البنائية في العلاقات الدولية

انطلقت محاولات تحويل حقل العلاقات الدولية، إلى مجال معرفي مستقل ببنائه النظري والإبستمولوجي، المتميز نسبياً عن بقية مجالات العلوم السياسية. حيث بدأت عملية التنظير في هذا الحقل، تأخذ طابعاً أكثر متانة مع أفكار المثاليين خلال مرحلة ما بين الحربين، ثم الواقعيين الكلاسيكيين خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد جاءت هذه الأفكار على أنقاض المناهج السابقة لهذه المرحلة، القائمة على دراسة التاريخ الدبلوماسي، وكذلك دراسات القانون الدولي، والتي لم تُوفر تفسيراً عقلانياً لمختلف ظواهر العلاقات الدولية. لهذا فقد اهتمت نظريات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بفهم سلوك الدول ومحاولة تحديد الأنماط السلوكية المتكررة، وذلك من خلال مبادئ فكرية عامة، يتم اللجوء إليها لتفسير مختلف السلوكات، الممتدة عبر درجات متنوعة من التعاون إلى الصراع.

جاءت البنائية الاجتماعية أولاً في إطار العلوم الاجتماعية (فلسفة العلوم، علم الاجتماع...إلخ)، بهدف إدخال تعديلات على أسلوب/منهج العمل، المعتمد في هذه المجالات المعرفية، في تفسيرها لمختلف الظواهر الاجتماعية. غير أنها انتقلت إلى مجالات معرفية أخرى مثل علم العلاقات الدولية، ويُنسب انتقال المنهج البنائي إلى هذا الحقل، إلى نيكولاس أونوف Nicolas G. Onuf، في كتابه "عالم من صنعنا World of our making". لذلك فقد حافظت البنائية على الكثير من مبادئها الأصلية، المستمدة من النتائج المتوصل إليها في مجالات العلوم الاجتماعية، فقد منحت أهميةً تفسيرية للهوية، باعتبارها إدراك الفاعل لذاته، إضافةً إلى دور البنية الاجتماعية...إلخ.

1.    البنائية الاجتماعية في حقل العلاقات الدولية:

بانتقالها إلى حقل العلاقات الدولية، فقد سعت النظرية البنائية Social constructivism، إلى تقديم بدائل نظرية، لسد ثغرات في الاتجاهات المهيمنة، على رأسها الاتجاه الواقعي (الواقعية البنيوية واللبرالية الجديدة بشكل خاص). حيث منحت البنائية أهمية للعوامل التي لطالما أهملتها التيارات العقلانية، وعلى رأسها هوية الفاعلين، والبنية الفكرية والمعيارية، كأساس لتعريف المصالح المادية.

وتعتقد البنائية في هذا السياق، بعدم كفاية الأسس المادية التي اعتمدت عليها، الاتجاهات السائدة في حقل العلاقات الدولية، حيث لم تتمكن من التنبؤ بمسارات تطور السياسات الدولية (القوة، التجارة الدولية...إلخ). لهذا تعتبر الدراسات المجراة في هذا الصدد، أن انتهاء الحرب الباردة قوض "المزاعم التفسيرية للواقعيين الجدد واللبراليين الجدد، فلم يتنبأ أي منهما أو حتى استطاع أن يفهم بطريقة صحيحة التحولات النظامية التي أعادت تشكيل النظام العالمي". وقد اعتبرت البنائية على النقيض من ذلك، أن البنية الفكرية المحيطة بالفاعل، وتصوره لهويته الذاتية، وكذلك تفاعل تصورات مختلف الفواعل لهوياتهم، يجعل من الممكن تفادي الثغرات التي لحقت بتحليل العقلانيين للعلاقات الدولية.

لم يرفض البنائيون الاجتماعيون، بشكل مطلق تصورات التقليديين حول السياسة الدولية، بل اعتقدوا بعدم كفايتها من أجل فهم أحسن للظواهر/التفاعلات الدولية. لذلك فقد احتفظت البنائية ببعض الفرضيات، حول حالة النظام الدولي (الفوضى كبنية للنظام)، وكذلك أسس التفاعلات بين الفواعل، ودوافع سلوك هذه الأخيرة. فالبيئة الدولية حسب الاتجاهات النظرية الأخرى، هي مسرح تفاعلات ذات خصائص محددة سلفاً، وما على الفاعلين إلا التفاعل في إطارها. وبالتالي فإن سلوك هؤلاء الفاعلين، غالباً ما يكون محدد بشكل مسبق، حيث تكون متوافقة مع مضامين النظريات المحددة. فالافتراض المسبق بأن النظام الدولي هو ذو خاصية فوضوية، أو نظام قائم على الاعتماد على النفس Self help، يعني بالضرورة تضاؤل إمكانيات بناء تعاون دائم، في مقابل زيادة احتمالات العنف في العلاقات المتبادلة. فسلوك الفاعلين في العلاقات الدولية، محكوم بمحددات مثل: المصلحة، القوة، العقلانية...إلخ، تُمارس تأثيراً مسبقاً على الفاعل. حتى قبل انخراطه في تفاعلات البيئة الدولية.

وفقاً للمنهجية البنائية، فإن الاعتماد على التيار المهيمن في دراسة العلاقات الدولية، سيُفضي إلى روابط سببية لا توضخ حقيقة الظواهر موضوع البحث. لذلك فقد وجّه البنائيون الاجتماعيون -على رأسهم ألكسندر وندت-، نقداً واسعاً لهذا الاتجاه المهيمن، حيث تركز الانتقاد على أفكار الواقعيين الجدد. وقد شمل النقد بشكل خاص تصورات كينيث والتز K. Waltz، حول محركات سلوك الدول/الفواعل، والتأثير الذي تُمارسه البنية الدولية. فمن وجهة نظر البنائية، فإن المعاني التي يمنحها الواقعيون البنيويون لهذه المفاهيم، لا تسمح بالوصول إلى تفسير صحيح لدوافع السلوك الخارجي لمختلف الفواعل، وعلى رأسها سلوكات السياسة الخارجية.

تنطلق الواقعية البنيوية -خاصةً أعمال كينيث والتز-، من الافتراض بأن فهم البنية الدولية، يعتمد على ثلاثة عناصر أساسية، باعتبارها أهم خصائص البنية الدولية، وإحدى أهم المؤثرات على سلوك الدول. وتتمحور هذه العناصر حول المبادئ المنظِّمة Ordering principles، أو القواعد التي تنظم سلوك الدول تجاه بعضها، في شكل قانون دولي مُلزم. وكذلك خصائص وأدوار الوحدات والفواعل المشكلة للبنية The character of unites، على اعتبار أن الفواعل هي ذات طبيعة متنوعة من حيث الخصائص، القدرات وكذلك الوظيفة داخل البنية الدولية. وأخيراً يمنح والتز أهمية بالغة لطبيعة توزيع القدرات The distribution of capabilities بين فواعل البنية، وهو ما يُشكل أساس الاختلاف الفعلي بين الوحدات، أولاً من حيث الشكل، وثانياً من حيث الدور والمكانة. فالخصائص العامة للبنية الدولية، تختلف بشكل كلي عن خصائص البنية الداخلية للنظام السياسي، لذلك فإن القواعد المحددة لسلوك الفاعلين، ستكون مختلفة بشكل جذري بين البيئتين الداخلية والخارجية. 

تُشكل هذه العناصر وفقاً للواقعية البنيوية، محدداً للسلوك الخارجي الدول، من خلال اعتبارها أساساً لإدراك صانع القرار، للمواقف الدولية المتضمنة في التفاعلات القائمة بين الفواعل. وبالتالي فهذه العناصر تُحدد الخيارات الأساسية للسياسة الخارجية، والتي عادةً تكون وفق أنماط محددة مسبقاً، من الأفعال وردود الأفعال. غير أن هذه العوامل المحددة بهذا المفهوم، تُمارس تأثيراً آلياً على السياسة الخارجية، دون تحديد الواقعيين الجدد، للعلاقة السببية المتضمنة في هذا الدور. فاللجوء إلى القوة في العلاقات الدولية، هو نتيجة حتمية مباشرة للطبيعة الفوضوية للنظام الدولي، وغياب التوزيع السلطة القانونية، التي تمتلك حق اللجوء إلى العنف المشروع، كما هو عليه الحال في حالة النظام السياسي الداخلي.   

 ويبقى التساؤل حول الكيفية التي تحدد من خلالها، عناصر البيئة سلوك الفاعلين المختلفين، وبتعبير مختلف مدى ممارسة البنية بمفهومها السابق، تأثيراً فعلياً في سلوك الفواعل. فهذه العناصر موجودة بشكل مستقل عن الفواعل، وكذلك فهي موجودة قبل انخراط تلك الفواعل في مختلف صور التفاعلات الدولية. وهو ما يُشكِّل الأساس الذي انطلق منه البديل البنائي، والذي لم يلغي هذه العناصر المادية، بل أضاف عناصر أخرى ذات طبيعة غير مادية، حيث تكون البنية Structure، عبارى عن خليط من العناصر المتفاعلة. فالبنائية الاجتماعية تعتبر أن "بنية أي نظام اجتماعي The structure of any social system، يتضمن ثلاث عناصر: ظروف مادية Material conditions، مصالح Interests، وأفكار Ideas".

تعتبر الأفكار كعناصر غير مادية، من الإضافات التي أدخلتها البنائية الاجتماعية، على دراسة سلوك الفاعل Agent في العلاقات الدولية. غير أن الأمر لا يتعلق فقط بالاعتماد على الأفكار، بل بجعلها عنصراً أساسياً في التحليل، وليس باعتباره مجرد متغير مساوق للمتغيرات الأخرى. لذلك فإن التسليم بأن البنية Structure وفق المفهوم البنائي، كقاعدة مركبة لتفسير العلاقات الدولية (ظروف مادية، مصالح، أفكار)، على أنها ذات وظيفة سببية فقط. سينجر عنها نفس المشكلة النظرية التي طرحتها الاتجاهات المسيطرة، وهي عدم القدرة على التنبؤ بتطور التفاعلات الدولية. لذلك فإن البنية لابد وأن تكون ذات بعد تفسيري، يُمكن من خلالها تفسير سلوك الفاعلين من جهة، وبعداً آخر لا يقل أهميةً، وهو البعد التكويني. أي أنها لا تُفسِّر سلوك الفاعل فقط، بل تُساهم في تشكيله، ليس بشكل مسبق بل أثناء التفاعلات الحاصلة بين مكونات/فواعل البنية.

حاول البنائيون تفادي الوقوع في نفس خطأ التقليديين، من خلال تجنب افتراض عدم المساواة، بين العناصر المادية وغير المادية المشكلة لبنية النظام. وعلى العكس من ذلك يفترض البنائيون، أن العناصر الثلاثة متساوية من حيث المكانة، ولا يُمكن تهميش أي منها، حيث تُشكِّل قاعدة أقوى لتفسير العلاقات الدولية. فوفقاً للمنظور البنائي فإنه بدون أفكار لن تكون هناك مصالح مادية، والتي بدونها لن يكون هناك ظروف مادية ذات معنى Meaningful material conditions، وبدون هذه الأخيرة لن يكون هناك واقع على الإطلاق. أي أن العلاقة بين تلك العناصر هي علاقة تفاعلية، وليست علاقة تأثير تُمارسها بنية تحتية، تجاه بنية فوقية مكونة من هويات وأفكار، فهويات الفاعلين وأنماط سلوكهم، تكون نتاجاً للعناصر الثلاث المكونة للبيئة.

غير أن الاعتقاد بأن البنية، تساهم في تشكيل هوية وسلوك الفاعل، من خلال المساهمة في تشكيل المصالح لا يعني بالضرورة، أن يتم ذلك بنفس الطريقة التي افترضها التقليديون، أو حتى أن يتم ذلك بشكل فردي أو آلي. حيث يتم تشكيل الهوية من خلال عملية تفاعلية مستمرة ودائمة، بين فاعلين متعددين ضمن بيئة محددة. وهو ما يُنتِج نوعاً من الفهم المشترك والتفاعلي للهوية، وبالتالي يُساعد على إدراك مصالحه، وبذلك تحديد خياراته في العلاقات مع فاعلين آخرين.

2.     السياسة الخارجية تفاعل للبنية والهوية:

يفترض التقليديون بشكل عام، أن المصلحة هي ما يُولِّد/يحرِّك سلوك الدول/الفواعل، لذلك يُفترض أن يكون هؤلاء من طبيعة عقلانية، أي أن الفاعل سيكون اقتصادياً بالدرجة الأولى، يتصرف ضمن ثنائية الكلفة والفائدة. أما الطرح البنائي فيعتبر الفاعل لا يجب عليه فقط تنفيذ حسابات الربح والخسارة، بل قبل ذلك يجب عليه إدراك مصالحه الأساسية، وهذا الإدراك لا يتوفر آلياً بخيارات عقلانية، يل يتوقف على عامل الهوية Identity.

يعرِّف ألكسندر وندت A. Wendt الهوية، على أنها تصور للفاعل أو لماهيته، فهي "خاصية للفاعلين القصديين Property of intentional actors، تُولِّد دوافيعة وميولاً سلوكية Motivational and behavioral dispositions. وهذا يعني أن الهوية في الأساس هي خاصية ذاتية أو أُحادية Subjective or unit-level quality متجذرة في فهم الفاعل لذاته". وقد يكون هذا التصور هو السائد، في مختلف محاولات تحديد مفهوم الهوية، لذلك فإن إبقاءها بهذا المعنى سيؤدي إلى نفس نتائج التصورات التقليدية. أي عدم القدرة على إيجاد تفسير مقبول، لمحركات أو دوافع السلوك لدى مختلف الفاعلين في التفاعلات الدولية.

تحاول البنائية نتيجة لذلك النظر إلى الهوية، باعتبارها مًحدِّداً لسلوك الفواعل، بطريقة تختلف عن نظرة الواقعيين للمصلحة أو توزيع القدرات كمحددات. وعلى هذا الأساس لا تعتبر البنائية الهوية على أنها معطى مسبق للتفاعل، بل تكون -كتصور الفاعل لذاته- نتاجاً لعملية تفاعلية مركبة، يتأثر فيها الفاعل بعناصر البيئة وكذلك بتصورات/سلوكات الفاعلين الآخرين.

فرغم أن صورة الفاعل كما يُكوِّنها هو عن ذاته، هي من طبيعة ذاتية بالأساس، إلا أنها عادةً ما تعتمد على مواقف الآخرين. أي ما إذا كانت بقية الفواعل ستنظر إليه وفق نفس الطريقة، وبهذا تكون الهوية ذات خاصية عبر ذاتية Intersubjective، ونظامية/نسقية Systemic. لذلك فالهوية هي نتاج معرفة مشتركة، يتم تكوينها يتم تكوينها بشكل مشترك/تفاعلي. وليست صورة مسبقة يمتلكها الفاعل عن ذاته، بمعزل عن الآخر أو خارج طار التفاعل، حيث نجد هذا التصور للهوية في نظرية صراع الحضارات، أين تحدد الانتماءات المسبقة أنماط السلوك تجاه الآخر، حتى قبل انطلاق التفاعلات بين الفاعلين.

لا تنحصر الهوية بهذا المعنى في معناها العام، والشائع في مجالات الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، بل يُمكنها أن تأخذ صوراً مختلفة، ترتبط بالتفاعلات التي قد تنشأ بين الفاعل، والبنية/البيئة التي ينشط ضمنها. حيث تُمارس كل صورة من صور الهوية دوراً محدداً، في تحديد سلوك الفواعل، وبالتالي تُحدد التوجهات الأساسية للسياسة الخارجية للدول. ويُحدِّد ألكسندر وندت الصور المختلفة للهوية في أربع صور أساسية:

أولاً: الهوية الشخصية Personal\Corporate Indentity:

يُمكن تحديدها بالنسبة للأفراد (شخصية Personal)، أو الدول (تعاضدية Corporate)، حيث ترتبط هذه الهوية بالخصائص الفردية، التي تُميِّز الشخص/الفاعل عن البقية، مثل الحجم، الشكل...إلخ. غير أنها ترتبط كذلك بإدراك الفاعل لخصوصيته، انطلاقاً من تلك العناصر المميزة. وهو ما يخلق وعياً بالذات أو "الأنا"، وبهذا المعنى لا يُمكن لأي فاعل (دول/أفراد)، الحصول على أكثر من هوية شخصية.

ثانياً: هوية النوع Type Identity:

تعبر هوية النوع عن الانتماء إلى صنف اجتماعي معين، حيث تعكس الاشتراك في خصائص محددة، مثل المظهر Appearance، أنماط السلوك Behavioral traits، التوجهات Attitudes، القيم Values...إلخ. أما في حالة الدول فترتبط هوية النوع بطبيعة/نوع النظام السياسي Regime types، أو شكل الدولة Forme of State...إلخ. وهذه الخصائص يُمكن أن تكون نتاجاً للتفاعل الخارجي، وما يُحدثه من تغيرات على مستوى شكل الدول، أو طبيعة نظامها السياسي. مثل حالة التحول من الدولة ذات النظام الشمولي إلى الديمقراطية، دون إهمال الدور الذي تلعبه المتغيرات الداخلية في هذه العملية. فرغم الدور الذي تُمارسه القوى الخارجية، إلا أن الكثير من الحالات توضح أن الدول، بإمكانها التحول نحو نظام ديمقراطي/شمولي، أو التحول إلى دولة مركبة/موحدة، انطلاقاً من مؤثرات وظروف داخلية.

ثالثاً: هوية الدور Role Identity:

تعكس هذه الصورة الدور الذي يُمارسه الفاعل، ضمن تفاعلاته مع بقية الفواعل داخل البيئة، فلا يُمكن إيجاد هوية الدور بمعزل عن هذه التفاعلات. حيث تتداخل تصورات الفاعل لذاته مع تصورات الآخرين لذواتهم، وكذلك تصوراتهم لغيرهم من الفاعلين، وهو ما يُفضي إلى تحديد الدور الذي يلعبه كل فاعل. فهذا العامل يُحدد هوية الفاعل ضمن تفاعلات البيئة، فبإمكانه أن يلعب دور العدو Enemy أو الصديق Friend. فالاتحاد السوفياتي والذي اكتسب صفة العدو بالنسبة للعالم الغربي/الحر منذ الثورة البلشفية 1917، لعب خلال الحرب العالمية الثانية دور الصديق. بنفس الطريقة التي لعبت بها الولايات المتحدة، لدور الصديق الأمني/الحامي، مع دول المجموعة الأوروبية خلال الحرب الباردة، وفي نفس الوقت -تقريباً- اعتبرها الأوروبيون، المنافس/الخصم الاقتصادي الأساسي. إضافةً إلى ذلك يظهر التدخل الفرنسي في المستعمرات الإفريقية السابقة، متوافقاً مع مجموعة من الهويات المتخلفة:

*        الدولة المدافعة عن حقوق الإنسان.

*        الدولة المدافعة عن حق التدخل الإنساني.

*        الدولة ذات النزعة الإمبريالية.

*        الدولة الحليفة لسلطة/دولة فاشلة.

فالدول يُمكنها أن تعكس/تمتلك هويات متعددة، لكن المتغير الأساسي الذي يُحدد الهوية، التي يعكسها سلوك معين، هو الإجراءات المتضمنة في ذلك السلوك. فتدخل فرنسا في المناطق الإفريقية المختلفة، قد يكون بدافع الدولة الأم/المُستعمِر السابق، وهو ما يعكس بالضرورة الدولة ذات النزعة الإمبريالية. أما التدخل من أجل وقف المجازر أو التصفية العرقية، فيعكس هوية الدولة المدافعة عن حقوق الإنسان، أو المدافعة عن حق التدخل الإنساني.

رابعاً: الهوية الجماعية Collective Identity:

يُمكن أن تجمع الهوية الجماعية كل من الشكلين السابقين (هوية النوع، هوية الدور)، حيث يشترك الفاعلون في أدوار معينة، انطلاقاً من الاشتراك في الخصائص أو هوية النوع. ولا يُقصد بالاشتراك في الدور معنى التشابه، بل القيام بدور معين بشكل جماعي، بصرف النظر عن الدوافع الكامنة وراء هذا السلوك الجماعي. حيث يعتبر ألكسندر وندت أن "الدول قد تنخرط في البداية في سياسات ذات بعد اجتماعي Pro-Social policies لأسباب أنانية...ولكن إذا تم الحفاظ/دعم هذه السياسات عبر الزمن، فإنها [أي الدول] ستتخلى عن هويتها الأنانية لتشكيل أُخرى جماعية".

فهذا الافتراض يجعل من خلق الهوية الجماعية أمراً ممكناً، حتى مع التسليم بأن العلاقات/السياسة الدولية، قائمة على منطق الفوضى Anarchy، والاعتماد على النفس. فوجود إمكانية لخلق الهوية الجماعية، يوحي بإمكانية بناء تعاون متين ودائم، حتى في حالة وجود "الراكبين المجانيين"، الناتجة عن أنانية الفاعلين. فسياسات التكامل الأوروبي، لم تنشأ عن هوية أوروبية مشتركة، بل على أساس أهداف مادية فردية، ترتبط بالمصالح الاقتصادية والأمنية للدول الأعضاء. رغم ذلك فإن الكثير من السياسات الأوروبية المشتركة، يتم تطويرها منذ معاهدة ماسترخت، تًشكِّل انعكاساً لهوية أوروبية جماعية، بما في ذلك السياسة الأمنية والخارجية المشتركة، وصولاً إلى السياسة الأوروبية للدفاع.

لا تفترض البنائية الاجتماعية أن العلاقات الدولية، تتميز بسمة محددة مسبقاً في شكل مسلمة، فلا تعتقد بالمسلمات المثالية (مثالية ما بين الحربين)، القائلة بالانسجام الكلي في مصالح الفواعل، ولا المسلمات الواقعية الكلاسيكية، القائلة بتعارض مصالح الفواعل (الدول). فالعلاقات الدولية تكون متوافقة مع الصورة، التي يُكونها الفاعل عن محيطه وبقية الفاعلين، انطلاقاً من الصورة التي يكونها عن ذاته/هويته. في مقابل ذلك تتضمن البنائية مبدأً أساسياً، مفاده أن "الأشخاص يتصرفون تجاه الأشياء، بما في ذلك الفاعلين الآخرين، على أساس المعاني التي تُمثلها لهم تلك الأشياء. فالدول تتصرف تجاه الأعداء بشكل يختلف، عن تصرفاتها تجاه الأصدقاء، فالأعداء يُشكلون تهديداً عكس الأصدقاء".

رغم الاختلافات القائمة بين البنائية والاتجاهات العقلانية الأخرى، إلا أنها عملياً يُمكن أن توفر الأساس الضروري، لشرح فرضيات التقليديين الأساسية. فقد افترض الواقعيون/التقليديون أن المصالح هي المحرك الأساسي لسلوك الدول، لكن البنائية تدّعي أنها توفِّر تفسيراً لكيفية تشكيل المصالح. حيث يعتبر البنائيون أن المصالح لا يُمكن أن تكون محددة بشكل مسبق، بل على الأصح فإنها تتشكل بناءً على هوية الفاعل، التي توفر صورةً عن الذات وعن الآخرين. فالهوية تشير إلى من/ما هو عليه الفاعلون Who or What actors are، أما المصالح فتُعبِّر عما يريده الفاعلون What actors want. أي أن الهوية تُمثِّل الانتماء إلى مجموعة/صنف محدد، أما المصالح فهي تُمثِّل أحد دوافع السلوك، لذلك تفترض البنائية أن الفاعل لا يُمكنه إدراك مصالحه (ماذا يريد)، حتى يدرك قبل ذلك هويته (من يكون). وهو ما يُمكن أن يُقدِّم تفسيراً أوضح لسلوك الفواعل، بشكل يتجاوز الثغرات التي تُميِّز الفرضيات التقليدية، القائمة على عنصري المصالح والفوضى.

تبقى الهوية محدداً للمصلحة في التصور البنائي، حتى في الحالة التي تكون فيها الهوية انعكاساً لمصلحة ما، أو تتشكل بتأثير منها كما يفترض الواقعيون. فالبنائية لا ترفض هذا الاحتمال، بل تعتبره بمثابة التأكيد للقاعدة وليس نفياً لها، فالمصلحة المادية يُمكنها أن تكون مُحدِّداً للهوية. ويؤكِّد ألكسندر وندت هذه الفكرة، لكن ليس باعتبارها استثناءً، بل باعتبارها استمرار للسياق العام للبنائية الاجتماعية. فالمصالح التي تُشكِّل الهوية ستكون انعكاساً لهويات أعمق Deeper identities. فالفواعل "لا تملك محفظة للمصالح Portfilo of intrests، تحملها معها بشكل مستقل عن السياق الاجتماعي، وعوضا عن ذلك فهي تُحدِّد مصالحها، أثناء عملية تحديد الأوضاع/الحالات The process of defining situations".

وانطلاقاً من ذلك، تكون المصالح متغيرة وفقاً لتغير المواقف، والذي ينتج عن تعويض الهويات بأُخرى، خاصة عند الحديث عن هويات الدور، حيث تُرافق لعب الفاعل لدور معين مصالح محدّدة، فعلى سبيل المثال تتخذ دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو حتى فرنسا، هوية الدولة المدافعة عن حقوق الإنسان، أو حق التدخل الإنساني، سيُنتج مصالح مختلفة تماماً، عن تلك المصالح التي يُمكن أن تنشأ، عن تبني نفس الدول لهوية الدولة الإمبريالية، المدافعة عن مجال نفوذها التاريخي، أو الدولة الداعمة لسلطة فاشلة، خاصةً في علاقاتها مع الدول الواقعة ضمن مجال نفوذها التاريخي، الاقتصادي أو الأمني...إلخ.

تُمارس البنية تأثيراً كبيراً على تشكيل هويات الفاعلين، لكن ذلك يتم وفق طريقة تختلف عن الفرضيات التقليدية. فقد تنبهت البنائية الاجتماعية إلى الثغرة النظرية، التي ميَّزت البناء النظري للواقعية الجديدة، التي افترضت أن المصلحة الوطنية، هي ما يُشكِّل سلوك الفاعل، دون توضيح الكيفية التي يتم بها ذلك. لهذا يقترح البنائيون عنصراً مساعداً، لشرح العلاقة بين البنية والهوية وبالتالي السلوك، وهو ما يتمثّل في عنصر المعرفة Knowledge.

لا يُقصَد بالمعرفة في هذا المجال معناها الشائع/التقليدي، باعتبارها مجموعة من الحقائق، المثبتة عن طريق منهج علمي (تجريدي/تجريبي)، يُفضى إلى نتائج مقبولة حول الظواهر، خلال فترة زمنية محددة. في المقابل اعتمدت البنائية مفهوماً للمعرفة، تُعرف بموجبه هذه الأخيرة، على أنها مجموعة من الرموز Symboles، القواعد Rules، المفاهيم Concepts، والمعاني Meaning، التي تُساعِد الفاعلين على فهم بيئتهم، وإعادة تشكيلها. فالمعرفة بهذا المعنى هي آلية لتكوين صور حول البيئة، بحيث تكون وسيلةً لإدراك التفاعلات القائمة ضمن هذه البيئة، وأسس ودوافع تلك التفاعلات...إلخ.

انطلاقاً من المبدأ القائم على التكوين الجماعي للأشياء، فإن هذه المعرفة سيتم تشكيلها على أساس جماعي، يتجاوز ذاتية الفرد أو الفاعل. حيث تُشكِّل نوعاً من الثقافة الدافعة نحو اختيار السلوك، من خلال تكوين القناعات لدى الفاعلين، الذين تتحول سلوكاتهم إلى أنماط مستقرة نسبياً. وينتج ذلك الاستقرار عن الصور التي تشكلت لدى الفاعلين، عن الآخر عبر المعرفة الجمعية، وما تتضمنه من رموز ومفاهيم ومعاني...إلخ. ورغم الاستقرار النسبي لأنماط سلوك الفاعلين، إلا أنها ليست ثابتة بشكل مطلق، نظراً لارتباط هذه الأنماط السلوكية، بالصور المتضَمَّنة في الثقافة/المعرفة المشتركة. أي أن أنماط السلوك تكون عُرضةً للتغيير، بتغير الصور التي يشكلها الفاعلون، عن ذواتهم وعن الآخرين، أو بتعبير آخر بتغير المعرفة التي يكونها الفاعلون حول بيئتهم، والتفاعلات القائمة ضمنها.

إن تركيز البنائية على الهوية والمعرفة، كمحركات/دوافع لسلوك الفواعل، لا يعني نزع الصفة التفسيرية لمبدأ العقلانية، بل هو بمثابة تغيير لمضمونه. حيث لم تعد عقلانية الفاعل قائمة على إجراء الفرق، بين التكاليف والعائدات المترتبة عن سلوك معين، بل أصبحت مرتبطة بمبدأ الملاءمة Appropriateness. أي ملاءمة السلوك مع الهوية، فهذه الأخيرة توفِّر قواعد لاختيار السلوكات، المتلائمة مع تصور الفاعل للأوضاع والتفاعلات القائمة ضمن البيئة. دون أن تكون تلك القواعد مرتبطة بالتوقعات، حول نتائج السلوكات (المكاسب/الخسائر)، كما هو عليه الحال في المعنى التقليدي السائد للعقلانية.

لذلك يرتبط سلوك الفاعل وفقاً لمبدأ الملاءمة، بوجود نوع من الاتفاق المشترك/الجماعي، حول مجموعة من المعايير المحددة، يُمكن من خلالها إطلاق الأحكام المعيارية. أي تسمح باعتبار الأشياء صحيحة True، معقولة Reasonable، طبيعية Natural، عادلة Right، وكذلك خيِّرة Good. وسيكون لدى الفاعل انطلاقاً من هذه المعايير، القدرة على تقييم الخيارات المتاحة، وبالتالي أساس قابل للاختبار لاختيار السلوكات الملائمة، أو على الأقل الضرورية منها، بما يتوافق مع تصوره لهويته، بصورها المختلفة.

ينقل هذا التصور عقلانية سلوك الفاعل، من التناسب مع حسابات التكاليف/العائدات، إلى التناسب مع متطلبات الثقافة، القيم، وكذلك التقاليد الاجتماعية، أو بتعبير آخر التناسب مع متطلبات الهوية. لذلك فالعقلانية القائمة على مبدأ الملاءمة، قد تُوفر حسب البنائية تفسيراً ما، لسلوكات غير مقبولة وفق حسابات العقلانية التقليدية (حسابات الربح والخسارة). فقيام بعض الدول مثل الجزائر، بتحمل تكاليف اقتصادية وسياسية كبيرة، من أجل دعم حركات التحرر (فلسطين، الصحراء الغربية...إلخ)، كأحد توجهات سياستها الخارجية، يتناسب مع هويتها المكتسبة من خلال الحرب التحريرية (1954-1962). رغم أن الجهود الاقتصادية والدبلوماسية المبذولة في هذا الصدد، لا تعود على الدولة بأية فوائد مادية، أو حتى مصالح سياسية واقتصادية، وبالتالي لا تتماشى هذه التوجهات، مع المفهوم التقليدي للعقلانية. 

 إضافةً إلى المثال السابق –الحالة الجزائرية-، يُمكن طرح الأسئلة حول قيام بعض دول منطقة اليورو (خاصةً ألمانيا)، بدعم اقتصاد دول أُخرى عانت من حالة الأزمة المالية، مثل اليونان، البرتغال أو إسبانيا...إلخ. أو قيام بعض دول الاتحاد الأوروبي بتحمل نفقات إضافية، بسبب إعفاء بريطانيا من دفع جزء من مساهمتها في ميزانية الاتحاد. فاستناداً إلى التصور التقليدي للعقلانية، فإن هذه السلوكات تبدوا غير عقلانية، غير أنها تبدوا متلائمة مع مبادئ الهوية والتضامن الأوروبيين.

وعليه فإن الطبيعة المتغيرة للمعرفة Knowledge، وكذلك العقلانية أو الملاءمة Appropriateness، وتعدد صور الهوية التي قد يتخذها الفاعل، إضافةً إلى الطبيعة عبر الذاتية Intersubjective لهذه المفاهيم، قد تُعيد صياغة الدور الذي تلعبه المصالح Interests، في دراسة العلاقات الدولية. فالمصلحة انطلاقاً من ذلك ستكون متغيرة وغير ثابتة، كما أنها ستُعرَّف انطلاقاً من الوضعيات المتغيرة، التي قد يتخذها الفاعل خلال التفاعلات المختلفة ضمن البنية.

وبالتالي يُمكن أن تكون لمصالح الفاعل مضامين متغيرة، أو حتى متناقضة في الكثير من الحالات، مع ذلك تحتفظ بصفتها التفسيرية. حيث يُمكن الاعتماد على المصلحة وفق هذا المفهوم، لتفسير تغير الموقف البريطاني من التكامل الأوروبي، من الرفض إلى السعي للعضوية الكاملة، ثم طرح خيار الاستفتاء الذي تم تنظيمه سنة 2016، من أجل الانسحاب من عضوية الاتحاد. وينطبق نفس المبدأ على تغير صورة الولايات المتحدة لدى الأوروبيين، من الحليف الأساسي لأوروبا، إلى المنافس التجاري الأول حتى خلال الحرب الباردة.

تدعي البنائية تقديم تفسير أكثر عقلانية، لخيارات وسلوكات الدولي في سياستها الخارجية، بشكل أكثر وضوحاً من بقية النظريات في مجال العلاقات الدولية. فاعتبار أن الدول تُحدد هويتها، ومصالحها الوطنية، خلال التفاعلات مع بقية الفواعل، ما يجعل تصورات الفواعل حول الهوية والمصالح متغيرة وغير ثابتة. وهو ما يعني آلياً أن توجهات السياسة الخارجية للدول، قد تتغير بوتيرة مختلفة، وهو ما يفتح المجال أمام تغير تعريف الأعداء والأصدقاء، تغير التحالفات، مسارات التنافس والتعاون...إلخ. فهذا التصور للسلوك الخارجي للدول، يبدو أكثر عقلانية من اعتبار أن تعريف الدولة لنفسها، وتحديدها لمصالحها ودورها في العلاقات الدولية، معطيات ثابتة، ومُحددة بشكل مسبق للتفاعلات ضمن البيئة الدولية.

انطلاقاً من ذلك لا تُمارس الدولة دوراً ثابتاً، فسياستها الخارجية قد تتغير بشكل مستمر، حتى خلال التعامل مع نفس المواضيع. فانطلاقاً من التغييرات السياسية التي قد تعرفها البيئة السياسية الداخلية، تُعيد الفواعل الداخلية تعريف ذاتها، وتعيد بالتالي تعريف بقية الفواعل على المستوى الدولي. وهو ما يعني إعادة النظر في الهوية الذاتية للفاعل (الدولة بشكل خاص)، وبعلاقة متعدية إعادة النظر في هوية بقية الفاعلين، على المستويين الدولي والإقليمي. فقد توصلت الولايات المتحدة، إلى عقد الاتفاق النووي مع إيران، بمساعدة الحلفاء الأوروبيين، مع اعتبار أن هذا الاتفاق هو أحسن الخيارات المتاحة. غير أن صعود التيار الجمهوري المحافظ، جعل من الاتفاق النووي تنازلاً غير مقبول، تستفيد منه إيران وحدها، بما يُهدد الأمن والسلم الدوليين. وهو ما أدى إلى التراجع عن الاتفاق، وتبني خيارات متباينة، مع تلك التي تبنتها الدول الأوروبية الحليفة، وهو ما أعاد الملف النووي الإيراني إلى نقطة البداية. وينطبق نفس المبدأ على التصورات الأمريكية، حول الدفاع الاستراتيجي الأطلسي، وتغير العقيدة الأمنية الأمريكية، من إعطاء الأولوية لاستراتيجية الدفاع في إطارها الأطلسي، توجهات أكثر انعزالية ميزت توجهات إدارة الرئيس ترامب. وقد تم التراجع عن هذين التوجهين مع عودة الديمقراطيين إلى الحكم، حيث استأنفت الولايات المتحدة المفاوضات مع إيران، إضافةً إلى عدوة خطاب دعم الدفاع المشترك في إطار حلف شمال الأطلسي.

حاولت نظرية العلاقات الدولية خلال فترات زمنية مختلفة، تكوين تصورات لسلوك الفواعل وعلى رأسها الدول، ويكفي ذلك لاعتبار أن السياسة الخارجية، شكلت موضوعاً لمختلف التيارات النظرية في هذا الحقل المعرفي. غير أن هذه التيارات من جهة أخرى، عالجت السياسة الخارجية من خلال مبادئ نظرية عامة، تنطبق على مختلف أوجه التفاعلات الدولية، بحيث وهو ما يجعل من هذا الموضوع، مفتقداً للخصوصية والتميز، شأنه في ذلك شأن بقية المجالات الجزئية لحقل العلاقات الدولية. ويُمكن اعتبار ذلك -بتحفظ- نتيجة مباشرة أو حتى غير مباشرة، للرغبة في الوصول إلى نظرية عامة، صالحة لتفسير مختلف أوجه تفاعلات الفواعل في البيئة الدولية. فالدول تحركها المصالح، القوة والقدرات، الحسابات العقلانية...إلخ، سواءً في تصورها للتكامل، النزاع، إدارة العلاقات مع بقية عناصر البيئة الدولية. حتى مع التسليم أن أفعال وردود أفعال الدولة، قد تكون متغيرة أو حتى متناقضة، رغم ثبات حساباتها العقلانية ومصالحها الوطنية.

فتحت المشكلات النظرية التي عانت منها الاتجاهات الكلية، المجال أمام النظريات الجزئية في العلاقات الدولية، للمساهمة في تفسير الظواهر الدولية. غير أنها لم تعتمد في ذلك على المبادئ العامة، التي قامت عليها تصورات الاتجاهات التقليدية، بل حاولت الانطلاق من خصوصيات المجالات موضوع الدراسة. لهذا فقد حاولت بعض الاتجاهات، دراسة السياسة الخارجية باعتبارها سياسة عامة، من خلال التركيز على مسارات صنع واتخاذ القرار. في حين حاولت اتجاهات أخرى الإحاطة بمختلف العوامل المؤثرة، والمحددة لتوجهات السياسة الخارجية، وهو ما انعكس مع نظرية السياسة الخارجية المقارنة. رغم ذلك فقد بقيت المشكلة المزمنة في حقل العلاقات الدولية بشكل عام، ومجال السياسة الخارجية بشكل خاص، تتمثل في عدم إمكانية التوصل إلى نظرية عامة، تتضمن نتائج قابلة للتعميم خارج إطار النماذج المدروسة. أو على الأقل التوصل إلى مبادئ عامة، حتى ضمن إطار الصنف الذي تنتمي إليه تلك النماذج، أي دول كبرى، متوسطة/صاعدة، ودول صغرى.

   

 

  


Modifié le: lundi 28 avril 2025, 17:17