التيار الفلسفي في الفكر السياسي الإسلامي: نموذج الفارابي

الاتجاه الفلسفي في الفكر السياسي الإسلامي: نموذج أبو النصر الفارابي

تمهيــــــــد:

لم يبدأ الفكر السياسي الإسلامي كليةً من العدم، فهو كغيره من مدارس الفكر السياسي الإنساني، لم يتأسس استناداً إلى مبدأ القطيعة المعرفية، بل على العكس من ذلك قام على التراكم المعرفي. فقد استقى الكثير من المبادئ، من استعارة المبادئ الفكرية، التي انتهت إليها الحضارات السابقة، وعلى رأسها مدارس الفكر السياسي اليوناني، وبدرجة أق الفكر السياسي الروماني. وقد اعتمد في ذلك، على حركة الترجمة التي عرفت أوجها خلال العصر العباسي، ونتج عنها انفتاح المجتمع الإسلامي، على الكثير من العلوم والمعارف، ومنها الطب، علم الفلك، الرياضيات والكيمياء، وكذلك مختلف المباحث الفلسفية، إضافةً إلى علم السياسة والفكر السياسي.

 ونتيجة للاحتكاك الفكري بين المسلمين، والإنتاج العلمي والفلسفي للحضارات الأخرى، في مختلف المعارف الاجتماعية، فقد تأسس اتجاه في الفكر السياسي الإسلامي، يتخذ من الفكر السياسي القديم، مرجعية فكرية له. ويُعرف هذا الاتجاه بالتيار الفلسفي، والذي استند على العقل كوسيلة أساسية في تحصيل المعرفة، مع البقاء ضمن الحدود التي ترسمها المعتقدات الدينية الإسلامية. لذلك يُمكن بسهولة ملاحظة، انعكاس وامتداد الكثير من أفكار أفلاطون وأرسطو، في الفكر السياسي الإسلامي، وبشكل خاص في أفكار رائدي الاتجاه الفلسفي، أبو النصر الفارابي، وأبو الوليد بن رشد.

غير أنه في المقابل، ورغم أهمية تأثر رواد الاتجاه الفلسفي، بالتراث الفكري اليوناني القديم، إلا أن هذا الاتجاه، قد خضع أيضاً، لمؤثرات البيئة السياسية والاجتماعية المحيطة. فقد جاءت أفكار كل من الفارابي، في المشرق العربي (بغداد ثم دمشق)، وابن رشد في الأندلس، في ظل حالة من تفكك الحكم، وضعف السلطة المركزية للدولة الإسلامية، إضافةً إلى انتشار الفساد على المستويين الأخلاقي الاجتماعي، أو حتى على مستوى الممارسة السياسية. وينطبق ذلك على قطبي العالم الإسلامي، سواءً تعلق الأمر بالدولة العباسية، أو الدولة الأموية في الأندلس، التي انتقلت من مرحلة البناء السياسي، إلى حالة من الإفراط في الرفاهية والانحلال القيمي.   

ساهم أبو النصر الفارابي (874م/260ه-950م/339ه)، في ربط الاتصال بين المجتمع الإسلامي، مع المدارس الفلسفية اليونانية، وبشكل خاص أفلاطون وأرسطو. لذلك يعتبر بعض مؤرخي الفلسفة، أنه من المسلم به "أن الفارابي يستحق الاعتراف بأنه أول من أدخل الفلسفة السياسية إلى الثقافة الإسلامية، وأن ابن سينا وابن رشدن قد تعرفا على وجهتيهما عن طريقه، بقدر ما عرفاها عن طريق أفلاطون وأرسطو". ويُفهم من ذلك، أن الفارابي هو بمثابة المؤسس الحقيقي، للاتجاه الفلسفي في الفكر السياسي الإسلامي، حيث مارس نفس التأثير، الذي مارسه كل من أفلاطون وأرسطو. ويُمكن التعرف على أهمية هذا التأثير، بإدراك الموقف العام من الاحتكاك بالفلسفة اليونانية، وبشكل عام، مختلف المجالات المعرفية، ذات المصادر غير الإسلامية، غير المستنبطة مباشرةً، من القرآن والسنة النبوية. فقد ساد الاعتقاد أن هذين الأخيرين، يُغنيان عن أي مصدر آخر للمعرفة، باعتبارهما يتضمنان كل مقومات سياسة المجتمع، من التشريع، واسس العلاقات الاجتماعية بمختلف أوجهها، بما في ذلك التفاعلات السياسية.

ينتمي أبو النصر الفارابي -حسب التصنيفات الشائعة-، إلى المدرسة الفلسفية، المعروف باسم الأفلاطونية الجديدة Neoplatonism، التي تأسست على يد الفيلسوف اليوناني أفلوطين Plotinus (205-270). وهذا لا يعني بالضرورة، أن الفارابي، قد تبنى كل أفكار أفلاطون، حيث أن هذه المدرسة ذاتها، لم تكن قد أخذت كل الأفكار الفلسفية -والسياسية- المعروفة عن أفلاطون، في مختلف المباحث الفلسفية. بل أن بعض التصورات، تعتبر أن الأفلاطونية الجديدة، هي تحريف كبير لفلسفة أفلاطون، لذلك فقد اُعتبر هذا التيار، على أنه "ابن غير شرعي" لفلسفة أفلاطون، ويُمكن حتى اعتبارها تحريف لهذه الفلسفة. وانطلاقاً من ذلك، تجدر الإشارة، إلا أن انتماء الفارابي لمدرسة الأفلاطونية الجديدة، يعني بشكل أصح، تبنيه لبعض أفكار الفيلسوف أفلوطين، ويظهر ذلك من خلال اعتماده على مبدأ "الفيض"، كأساس لتفسير الظواهر.

1.    نظرية الفيض: أو تفسير أصل الموجودات:

تُشكل نظرية الفيض Emanation أو Emanare (باللغة اللاتينية)، أهم مظاهر الاقتباس، الذي مارسه أبو النصر الفارابي، من الفلسفة اليونانية. فقد نُسب هذا المبدأ للعديد من فلاسفة اليونان، على رأسهم فيثاغورث Pythagor (580 ق.م-480 ق.م)، وكذلك أفلاطون، غير أن هذه النظرية عرفت صياغةً أوضح، مع الفيلسوف أفلوطين Plotinus. ويرتبط المبدأ العام لهذه النظرية، بمحاولات إيجاد تفسير عقلاني للوجود، بديل للتفسيرات السائدة منذ العصور القديمة، ذات الطابع الخرافي/الأسطوري، أو حتى ديني وثني. وهي الأفكار التي لم تعد توفر تفسيرات مقبولة، بسبب تطور المعارف العقلية، أو حتى بتأثير قد مارسته الديانات السماوية، خاصةً مع ظهور المسيحية.

تُشير نظرية الفيض، وفق تصور أفلوطين، إلى أن الموجودات كلها، تنبثق عن أصل واحد يتصف بالكمال، ولم يُشر الفيلسوف إلى ماهية هذا الأصل، رغم أن الكثير من التفسيرات، تُشير إلى أن أفلوطين إنما يقصد به الله الواحد. ويقول الفيلسوف في هذا الصدد "إن الواحد هو الأشياء كلها، ثم إنه ليس شيئاً من الأشياءً، فإن أصل الأشياء ليس بالأشياء كلها، بل إن هذه الأشياء بما هو عليه في الملأ الأعلى...ذلك أن الواحد ما دام كاملاً...فإنه يفيض، وهو فيضانه الذي يُبدع عنه شيئا يختلف عنه".  

ويُفهم من ذلك، أن الأشياء أو الموجودات، لا تصدر عن بعضها البعض، بل تبثق عن واحد كامل، فلا تأخذ عنه صفاته التي يختص بها، بل تأخذ خصائص مختلفة تماماً عنه. كما أن الموجودات الصادرة عن الواحد الكامل، لا تنبثق عنه في شكل متعدد، بل أن أفلوطين يعتبر أو الواحد الأول، يصدر عنه واحد آخر، وهو ما ورد في الاقتباس السابق، فيعتبر أن فيض الواحد "يُبدع عنه شيئا يختلف عنه". وفقد جاءت هذه الفكرة، لنقد التفسيرات المادية أو الإلحادية للوجود، التي يُعتبر من خلالها هذا الأخير أزلي، لم تتدخل أية قوة خارجية في تشكيله. غير أنها في نفس الوقت، قد أدت إلى تعويض فعل الخلق، الذي يُنسب إلى الله في النصوص الدينية (الديانات السماوية)، بحالة الفيض أو صدور الموجودات عن الخالق.

ورغم اشتراك نظرية الفيض، مع العقائد الدينية السماوية (اليهودية والإسلام، وبدرجة ما المسيحية)، إلا أن الاختلاف الجوهري بين التصورين، يظهر في الكيفية التي يتم وفقها تشكيل الموجودات. فالديانات السماوية الثلاث، لا تعتقد بالتدرج في تشكيل الوجود، سواءً عن طريق الخلق، أو حتى -تجاوزاً للجدل- عن طريق الفيض. بل تعتبر أن الله تعالى، خلق الموجودات دفعة واحدة، أي أن الواحد الكامل، قد انبثقت منه عن طريق الخلق، كل المخلوقات المادية والروحية، في حالتها المتعددة، عكس ما ذهبت إليه نظرية الفيض، التي تعتبر أن الواحد يفيض عنه واحد وهو العقل.  

حاول أبو النصر الفارابي -في المقابل-، جعل نظرية الفيض أكثر تماشياً مع العقيدة الإسلامية، بالنظر إلى الحساسية الشديدة، التي قوبلت بها ترجمة التراث الفلسفي اليوناني، واقتباسات الفلاسفة المسلمين من الأعمال الفلسفية اليونانية. لذلك فقد أخذت نظرية الفيض، طابعاً أكثر وضوحاً في فلسفة الفارابي، وهو ما طرحه من خلال مؤلفه "آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها". فقد ظهر الواحد الأول، الذي أرجع أفلوطين إليه كل الموجودات، مطابقاً بشكل تام لله الخالق، في فلسفة الفارابي، والذي خصص جزءً مهماً من كتابة، للتأكيد على صفات الله تعالى، تماماً كما نصت عليها النصوص الأساسية للدين الإسلامي (القرآن والسنة الشريفة).

ينطلق الفارابي من نفس منطلقات أفلوطين، في تصوراته حول تشكيل الوجود، فهو بدوره لا يتحدث عن خلق الموجودات، كما هو معروف في إطار العقيدة، بل أن الموجودات صدرت أو فاضت عن الواحد. ويقول الفارابي في هذا الصدد أنه "يفيض من الأول وجود الثاني، فهذا الثاني هو أيضًا جوهر غير متجسم أصلًا، ولا هو في مادة، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول، وليس ما يعقل من ذاته هو شيء غير ذاته، فبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثالث". أي أن أصل الموجودات هو الله، الذي يبثق عنه وجود آخر، ذو طبيعة غير مادية، وهو عقل مدرك لذاته وقبل ذلك مدرك لوجود الله، ويتكرر هذا الفيض بالتدرج، لينتج عنه موجودات غير حسية أخرى، كل منها مدرك لذاته ولسابقيه.

انطلاقاً من ذلك، فإنه وفقاً لتصور الفارابي، فإن الله باعتباره الموجود الأول ذو الكمال المطلق، تفيض منه الموجودات الإحدى عشر (11)، والتي يُطلق على كل منها وصف العقل. تتميز بكونها موجودات غير مادية، مُدركة لذاتها ولغيرها، تنبثق عنها الأفلاك السماوية، ابتداءً من المشتري وصولاً إلى القمر، والذي يُشكل حدود هذه المرحلة من الفيض. وهذه المجموعة الأولى من الموجودات، منبثقة مباشرة وتدريجياً من الله، لذلك يعتبرها الفارابي أنها قد "حصلت لها في كمالاتها الأفضل في جواهرها منذ أول الأمر". فصدورها المباشر من الذات الإلهية، جعلها على أكمل صورة يُمكن أن تصل إليها الموجودات، لكنها في نفس الوقت لا تتميز بالكمال المطلق الذي يبقى صفة إلهية حصرية.

تأتي بعد تشكيل الأفلاك السماوية، مرحلة صدور بقية الموجودات المادية والملموسة، والتي تنشأ عما يُطلق عليه الفارابي اسم "الأسطقسات"، وهي كلمة مشتقة من اللغة اليونانية، ويتضمن مفردها -أي اسطقس- معنى "الأصل". فهذه المكونات تنبثق عنها مختلف المخلوقات الحيوانية والنباتية، وكذلك المواد المعدنية والجمادات، وهذه "الأسطقسات" هي: النار، الهواء، الماء، الأرض (أو التراب). لينتهي المسار النهائي للفيض في تصور الفارابي، إلى وجود كل من المخلوقات غير الناطقة (الحيوانات)، والمخلوقات الناطقة (الإنسان). فهذا الأخير يتميز بالقدرة على التفكير العقلي (المنطقي)، إضافةً إلى طابعه المدني والاجتماعي، حيث ينزع للعيش مع غيره، ضمن جماعات منظمة.

تطرح الكثير من القراءات، التساؤل حول سبب الحديث عن مسألة الفيض، وتفسير أصل الموجودات، ضمن الفكر السياسي للفارابي، علماً أنها مسألة فلسفية، أو حتى عقائدية محضة. غير أن إجراء قراءة لكتب الفارابي، وعلى رأسها آراء أهل المدينة الفاضلة، وكتاب السياسة المدنية، تُساعد على ملاحظة التدرج، من تفسير الوجود، وصولاً الحديث عن الإنسان، وخاصية الحياة الاجتماعية والمدنية، التي يتميز بها عن غيره من المخلوقات. لذلك ينتقل الفارابي مباشرة، نحو الحديث عن الحياة المدنية، وأنواع المدن، ومختلف الأحكام المتعلقة بالرئاسة أو السلطة، باعتبارها جزءً من الفيض. حيث أن وجود الإنسان، أدى بدوره إلى وجود مختلف الظواهر السياسية، والتي تُعتبر فيضاً أو صدوراً عن الوجود الإنساني، وهو ما تطرق إليه الفارابي في تصوراته السياسية.    

ومن جهة أخرى، فإن المبدأ العام المتضمن في نظرية الفيض، سيتكرر في العديد من المواضع، ضمن البناء الفكر لتصورات الفارابي، حول الجماعات الإنسانية، وكذلك أصناف المدن. كما سيظهر في أفكاره حول صفات الرئيس الأول، وكيفيات تمتعه بهذا الموقع، وكذلك الطريقة التي يمكنه من خلالها، اكتساب المعرفة الحقيقية، التي تؤهله دون غيره لممارسة السلطة، في إطار المدينة الفاضلة. أي أن نظرية الفيض، ليست نظريةً لتفسير أصل الموجودات فحسب، بل هي تفسير لأسلوب ممارسة السلطة في نظر الفارابي، إضافةً إلى كونها نظرية للمعرفة.

2.    صور الجماعات في تصور الفارابي:

يتميز الإنسان بكونه حيوان اجتماعي، لا يُمكنه التواجد خارج نظام اجتماعي محدد، كوسيلة من أجل تلبية الحاجات الطبيعية، وكذلك الاجتماعية المختلفة. وينتج ذلك بشكل مباشر، عن عدم تمتع الإنسان، بدرجة عالية من الكمال من جهة، وبفضل قدراته العقلية المميزة له، باعتباره حيوان ناطق من جهة ثانية. ويعتبر الفارابي أن "الإنسان، من الأنواع التي لا يُمكن أن يتم لها الضروري من أمورها، ولا تنال الأفضل من أحوالها، إلا باجتماع جماعات منها كثيرة في مسكن واحد". فالحياة الاجتماعية، هي أكمل صورة ممكنة للوجود الإنساني، بحيث لا يُمكن الوصول إلى هذه الصورة، بالفردانية والعزلة عن الغير. وتتجسد الحياة الاجتماعية، التي تحدث عنها الفارابي، في كيانات أطلق عليها اسم الجماعات، والتي تنقسم إلى صنفين مختلفين، هما:

أ‌.  الجماعات الكاملة:

تتدرج هذه الجماعات من حيث الحجم، ابتداءً من المدينة، أو الدولة بالمفهوم الحديث، لتصل إلى أكبر هذه الجماعات، التي تصل إلى أقصى اتساع لها جغرافياً. وهذه الجماعات هي:

-      الجماعة العظمى: تتكون من مجموعة كبيرة من الأمم، تجتمع وتتعاون فيما بينها، حيث يُمكن لها مجتمعةً أن تغطي كل المعمورة، وتضم مختلف الشعوب، على تنوع لغاتها، ودياناتها. 

-      الجماعة الوسطى: وتكون أقل من حيث الاتساع الجغرافي، والتعداد السكاني من الأولى، حيث يصفها الفارابي عن أنها "الأمة"، وهو ما يعني ضرورة وجود حدٍ أدنى، من الانسجام بين أعضائها، ووجود رابط أساسي يجمعهم، مثل الدين، اللغة...إلخ.

-      الجماعة الصغرى: ويُقصد بها المدينة، أو الدولة بالمفهوم الحديث، ويعتبرها الفارابي "أول مراتب الكمالات"، على اعتبار أن مسار تشكيل هذه الجماعات، يبدأ من الدولة أو المدينة، ثم يصل في المرحلة الأخيرة إلى الجماعة العظمى.

ب‌.  الجماعات الناقصة:

يندرج ضمن هذا المجموعة، كل أصناف الجماعات الأصغر، المفتقدة لخصائص المدينة، ويعرفها الفارابي على أنها "اجتماع أهل القرية، واجتماع أهل المحلَّة، ثم اجتماع في سكَّة، ثم اجتماع في منزل. وأصغرها المنزل، والمحلَّة والقرية هما جميعًا لأهل المدينة، إلَّا أن القرية للمدينة على أنها خادمة للمدينة، والمحلَّة للمدينة على أنها جزؤها، والسكَّة جزء المحلَّة، والمنزل جزء السكَّة". ويُمكن وصف هذه الجماعات، على أنها الكيانات ما قبل الدولة، بالتعبير السياسي الحديث، حيث أنها تجمعات سكانية، لم تصل بعد إلى تشكيل المدينة أو الدولة. حيث تسود على مستواها علاقات اجتماعية، مفتقدة للطابع السياسي، حيث تغيب فيها آليات الضبط والقهر المشروع، مثل السلطة السياسية.

يُحيل الحديث عن مختلف أنواع الجماعات، إلى الافتراض بأنه لا يُمكن للجماعة، أن تكون على مستوى من الكمال، إذا كانت أقل من المدينة. أي أن هذه الأخيرة، هي المحطة الأولى في مسار الجماعات الكاملة، وضمنها فقط يُمكن للإنسان، الوصول إلى الحياة الخيرة والفاضلة. غير أن هذا لا يكون نتيجة آلية، بالنسبة لكل حالات المدن، فهي قد تفضي إلى نتيجة متباينتين، اعتماداً على القصد العام لأعضائها. ونتيجةً لذلك يُميز الفارابي بين صنفين للمدينة، تتميز الأولى بالقصد نحو الخير والتعاون، ويُطلق عليه اسم المدينة الفاضلة، وتُقابلها المدينة من حيث القصد والخصائص، المدينة الضالة أو غير الفاضلة.

3.    المدينة في تصور الفارابي: المدينة كجماعة كاملة:

يتوقف تصنيف المدن -كما سبقت الإشارة إليه-، على الهدف الذي يتبناه أعضاء المدينة ككل، والذي يكون إما الوصول إلى السعادة المشتركة، ويُقابل ذلك، سيادة الأنانية وحب السيطرة على الغير. وبناءً على ذلك، فإن الفارابي لا يُصنف المدن، بناءً على سلوك السلطة السياسية، مثلما كان عليه الحال مع أفلاطون وأرسطو، رغم أنه قد تبنى الكثير أفكارهما، كأساس لفلسفته. فالفكر السياسي اليوناني في العصر الكلاسيكي، يعتبر أن المدن يُمكن أن تكون فاسدةً أو صالحة، بناءً على توجهات السلطة السياسية.

فهذه الأخيرة، يُمكن أن تُمارس بناءً على تنازع قيمتين متعارضتين، وهما الخير العام (المصلحة العامة)، المستند على الحكم الدستوري، في مقابل الخير الخاص (المصلحة الخاصة)، المستند على الإرادة المنفردة للحاكم. أما بالنظر إلى القيم التي تتأسس عليها العلاقات الاجتماعية، فإن التصنيف لا يقتصر على النظم السياسية، بل يشمل المدينة ككل. وبناءً على ذلك، خصص الفارابي حيزاً مهماً من فكره السياسية، للحديث عن المدينة الفاضلة، والمدن المضادة لها، والمندرجة تحت عنوان المدن الجاهلة أو الضالة.

المدينة الفاضلة: الأسس والخصائص:

تتصف المدينة الفاضلة حسب الفارابي، بالكمال مقارنة مع غيرها من الجماعات غير الكاملة، كما أنها تعكس قيم أخلاقية، وأنماط تفاعل اجتماعي خاصة. ويُعبر الفارابي عن خصائص هذه المدينة، بطريقة أقرب إلى المنهج الأرسطي، حيث يصفها بأنها "تشبه البدن التامَّ الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلُّها على تتميم حياة الحيوان، وعلى حفظها عليه، وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى... وكذلك المدينة، أجزاؤها مختلفة الفطرة، متفاضلة الهيئات". فالمبادئ التي تحكم التفاعلات الاجتماعية، داخل المدينة الفاضلة، هي:

التعاون على تحقيق الهدف الأسمى: حيث تتظافر جهود أعضاء المدينة، للوصول إلى الهدف المشترك، المتمثل في الوصول إلى أكمل صور الحياة الاجتماعية، والإبقاء عليها كإطار للعيش المشترك.

التكامل بين عناصر متمايزة: تضم المدينة الفاضلة في عضويتها، أفراد متمايزين من حيث الخصائص، المادية منها وغير المادية، وهو ما يجعل العلاقات الاجتماعية ضمن هذه المدينة، قائمة على التكامل بين الأعضاء، وليس على الأنانية والتنافس.

وتماشياً مع ذلك، يعتبر الفارابي أن فضيلة المدينة، لا يتوقف عند حدودها الضيقة، بل يُمكن أن توسيع تجسيد نفس المبدأ، ليشمل كل أشكال الجماعات الأخرى، صعوداً نحو الجماعة العظمى. ويرى أن "المدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة في الحقيقة، هي المدينة الفاضلة، والاجتماع الذي به يُتعاون على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل، والأمة التي تتعاون مدنها كلُّها على ما تنال به السعادة هي الأمة الفاضلة، وكذلك المعمورة الفاضلة إنما تكون إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة". والملاحظ في مفهوم السعادة المستعمل في هذا الصدد، أنه يتميز بالعمومية والتجريد، حيث لا يُمكن التفريق بين المعاني الممكنة، التي يتضمنها هذا المفهوم.

ونلاحظ في هذا السياق أن الفارابي، قد استعمل في الكثير من مؤلفاته، لفظ السعادة وأعطاها معنى، أقرب إلى المعاني الصوفية والروحانية، لكنه في مواضع أخرى، أعطاها معاني تُشبه إلى حد كبير أفكار أرسطو، حول الخير العام. وقد استعمل هذا المعنى في تعريفه للمدينة الفاضلة، والتي اعتبرها على أنها "هي التي يتعاون أهلها على بلوغ أفضل الأشياء، التي يكون بها وجود الإنسان، وقوامه، وعيشه، وحفظ حياته". وبذلك فإن الفارابي ينقل مفهوم السعادة، كأساس لتعريف المدينة الفاضلة، من المعنى المجرد إلى معنى آخر أكثر تجسيداً، من خلال صور عملية، ترتبط بحياة الفرد والجماعة.

يُفهم من ذلك، أن المدينة الفاضلة في الفكر السياسي للفارابي، لا تتميز بنفس خصائص المدينة المثالية، في أفكار أفلاطون وأرسطو. فهي ليست مخطط يُرجى تنفيذه، سواءً بصيغته المثالية -الأفلاطونية-، أو الواقعية -الأرسطية-. فهي حسب ما ورد في التصورات السياسية للفارابي، أقرب إلى نموذج ممكن من العلاقات الاجتماعية، بين أفراد المدينة، تستند إلى قيم التعاون والتكامل، من أجل تحقيق الأهداف والغايات المشتركة. وقد يكون ذلك بسبب الأوضاع السياسية، الاجتماعية والقيمية، السائدة في المجتمع الإسلامي، خلال الفترة التي عاصرها الفارابي، وتشكلت بتأثير منها أفكاره السياسية.

تتضمن المدينة الفاضلة تراتبية اجتماعية (نظام اجتماعي)، تنعكس من خلاله نظرية الفيض، حيث يتم بموجب ذلك، ترتيب أعضاء المدينة، بما يشبه التدرج الموجود في عالم الوجود. ويتمثل المبدأ العام لهذه التراتبية، في قول الفارابي أن "مراتب أهل المدينة في الرئاسة والخدمة، تتفاضل بحسب فطر أهلها، وبحسب الآداب التي تأدبوا بها". ويظهر في هذا المقام، نوع من الاقتباس من أفكار أفلاطون، حول أسس التنظيم الاجتماعي أو الطبقي، في مخططه للمدينة العالة في محاورة الجمهورية. على عكس خصائص أخرى للمدينة الفاضلة -المشار إليها أعلاه-، والتي ابتعد فيها الفارابي، عن التأثر بالأفكار الأفلاطونية. ويناقض ذلك، أسس النظام الطبقي السائد في تلك المرحلة، حيث يتم التفاضل بناءً على الأصل والنسب، وكذلك مقدار الثروة، وبدرجة ما الوظيفة السياسية أو العسكرية.

يُمثل "الرئيس الأول" للمدينة الفاضلة، معيار الترتيب الاجتماعي، بما يتمتع به من خصائص مميزة له، عن بقية أعضاء المدينة، تجعله مؤهلاً لممارسة السلطة فيها. ويستعمل الفارابي تسمية "الرئيس الأول"، لأن مهام قيادة المدينة الفاضلة، ليست مقتصرة على الفرد الواحد، بل يُمكن أن تشمل أفراداً متعددين، يتدرجون في سلسلة الرئاسة، حسب قربهم من خصائص الرئيس. وهو نفس التدرج المتضمن في نظرية الفيض، حيث ينبثق عن الواحد الكامل، آخرين لا يتمتعون بنفس درجة الكمال، التي يتمتع بها الأول. مع الفرق الشاسع في درجة الكمال، بين الأول الذي تفيض عنه جميع الموجودات، والرئيس الأول الأقل كمالاً في حد ذاته، والذي تبثق عنه درجات أقل للرئاسة.

يصف الفارابي -أي الرئيس الأول- بأنه "الذي لا يحتاج ولا في شيء أصلاً، لأن يرأسه إنسان، بل يكون قد حصلت له العلوم والمعارف بالفعل، ولا تكون به حاجة في شيء إلى إنسان يرشده. وتكون له قدرة على جودة إدراك شيء، شيء مما ينبغي أن يعمل من الجزئيات، وقوة على جودة الإرشاد لكل من سواه...وإنما يكون ذلك في أهل الطبائع العظيمة الفائقة، إذا اتصلت نفسه بالعقل الفعال". ويدفع هذا التصور، إلى التساؤل حول واقعية هذا الطرح، ليس من ناحية القابلية للتطبيق العملي، بل من ناحية الاستنباط العقلي، حيث يدفع هذا الوصف، للاعتقاد بأن المدينة الفاضلة، لا يمكن أن تكون إلا تحت سلطة نبي.

يبدأ انطلاقاً من الرئيس الأول، سلسلة من التدرج في الانتماء، إلى النخب الحاكمة أو المسيطرة، يُحدد درجة التفاوت بين مستوياتها، مدى قرب أو ابتعاد هذه النخب، من الخصائص المميزة للرئيس. فتليه في المكانة، طبقة أقرب إليه من حيث الخصائص، لذلك فهي تبقى في خدمته، لكنها في نفس الوقت تُمارس مهاماً سلطوية، بموجب الأمر المباشر، أو بموجب تفويض من الرئيس الأول. وينتهي هذا التدرج في سلسلة القيادة، إلى الطبقة الأخيرة التي تُمارس مهاماً تنفيذية، دون أن يكون لها أية مشاركة في ممارسة السلطة. ويكون ذلك لابتعادها الكلي عن الخصائص التي توجب ممارسة السلطة، التي ذكرها الفارابي سابقاً. 

4.    تصور الفارابي للسلطة: أو الرئاسة في المدينة الفاضلة:

يتمتع الرئيس الأول، بقدرات شخصية، فطرية ومكتسبة، تجعله مؤهلاً أكثر من غيره، لممارسة السلطة -أو الرئاسة- في المدينة الفاضلة. وقد أشرنا سابقاً إلى الافتراض، بأن الرئاسة حسب الوصف الذي قدمه الفارابي للرئيس الأول، لابد وأن تكون مسندةً لنبي، أو على الأقل لشخصية أقرب أشد القرب من حيث الخصائص والصفات للأنبياء. وأهم تلك الخصائص ليست لمعرفة، القدرة على ممارسة السلطة الراشدة، بل كذلك بمدى الاتصال بما أطلق عليه الفارابي اسم العقل الفعال. فهذا الأخير قد سبق للفارابي، وصفه في كتاب السياسة المدنية، بأن "فعله العناية بالحيوان الناطق، والتماس تبليغه مراتب الكمال الذي للإنسان أن يبلغه، وهو السعادة القصوى...والعقل الفعال هو الذي ينبغي أن يُقال له الروح الأمين وروح القدس".

فالمعرفة التي يُقدمها الروح الأمين، أو الروح القدس للإنسان، عادةً ما تُسمى في الاصطلاحات الدينية باسم الوحي، ويختص بها الأنبياء والرسل دون غيرهم من البشر. فهم دون غيرهم، من توفرت لهم المعرفة الصحيحة، من مصدرها الإلهي الكامل، وبالتالي لا يحتاجون لتوجيه من البشر. كما أنهم وحدهم، بتأثير من الوحي الإلهي، بإمكانهم إدراك حقيقة الأشياء، والوصول إلى أحكام صحيحة حولها، ومعرفة جوهرها. وبالتالي فالأنبياء هم من يملكون القدرة الحقيقية، على توجيه الناس نحو الوصول إلى السعادة الحقيقية، وكل ذلك بفعل اتصالهم بالعقل الفعال، والذي جعله الفارابي مرادفاً للروح القدس أو الروح الأمين.

غير أن قراءة مختلفة لأفكار الفارابي، حول مسألة الوحي كمصدر للمعرفة، تعتبر أن اتصال الإنسان بالعقل الفعال، لا يقتصر حدوثه على الأنبياء، بل يمتد ذلك ليشمل العلماء والفلاسفة. فبموجب نظرية الفيض، يُمكن للفيلسوف والرئيس الأول -في نفس الوقت-، الحصول على القدر المناسب من المعرفة الضرورية، من أجل توجه المدينة نحو السعادة، أو الخير العام. فالوحي في هذا الصدد لا يحمل المعنى الديني، المتضمن في مجالات العقائد الدينية، بل يعني زوال الوسائط الإنسانية الأخرى، التي تُمكِّن الشخص من اكتساب المعرفة.

ويعتبر الفارابي أن "الإنسان إنما يوحى إليه، إذا بلغ هذه الرتبة، وذلك إذا لم يبق بينه وبين العقل الفعال واسطة...فحينئذٍ يفيض من العقل الفعال على العقل المنفعل، القوة التي بها يمكن أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال، وتسديدها نحو السعادة. فهذه الإفاضة الكائنة، بين العقل الفعال والعقل المنفعل، بأن يتوسط بينهما العقل المستفاد وهو الوحي". أي أن الوحي كوسيلة للفيض في هذه الحالة، يتحقق عندما لا يكون الإنسان، في حاجة إلى غيره من البشر، من أجل تحصيل المعرفة الحقيقية، المؤدية إلى تحقيق السعادة، وبالتالي إلى تجسيد المدينة الفاضلة.

وعليه فإن المعنى الذي تضمنه كتاب السياسة المدنية، لكل من مصطلحي "العقل الفعال" وكذلك "الوحي"، ينفي الارتباط الحتمي بين النبوة ورئاسة المدينة الفاضلة. فبالنظر إلى مستوى المعرفة الذي يتمتعون به، يُمكن للفلاسفة أن يتولوا رئاسة المدينة الفاضلة، وقيادتها نحو تحقيق السعادة لأفرادها. ويقترب الفارابي إلى حد ما من أفلاطون، فيما يتعلق بضرورة تولي الحاكم الفيلسوف لمقاليد السلطة في المدينة الفاضلة/العادلة. حتى مع الاختلاف الشديد بينهما حول كيفية اكتساب المعرفة، أي بين مسار التعليم المقترح من طرف أفلاطون، في محاورة الجمهورية، ونظرية الفارابي حول الفيض والوحي.

إضافةً إلى الحجج العقلية، فإن تفسير علاقة الرئيس الأول للمدينة، بتلقي المعرفة من العقل الفعل عن طريق الوحي، باعتبارها حاملة لمعنى النبوة، هو تصور يتعارض مع معطيات الإطار الزمني، الذي جاءت ضمنه أفكار الفارابي. فهذه الأخيرة جاءت ضمن العصر العباسي المتأخر، والذي تنتفي فيه إمكانية وجود النبوة بمعناها المعروف، إضافة لطول الفترة الفاصلة التي تفصل هذه الأفكار، عن بعثة محمد (s) آخر الأنبياء. فاعتماد المعنى الحرفي للوحي، وإلحاق صفة النبوة بالرئيس الأول للمدينة الفاضلة، يجعل من هذا المفهوم بعيد كل البعد عن الوجود، رغم إمكانية تحقق أهم شروطها، وهو السعي المشترك لتحقيق السعادة.

وعليه فإن العلاقة المباشرة بين الرئيس والعقل الفعال، والتي تتم حسب الفارابي عن طريق واسطة الوحي، يُمكن أن يُنظر إليها وفق منظورين، يُفضيان إلى نتيجتين متناقضتين. فبالنظر إلى هذه العلاقة من منظور خاص وضيق، فإنها ستفضي إلى استحالة تحقيق صفة الرئاسة في المدينة الفاضلة، باعتبارها صفة لازمة حصراً للأنبياء. أما باعتماد منظور واسع، والذي اعتمده الفارابي نفسه، فإن هذا يجعل من رئاسة المدينة الفاضلة، صفة لازمة للفلاسفة، والمتحررين معرفياً من الاعتماد على الغير في تحصيل المعارف والعلوم. وهو المعنى الأقرب للعقلانية الفلسفية، وبعلاقة متعدية الأقرب للواقعية السياسية، مقارنة مع فكرة النبي كرئيس للمدينة الفاضلة.

5.    مضادات المدينة الفاضلة: صور المدينة الجاهلة أو الضالة:

 تقوم تصورات الفارابي حول أصناف المدن، الفاضلة منها والجاهلة، على معيار القيم الأساسية، التي تُحدد أنماط السلوك الفردي والجماعي لأفرادها. وبناءً على ذلك، فقد حدد الفارابي الفرق الجوهري، بين المدينة الفاضلة وغيرها من المدن، اعتماداً على أسلوب أرسطي، يقوم على مبدأ التعاون من أجل تحقيق السعادة، والتي جاء معناها مرادفاً للخير العام. فابتعاد سلوك أفراد المدينة عن هذه القيمة، يجعلها أقرب إلى إحدى صور المدينة الجاهلة أو الضالة، القائمة على مبادئ وقيم مناقضة، مثل الشهوانية، والأنانية...إلخ.

يعتبر الفارابي في هذا -السياق-، أن حالة المدينة، هي انعكاس للقيم الأخلاقية التي يتبناها أفرادها، حيث تُحدد أنماط السلوك السائدة، مدى قربها أو ابتعادها من نموذج المدينة الفاضلة. ويتبنى الفارابي في هذا الصدد كذلك، نفس مبادئ التشريح، التي اعتمد عليها أرسطو، في بناء تصوراته حول المدن وأنواع أنظمة الحكم. يذهب إلى القول أنه "كما أن صحة البدن هي اعتدال مزاجه، ومرضه الانحراف عن الاعتدال، كذلك صحة المدينة واستقامتها، هي اعتدال أخلاق أهلها، ومرضها التفاوت الذي يوجد في أخلاقهم". فسيادة الاعتدال في السلوك الفردي، هو أحد خصائص أعضاء المدينة الفاضلة، ويُشكل معياراً للحكم على بقية المدن، التي تسودها قيم أخلاقية، وأنماط سلوك تقترب/تبتعد عن النموذج القياسي.

انطلاقاً من هذا المعيار، فإن المدن التي لا تتبنى معايير المدينة الفاضلة، تأخذ صور مختلفة، منها الأساسية، مثل المدينة الجاهلة، المدينة الفاسقة، المدينة الضالة، وكذلك ما يُطلق عليه الفارابي اسم النوابت. إضافةً إلى هذه الصور، تندرج تحت المدينة الجاهلة، مجموعة أخرى من الصور الفرعية، مثل المدينة الضرورية، مدينة النذالة...إلخ.

‌أ.  المدينة الجاهلة:

يُعرف الفارابي المدينة الجاهلة، على أنها "التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم، إن أرُشدوا إليها فلم يفهموها ولم يعتقدوها، وإنما عرفوا من الخيرات بعضَ هذه التي هي مظنونة في الظاهر أنها خيرات من التي تُظنُّ أنها هي الغايات في الحياة، وهي سلامة الأبدان واليسار والتمتع باللذات، وأن يكون مُخلٍّى هواه، وأن يكون مُكرَّمًا ومُعظَّمًا. فكلُّ واحد من هذه سعادة عند أهل الجاهلة، والسعادة العظمى الكاملة هي اجتماع هذه كلِّها، وأضدادها هي الشقاء، وهي آفات الأبدان والفقر، وألا يتمتَّع باللذات، وألا يكون مُخلٍّى هواه، وألا يكون مُكرَّمًا".

ونلاحظ في هذا التعريف، أن الفارابي قد ضمنه مجموعة من الخصائص، والقيم الأخلاقية، التي تُميز أعضاء المدينة الجاهلة. ويُفهم من هذا السرد للقيم والمبادئ، المتضمنة في تعريف الفارابي للمدينة الجاهلة، أنها لا تجتمع بشكل كلي في صورة واحدة للمدينة. وهو ما يجعل من المدينة الجاهلة، صنفاً قائماً بذاته، يضم بدوره مجموعة متنوعة من المدن الجاهلة، التي قد تتبنى قيم أخلاقية، وخصائص مختلفة ومتنوعة. ويُمكن تحديد الصور الفرعية للمدينة الجاهلة كما يلي:

-        المدينة الضرورية: يُمكن اعتبارها مدينة الحد الأدنى، من شروط العيش الاجتماعي، ويعرفها الفارابي على أنها المدينة "التي قصد أهلها الاقتصار على الضروري مما به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون...والتعاون على استفادتها". فسعي أهل هذه المدينة، لا يمتد إلى تحقيق السعادة والخير العام، رغم تبنيهم لمبدأ التعاون، إلا أن ذلك يقتصر على ضروريات العيش فقط.

-        المدينة البدَّالة/مدينة النذالة: يستعمل الفارابي في كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة"، تعبير "المدينة البدالة"، بينما يستعمل في كتاب "السياسة المدنية"، تعبير "مدينة النذالة"، لوصف نفس المدينة. غير أنه يُمكن -إضافةً إلى ذلك- ملاحظة التطابق، في تعريفه لها في الكتابين المذكورين، حتى مع اختلاف التسمية. وترتبط هذه المدينة بقيمة أساسية، تحكم تأسيسها والعلاقات الاجتماعية داخلها. وهي قيمة حب المال. لذلك يُعرف الفارابي هذه المدينة على أنها "التي قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة، ولا ينتفعوا باليسار في شيء آخر، لكن على أن اليسار هو الغاية في الحياة".

فهذه المدينة تقوم على الجمع بين قيمتين، هما حب الثروة لذاتها والبخل، لذلك فإنها يتقاطع أسلوب الحياة في هذه المدينة، مع طريقة حياة أهل المدينة الضرورية. فرغم اجتهاد أهل المدينة البدالة/مدينة النذالة، في جمع الثروة ومراكمتها، إلا أن إنفاقهم يقتصر على الضروري من شروط الحياة، دون الاستمتاع بحياة الرفاهية التي توفرها هذه الثروات.

-        مدينة الخسَّة والسقوط: ويُطلق عليها الفارابي في كتاب السياسة المدنية وصف الاجتماع الخسيس، حيث تقوم سلوكات أهلها، على قيم مادية شهوانية محضة. ويُعرفها على أنها المدينة التي يتعاون أهلها "على التمتع باللذة من المحسوس أو باللذة من المتخيل من اللعب والهزل أو هما جميعاً، وكذلك التمتع للذة من المأكول والمشروب...واختيار الألذ من هذه طلباً للذة، لا طلباً لما تقوم به الأبدان، ولا ما ينفع البدن بوجه، بل ما يُلذ منه فقط".

تتقاطع هذه المدينة بدورها، مع المدينتين السابقتين الضرورية ومدينة النذالة، حيث يُمكن أن يتحقق ضمنهما، أسلوب عيش مدينة الخسة. فأهل هذه المدينة يُمكنهم -حسب الفارابي-، تحيق شهواتهم بالحد الأدنى من الجمع،وهو ما يتماشى مع القيم التي تكم المدينة الضرورية، ويُمكن أن يتطلب تحقيقهم لشهواتهم المادية وغير المادية، قدراً أكبر من الثروة، لا يتحقق إلا مع مدينة النذالة.

-        مدينة الكرامة: ويُطلق عليها الفارابي في كتاب السياسة المدنية، اسم المدينة الكرامية واجتماع الكرامة، حيث يكون تحقيق السمعة بمثابة الهدف الأساسي لأهل هذه المدينة. ويعرفها الفارابي على أنها المدينة "التي قصد أهلها على أن يتعاونوا على أن يصيروا مكرمين ممدوحين مذكورين مشهورين بين الأمم، ممجدين معظمين بالقول والفعل، ذوي فخامة وبهاء، إمَّا عند غيرهم وإمَّا بعضهم عند بعض، كلُّ إنسان على مقدار محبته لذلك، أو مقدار ما أمكنه بلوغه منه".

لا يكون التكريم وتحقيق السمعة، في هذه المدينة، بناءً على الفضائل التي يتمتع بها أهل هذه لمدينة، سواءً تعلق الأمر بالمعارف المحصلة، أو القيم الأخلاقية السامية، أو الإنجازات المختلفة. بل يتوقف التكريم على مختلف القيم المذكورة في المدن المذكورة سابقاً. ويُضيف الفارابي إلى الأسباب، التي تدفع للاعتقاد باستحقاق التكريم، هو ما تتمتع به المدينة من القوة، والقدرة على الهيمنة على غيرها، والذي يعتبره الفارابي أحد معايير التكريم لدى المدن الجاهلة.

-        مدينة التَّغلُّب: وهي المدينة "التي قصد أهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم، الممتنعين أن يقهرهم غيرهم، ويكون كَدُّهم اللذَّة التي تنالهم من الغلبة فقط". ويتنوع حب أهل المدينة للغلبة، أو السيطرة وبسط النفوذ، بالتعبير الحديث، حسب تنوع الدوافع التي يقوم عليها هذا التوجه. فبعض المدن تتبنى هذا التوجه، بسبب الرغبة في الاستيلاء على مصادر الثروة المختلفة (خاصةً الأموال)، أو الرغبة في استعباد الشعوب الأضعف. في حين يعتبر الفارابي أن بعض المدن، تتبنى هذا التوجه كهدف في حد ذاته، بغض انظر عن المنافع المحتملة، التي يمكن الحصول عليها، السيطرة على جماعات أخرى.

وتُصنف هذه المدينة، ضمن مجموعة المدن الجاهلة، لأنها تسعى إلى تحقيق نوع من السعادة، بالتسبب في إلحاق الضرر بالغير. سواءً تعلق الأمر من أجل الحصول على المكاسب المادية، أو فقط من أجل الإحساس بنشوة القهر، ومتعة الانتصار على الغير. كما أن هذه المدينة، بهذه الأسس الأخلاقية والقيمية، تلتقي مع مدن أخرى، مثل مدينة السقوط والخسة، وكذلك مدينة النذالة، والتي تقوم على قيم شهوانية. وكذلك المدينة الكرامية، التي تشترك معها في مساعيها، للحصول على التكريم والتقدير، بسبب ما تُحققه من انتصارات، وما تتمتع به من هيبة، بسبب قوتها وقدرتها على فرض هيمنتها على الغير.

-        المدينة الجماعية: تقوم هذه المدينة، على مبدأ الحرية المطلقة، غير المقيدة بأي من الضوابط، التي عادةً ما تُعتمد لتقنين الحرية. ويُعرفها الفارابي على أنها تلك "التي كل واحد من أهلها مُطلِق مُخلِي نفسه يعمل ما يشاء، وتكون سُنّتهم أن لا فضل لإنسان على إنسان في شيء أصلا، ويكون أهلها أحرار يعملون ما يشاؤون، ولا يكون لأحد منهم ولا من غيرهم، سلطان إلا أن يعمل ما تزول به حريتهم، فتحدث فيهم أخلاق كثيرة...ويكون أهلها طوائف كثيرة، متشابهة ومتباينة، فتجتمع في هذه المدينة، تلك التي كانت متفرقة في تلك المدن كلها، الخسيس منها والشريف".

فهذه المدينة -انطلاقاً من تعريف الفارابي-، لا تعيش فقط الحرية المطلقة، بل أن أية محاولة لتنظيمها، وإضفاء طابع الاعتدال عليها، لا يكون إلا من خلال فرض قيود من طرف السلطة. وهو ما يصعب تحقيقه فعليا، بالنظر إلى كيفية إسناد السلطة، في إطار المدينة الجماعية، والتي تعتمد أساساً على الإرادة المنفردة لأعضاء المدينة (الشعب). حيث يقول الفارابي "ويكون جمهورها الذين ليست لهم ما للرؤساء، مُسلطين على الذين يُقال فيهم أنهم رؤساء، ويكون من يرأسهم إنما يرأسهم بإرادة المرؤوسين، ويكون رؤساؤهم على هوى المرؤوسين". وهو ما يدفعنا إلى القول -بتحفظ-، بأن تصورات الفارابي حول المدينة الجماعية، ما هو إلا اقتباس من نظام الديمقراطية المباشرة، التي عرفتها اليونان القديمة.

‌ب.  المدينة الفاسقة:

يعتمد الفارابي عند الحديث عن المدينة الفاسقة، تصوراً يقترب من بعض أفكار أفلاطون، في محاورة الجمهورية، حول تحول المدينة العادلة، إلى غيرها من المدن ذات الأنظمة الفاسدة. فالمدينة الفاسقة هي نفسها المدينة الفاضلة، التي تبنى أهلها قيماً وأهدافاً مغايرة، لتلك التي تأسست عليها مدينتهم الأولى. ويعرفها الفارابي على أنها "التي اعتقد أهلها المبادئ وتصورها، وتخيلوا السعادة واعتقدوها، وأُرشدوا إلى الأفعال، التي ينالون بها السعادة، وعرفوها واعتقدوها. غير أنهم لم يتمسكوا بشيء من تلك الأفعال، ولكن مالوا بهواهم وإرادتهم، نحو شيء من أغراض أهل الجاهلة، إما منزلة، أو كرامةً، أو غلبةً أو غيرها، وجعلوا أفعالهم كلها، وقواهم مُسدَّدة نحوها".

تعيش هذه المدينة -حسب تعريف الفارابي- حالة من التناقض، بين المبادئ والقيم الأخلاقية، السائدة ضمنها، والتي تأسست عليه من الأساس، من جهة، وأنماط السلوك والتفاعلات الاجتماعية، السائدة على المستوى العملي. فالسلوكات التي يتبناها أهل هذه المدينة، لا تتناسب مع أخلاق المدينة العادلة، بل تتماشى على الأصح، مع المدن الجاهلة التي تحدث عنها الفارابي سابقاً. فهذه المدينة تشهد حالة من الانفصام أو الازدواجية، فهي من الناحية القيمية والمعيارية، تُصنف على أنها مدينة فاضلة، أما من الناحية السلوكية، فهي لا تكون إلا إحدى أشكال المدن الجاهلة (مدينة الغلبة، الكرامة...إلخ).  

‌ج.   المدينة الضالة:

تشبه المدينة الضالة إلى حد كبير المدينة الفاسقة، حيث يُمكن ببساطة الخلط بين خصائصهما، رغم وجود اختلافٍ جوهريٍ فيما بينهما. فإذا كانت المدينة الفاسقة، قد تبنت أنماط سلوك، لا تتماشى مع القيم التي قامت عليها، فإن المدينة الضالة، قد عرفت تغييراً جذرياً على مستوى القيم، التي يتأسس عليها السلوك الفردي والاجتماعي لأعضائها. ويظهر هذا الفرق في تعريف الفارابي لهذه المدينة، والتي يعتبرها على أنها "التي تظن بعد حياتها هذه السعادة، ولكن غيرت هذه، وتعتقد في الله عزّ وجل، وفي الثواني، وفي العقل الفعال، آراء فاسدة لا يصلح عليها، ولا إن أُخذت على أنها تمثيلات وتخيلات لها".

فالمدينة الضالة ما هي إلا مدينة فاضلة، تأسست على كل المبادئ والأهداف، التي تضمنها تصور الفارابي حول هذه المدينة، بما في ذلك التعاون بين أعضائها، على تحقيق السعادة والخير العام كهدف. مع إدراك كلي لكل العناصر الأسباب، التي من شأنها أن تؤدي إلى تحقيق هذا الهدف. وما يجعل الفارابي يصنفها المدينة الضالة، ضمن صنف مختلف جذرياً عن المدينة الفاضلة، هو التحول القيمي والأخلاقي، الذي تتعرض له هذه المدينة، بتبنيها لنموذج قيمي مختلف، لا يستهدف تحقيق السعادة والخير العام.

وبناءً على هذا مثل هذا التحول القيمي، فقد اعتبر أفلاطون في محاورة الجمهورية، أن المدينة العادلة، التي يتولى الفيلسوف إدارتها، تتحول تبني نظام مختلف، بسبب عدم التزام بعض طبقاتها، بتوزيع الأدوار الاجتماعية القائم على العدالة. وبناءً على ذلك يتأسس النظام التيموقراطي (نظام عسكري)، والذي اعتبره أفلاطون مقدمة، نحو تبني المدينة للنظام الأوليغارشي.   

‌د.     النوابـــــــــت:

يُطلق عليها الفارابي في كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة اسم "المدينة المُبدلة"، ويُعطيها كذلك معنى مختلف تماماً، عن ذلك المتضمن في كتاب السياسة المدنية، حيث يُمكن ملاحظة الاختلاف في شرح الفارابي، الذي قدمه لهذه الظاهرة، بين الكتابين، ويظهر ذلك كما يلي:

-      تعريف كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة: ففي الكتاب الأول يعتبرها مدينة قائمة بذاتها، ويُعرفها على أنها "التي كانت آراؤها وأفعالها في القديم آراء المدينة الفاضلة وأفعالها، غير أنها تبدَّلت فدخلت فيها آراء غير تلك، واستحالت أفعالها إلى غير تلك". وهو ما يجعلها بهذا المعنى، امتداداً للمدينة الضالة، حيث ينعكس التغير على مستوى القيم، على سلوك أعضاء المدينة، على المستويين الفردي والجماعي.

-      تعريف كتاب السياسة المدنية: يختلف تعريف الفارابي في هذا الكتاب، من خلال اعتبار النوابت ليست مدينة منفصلة عن المدينة الفاضلة، بل هي جماعات من أعضائها، تتبنى قيم مختلفة عن قيمها الأساسية. ويذهب الفارابي في هذا الصدد "وأما النوابت في المدن الفاضلة، فهم أصناف كثيرة، متمسكون بالأفعال التي تُنال بها السعادة، غير أنهم لا يقصدون بما يفعلونه من ذلك السعادة، بل شيء آخر مما يجوز أن يناله الإنسان بالفضيلة، من كرامة أو رئاسة أو يسار أو غير ذلك، فهؤلاء يُسمون مُتقنِّصين".  

فباعتماد لتعريف الوارد في الكتاب الأول، تظهر هذه المدينة على أنها امتداد للمدينة الضالة، حيث ينعكس التغير القيمي والمعياري، الذي تعرفه المدينة على سلوكات أفرادها. أما باعتماد التعريف الواد في كتاب السياسة المدنية، فإن النوابت هي جماعات ذات طابع براغماتي، تسعى لتحقيق غايات خاصة، باستعمال القيم والمبادئ السائدة على مستوى المدينة الفاضلة. ويتجسد ذلك في الفترات المعاصرة، من خلال اتخاذ المبادئ الوطنية الشوفينية، أو المبادئ الاجتماعية الأخلاقية، أو المعتقدات الدينية، من أجل تحقيق غايات اجتماعية وسياسية خاصة.

تجدر الإشارة في النهاية، إلى أن وضع المدينة الفاضلة، لا يُعتبر ثابتاً، وغير قابل للتعديل أو الفساد، وهو ما بينه الفارابي من خلال بعض النماذج التي طرحها، في مضادات المدينة الفاضلة. كما أن فساد المدينة، وتحولها إلى نماذج بعيدة كلياً عن النموذج الأول، وهو المدينة الفاضلة، لا يُعتبر تحولاً نهائياً، وغير قابل للتعديل. فالمدن في نظر الفارابي هي بمثابة الأبدان، يُمكن أن تتعرض للمرض، أو الاختلال في عمل بعض أعضائها، وهو ما يتطلب التدخل الطبي، من أجل الوقاية من هذه الاختلالات، أو من أجل علاجها، وبالتالي عودة الأبدان إلى حالتها الطبيعية.

أما في حالة المدن غير الفاضلة، على اختلاف صورها وتسمياتها، فإن العلاج يُمكن أن يتم توفيره، بالاستناد إلى ما أطلق عليه الفارابي اسم "العلم المدني"، والذي لا يعدو أن يكون وصفاً لعلم السياسة. ويذهب الفيلسوف في هذا الصدد إلى أن هذا العلم يُحصي "أصناف الأفعال التي بها تُضبط المدن والرياسات الفاضلة، لئلا تفسد وتستحيل إلى غير الفاضلة، ويُحصي ايضاً وجود التدابير والحيل والأشياء، التي سبيلها أن تستعمل إذا استحالت إلى الجاهلية، حتى ترد إلى ما كانت عليه". وهو العلم الذي يجب أن يتلقاه ويتقنه رئيس المدينة، وذلك بطرق مختلفة، سواءً بالتعلم النظري، أو من خلال الخبرات السياسية المكتسبة. وعليه يُمكن القول انطلاقاً من ذلك، أن رئيس المدينة -السياسي-، هو من يتحمل المسؤولية الكاملة، في الحفاظ على ثبات واستقرار القيم الأخلاقية للمدينة، وحمايتها من الانحراف.

خــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاتمة:

مثل الفارابي لاتجاه ثوري في الفكر السياسي الإسلامي، من خلال الاحتكاك بالميراث الفكر للحضارات السابقة، وأبرزها الحضارة اليونانية. وقد تأثر في ذلك، بالأوضاع السياسية، الاجتماعية وحتى القيمية والأخلاقية، التي سادت المجتمع الإسلامي، والتي ابتعدت به عن القيم الأخلاقية والاجتماعية، وحتى القيم الدينية التي تأسس عليها، والتي حكمت المجتمع الإسلامي منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة، وصولاً إلى العصر العباسي المتأخر.

وتكمن أهمية الاتجاه الفلسفي ككل، والأفكار السياسية للفارابي، في كونه بدأ مسار تشكيل علم السياسة، في الحضارة الإسلامية، من خلال الحديث عن العلم المدني، كأساس لممارسة السلطة السياسية، والتي تتمثل مهمتها الأساسية، ليس في ممارسة القهر المشروع، بل في إعادة ضبط التفاعلات الاجتماعية، والحفاظ على القيم الأساسية، التي تؤسس وتحكم المجتمع الإسلامي.

إضافةً إلى ذلك، فإن أهمية الاتجاه الفلسفي، في الفكر السياسي الإسلامي، تبرز من خلال الأبعاد العقلية، في تفسير ودراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية. وبذلك فقد شكل بديلاً للتصورات الدينية، القائمة على تفسيرات سياسية واجتماعية، يُعتقد أنها مستمدة من العقيدة الدينية الإسلامية. مع الاعتناء بضرورة إخضاع مناهج التفكير العقلانية، المأخوذة عن الحضارات الأخرى، للضوابط المتضمنة في الدين الإسلامي، وبشكل خاص أركان الإيمان والتوحيد. حيث تبرز الاقتباسات التي أخذها الفارابي، عن الأفكار السياسية اليونانية (أفلاطون وأرسطو)، كأبرز الأمثلة على تكييف الفلسفة والأفكار السياسية، مع القواعد والضوابط الدينية    

 

 


آخر تعديل: Tuesday، 23 April 2024، 10:55 PM