنماط السلوك...إلخ). وينطبق ذلك على مختلف المقاربة العلمية، المستعملة في مختلف الحقول العلمية، لا سيما في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية.

- النموذج/الباراديغم كمفهوم شامل:

يُعتبر المنظور Paradigm\Paradigme، من أشهر المصطلحات المستعملة في البحوث العلمية، إلى جانب النظرية العلمية، بحيث عادة ما يقع التداخل بينهما. ويستند هذا المفهوم إلى أعمال توماس كوهن T. Kuhn (1922-1996)، ويتخذ تسميات متعددة مثل المنظور، النموذج، النموذج الإرشادي، وكذلك الباراديغم. ويعرفه كوهن بشكل ضمني على أنه "الإنجازات العلمية السابقة، التي يعترف متّحد علمي ما، الأساس لممارساته العلمية اللاحقة". ويُقصد بالإنجازات العلمية، مجموعة القوانين والنظريات، التي تستند إليها البحوث أو الممارسات العلمية المخالفة، خلال فترة زمنية معينة. أي أنها تُشكل الأساس الذي يستند إليه العلم -بمختلف حقوله-، للإجابة عن الإشكاليات المختلفة، المطروحة حول الظواهر موضوع البحث. وذلك قبل اللجوء إلى إنجازات علمية بديلة، تكون أقدر على تحقيق الهدف العلمي، وهو ما يُعرف وفق تصور توماس كوهن، باسم الثورات العلمية Scientific revolutions.

غير أنه في المقابل، فإن هذا التصور للنموذج الإرشادي/الباراديغم Paradigm، لا يعني أنه مفتوح من حيث النطاق، ليشمل كل مخرجات المعرفة العلمية. وفي هذا الصدد يُحدد توماس كوهن، معيارين أساسيين من أجل تحديد ماهية الإنجازات العلمية، التي تصب في تعريفه للنموذج الإرشادي. وهما أن يكون هذا الأخير "لم يسبق له أن جذب مجموعة من الأتباع الثابتين، بعيداً عن أشكال النشاط العلمي المتنافسة. وفي الوقت نفسه، كان مفتوحاً بابه لحل كل أنواع المشكلات لمجموعة جديدة من المشتغلين". بمعنى أن طبيعة هذه الإنجازات تدفع الكثير من أعضاء المجتمعات العلمية Scientific communities، إلى التحول من انتماءاتهم العلمية السابقة، وتبني المفاهيم والنظريات الجديدة، وحتى تشكيل مجتمع علمي جديد. ومن جهة أخرى، فإن هذه الإنجازات العلمية الجديدة، تتحول إلى الوسيلة الجديدة، لمعالجة الإشكاليات العلمية المطروحة، في سياق البحث عن تفسيرات للظواهر العلمية المدروسة.

ثالثاً: النظرية العلمية بين التراكم والقطيعة والتراكم

شكلت القطيعة والتراكم كنمط لتطور المعرفة العلمية، أحد أبرز أوجه التضارب/الجدل، بين فلاسفة ومؤرخي العلوم والمعرفة العلمية. فقد اعتبر البعض، على رأسهم غاستون باشلار G. Bachelard (1884-1962)، أن المعرفة تتطور وفق نمط ثوري، أي من خلال ما يُعرف بالقطيعة المعرفية. في حين اعتبر اتجاه آخر، يتزعمه أوجيست كونت A. Comte (1798-1857)، وكذلك جان بياجيه J. Piaget (1896-1980)، أن المعرفة هي ذات طابع تراكمي، بحيث يتم توجيه المعرفة نحو تصحيح الأخطار، وفق مسار خطي. وسيكون من المفيد وضع نظرية العلاقات الدولية، ضمن هذا السياق الإبستمولوجي، لفهم ما يُطلق عليه كلمن جيمس دوفرتي J. Dougherty، وروبيرت بالتسغراف R. Pfaltzgraff ، وصف النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية Contending theories of international relations. كما يُمكن أن يُشكل ذلك، مدخلاً مناسباً لفهم ومناقشة الحوارات الكبرى، التي شهدها حقل العلاقات الدولية، بين المنظورات الأساسية. فأفكار توماس كوهن تتأسس على تعاقب المنظورات، في حين تبقى نظرية العلاقات الدولية، تشهد تعددية في الأطر النظرية، التي تسعى لتفسير نفس الظواهر. وفي نفس الوقت تغيب أية إمكانية لحسم الجدل حول تفسير الظواهر، لصالح اتجاه نظري محدد، رغم وجود ما يُعرف باسم الاتجاه المهيمن.

1.     القطيعة كنمط لتطور المعرفة:

يقول هذا الاتجاه بغياب الاستمرارية كنمط لتطور المعرفة، وتم في مقابل ذلك اعتماد نمط القطيعة، الثورة المعرفية، أو بتعبير آخر اللااستمرارية. في حين تبقى استمرارية المعرفة مجرد افتراض "فلسفي" غير واقعي، بعيد المسار الفعلي الذي تتخذه المعرفة العلمية في تطورها. حيث يذهب غاستون باشلار إلى القول في هذا الصدد أنه "أصبح للاكتشاف العلمي نتائج متعددة للغاية، نلمسها بكل وضوح، لقد حدث انقطاع في المعرفة...لكن دائما يحدث نفس الشيء، إن الفيلسوف لا يقترب من منطقة الانقطاعات الفعلية، إنه يؤكد بالتالي وبهدوء على استمرارية المعرفة". فالاكتشافات العلمية التي يستند إليها تصور باشلار، جاءت لتقطع صلة المعرفة في مجالات معينة، بالأوضاع السائدة على الساحة الأكاديمية، قبل تحقيق تلك الإنجازات العلمية الثورية. كما أن تأثيرها على كان جذرياً على ممارسة الأنشطة المعرفية، على المستوى الفردي، وكذلك على مستوى الأنشطة الممارسة في إطار المؤسسات الأكاديمية.

جاءت أفكار توماس كوهن T. Kuhn، في سياق مشابه، من خلال ربط علاقة منطقية بين العلم العادي، الأزمات المعرفية المترتبة عن الأسئلة غير الاعتيادية، والثورة العلمية كأحد مخرجات هذه الأزمة. ويُعرف كوهن في هذا الصدد العلم العادي، على أنه "ذلك البحث المؤسس بصورة راسخة، على واحد أو أكثر من الإنجازات العلمية السابقة، التي يعتبرها متحد علمي ما، الأساس لممارسته العلمية اللاحقة". بتعبير آخر فإن العلم العادي هو مجموع المعارف السائدة، التي تستند عليها الممارسات العلمية، التي تستهدف الإجابة على الإشكاليات المطروحة حول الظواهر موضوع البحث. كما يرتبط النطاق الزمني لهذه المعارف، بفترة زمنية محددة بإنجازات علمية، تُشكل معلماً تاريخياً لبدايتها، مثل الأعمال العلمية لكل من لغاليليو غاليللي G. Galilei  (1564-1642)، وإسحاق نيوتن I. Newton  (1642-1727).

يبدأ مسار الأزمة المعرفية من نقطة بداية أية نموذج معرفي أو الباراديغم Paradigm، حيث يتم تقليص خيارات أعضاء المجتمع العلمي، ويتم بذلك تقليص حريتهم في التطرق إلى مجالات جديدة. ويعتبر توماس كوهن أن "وضع باراديغمات جديدة، تؤدي إلى تقييد كبير لرؤية العالم، وإلى مقاومة كبيرة لتغيير الباراديغم، وبذلك يصير العلم جامداً بشكل متزايد". وإصابة العلم بالجمود يعني فقدانه للقدرة على التأقلم مع المستجدات والإشكاليات المعرفية الجديدة، أي عجز النماذج الإرشادية التقليدية، والأطر النظرية والمفاهيمية السائدة، عن تقديم إجابات مقبولة، للأسئلة الجديدة المطروحة. وهو ما يضع المجتمع العلمي، أمام حتمية البحث عن بدائل معرفية أكثر ملاءمة، وهذا التوجه هو ما يُشير إلى مسار مستمر، قد ينتهي -مؤقتاً- إلى التوصل إلى أطر نظرية ومعرفية جديدة.

تواجه النظريات العلمية حسب توماس كوهن، مشكلة أساسية تتكرر بشكل دوري، تتمثل في عدم قدرتها على التعامل مع الظواهر المدروسة، وقد استشهد على هذا الوضع بمجموعة من الحالات، في تطور علم الفلك، الفيزياء وكذلك الكيمياء. حيث لا يُمكن للمبادئ المعتمدة في مجال معرفي معين، أن تواصل وظيفتها كأساس للمعرفة، وبالتالي الإجابة على الإشكاليات المطروحة، خاصةً بعد بداية التشكيك في قدرتها على ذلك. ويعتبر كوهن أن هذه المشكلات هي خاصية متضمنة في البراديغمات منذ نشأتها، حيث تبقى قادرة جزئياً فقط على آداء وظيفتها المعرفية. ويعتبر كوهن أن القدرة الجزئية على حل المشكلات المعرفية كان متوقعاً، غير أنه في ظل غياب أزمة معرفية، فقد تم "تجاهل" هذا الوضع. وعليه يُمكن القول -بتحفظ-، أن كل باراديغم يحمل في طياته بذور الأزمة المعرفية الخاصة به، حيث تتحول الإشكاليات المعرفية المقبولة من طرف العلماء، لتأخذ صورة الأزمة التي تتطلب حلولاَ جذرية.  

تدخل المعرفة مرحلتها الأخيرة، من خلال البحث عن بدائل معرفية لتلك القائمة، والتي لم تعد قادرة على توفير الأساس المناسب، لحل الإشكاليات المعرفية، أو ما يطلق عليه توماس كوهن وصف الأحجيات، أو بتعبير آخر الألغاز. فالأزمة المعرفية لا تعني الإطاحة الآلية بالنماذج القائمة، بل يتطلب الوضع التوصل إلى أطر نظرية قادرة على أن تحل محلها، وبالتالي التوصل إلى إحداث القطيعة. ويعتبر كوهن أن "عملية الانتقال من براديغم مأزوم إلى براديغم جديد، يكون منشأ لتقليد جديد لعلم عادي، هي أبعد ما تكون من عملية تراكمية...والأصح هو القول بأنها إعادة بناء الحقل من أسس جديدة، وهي إعادة البناء التي تغير بعضاً من أهم التعميمات النظرية الابتدائية للحقل، فضلاً عن عدد كبير من طرائق البراديغم وتطبيقاته".

ويُفهم من ذلك أن أسساً جديدة لحل الإشكاليات المعرفية، يتم إقرارها من خلال اعتماد البراديغم الجديد، وبتعبير آخر التأسيس لعلم عادي جديد، يبقى معتمداً بشكل مستمر، إلى غاية ظهور الأزمة المعرفية التالية. وينتج عن هذا الافتراض نتيجتين أساسيتين:

-          اعتبار أن التحول من براديغم إلى آخر، لا يتماشى مع النمط التراكمي، بل وفق نمط ثوري، تحدث بموجبه القطيعة مع أغلب الأطر النظرية والمعرفية القائمة.

-          اعتبار أن مسار التحول المعرفي، أو بتعبير أدق القطيعة المعرفية، يكون ذو اتجاه دائري وليس خطي، كما تُشير إليه افتراضات اتجاه التراكم. فالثورة المعرفية هي حدث دوري على الساحة المعرفية، تتكرر بشكل شبه حتمي، بسبب حتمية الأسباب المؤدية إليها، وهي عدم الانسجام بين المعرفة القائمة، والأوضاع القائمة فعلاً في بيئة محددة. ويتعزز ذلك مع التغيرات المختلفة التي تشهدها بيئة ما، سياسياً، أيديولوجياً وثقافياً، إضافةً إلى التغيرات الاجتماعية المختلفة، بحيث تجتمع هذه العوامل، لإعادة النظر في مصداقية المخرجات التي توصلت إليها الأبحاث والأنشطة المعرفية بشكل عام.

2.       التراكم كنمط لتطور المعرفة:  

يعتبر هذا الاتجاه أن المعرفة تتطور وفق مسار خطي، لا مكان فيه للثورة أو القطيعة الابستمولوجية، على الأقل وفق نفس أسلوب اتجاه القطيعة/اللااستمرارية. فالإنجازات العلمية الثورية، التي أسس باشلار عليها تصوراته حول القطيعة الابستمولوجية، تشكل في ذاتها مؤشراً على استمرارية المعرفة. وقد تكرس هذه التصور مع أعمال أوجيست كونت A. Comte (1798-1857) حول تاريخ المعرفة، من خلال ما يُعرف باسم قون الحالات الثلاث التي اتخذتها المعرفة، إضافةً إلى الافتراض حول رفض إطلاقية المعرفة، في مقابل القول بنسبيتها.

يعتبر كونت أن المعرفة في مسار تطورها، قد مرت بثلاث حالات أساسية، تُعرف الأولى بالمرحلة أو الحالة اللاهوتية Theological، بينما تُعرف الثانية بالحالة الميتافيزيقية Metaphysical ، أما الأخيرة فهي الحالة العلمية أو بتعبير كونت الحالة الوضعيةPositive . ففي الحالة الأولى تستند المعرفة إلى التفسيرات الغيبية، حيث يميل الإنسان إلى تفسير الإنسان لكل الظواهر، بردها إلى أسباب وعوامل خارقة عن الطبيعة. وهو ما يعني أن الظواهر محل محاولة التفسير، هي من صنع قوى إلهية قادرة على تشكيل الظواهر المختلفة، وهو ما تتضمنه التفسيرات الدينية (الوثنية والتوحيدية). ويتم الاعتماد في هذه الحالة لا تعتمد على الإثبات العلمي، بل تعتمد بشكل أساسي على الإيمان، والذي يُشكل أساساً وحيداً للتسليم بصحة المعرفة.

أما فيما يتعلق بالحالة الميتافيزيقية، فقد حافظت المعرفة على نفس النمط اللاهوتي مع تعديل طفيف، فبدل الاعتماد على القوى الإلهية، يتم الافتراض بوجود قوى مجردة غير قابلة للإدراك المادي، من أجل تفسير الظواهر. وينطبق ذلك على محاولة الإجابة على الأسئلة، التي طرحها الفلاسفة حول الوجود، مثل الكوجيتو الديكارتي، وكذلك البراهين العقلية المجردة، التي تستند عليها بعض العقائد الدينية، خاصةً تلك التي لا تعتمد على النصوص المقدسة. والملاحظ أن الانتقال من الطابع اللاهوتي إلى الميتافيزيقي، لم يتم من خلال نمط ثوري، بل يُمكن اعتبار أن الحالة الثانية على أنها استمرار نسبي للحالة الثانية، حيث بقي الطابع الماورائي مسيطراً على المعرفة.

وأخيراً تُشكل الحالة الوضعية المرحلة الأخيرة، في مسار تطور المعرفة حست تصور أوجيست كونت، أين يتم اللجوء إلى أساليب معرفية مختلفة لتفسير الظواهر. حيث يكتفي في هذا المستوى بالمعرفة النسبية، أي معرفة الظواهر وعلاقتها ببعضها البعض، مع رفض تجريدات الميتافيزيقا، وبعلاقة متعدية التفسيرات الدينية. وتفضي المرحلة الأخيرة، أى رفض الادعاءات بإطلاقية المعرفة، أي أن كل تفسير مهما كانت درجة دقته، واحترامه لشروط وقواعد المعرفة العلمية، يبقى ذو قدر محدود من اليقين والقابلية للتعميم. ويعني ذلك عدم القدرة على إحداث تغيير جذري، يُمكن وصفه بالقطيعة الابستمولوجية أو الثورة المعرفية.    

ويعتبر بول فيرابند P. Feyerabend (1924-1994) في سياق مشابه، أن كل معرفة متوصل إليها، يُمكن أن تكون عرضة للانتقاد أو حتى التفنيد. غير أنها مع ذلك يجب أن تبقى موجودة باستمرار على الساحة المعرفية. فإصلاح النظريات العلمية تبقى إمكانية قائمة، حتى في حال تعارضها مع البراهين العلمية، ومع طول المدة الزمنية التي يتطلبها ذلك. وقد يبدو موقف فيرابند رغباتياً، أكثر من كونه معبراً عن مسار تطور المعرفة، فغياب الأحكام المطلقة حول صحة/خطأ، يجعل من غير الممكن الحكم بشكل قطعي بخطأ النظريات حتى تلك التي تم تفنيد فرضياتها الأساسية، من خلال بحوث علمية لاحقة.

غير أن تصور فيرابند، جاء كتلخيص لوضع هذا النوع من النظريات، والتي لطالما اعتبرت خاطئة، ولا يُمكن الاعتماد عليها، في الإجابة على الإشكاليات والأسئلة المطروحة على الساحة الأكاديمية. ويعتبر في هذا الصدد، أن بعض النظريات العلمية، التي يمتد وجودها منذ العصر اليوناني، تعرضت لانتقادات شديدة، سواءً من طرف الفلاسفة القدماء، أو من طرف العلماء المعاصرين، لكنها مع ذلك شكلت أحد المبادئ الأساسية، التي اعتمدت عليها إنجازات علمية في مراحل لاحقة، من مسارات تطور المعرفة. وبذلك فإن فيرابند يضع تصوراته حول المعرفة، ضمن الأفكار القائلة بعدم وجود إمكانية للقطيعة المعرفية، حتى في حالة حدوث إنجازات علمية ذات تأثير جذري

تبقى النظريات العلمية محل جدل مستمر، حول ما إذا كانت تحل محل بعضها البعض، أو تساهم مع بعضها في بناء تراث معرفي مستمر. ويتأسس هذا الجدل على الزاوية التي يُنظر من خلالها إلى النظريات العلمية، وإلى المعرفة بشكل عام. فقد تشكلت هذه الأخيرة من المجالات التطبيقية البحتة، حيث تعتمد الأنشطة العلمية على تقنيات، تسمح بزيادة درجة يقينية النتائج المتوصل إليها. كما أن المعرفة تشكلت أيضاً، من مجالات معرفية ذات درجة عالية من الشك والمرونة، فيما يتعلق بقطعية النتائج المتوصل إليها من جهة، وغياب القدرة على حسم النقاش حول المواضيع المدروسة. وانطلاقاً من ذلك يُمكن القول -بتحفظ-، أن كلاً من لاتجاهين ينظر إلى المعرفة من منظور فعلي، لكنه مع ذلك يُحاول تعميم زاوية نظر جزئية، لتشمل المعرفة بكل حقولها التقنية/التطبيقية منها، وكذلك الإنسانية والاجتماعية.   

خاتـمــــــــة:

يُفهم من مصطلح النظرية Theory\Théorie، على أنها إحدى وسائل التفسير والتنبؤ، المستخدمة في مجالات معرفية متعددة، كشرط لضمان العلمية على مخرجات الأنشطة المعرفية، في مواجهة التخمين والمعرفة الحدسية. غير أنه تجدر الملاحظة إلى أن هذا المفهوم يتخذ صوراً متعددة، في مجالات معرفية مختلفة، تتعدد بموجب ذلك درجات اليقينية، والقدرة التفسيرية لتلك النظريات. فقد توصلت مجالات العلوم والتكنولوجيا، إلى نظرياتها عبر طرق محددة للإثبات العلمي، وتفنيد الافتراضات العلمية المعارضة، بحيث تستقر كعلم عادي -وفق تعريف توماس كوهن-، إلى غاية حدوث أزمات معرفية جديدة، وبالتالي التوصل إلى نظريات وبراديغمات جديدة.

وفي مقابل ذلك تتميز العلوم الاجتماعية، بدرجة عالية من المرونة الابتسمولوجية، حيث لا تخضع النظريات العلمية لنفس مسارات الإثبات العلمي، بل لمحاولات تعزيز المكانة المعرفية لافتراضات منطقية. وتغيب في هذا السياق إمكانيات ذات أهمية، لحسم الجدل بشكل قاطع، أو حتى التوصل إلى درجة مقبولة من التعميم، بالتالي تغيب الخصائص التقليدية للنظرية العلمية. وينطبق ذلك بدرجة كبيرة على النظرية في حقل العلاقات الدولية، حيث بدأت كنظريات تأملية، تعتمد المناهج الفلسفية، قبل أن تتأثر بالثورة السلوكية لتتحول شيئاً فشيئاً إلى محاكاة مناهج البحث في المجالات الأخرى.


Modifié le: lundi 28 avril 2025, 16:49