المحاضرة رقم 03: المدرسة السفسطائية: تشكيل المنهج الجدلي
تمهيد
عرفت بلاد اليونان القديمة، انتشاراً للأنظمة الديمقراطية، القائمة على سيطرة الشعب/المواطنون، على العملية السياسية، وبشكل خاص الانتخابات، وإسناد الوظائف والمناصب العامة. وقد شكلت هذه الأنظمة فرصةً حقيقية، لازدهار مدرسة فكرية، يُمكن اعتبارها بمثابة القطيعة الفكرية والمنهجية، مع المدارس الفكرية والفلسفية السائدة، سواءً خلال مراحل تاريخية سابقة أو معاصرة لها. وقد عُرف هذا الاتجاه بالمدرسة السفسطائية، والتي تُمثل مظهراً لعلاقة براغماتية، تربطها بالأوضاع السياسية والاجتماعية، السائدة خلال العصر الكلاسيكي. حيث لم تظهر الحاجة إلى هذه المدرسة، وبالتالي لم تعرف الازدهار الذي عرفته في مراحل لاحقة، إلى مع ظهور الإصلاحات السياسية والقانونية، التي أسست للأنظمة الديمقراطية، سواءً في أثينا، أو غيرها من المدن اليونانية.
ارتبطت الديمقراطية اليونانية، بتوسيع مجال المشاركة الشعبية، في المناقشات العامة، حول المسائل السياسية، وكذلك فتح المجال أمام المواطنين للمشاركة في ممارسة السلطة، أو على الأقل الرقابة المباشرة عليها. ويتطلب ذلك اكتساب المهارات الضرورية، وبشكل خاص فنون المناقشة والجدل، والقدرة على الإقناع في المناقشات العامة، داخل المؤسسات السياسية، أو في الساحات العامة. وقد انتشرت هذه النزعة لدى الفئات الاجتماعية، التي تتمتع بمستويات اقتصادية، تسمح لأفرادها بدفع التكاليف المالية، من أجل الحصول على فرصة تلقي المعرفة، على يد المعلمين والفلاسفة السفسطائيين.
ولابد من القول، أن استعمال وصف "المدرسة"، للتعبير عن هذا الاتجاه في الفكر السياسي اليوناني، لا يعني بالضرورة تجانس الأفكار فيما بين أعضائه. فقد جاء السفسطائيون متفرقون، من حيث انتمائهم إلى المدن التي يتواجدون بها، فأغلبهم قضى فترات طويلة في مدينة أثينا، لكنهم في المقابل لم يتمتعوا بوضع المواطنة، لأنهم أجانب قدموا إليها من مدن مختلفة. إضافةً إلى ذلك، فقد تبنى السفسطائيون، مواقف وتصورات مختلفة، حول القضايا والمسائل المطروحة للنقاش، وبشكل خاص المثل العليا السائدة في أثينا. غير أنهم في المقابل، يشتركون إلى حد بعيد في المنهج المستخدم، والقائم على التشكيك في المبادئ، المعارف والمعايير السائدة، والتي اعتبرت لفترة زمنية طويلة، على أنها حقائق مطلقة، غير قابلة للنفي أو على الأقل التشكيك والجدل.
1. السفسطائية: دلالات التسمية:
ارتبطت تسمية السفسطائية في المقام الأول، بتاريخ الحضارة اليونانية خلال العصر الكلاسيكي، الذي سادت فيه النظم الاجتماعية والسياسية المتمحورة حول دولة المدينة. ثم توسع استعمالها بتأثير من التاريخ اليوناني، لتأخذ دلالة مشهورة، تدور حول المفهوم السلبي للممارسة السياسية، وبعض أوجه العلاقات الاجتماعية. غير أن المعنى الشائع للسفسطائية، هو بمثابة الشجرة التي تغطي الغابة، فالدلالة السلبية التي ترتبط في الفهم العامي، لا تعتب الدلالة الوحيدة بقدر ما تشكل المعنى الشهور، إلا جانب معاني أخرى. والتي يُمكن تلخيصها في:
- الدلالة اللغوية:
تشتق الدلالة اللغوية لمصطلح سفسطائي، من نفس الجذر التي تشتق منه كلمة فلسفة، أي صوفيا Sophi، وتعني الحكمة. وبهذا المعنى يكون لاصطلاح السفسطائي، دلالة المشتغل بالفلسفة أو الحكمة، سواء باكتسابها أو نقلها للآخرين.
- الدلالة الاصطلاحية:
وقد ارتبطت بإحدى مراحل التاريخ اليوناني بشكل عام، خاصةً في مرحلة دولة المدينة، حيث كانت صفة ملازمة للمدن الديمقراطية. فالسفسطائية في هذه الحالة جاءت لتلبية حاجة اجتماعية، تتعلق بتعلم أساليب العمل السياسي، مثل الإقناع، الخطابة والقدرة على إدارة الجدل. ونتيجة لذلك فقد ظهرت مجموعة من الفلاسفة، تتولى تعليم فنون العمل السياسي، مقابل تلقي أجر مالي من المتعلمين. وقد ساهم ذلك في اكتساب هذه المجموعة لسمعة سيئة، حيث لم يكن من المقبول في أوساط الفلاسفة، تلقي الأموال مقابل التعليم.
- الدلالة العامة/الشائعة:
انتشرت هذه الصورة النمطية، نتيجة تدهور الحياة السياسية والاجتماعية، في بلاد اليونان القديمة، حيث لم تعد المعرفة هي الهدف الأساسي من عملية التعلم، بل تركز الاهتمام على تحقيق الغايات السياسية، بغض النظر عن أخلاقية الوسائل. حيث أصبحت أساليب الخداع والمراوغة، أحد المواضيع الأساسية للمعرفة السياسية، بهدف الوصول إلى احتلال المناصب السياسية، ومحاولة البقاء فيها.
وفي هذا المجال، فسيكون اهتمامنا منصباً حول المدرسة السفسطائية، باعتبارها تياراً فكرياً، استخدم الجدل والتشكيك، من أجل اختبار البادئ المعرفية القائمة، والتأسيس لمعرفة اجتماعية، أخلاقية وسياسية جديدة.
2. مبادئ جورجياس حول المعرفة:
يُعتبر جورجياس من أهم رواد المدرسة السفسطائية، وأحد أبرز الأمثلة على استعمال المنهج الجدلي، والتشكيك في المبادئ السائدة. ويظهر ذلك من خلال المبادئ، التي طرحها حول حقيقة المعرفة، والتي جاءت كما يلي:
لا شيء موجود.
وإذا وُجد أي شيء، فلا يُمكن معرفته.
حتى ولو المعرفة ممكنة، فلا يُمكن مشاركتها ونقلها إلى الآخرين.
نلاحظ من خلال المبادئ السابقة، أن المقدمتان الأولى والثانية، اللتان تنفيان وجود الأشياء، وإمكانية التوصل إلى أية معرفة حولها، تُفضيان في نهاية المطاف، إلى انعدام القدرة على التوصل إلى نشر ونقل أية معارف ممكنة حولها، لبقية أفراد المجتمع. ونتيجةً لذلك، لا يُمكن تكريس أية معارف أو أفكار، على أنها حقائق يقينية، أو صحيحة بشكل مطلق، وقابلة للتعليم للغير على أنها كذلك. ويُمكن النظر إلى افتراضات جورجياس، من خلال زاويتين مختلفتين، تُساعد على فهم المعنى المقصود بهذه المقولة.
- الأولى: طرح جورجياس أفكاره حول المعرفة وعدم إمكانية تكوينها أو نقلها للآخرين، وهو ما يبدو أنه يتناقض بشكل واضح، مع الأنشطة التي يُمارسها كفيلسوف وكمعلم. غير أن هذا الطرح يتضمن وجهة نظر منطقية، مفادها عدم إمكانية التوصل إلى معرفة صحيحة بالمطلق، وبالتالي فإن ما يُتوصل إليه من نتائج، لا تتماشى مع التعريف القائم للمعرفة في عصره.
- الثانية: ونستخلصها من الافتراض الأول، ومفادها أنه إذا كانت المعارف القائمة محل شك، فإن كل القواعد، المعايير الأخلاقية، المسلّمات الاجتماعية والمبادئ السياسية، المنبثقة عن هذه المعرفة، ستكون بدورها محل شك. وينطبق ذلك على المفاهيم الأساسية، والمثل العليا للسياسة في المدن اليونانية، كالأخلاق، الحرية، المساواة، العدلة والقانون...إلخ.
3. بروتاغوراس: معيارية الإنسان:
لا تقل مساهمات بروتاغوراس، في البناء الفكري للمدرسة السفسطائية، عن أهمية أفكار جورجياس حول المعرفة والمنهج الشكي. فقد ذهب المفكران إلى تبني افتراضات متقاربة نسبياً، حيث يُمكن ملاحظة التكامل بين هذه الافتراضات، من خلال المبدأ العام الذي تبناه بروتاغوراس، حول محورية الإنسان، باعتباره المعيار الأساسي في تكوين المبادئ. ويذهب في هذا الصدد إلى القول:
"إن الإنسان هو مقياس الأشياء جميعاً، هو مقياس وجود ما هو موجود منها، مقياس لا وجود ما لا يوجد".
يتجه البعض إلى قراءة سطحية لهذا الافتراض، من خلال اعتبار أن الإنسان هو أصل كل الأشياء، فهو من يتسبب في وجودها أو عدمه. غير أن المقصود من هذا القول ليس الإنسان كسبب لوجود الأشياء، بل كمدرك لهذا الوجود. فالمعارف المكونة حول الطبيعة، ومختلف الظواهر المادية والاجتماعية المحيطة بالإنسان، ليست معطيات مسبقة لوجوده، بل هي معارف يتوصل الإنسان إلى تكوينها، انطلاقاً من الملاحظة التي يُمارسها عن طريق الحواس. واعتماداً عليها يقوم الإنسان بإدراك، وتفسير الظواهر، وتكوين حقائق حولها، حيث تكون الحواس -والعقل- معبراً للوصل إلى تشكيل المعرفة.
وكنتيجة مباشرة لهذا المنطق، فإن المعارف المتوصل إليها، حتى وإن كانت صحيحة، استناداً إلى المنهج المستخدم في التوصل إليها، فإنها مع ذلك لا يُمكن أن تكون ثابتة. فصحة هذه المعرفة، تكون مقترنة بالوسيلة المستخدمة أي الحواس، وهو ما يعني أن هذه الأخيرة، يُمكن أن تساهم إلى التوصل إلى نتائج مختلفة، إذا تم استخدامها في ظروف مختلفة. وينطبق ذلك على المبادئ العامة السائدة في المجتمع، سواءً في المجال الاجتماعي، أو حتى السياسي، من خلال تشكيك بعض السفسطائيين في التنظيم الطبقي السائد في المدن، أو الجهة التي يُنسب إليها أصل القوانين...إلخ.
يُنظر إلى مبادئ المدرسة السفسطائية، على أنها أحد مظاهر الجدل والنقاش، حول المسائل السياسية، الاجتماعية والأخلاقية، التي تُطرح على أنها حقائق مطلقة الصحة. وهو ما اعتمده السفسطائيون، كأحد مظاهر التدريب الذي تلقاه تلاميذهم من المواطنين، على مناقشة الشؤون العامة للدولة، كأحد الوسائل المساعدة على الوصول إلى السلطة والبقاء فيها. غير أن هذه المبادئ، اعتبرت من جهة أخرى محاولة لإعادة لنظر، في القيم الفكرية، الأخلاقية المطلقة، المستمدة من المدارس الفكرية السابقة للعصر الكلاسيكي.
غير أن هذه المدرسة كذلك، بقيت إلى غاية اليوم مُعرضة للانتقاد وعدم القبول، بسبب المنهج المعتمد القائم على التشكيك. فرغم الشعبية التي حظيت بها المدرسة السفسطائية، كأحد مصادر التثقيف السياسي، إلا أنها مع ذلك قوبلت بمواقف سلبية، على المستوى الفكري أولاً، ثم انتقل ذلك إلى بقية المستويات الشعبية. فقد تعرضت هذه المدرسة للنقد الشديد بسبب:
- أولاً: اشتراط السفسطائيين تلقي مقابل مادي، كشرط للقيام بعملية التعليم، سواءً في المجالات الفكرية والفلسفية، أو في مجال الفنون والتقنيات السياسية. فقد تشكلت هذه المدرسة في أغلب الحالات، من أجانب استقروا في أثينا من أجل الاستفادة من الأوضاع الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، لتحسين أوضاعهم الاقتصادية. غير أن ممارسة مهنة التعليم مقابل أجر، لم تكن من بين الأنشطة المقبولة أخلاقياً في أثينا بشكل خاص. وفي هذا السياق، فإن ارتفاع تكاليف التعليم، جعلت هذا الأخير يقتصر على فئة صغيرة من المجتمع، حيث لم يكن المستوى الاقتصادي لكثير من المواطنين، يسمح لهم بتحمل تكاليف تعلم فنون المناقشات السياسية العامة.
- ثانياً: اُعتبر التشكيك المستمر، الذي شكل خاصية لصيقة بالمدرسة السفسطائية، جدلاً عقيماً لأنه لم يكن سبباً في تصحيح المعارف الخاطئة، بل مدخلا لنقاش مستمر، لا يُمكن أن يُفضي إلى نتائج. كما أنه يؤدي إلى المساس بالمبادئ والمعايير الأخلاقية، التي تكم السلوكات والعلاقات الاجتماعية، وهو ما يُعيد النظر في المنظومة الأخلاقية، التي تحكم الشؤون العامة، وحتى إدارة الدولة ككل.
خاتمة
ورغم هذا الموقف السلبي من المدرسة السفسطائية، إلا أن انتاجها الفكري، شكل أساساً للعديد من الأفكار الأخلاقية والسياسية، سواءً في المرحلة اليونانية أو ما بعدها. خاصةً تلك التي تتضمن إعادة النظر في المبادئ الاجتماعية السائدة، من خلال اللجوء إلى المنهج الجدلي، من أجل التوصل إلى تحقيق هذا الهدف. ويظهر ذلك حتى لدى بعض المفكرين، الذين أبدوا مواقف معارضة، أو حتى معادية للأفكار السفسطائية، ويُعتبر أفلاطون من أهم الأمثلة على ذلك.