المحاضرة رقم 04: المنهج الجدلي في الفكر السياسي: المنهج السقراطي

تمهيد:

يُعتبر سقراط من بين أهم مظاهر الفكر السياسي، الذي عرفته بلاد اليونان القديمة، قبل ظهور المدرسة الكلاسيكية الأفلاطونية. حيث شارك هذا الفيلسوف، إلى جانب أعضاء المدرسة السفسطائية، في التمهيد لتغيير جذري في أسس ومبادئ الفكر السياسي. وذلك من خلال نقل التفكير الفلسفي، وبعلاقة متعدية التفكير السياسي، إلى الاهتمام بالجوانب الأخلاقية للحياة الإنسانية والاجتماعية. وقد تجسد التأثير السقراطي في تطور الفكر السياسي، من خلال المنهج الجدلي، والمعروف إلى اليوم باسم المنهج السقراطي، إضافةً إلى الافتراض الذي سيتأسس عليه جزء مهم من الفكر السياسي اليوناني، وهو الافتراض القائل بأن الفضيلة هي المعرفة.

1. المنهج السقراطي: أو ذبابة الخيل:       

تنطلق المدرسة السفسطائية، بمختلف دلالات التسمية (الفلاسفة، المعلمين، المعلمين بالأجر)، من التساؤل المستمر حول جوهر الأشياء. وقد اعتمدت المدرسة هذا المنهج، بغية التشكيك في المعارف السائدة في المجتمع، كحقائق مطلقة. ويكون الهدف النهائي، هو اختبار تلك الحقائق، والتوصل إلى معارف جديدة أكثر دقة. وهو نفس المنهج الذي اعتمده سقراط، في محاولته للتوصل إلى معرفة جوهر الموجودات، ولتأكد من صحة ودقة المعارف السائدة، حيث يتساءل سقراط بشكل دائم عما هو: خير، جميل، وعادل. وتشير بعض الآراء إلى أن سقراط، قد استمد منهجه التشكيكي، من خلال تأثره المباشر برواد المدرسة السفسطائية، والذين كان دائم الإعجاب والاحتكاك بهم.

رغم مصداقية الاعتقاد، بتأثر المنهج السقراطي، بأفكار رواد المدرسة السفسطائية، إلا أن الهدف من استعماله له، تبقى مختلفة بشكل جذري، عن الاستعمال السفسطائي. حيث يعتبر سقراط أنه يستمر في أداء مهنة أمه، فإذا كانت هي تساعد النساء على الولادة، فهو في المقابل يساعد الرجال على تكوين أفكارهم وآرائهم. وانطلاقاً من ذلك، فإنه عادة ما يبدأ الحديث مع محاوريه بسؤالهم، ما إذا كانت أعمالهم -بما في ذلك اليومية منها-، خيِّرة، جميلة أو عادلة. ويقول في هذا الصدد أنه حاور الرياضيين، الفلاسفة، وأبطال الحرب، فوجدهم يجهلون جوهر معاني هذه المجالات، فالفلاسفة يجهلون منى الحكمة، والأبطال يجهلون معنى الشجاعة...إلخ. وقد كان سقراط دائم الاحتكاك بأعضاء مجتمعه، يطرحه أسئلته باستمرار، دون إمكانية التوصل إلى نتائج نهائية لها، كما لم يكن ممكناً الخروج بسهولة، من المحاورات التي عادةً ما يبدأها. وقد شكل ذلك مصدراً للإحراج لمحاوريه، خاصةً وأن الأغلبية كانت تنتمي إلى نخبة المجتمع، ولهذا فقد شكل سقراط مصدراً للإزعاج في مجتمعه، ونتيجةً لذلك فقد تم وصفه -حسب ويل ديورانت- بـ"ذبابة الخيل".

رغم التشابه الكبير بين المنهج السقراطي، والمنهج المستخدم من طرف السفسطائيين، إلا أن هناك فرقاً جوهرياً بين الاتجاهين. فالسفسطائيين جعلوا من التشكيك في المعرفة، وسيلة لفرض الإنسان كمعيار للموجودات، وبالتالي محوراً للمعرفة والقيم الاجتماعية. إضافةً إلى استخدام هذا المنهج، من طرف تلاميذ المدرسة السفسطائية، كوسيلة لخدمة المصالح الشخصية، والتمكن من احتلال المناصب السياسية، والوظائف العامة. أما سقراط فقد استخدم نفس المنهج، من أجل التشكيك في المعارف، المبادئ، المعايير والقيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة في مجتمعه، من أجل تصحيح المفاهيم الخاطئة، والاقتراب من المعرفة الصحيحة، والمعايير الأخلاقية الأكثر قبولاً.

تجدر الإشارة، إلى أن مبادئ المنهج السقراطي، التي أثارت غضب نخبة المجتمع الأثيني، التي لم تتقبل أسلوب سقراط الساخر. إضافةً إلى قيام سقراط بتعليم هذا المنهج، دون حاجة تلاميذه إلى دفع مقابل مادي، قد جعله محل تهجم السفسطائيين، الذين يعتبرون التعليم مصدرهم الأساسي -أو الوحيد- للدخل. وعيه فإن تحفيزه على مناقشة المعايير الاجتماعية، والمبادئ الأخلاقية السائدة، وتشكيكه في كونها مطلقة الصحة، اعتبر على أنه تحريض على الفساد الأخلاقي، وقد كان ذلك سبباً في تعرضه للمحاكمة، استناداً على تهم متعددة، تصب في معنى الخروج عن المعتقد الديني السائد، وعدم الإيمان بالآلهة اليونانية، أو ما يُعرف بالتعبير المعاصر باسم التكفير. وقد انتهت محاكمة سقراط، بالحكم عليه بالإعدام عن طريق تناول السم، رغم إنكاره جميع التهم، وإقراره بالإيمان بالمعتقدات الدينية. وقد نقل أفلاطون مختلف أطوار المحاكمة، والحجج التي استعملها سقراط من أجل نفي التهم الموجهة إليه، في محاورة أطلق عليها عنوان "محاورة الدفاع عن سقراط".

2. النظرية الأخلاقية: الفضيلة هي المعرفة:       

ساد الاعتقاد ضمن المجتمع اليوناني، أن المبادئ والمعايير الأخلاقية، مرتبطة بوجود الآلهة من جهة، وقبول هذه الآلهة بهذه المبادئ. أي بتعبير آخر، فإن القيم الأخلاقية التي تحكم السلوك الفردي والاجتماعي، لا يُمكن أن تُمارس هذا التأثير، إذا لم تكن قد تم إقرارها من طرف الآلهة، وتبنيها من طرف أعضاء المجتمع، بموجب إيمانهم الديني. غير أن مفهوم سقراط حول الأخلاق، يُخالف من حيث الاتجاه، المفهوم السائد في المجتمعات اليونانية، حيث يعتبر أن المبادئ الأخلاقية، لا تُعتبر مقبولةً وواجبة الاحترام، لأنه قد تم إقرارها من طرف الآلهة، بل إن هذه الأخيرة قد أقرت هذه المبادئ، لأنها صحيحة وصالحة في حد ذاتها.

لا تستند تصورات سقراط الأخلاقية، إلى المبادئ الدينية السائدة، فالإيمان الديني لا يُشكل صدراً للأخلاق، بل يكون على الأصح دافعاً للالتزام الأخلاقي، على اعتبار أن المعايير والقيم الأخلاقية، قد تم إقرارها من طرف الآلهة. وفي المقابل، فإن التصورات الأخلاقية السقراطية، هي نتاج النزعة البراغماتية، حيث لا تكون للأخلاق والمعايير الاجتماعية، أية قيمة أو فائدة، إذا لم يكن لها أي دور إيجابي في التفاعلات الاجتماعية. ويعتبر سقراط في هذا الصدد أن "الصالح صالح لشيء ما...والصلاح والجمال، شكلان من أشكال المنفعة والفائدة البشرية، وحتى السلة من الروث تكون جميلة إذا أُحسن إعدادها للغرض الذي تؤديه".

انطلاقاً من هذا التصور البراغماتي، جاء الافتراض السقراطي الشهير القائل بأن "الفضيلة هي المعرفة"، حيث أنه لا يوجد ما يفوق المعرفة من حيث المنفعة، وبالتالي فإن المعرفة تُشكل أرقى أشكال الفضيلة. ويُمكن الاستناد إلى هذا الافتراض، من أجل اعتبار أن الفضيلة التي تحدث عنها سقراط، لا تأخذ مضموناً سلبياً، بمعنى الامتناع عن ارتكاب الأخطاء. وفي المقابل تأخذ -أي الفضيلة- مضموناً إيجابياً، بمعنى المبادرة بالقيام بالأفعال الصائبة. ويظهر الارتباط بين الفضيلة والمعرفة، في كون هذه الأخيرة تُشكل وسيلة لتشكيل الوعي، بالأفعال الصالحة، والقيم الأخلاقية لدى أعضاء المجتمع. وبدون ذلك، لا يعترف سقراط بوجود الفضائل والأخلاق، لا تستند إلى المعرفة الحقة، لما ينبغي أن كون من أوجه السلوك الفردي والاجتماعي. أي أن معرفة الناس بشكل حقيقي الخطأ والصواب، تجعلهم أقرب إلى القيام بالأعمال الصالحة، التي تتماشى مع القيم الأخلاقية الحقيقية، وأبعد عن ارتكاب الأفعال الخاطئة، التي تضر المجتمع من جهة، وتتعارض مع المعايير الأخلاقية من جهة ثانية.

تحل المعرفة -نتيجة لهذا الافتراض- محل الإنسان، كأساس ومصدر للمعايير والقيم الأخلاقية والاجتماعية، وفق مبدأ بروتاغوراس القائل بأن الإنسان معيار كل شيء. أو على الأقل فإنها -أي المعرفة- تقيد بشكل واضح، السلطة التقديرية التي يمنحها أعضاء المجتمع لأنفسهم، بموجب المبادئ التي تبنتها الفلسفة السفسطائية. وعليه فإن هذا المبدأ، يجعل من عملية وضع القيم الأخلاقية، محصوراً في الفئة التي تتمتع بالقدر العالي من المعرفة الحقيقية، وليس مجرد وهم المعرفة. وهو ما سيكون له أثر على المبادئ السياسية، التي تُحدد معايير وحدود الممارسة السياسية، كما تُحدد شكل النظام السياسي. وذلك بناءً على مساهمة المعرفة في تسيير الشأن العام للدولة والمجتمع، وبالتالي المساهمة نتيجةً لذلك، في إضفاء شيء من الفضيلة على العمل السياسي، أو بتعبير معاصر أخلقة الحياة السياسية La moralisation de la politique.

3. النظرية السياسية: رفض الديمقراطية:       

لم تتضمن كتب تاريخ الفكر السياسي بشكل عام، أية نظرية سياسية متكاملة لسقراط، حيث جاء فكره السياسي، في شكل تصورات متناثرة، حول الأوضاع السياسية والاجتماعية السائدة في عصره. غير أنه يُمكن القول مع ذلك، أن هذه التصورات هي نتاج توسيع نطاق المبدأ الأخلاقي، القائم على ثنائية الفضيلة-المعرفة، ليتحول إلى قانون عام يُحدد كل عناصر الحياة الاجتماعية والسياسية. وعليه فإن الفكر السياسي السقراطي، ما هو إلا محاولة لإسقاط مبدأ الفضيلة هي المعرفة، على المسائل والقضايا السياسية، دون أن يُشكل ذلك منظومة فكرية متكاملة، مثلما هو عليه الحال بالنسبة لأفلاطون وأرسطو.

انطلاقاً من مبدأ الفضيلة هي المعرفة، فإن النتيجة العامة الأساسية التي يُمكن التوصل إليها، ستكون الافتراض بأن كل ما يبتعد عن المعرفة يبتعد عن الفضيلة، وينطبق ذلك على الأنظمة الاجتماعية والسياسية. وهو الأساس الذي ينطلق منه سقراط، في تحديد موقفه من النظام السياسي السائد في عصره، أي النظام الديمقراطي، القائم على السلطة المطلقة للشعب Demos. ويُشير هذا النظام من حيث الدلالة اللغوية، على حكم الشعب لنفسه، أما من حيث الدلالة الاصطلاحية، فإن الديمقراطية تعني سيطرة الشعب، على ممارسة السلطة، وإسناد المناصب والوظائف. ويُمارس الشعب سيطرته على الحياة السياسية، من خلال آلية الاقتراع، أو ما يُعرف ضمن المصطلحات السياسية المعاصرة، باسم الانتخابات.

يقوم النظام الديمقراطي كذلك، على مبدأ المساواة بين المواطنين، أمام القوانين والشرائع، التي تُسير شؤون الدولة والمجتمع. وهو ما يعني إمكانية المشاركة في المناقشات العامة، لمختلف الشؤون السياسية التي يتم عرضها على مستوى الجمعية العمومية، باعتبارها مؤسسة مفتوحة أمام جميع المواطنين. إضافةً إلى المساواة في الحق في الترشح لشغل المناصب السياسية والإدارية، بما في ذلك تلك التي يتم من خلالها تقرير مصير الدولة. وتماشياً مع هذا المبدأ، فإن النظام الديمقراطي يوفر الفرصة لجميع المواطنين، لإبداء آرائهم حول الشؤون العامة، ويكون ذلك حقاً مكفولاً ومقدساً بموجب القانون، حتى في حالة عدم امتلاك بعض المواطنين، للتأهيل الكافي لمناقشة هذه القضايا، والمشاركة في اتخاذ القرار حولها.

تُحدد هذه الخصائص، موقف سقراط من النظام الديمقراطي، فهو ينتقد مبدأ المساواة، كما يرفض التعيين في المناصب السياسية، وفي الوظائف العامة، عن طريق الاقتراع. فهذه الآلية لا تسمح باختيار الأفضل لتسيير شؤون الدولة والمجتمع، على حد سواء، لأنها تمنح فرصة الفوز بالمناصب، لجميع المواطنين بمن فيهم الذين لا يتمتعون بأية معرفة، وبالتالي لا يتمتعون بأية فضيلة. ويقول سقراط في هذا الصدد أنه "من السخف أن نختار الحكام بالقرعة، على حين أن أحداً لا يُفكر قط في أن يختار بالقرعة مرشد السفن، أو البناء، أو النافخ في الناي، أو أي صانع على الإطلاق، مع أن عيوب هؤلاء أقل ضرراً من عيوب أولئك الذين يُفسدون حكوماتنا".

وتماشياً مع هذا الموقف، فإذا كانت الديمقراطية، تبتعد من حيث الخصائص عن المعرفة، وبالتالي عن الفضيلة، فإنها تعتبر حسب سقراط من بين أسوأ أشكال الأنظمة السياسية. وعلى النقيض من ذلك، يعتبر أن النظام الأرستقراطي، يُعتبر أحسن الأنظمة السياسية، لأنه يقوم بشكل خاص على قدر عالي من المعرفة والتحصيل العلمي، وبالتالي فهو من بين أكثر الأنظمة السياسية اقتراباً من الفضيلة. وهو ما يجعله البديل الأفضل الذي يقترحه سقراط، لكل المشاكل السياسية والاجتماعية، الناتجة عن النظام الديماغوجيا أو الغوغاء.

ولا يقتصر موقف سقراط، على الاستدلال الفكري والفلسفي، بل قد تحول تصوره حول النظام الديمقراطي، إلى موقف سياسي عملي. حيث شارك سقراط في الحملة التي عرفتها أثينا، من أجل الإطاحة بالديمقراطية، والعمل على تأسيس نظام أقلية، ذات خصائص اجتماعية محددة، تقترب من النظام الأرستقراطي. وتُشير بعض الآراء التاريخية، إلى أن هذا الموقف السياسي، كان أحد الأسباب التي دفعت ببعض الشخصيات السياسية، والتي كانت تحتل مراكز مرموقة في النظام الديمقراطي، إلى اتهام سقراط بالفساد الأخلاقي، والحكم عليه بالإعدام.   

4. تقديس قانون الدولة: استمرارية المبدأ الأخلاقي:       

أفضت محاكمة سقراط بتهم تحريض الشباب على الفساد، وعدم احترام العقائد الدينية، السائدة في المجتمع الأثيني، إلى الحكم عليه بالإعدام، عن طريق تناول السم. وبسبب إحدى المناسبات الدينية (الحج)، فقد تأجل تنفيذ الحكم لمدة شهر كامل، وهي المدة التي تستغرقها رحلة الحج، علماً أن العرف السائد، يمنع تنفيذ حكم الإعدام خلال هذه الفترة. وقد كانت هذه المدة في نظر بعض تلاميذ سقراط، فرصةً من أجل تسهيل فراره من السجن، والنجاة من الموت. وهو ما ورد في محاورة كرتون، التي أرخ فيها أفلاطون لفترة محاكمة وسجن سقراط. غير أن هذا الأخير يرفض الاستجابة لعرض تلاميذه، ويرجع ذلك للاعتبارات التالية:

إن عدم طاعة القانون، من خلال تنفيذ مقترح الفرار من السجن، يتعارض مع المبادئ الأخلاقية العادلة، التي اجتهد سقراط في ترسيخها في الفكر السياسي والفلسفي. كما أن ذلك يُعتبر إضراراً بتماسك وانسجام، الجماعة الإنسانية المشكلة للدولة، من خلال اعتباره لهذا السلوك، على أنه إساءة لأفراد مجتمعه، ممن يتوجب عليهم احترامهم وتقديرهم. حيث يتساءل في محاورة كريتون، "ألست أخُطئ في حق أولئك الذين ينبغي أن يكونوا من أبعد الناس عن الإساءة؟ ألا يكون ذلك تطليقًا لمبادئي التي سلَّمنا معًا بعدلها؟".

ويعتبر أن عدم طاعة القوانين، والأحكام المنبثقة عنها، ستكون له نتائج سلبية على هيبة الدولة وقوتها. ويرد سقراط على محاوره بالتساؤل "هل تتصور دولة ليس لأحكام قانونها قوة، ولا تجد من الأفراد إلا نبذًا واطِّراحًا، أن تقوم قائمتها، فلا تندك من أساسها؟". يُمكن القول انطلاقاً من هذا التساؤل، أن القوانين ترتبط بشكل جوهري بالدولة، والتي ستفقد جوهر وجودها، والأسس التي تقوم عليها، إذا توجه أفراد المجتمع، بشكل جماعي أو فردي، نحو عدم احترام القوانين والشرائع السائدة في المجتمع. أي أن مبدأ الشرعية، بمعنى إخضاع كل السلوكات والتصرفات لسلطان القانون، هو أحد الأركان التي تتأسس عليها الدولة، وتضمن بفضلها قوتها واستمرارها، وفق تصور سقراط.

لابد من الإشارة في هذا المقام، إلى أن هذا الموقف الذي اتخذه سقراط، من قوانين المدينة التي أصدرت في حقه حكم الإعدام، نابع من المبدأ الأخلاقي الفضيلة هي المعرفة. والذي يتضمن أن من يمتلك المعرفة يميل إلى القيام بالأمور الصائبة، لمعرفته بحقيقتها، والأضرار الناجمة عن مخالفة القوانين. وقد جسد سقراط هذا المبدأ خلال محاورة كريتون، من خلال سرد مختلف النتائج الإيجابية، الناتجة عن احترام قوانين المدينة، ومقابل ذلك الأضرار الناتجة عن مخالفتها. أي أن الموقف السقراطي من القانون، هو استمرار للمبادئ الأخلاقية سابقة الذكر، وليس نتيجةً للقوة الإلزامية التي تملكها القوانين، انطلاقاً من فكرة الإكراه المقترنة بها.

ورغم تأثر أفلاطون الشديد بمبادئ الفكر السياسي السقراطي، إلا أنه مع ذلك رفض منح القوانين نفس المكانة التي تضمنها فكر سقراط. ويظهر ذلك بشكل واضح في كتاب الجمهورية، الذي اقترح من خلاله أفلاطون نموذجاً اجتماعياً وسياسياً، يُعرف باسم المدينة العادلة. وعكس ما توحي هذه التسمية، فإن أفلاطون استبعد بشكل كلي القوانين، كآلية للتنظيم الاجتماعي والسياسي، ويعوضها بالمبدأ الأخلاقي السقراطي، الذي تكون فيه المعرفة مصدراً وحيداً للفضيلة. 

خاتمة:

شكل المنهج السقراطي نقلة نوعية في التفكير الفلسفي والسياسي، تصادم مع الأفكار والعقائد الاجتماعية، السياسية والأخلاقية السائدة، كما شكل أحد أسباب الصراع بين سقراط والسفسطائيين. فالغاية من التشكيك أو الجدل حسب سقراط، لم تكن الصدام مع المجتمع، بل مساعدة هذا الأخير في الوصول إلى المعرفة الحقيقية لجوهر الأشياء، وقد كان ذلك كما رأينا أحد أسباب محاكمة وإعدام سقراط. وانطلاقاً من هذه المرحلة، سيشكل الفكر السقراطي، منطلقاً لمحاولات تغيير سياسي واجتماعي، تضمنتها أفكار تيار السقراطيين، والذي يُشكل أفلاطون أحد أبرز وجوه هذا الاتجاه الفكري.

Modifié le: lundi 1 décembre 2025, 19:10