الماركسية الجديدة: تحيين الماركسية في العلاقات الدولية

الماركسية الجديدة: التبعية الاقتصادية كمدخل لتحليل السياسة الخارجية:

     انطلاقاً من التغيرات الكبيرة، التي مسّت البناء العقائدي للدول الاشتراكية، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي، إضافةً إلى التأثيرات الناجمة عن تفكك الإمبراطوريات الاستعمارية، ظهور ما يُعرف بالعالم الثالث. فقد توجهت بعض الاتجاهات النظرية، إلى محاولة التكيف مع هذه التحولات، وينطبق ذلك على مختلف نظريات العلاقات الدولية، بما فيها الاتجاه الماركسي. وقد ظهر نتيجة لذلك اتجاه الماركسية الجديدة أو النيوماركسية Neo Marxism، والمعروف أيضاً باسم نظرية التبعية Dependency theory في العلاقات الدولية.

أولاً: النيوماركسية: من أجل تصحيح الاختلالات النظرية الماركسية:

شكلت النظرية الماركسية موضوعاً للجدل، بين الباحثين حول الوجود الفعلي، لتصورات نظرية ماركسية حقيقية، تساهم في فهم وتفسير تفاعلات العلاقات الدولية. لذلك فقد اتجهت الكثير من التصورات الغربية، إلى نفي وجود نظرية ماركسية للعلاقات الدولية، على اعتبار أنها لم تتطرق بشكل أساسي للمواضيع المختلفة في هذا المجال، بقدر اهتمامها بشكل أساسي بالصراع الداخلي بين الطبقات. لذلك فإن مضمون النظرية الماركسية، المخصص للعلاقات الدولية، مثل الصراع والإمبريالية، لم يكن إلا استطراداً ثانوياً من طرف المنظرين الماركسيين. ومن الأمثلة على هذا التصور، نجد موقف مارتن وايت M. Wight، الذي يعتبر أنه "لا ماركس ولا لينين ولا حتى ستالين، قدموا أية مساهمة ممنهجة في الفلسفة السياسية الدولية La philosophie politique internationale. فحتى أن كل تلك النظريات الثورية، كانت بالأحرى محاولات هادفة لبناء كنيسة عالمية للمؤمنين Une église universelle de croyants". فالماركسية حسب تعليق مارتن وايت، هي ذات طبيعة دوغماتية/مذهبية عابرة للحدود القومية، وهو ما عبر عنه بوصف "كنيسة عالمية للمؤمنين". كما أن الأفكار والنظريات الموضوعة حول الدولة، والعلاقات الدولية...إلخ، تفقد أهميتها باعتبارها مرتبطة وفق التصور الماركسي، بنهاية التاريخ المتمثل في نهاية الصراع الطبقي، وبالتالي زوال الدولة.

رغم وجود تصورات مضادة، تعترف بأهمية الجهود الفكرية لكل من ماركس وإنجلز، وكذلك لينين، في مجال تحليل العلاقات الدولية. حتى وإن كانت هذه الجهود مرتبطة أساساً، بالأفكار السياسية الماركسية، حول النظام الاجتماعي والاقتصادي الداخلي، والتركيز على الصراع الطبقي على المستوى الوطني، أكثر من الاهتمام بالصراعات على مستوى العلاقات بين الدول. فالتصورات الماركسية الكلاسيكية، وإن كانت مُكرّسَة للعلاقات الاجتماعية الداخلية، فإنها مع ذلك شكلت مرجعية فكرية، لما عُرف لاحقاً باسم الماركسية الجديدة، والتي تضمنت العديد من الفروع النظرية، منها نظرية التبعية أو ما عُرف باسم مدرسة أمريكا اللاتينية.

ويُمكن النظر إلى محاولات التقويم، التي قامت بها الماركسية الجديدة، للأطر النظرية التقليدية للماركسية، من خلال موضوعين أساسيين، يُمكنهما المساعدة على استخلاص نتائج نظرية، لفهم وتحليل السياسة الخارجية. وذلك من خلال:

‌أ.  حول بنية وتفاعلات النظام العالمي:  

منحت الماركسية الجديدة أهمية كبيرة للنظام العالمي، باعتباره وحدة التحليل المناسبة للتفاعلات الاجتماعية المختلفة، القائمة في إطار العلاقات الدولية، وهو ما برز مع أعمال إمانويل والرشتاين I. Wallerstein. والذي يعتبر أن التاريخ العالمي، يتميز بمسار مستمر من بروز وزوال سلسلة من الأنظمة العالمية Series of world systems، لا يقتصر التغير فيها، على العناصر الداخلية للنظام فحسب، بل أن كل منها -أي الأنظمة العالمية- له بداية، ووسطي كما سيكون له نهاية. وبذلك فقد خالفت الماركسية الجديدة التصورات الأوروثودوكسية، من خلال عدم اقتصار التصور النظري، على التغييرات التي تمس توزيع الأدوار على المستوى الداخلي. أي وضع تصور لنهاية الصراع الطبقي، بين البروليتاريا والبرجوازية، حول ملكية وسائل الإنتاج، والسيطرة على الدولة باعتبارها أداة لممارسة القهر الطبقي. 

واصلت الماركسية الجديدة في نفس السياق الفكري، بالتركيز على العلاقة بين تطور النظام الدولي، والقوى المشكلة للاقتصاد الرأسمالي. فالنظام الدولي الراهن لم ينشأ حسب والرشتاين، بتأثير من الحرب العالمية الأولى، أو نهاية الحرب الباردة، كما تذهب إليه الدراسات التاريخية والنظرية المعاصرة. بل وبشكل أدق فإن النظام الدولي الراهن، يرتبط من حيث نشأته وفقاً لهذا التصور، بنشأة وتطور النظام الرأسمالي، منذ القرن الـ16. فحسب والرشتاين، فإن "العالم الذي نعيش فيه الآن، أي النظام العالمي الحديث The modern world system، ترجع أصوله إلى القرن السادس عشر. والذي نشأ على أجزاء فقط من الكوكب The globe، وبشكل أساسي في أجزاء من أوروبا والإمريكيتين، ثم توسع ليشمل كل الكوكب. إنه وكما كان دائماً اقتصاد عالمي A world economy، كما أنه وكما كان دائماً اقتصاد عالمي رأسمالي A capitalist world economy".

أي أن القوى الدافعة لتطور وتوسع النظام العالمي، لا تخرج عن كونها قوى الأساسية للنظام الاقتصادي الرأسمالي، ذو الطبيعة العالمية. وبذلك فقد حافظت الماركسية الجديدة، على المبدأ التقليدي للماركسية، وهو اعتبار أن القوى الأساسية في النظام الدولي، ماهي إلا القوى الرأسمالية. لذلك فإن مختلف التفاعلات بين مختلف فواعل هذا النظام، لا يمكن أن تتم إلا من خلال القواعد، القيم، المبادئ الأساسية للاقتصاد الرأسمالي، مثل حرية المنافسة والتبادل التجاري...إلخ. وهو ما سيفتح المجال، أمام تدخل مجموعة متنوعة من الفاعلين، فإلى جانب الدول ذات السيادة، تتدخل فواعل السوق العالمي، مثل الشركات متعددة الجنسيات، وكذلك الفاعلين الاقتصاديين المؤثرين. لهذا تبدو الماركسية الجديدة على أنها ذات منظور تعددي، لا يحصر الفاعلين في العلاقات الدولية، في الدول المستقلة ذات السيادة، أو حتى في الطبقات الاجتماعية على المستويين المحلي والعالمي، كما ذهبت إليه الماركسية التقليدية.

غير أن التفاعل وفق مبادئ الاقتصاد الرأسمالي، والخضوع لمنطق الحرية والمنافسة، لا يخلق فاعلين يتمتعون بنفس المكانة، وبالمساواة في الاستفادة من الفرص الاقتصادية، التي يُتيحها الاقتصاد العالمي الرأـسمالي. ويتضمن تصور الماركسيين الجدد لبنية النظام العالمي، أن هذه الأخيرة تعكس التفاوت بين الدول، التي يُمكن تصنيفها إلى دول مستفيدة من النظام الاقتصادي العالمي، وهي المجموعة التي تُشكل المركز Center، في مواجهة الدول المُستغلَّة والتي تُشكل في مجموعها أطراف النظام Peripheries. ويُضيف والرشتاين مجموعة ثالثة من الدول، والتي تحتل موقعاً وسيطاً بين المركز والأطراف، وتجتمع فيها خصائص من المجموعتين السابقتين، يُطلق عليها اسم الدول شبه الطرفية Semiperipheral States.           

انطلاقاً من ذلك فقد تبنت الماركسية الجديدة، نفس المنظور البنيوي، عند دراسة تفاعلات النظام الدولي، والذي يتميز بعدم الانسجام القائم بين دول المركز، ودول الأطراف. وبالتالي يُمكن تقسم دول النظام الدولي، إلى برجوازية عالمية تتمثل في دول المركز، وبروليتارليا عالمية تُمثلها دول الأطراف، تسود فيما بينها علاقات استغلال وتبعية. وذلك وفق نمط مشابه للفكرة العامة للنظرية الماركسية، القائمة على استغلال الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج، والذي تُمارسه على الطبقة الكادحة، والتي لا تملك أكثر من قوة العمل. فهذه الطبقة لا تملك القدرة على تحقيق التراكم المالي، وبالتالي لا يُمكنها إلا العمل لضمان تجديد قدرتها على العمل، وبقائها على قيد الحياة.

يُمكن في نفس هذا السياق البنيوي، ملاحظة مساهمة يوهان غالتونغ J. Galtung، والذي يُصنف بدوره على أنه أحد رواد الماركسية الجديدة. حيث تبنى نفس مبدأ تصنيف دول النظام الدولي، على أساس اقتصادي (مستوى النمو) إلى مناطق المركز في مواجهة الأطراف. غير أن هذا التصور، يختلف عن تصورات والرشتاين حول النظام العالمي، ويتمثل وجه الاختلاف في عدم وجود دول شبه طرفية Semiperipheral States. بل يعتبر غالتونغ أن تصنيف الدول إلى مركز وأطراف، يتكرر حتى داخل الدولة الواحدة. ويذهب في هذا الصدد إلى تقسيم العالم "إلى دول المركز Nations du centre، ودول طرفية Nations de périphérie. وكل دولة لها مركزها وأطرفها الخاصة".  ويظهر التشابه بين اعتبار أن كل دولة مقسمة بين مركز وطرف، وفكرة التقسيم الطبقي للمجتمع الواحد، بين البرجوازية والبروليتارية، والتي تبنتها النظرية الماركسية، رغم أن غالتونغ يعتمد على الدولة على المستوى الخارجي، كبديل للطبقة الاجتماعية التي اعتمدت عليها الماركسية الأوروثودوكسية.

يشترك رواد النظرية الماركسية الجديدة، في تأسيس العلاقة بين المركز والأطراف على الاستغلال، والذي يتم بصور مختلفة، أبرزها الاستغلال الاقتصادي الذي تُمارسه دول المركز، انطلاقاً من مبادئ الاقتصاد الرأسمالي العالمي. فالمركز الذي يحتل مركز المهيمن، وبالتالي يتولى تقسيم العمل على المستوى العالمي، بما يتماشى مع أولوياته ومصالحه الاقتصادية. لذلك عادةً ما تختص دول الأطراف في إنتاج المواد الأولية، الضرورية لتغذية النشاط الصناعي والاقتصادي في دول المركز، بينما يقوم الأخير بإنتاج المواد المصنعة والتكنولوجيا، إضافةً إلى الخدمات بمختلف صورها. لذلك فإن دول المركز تعمل على تكريس مبادئ الاقتصاد الرأسمالي، في المجالات التي تتمتع فيها بميزة اقتصادية على المستوى التجاري. لذلك فقد تم استثناء القطاع الزراعي من مسارات تحرير التجارة العالمية، وذلك بسبب التفوق النسبي لدول الأطراف في هذا القطاع، وكذلك الضغوط التي يُمارسها المزارعون الأوروبيون، من أجل توفير الحماية ضد المنافسة الخارجية.     

ورغم الاتفاق حول المبدأ العام لطبيعة العلاقات بين المركز والأطراف، إلا أن الماركسيون الجدد يختلفون حول التفاصيل، الخاصة بممارسة الاستغلال. ويُمكن في هذا الصدد المقارنة بين تصورين رئيسيين، يُمثل الأول يوهان غالتونغ، بينما يمثل إيمانويل والرشتاين التصور الثاني.

*        يوهان غالتون: تعدد وتداخل المراكز والأطراف: يتضمن هذا التصور الحالة العامة المتفق حولها، بين اتجاهات الماركسية الجديدة، أي وجود مركز مهيمن وأطراف خاضعة له. غير أن غالتونغ يعتبر أن هذه البنية لا تقتصر على النظام الدولي، بل تتكرر على المستوى الممحلي (مستوى الدولة القومية). فكل دولة تتضمن مركزاً وأطراف، بنفس الصورة المجسدة على المستوى الدولي، حيث تتظافر جهود المركز على المستويين الوطني والدولي، من أجل خدمة المصالح المشتركة، والعمل بشكل مشترك على استغلال الأطراف، والموجودة بدورها على المستويين العالمي والوطني. وهو ما يُشكل نسخة مختلفة عن التصور اللينيني للإمبريالية، يُطلق عليه يوهان غالتونغ اسم الإمبريالية البنيوية L’impérialisme structurel.  

*        إيمانويل وارشتاين: الموقع الوسيط بين المركز والأطراف: ينطلق والرشتاين من نفس منطلقات الماركسية الجديدة، أي وجود دول تُشكل مركزاً للنظام العالمي، في مواجهة دول الأطراف. في حين يعتبر أن النظام العالمي، يضم صنف ثالث من الدول، والتي تشترك من حيث الخصائص، مع كل من دول المركز والأطراف. فالدول شبة الطرفية تتمتع بقدرات صناعية كبيرة، اجعلها قادرة على تصدير منتجاتها الصناعية، نحو دول الأطراف. مع ذلك تبقى في نفس الوقت تابعة لدول المركز، فيما يخص المنتجات الأكثر تقدماً، والتي تحتاج إلى تكنولوجيا صناعية متطورة، ومن الأمثلة على هذه الدول، يذكر والرشتاين كل من: البرازيل، كوريا الجنوبية وكذلك الهند.

وبالتالي تكون طبيعة العلاقات أكثر بساطة، حيث يُمارس المركز سياسات اقتصادية، تُستنزف من خلالها موارد دول الأطراف، في حين تعمل الدول شبه الطرفية على تحسين وضعها الاقتصادي باستمرار، من أجل الاقتراب من المركز. غير أنه لا توجد حسب والرشتاين مراكز على مستوى دول الأطراف، تتحالف مع المراكز الأخرى، حسب ما ذهب إليه غالتونغ.

تجدر الإشارة على أن نفس المبدأ المتضمن في تصور والرشتاين، المتضمن وجود دول شبه طرفية بخصائص مميزة لها، عن كل من دول المركز والأطراف، قد تكرر في تصور سمير أمين. والذي اعتبر أن دول الأطراف تضم دول بخصائص اقتصادية مختلفة نسبياً، يُطلق عليها اسم الأطراف من الدرجة الأولى، والتي تُشكل مظهراً لعدم تكافؤ مخرجات حركة التحرر. وفي هذا الصدد يعتبر سمير أمين أن "النتائج اللامتساوية للتصنيع، الذي فُرض على الرأسمال المسيطر من جانب القوى الاجتماعية المولودة من معارك التحرر الوطني المنتصرة، تسمح اليوم بالتفريق بين أطراف من الدرجة الأولى، استطاعت أن تبني نظماً إنتاجية وطنية، تعتبر صناعتها قادرة على التنافس في إطار الرأسمالية المعولمة". ويُضيف إلى هذه القوى الدول المتخلفة، والتي تشترك مختلف تيارات الماركسية الجديدة، في اعتبارها طرفاً في النظام الدولي لمرحلة ما بعد التحرر من الاستعمار.   

‌ب.     موقع الدولة في تفاعلات النظام الرأسمالي العالمي:

إضافةً إلى ذلك، توجهت الماركسية الجديدة إلى اتجاه مختلف نسبياً، عن الأفكار الماركسية التقليدية، فيما يخص نظرتها لفواعل العلاقات الدولية. فقد تأثرت توجهات الماركسيين الجدد، بتطور النظام الاقتصادي الرأسمالي، وتعدد الفاعلين على مستوى التفاعلات الاقتصادية، وبالتالي زيادة تأثيراتها السياسية. لهذا فقد جاءت الماركسية الجديدة بصبغة تعددية Pluralist، فتحت المجال أمام مجموعة متنوعة ومتعددة من الفواعل، ضمن إطار النظام العالمي الرأسمالي. بدل الاقتصار على الصراع الطبقي البرجوازي البروليتاري، والذي تكون الساحة/البنية الاقتصادية والاجتماعية، مسرحاً أساسياً له، قبل أن ينتشر هذا الصراع حو الساحة الدولية، بتأثير من الاحتكارات الرأسمالية. وانطلاقاً من ذلك تشهد الساحة الدولية، تفاعلات متشابكة بين الدول (من المركز والأطراف)، إضافةً إلى الشركات متعددة الجنسيات، والمؤسسات الدولية...إلخ.

اعتبرت الماركسية الجديدة الدولة، بمثابة الفاعل الأساسي في العلاقات الدولية، باعتبارها الفاعل الوحيد المتمتع بالسيادة الوطنية. وبذلك فقد تم إعادة الاعتبار إلى الدولة، كعنصر أساسي، في ميكانيزم اتخاذ القرار بشكل عام، ورسم وصنع السياسة الخارجية بشكل خاص. وبذلك التخلي عن تركيز الماركسية الأورثودوكسية على الطبقة الاجتماعية، أو الحزب الشيوعي كموجه لدور الطبقة الاجتماعية، بالنسبة للماركسية اللينينية. فالدولة تبقى الفاعل الوحيد المستند إلى خاصية السيادة Sovereignty، في مجالات صنع السياسة العامة، والمتمحورة حول تحقيق التنمية الاقتصادية كهدف. وبالتالي فإن تفاعلاتها الدولية بشكل عام، والتي تظهر ضمن سياستها الخارجية، بما في ذلك علاقات دول الأطراف بالمركز، تكون متمحورة حول تحقيق الأهداف الاقتصادية.

غير أن الماركسيين الجدد في المقابل، يعتبرون أن فكرة تمتع الدولة بالسيادة المطلقة، هي بمثابة الخرافة الإيديولوجية Un mythe idéologique. فالدولة حسب والرشتاين لم تكن ابداً، وحدة سياسية مستقلة بشكل كامل Une entité politique entièrement autonome، فقد تأسست ضمن نظام ما بين دولاتي Un système interétatique، مكون من مجموعة القواعد التي تتصرف ضمنها الدول. فهذه الأخيرة تُعلن عن نفسها باعتبارها فاعلاً يتمتع بالسيادة، على الصعيدين الداخلي والخارجي، غير أنها في نفس الوقت تخضع للضغوط والإكراهات الخارجية، التي يُمارسها بقية الفاعلين على الساحة الدولية. خاصةً ضمن التفاعلات ذات الطابع الاقتصادي، والتي تعجز الدولة فيها عن مقاومة الطبيعة الرأسمالية للاقتصاد العالمي، والذي تتمتع فيه الفواعل غير الدولاتية، بقدرة كبيرة على فرض إملاءاتها على الدول القومية. وبذلك فإن والرشتاين يضع موضع شك الافتراض القائل، بسيادة الدولة المطلقة في إدارة علاقاتها الدولية، على اعتبار أن السياسة الخارجية للدولة، ستكون محل ضغوط ومساومات، وقيود تفرضها الالتزامات المختلفة للدولة.

لا يُفهم من إعادة الماركسيين الجدد الاعتبار للدولة، أنهم بذلك يشتركون مع الواقعية التقليدية Realism، في فرضياتها الأساسية المتضمنة للدولة كفاعل وحيد. بل أن هذه الأخيرة على الأصح، تتفاعل ضمن نظام دولي/عالمي رأسمالي تعددي، بالنظر إلى مؤسساته الاجتماعية، والفواعل التي تتفاعل ضمنها، ولا يُمكن تحليل وفهم النظام العالمي إلا من خلالها. حيث يذهب والرشتاين إلى أن النظام العالمي "هو مجموعة متعددة من المؤسسات A collection of many institutions، يُفسر مزيجها عملياتها الأساسية المتشابكة فيما بينها. وتتمثل المؤسسات الأساسية في: السوقMarket   أو بالأحرى الأسواقMarkets ، والشركات The firms، التي تتنافس ضمن هذه الأسواق، دول متعددةMultiple States ، ضمن نظام بين دولاتي Interstate System، العائلات The households، الطبقات Classes، والفئات الاجتماعية Status-groups، أو ما يُطلق عليه بتعبير فيبر اسم الهويات Identities. وبذلك لن يقتصر التفاعل على الدولة، رغم أنه تلعب دوراً أساسياً بالنسبة لبقية الفواعل، حتى في إطار نظام اقتصادي عالمي رأسمالي. وبالنظر إلى ذلك فإن الفواعل في النظام الدولي، لن تقتصر على الدولة مثلما ذهب إليه الواقعيون، أو الطبقة الاجتماعية كما ذهب إليه الماركسيون التقليديون، رغم أن وحدة التحليل الأساسية تبقى النظام العالمي.

ثانياً: السياسة الخارجية: تفاعلات المركز والأطراف:

لم تتضمن النظرية الماركسية، والماركسية الجديدة بشكل خاص، تحليلاً خاصاً للسياسة الخارجية، كآلية لتفاعل الدولة مع بيئتها الخارجية، وبذلك يُمكن القول بعدم وجود نظرية ماركسية للسياسة الخارجية. فقد تمحور الموضوع الأساسي للماركسية الجديدة، في العلاقات الجديدة على الساحة الدولية، بعد ظهور ما يُعرف بالعالم الثالث، الباحث عن التخلص من هيمنة الاقتصاد الكولونيالي. غير أنه ومن خلال إجراء قراءة لتصورات المنظرين الماركسيين الجدد، وبشكل خاص رواد مدرسة التبعية، وتحليل النظام العالمي، يُمكن استخلاص بعض النتائج، حول التوجهات الأساسية للسياسة الخارجية للدولة، من وجهة نظر رواد هذا الاتجاه.

تتمحور الماركسية الجديدة في جزء كبير من تصوراتها النظرية، حول مسألة التنمية والتخلف، وبعلاقة متعدية العلاقات بين الدول المتقدمة اقتصادياً، والدول المتخلف المعروفة عامةً باسم العالم الثالث Third World. فالتخلف ليس وليد الفوضى المؤسساتية، أو نقص الموارد المالية، بل هو حسب اندري غاندر فرانك A. Gunder Frank، نتاج للمسار التاريخي The historical process، الذي أنتج التنمية الاقتصادية، وتطور الرأسمالية ذاتها. وهو ما يعني تكرار الافتراض الماركسي التقليدي، بأن التخلف الاقتصادي لدول العالم الثالث، والنمو الاقتصادي لدول المركز، هما نتيجة لنفس المصدر. عكس ما ذهب إليه رواد نظرية التحديث، الذين يُحملون دول الأطراف مسؤولية التخلف الاقتصادي، لضعف البنية الاقتصادية، وغياب التمويل الرأسمالي للمشاريع التنموية.

وينتج عن هذا الوضع علاقة تبادلية، بين المركز والأطراف، بما في ذلك الدول شبه الطرفية، حيث يُشكل الاقتصاد أوضح مظاهرها. ويتم هذا التبادل وفق قواعد النظام الرأسمالي، على رأسها مبدأ التخصص في الإنتاج، وهي العلاقة التي تتميز بتبادل غير متكافئ، تكون في جميع الحالات لصالح دول المركز. فالدول الطرفية تسعى بشكل عام، إلى تحقيق التنمية الاقتصادية، باستراتيجيات وسياسات اقتصادية، تتماشى مع الأوضاع: السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية وحتى الثقافية الوطنية. في مقابل محاولات المركز الإبقاء على التقسيم القائم للعمل، بمعنى استمرار الأطراف في توفير منتجات محددة (الطاقة، المواد الأولية...إلخ)، بينما يستمر المركز في احتكار منتجات اقتصادية، تضمن بقاء هيمنته على التفاعلات الاقتصادية العالمية. لهذا فقد صنّف الماركسيون الجدد، على غرار والرشتاين، مخرجات العملية الاقتصادية إلى منتجات المركز، ومنتجات الأطراف، ويُعتمد على هذا التصنيف، من أجل تصنيف الدول ذاتها إلى مركز وأطراف.

انطلاقاً من ذلك فإن سعي دول الأطراف، إلى تحقيق نوع من التكافؤ في عائدات التفاعلات الاقتصادية الرأسمالية، يُشير إلى توجهات تعديلية في السياسية الخارجية لهذه الدول. وهو ما يصطدم بالنزعة المحافظة للسياسة الخارجية لدول المركز، والتي تسعى إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه. وهو ما ذهبت إليه الماركسية الجديدة بشكل ضمني، من خلال الحديث عن التوجه التنموي، وكسر دائرة التبعية المفرغة، في مواجهة الإمبريالية البنيوية التي يُمارسها المركز. مع ضرورة التذكير بأن تجسيد التوجهات الأساسية للسياسة الخارجية، لكل من دول المركز والأطراف، لا تتم من منطلقات السيادة المطلقة للدول. وبذلك فهذه التوجهات تخضع للمحددات الداخلية، مثل بنية النظام السياسي الداخلي، وطبيعة القيم الاجتماعية والثقافية، إضافةً إلى القدرات والإمكانيات الاقتصادية. كما تتوقف كذلك على الإكراهات القانونية والسياسية، أو حتى الاقتصادية التي يُمارسها النظام العالمي، سواءً كانت تلك الإكراهات استمراراً لإرادة الدولة (الالتزامات القانونية والدولية)، أو كانت نتيجة لطبيعة التفاعلات الدولية، وتوزيع القوة بين فواعل النظام العالمي.

تنطلق دراسة السياسة الخارجية، لدول المركز والأطراف على حدٍ سواء، من عامل مؤثر عام تشترك فيه مختلف الدول، مهما كان مستواها الاقتصادي، أو موقعها ضمن تفاعلات النظام العالمي. ويتمثل هذا العامل في خضوع الدول للإكراهات المختلفة، التي يفرضها النظام الدولي، وما يتضمنه من التزامات قانونية وسياسية، إضافةً على تأثيرات التفاوت في القوة. فالدول لا تتمتع بامتيازات السيادة المطلقة، التي يعتبرها والرشتاين انطلاقاً من ذلك، بمثابة الخرافة الأيديولوجية غير المتماشية مع طبيعة النظام. وبالتالي فإن السياسة الخارجية، وفقاً للتوجه العام للماركسية الجديدة، تخضع لتأثير نوعين أساسيين من المحددات، هما المحددات الاقتصادية، والمحددات المرتبطة بالبيئة الخارجية للنظام السياسي.

‌أ.  التوجهات التعديلية للأطراف: التنمية كهدف:

جاءت الماركسية الجديدة في ظرف سياسي دولي، تميّز بتصاعد وتيرة التحرر الوطني، وظهور كيانات سياسية ودول جديدة، نجحت بدرجات متفاوتة، في افتكاك استقلالها السياسي عن دول "الميتروبول". لهذا فقد تضمن الخطاب السياسي الوطني، الذي تبناه قادة هذه الدول، السعي لافتكاك الاستقلال الاقتصادي، وكسر التبعية للاقتصاد الكولونيالي، التي نتجت عن فترات طويلة من السيطرة الاستعمارية (المباشرة/غير المباشرة). وقد انعكس هذا الخطاب من خلال جملة من الإجراءات الاقتصادية، السياسية، وحتى الفكرية والثقافية، التي حاولت دول الأطراف تكريسها على المستويين الداخلي والخارجي. فإضافةً إلى تأميم الموارد والصناعات الوطنية، وإعادة النظر في منظومة التعليم...إلخ، دخلت هذه الدول في منظومة من العلاقات الخارجية، التي هدفت إلى الحصول على المساعدة، من أجل تحقيق برامج التنمية الوطنية. وهو ما استدعى صنع توجهات خاصة للسياسة الخارجية، تمحورت بشكل أساسي حول المتغير التنموي كهدف، لضمان المساعدة الضرورية لتحقيق الاستقلال الاقتصادي، والخروج من التبعية للاقتصاد الاستعماري.

تكرر تصنيف دول العالم الثالث/الأطراف، على أنها غير منسجمة من حيث الوضع الاقتصادي، وبالتالي من حيث موقعها في التفاعلات الدولية. فهذه الدول بالنسبة للماركسيين الجدد بشكل عام، هي إما طرفية أو شبه طرفية، حي حين يصفها آخرون بأنها دول متخلفة، وأخرى نامية أو في طريق النمو. لكن الصفة المشتركة فيما بين هذه الدول، هي هامش الحرية الضيق الذي تتمتع به، في مجالات صنع وتنفيذ السياسة الخارجية، بسبب استمرار الحاجة للمساعدات الخارجية من أجل التنمية L’aide au développement. ويعني ذلك أن الدول الطرفية، غير قادرة على تحييد -أو على الأقل تقليص-، تأثير نفوذ القوى المانحة للمساعدات، سواءً أكانت دول أو منظمات دولية. وهذه القوى من شأنها أن تفرض على دول الأطراف، القيام بسلوكات معينة، أو حتى تمتنع عن القيام بها فيما يخص قضايا دولية مختلفة، حتى وإن كان ذلك في مجالات بعيدة تماماً، عن مجالات التنمية الاقتصادية.

رغم الوضع الهش الذي تحتله دول الأطراف، في التفاعلات الدولية على المستويين السياسي والاقتصادي، إلا أنه يُمكنها استغلال الاعتماد المتبادل الاقتصادي لصالحها، من أجل تحقيق بعض أهداف سياستها الخارجية. ويتجسد      ذلك من خلال الموارد الطبيعية والطاقوية، التي تحتاجها دول المركز في ضمان استمرارية نشاطها الصناعي بشكل خاص، وتلبية متطلبات السوق الداخلية. فقد توجهت دول العالم الثالث/الأطراف، إلى استغلال أهمية بعض الموارد الطبيعية، والأولية، كأساس للصناعة أو حتى الحياة اليومية، إلى استغلالها كوسيلة ضغط على دول المركز. وقد كان الهدف الأساسي إدخال تعديلات جوهرية، على السياسة الخارجية لتلك الدول، فيما يتعلق بقضايا معينة تعنيها بشكل خاص. أي أن هذه المحاولات لا تتعلق بإدخال تعديلات جذرية على السياسة الخارجية لدول المركز، حيث يكون نطاق التأثير محدوداً، في قضايا ذات أهمية خاصة بالنسبة لدول الأطراف.

وقد جاء الحضر النفطي الذي مارسته الدول العربية، خلال حرب 1973 على الدول التي أيدت الموقف الإسرائيلي، كأبرز الأمثلة على هذا التوجه. حيث أدى هذا الإجراء إلى إحداث آثار كبيرة، على اقتصادات الدول المستهدفة، وبشكل خاص على السير الطبيعي للحياة اليومية للمواطنين العاديين، وهو ما يُمكن أن يؤثر على نتائج أية عملية انتخابية في تلك الدول. وعلى هذا الأساس فقد بدأت الدول الأوروبية، لما عُرف باسم مسار الحوار العربي الأوروبي، الذي شكّل أساساً لما يُعرف لاحقا باسم الشراكة الأورومتوسطية. وينطبق نفس المبدأ حالياً على المساومات، التي تُمارسها بعض دول العالم الثالث، الواقعة على تخوم دول المركز، من خلال استغلال المخاوف الأمنية، من أجل الحصول على تنازلات سياسية. حيث تتوجه دول الاتحاد الأوروبي، بسبب التبعات الأمنية لظاهرة الهجرة غير الشرعية (أمننة الهجرة)، إلى ضخ المزيد من المساعدات الاقتصادية. إضافةً إلى تقليص الضغوط السياسية، المصاحبة لخطاب ضرورة الإصلاح السياسي، وفق النموذج المفروض من طرف دول المركز.

تنفرد بعض الدول بخصائص مميزة لها عن بقية دول الأطراف، حيث يتم تصنيفها من طرف الماركسيين الجدد، كمراكز داخل منطقة الأطراف. فهذه الدول تحتل موقعاً أفضل من بقية دول العالم الثالث، غير انها في نفس الوقت لم تكتسب كل الخصائص السياسية والاقتصادية، التي تُميز دول المركز. لذلك فإن الهدف الأساسي لهذه الدول، هو اكتساب ما يكفي من المؤهلات، من أجل اللحاق بدول المركز، والتخلص من وضعها ضمن دول العالم الثالث. وعليه فإن هذه الدول تعمل في نفس على توفير الشروط الضرورية، من أجل اللحاق بصنف دول المركز، وفي نفس الوقت تفادي تحقيق نتائج معاكسة، أي عدم التحول إلى درجة أدنى، بتعبير آخر تفادي التحول إلى دولة من الأطراف. لذللك فإن الدول شبه الطرفية، تحشد كل إمكاناتها على المستوى الداخلي، أو على مستوى العلاقات ما بين الدول، من أجل تحقيق هذا الهدف.  ورغم أن التصنيف الدول حسب الماركسية الجديدة، يتأسس على متغيرات اقتصادية بالأساس، مثل طبيعة المنتجات المتخصص في إنتاجها من طرف الدول، إلا أن هذا المسعى يكون له بعد سياسي، تعكسه خيارات محددة في السياسة الخارجية.    

إن تحسين وضعية الدولة، ضمن النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، وتحولها من حالتها شبه الطرفية، إلى دولة مركزية، يكون من خلال تحسين وضعها الاقتصادي، أي بالانتقال إلى أسلوب الإنتاج الذي يُميز دول المركز. فهذه الدول تتخصص وفق تقسيم العمل العالمي، في إنتاج التكنولوجيات المتطورة، والصناعات التي تعتمد على هذه التكنولوجيات، إضافةً إلى قدرتها الكبيرة على ممارسة الاحتكار. وهو ما يضمن لها في نهاية المطاف، القدرة على ضمان استمرارية التراكم الرأسمالي، وبالتالي استمرار القدرة على الهيمنة على النظام الاقتصادي العالمي. غير أن هذا المجال الاقتصادي المحض، يتطلب بدوره تحسين قدرة الدول شبه الطرفية، على استغلال الفرص الاقتصادية المتاحة ضمن هذا النظام. من خلال مجموعة من الإجراءات الاقتصادية، مثل ممارسة مختلف السياسات الحمائية Protectionsit policies، من أجل حماية اقتصادها الوطني من المنافسة. علماً أن هذه السياسات، لم تعد تتمثل في فرض الحواجز الجمركية، والتي تلاشت مع موجات تحرير التجارة العالمية، حيث أصبحت الدول تتوجه نحو إجراءات مالية، لا تتعارض من حيث الشكل مع الترتيبات العالمية في مجال التجارة.

لا تتوقف إجراءات الدول شبه الطرفية، على محاولة تحسين وضعها من خلال الإجراءات الاقتصادية، بل تعمل إضافةً إلى ذلك على زيادة فرصها، ضمن المنافسة التي يعرفها الاقتصاد العالمي. فعمليات نقل الصناعة والتكنولوجيا من المركز، نحو الدول شبه الطرفية، يتسبب في منافسة شديدة بينها، علماً أن ذلك لا يشملها جميعاً، بل يقتصر على عدد قليل منها.

وعليه فإن العلاقات فيما الدول شبه الطرفية، تتسم بغياب الثقة فيما بينها، وبالتالي فهي لا تتوجه نحو تنسيق الجهود فيما بينها، من أجل الاستفادة من عمليات نقل الصناعة. بل على العكس من ذلك تتوجه نحو الاندماج ضمن تحالفات سياسية واقتصادية مع دول المركز، من أجل ضمان الحصول على الامتيازات الاقتصادية، التي تؤهلها لتحسين وضعها الاقتصادي، ضمن النظام الاقتصادي العالمي. أي أن السياسة الخارجية لهذه الدول، تستهدف تحقيق غايات اقتصادية بالمقام الأول، على اعتبار أن المحدد الاقتصادي، يُشكل المؤثر الأساسي على السلوك الخارجي للدول.

أما يوهان غالتونغ فقد تبنى توجهات مختلفة، عن تصورات بقية الماركسيين الجدد، فيما يتعلق ببنية دول النظام العالمي. فهو -كما سبقت الإشارة إليه- يعتمد التصور العام للماركسية الجديدة، أي تصنيف الدول إلى دول مركز وأطراف، غير أنه في نفس الوقت يعتبر أن هذا التصنيف، ينطبق حتى على البنية الداخلية للدولة. ويعتبر غالتونغ في هذا الصدد، أن دول المركز تُقيم مراكز لها على مستوى الأطراف، تحقيق مصالحها الوطنية (الاقتصادية والسياسية)، حيث تكون المحصلة النهائية، استغلال مشترك بين المركز للأطراف. وهو ما يعتبره غالتونغ شكلاً من أشكال الإمبريالية، يرتبط أساساً ببنية النظام العالمي، لا باعتبارها مرحلة في تطور الرأسمالية العالمية.

لهذا فإن السياسة الخارجية لدول الأطراف، تكون مرتبطة بشكل خاص بمصالح دول المركز، وبذلك فإن تحليل السياسة الخارجية للأطراف، يجب أن يأخذ بالاعتبار تدخل البيئة الخارجية (دول المركز)، في تحديد توجهات هذه السياسة. ويُمكن من خلال ذلك اعتبار أن دول الأطراف، يُمكن أن تكون إحدى وسائل تجسيد أهداف دول المركز بطريقة غير مباشرة (بالوكالة)، وأن سياستها الخارجية لا تخرج عن هذا الإطار التحليلي. وهو ما تضمنته الكثير من الأحداث والقضايا الدولية، خلال الحرب الباردة أو ما بعدها، أين مارست دول الأطراف في كل من إفريقيا أو آسيا، أدواراً لصالح القوى الأساسية في النظام الدولي، خاصةً إذا كانت النخب الحاكمة في هذه الدول، تتشارك نفس القيم أو الأيديولوجيا، مع النخب المسيطرة في دول المركز، وهو ما يُحدد مواقف دول المركز، من التغييرات السياسية التي تحدث على مستوى دول الأطراف (تحول ديمقراطي، انقلابات عسكرية، ثورات شعبية...إلخ).

ويُمكن ملاحظة التوجه المختلف، الذي تبناه يوهان غالتونغ مقارنةً مع الماركسيين الجدد، وبشكل خاص إيمانويل والرشتاين. حيث أشار غالتون إلى أنه لا ينتمي إلى الماركسية الجديدة، رغم إجماع الباحثين في مجال العلاقات الدولية، على تصنيفه ضمن هذا التوجه الفكري. غير أنه مع ذلك لا يخرج عن التوجه الأساسي الذي تبناه الماركسيون الجدد، وهو قيام بنية النظام العالمي على مراكز وأطراف، إضافةً إلى علاقة الاستغلال التي تميز طر في النظام. وهو ما يدفع إلى الاستنتاج بتحفظ، أن السياسة الخارجية للأطراف لا تخرج عن طبيعة هذه العلاقة، كما أن صنع هذه السياسة الخارجية، لا يكون بمعزل عن تأثير القوى الخارجية.

‌ب.     التوجهات المحافظة لدول المركز: الإمبريالية البنيوية

تُشكل دول المركز بشكل عام وريثاً للدول الإمبريالية، أي القوى الرأسمالية التي مارست الاستعمار، خلال القرن الـ19، ثم تحولت إلى وضعها الجديد، في نظرية التبعية والماركسية الجديدة بشكل عام، خلال النصف الثاني من القرن الـ20. فرغم نجاح الحركات الوطنية/التحررية، في التخلص من السيطرة الاستعمارية المباشرة، إلا أن دول المركز احتفظت بعلاقات هيمنة اقتصادية على مستعمراتها السابقة. فقد كان من غير الممكن، الاحتفاظ بالسيطرة الاستعمارية المباشرة، بسبب تكاليفها الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية المرتفعة. لذلك فقد اختارت هذه الدول، تعويض سياستها الاستعمارية المباشرة، بربط اقتصادات المستعمرات باقتصاد دول المركز، من أجل استمرار المزايا الاقتصادية التي تمتعت بها دول المركز، خلال المرحلة الاستعمارية (ضمان تدفق المواد الأولية الرخيصة، ضمان حصة كبيرة من السوق...إلخ).  

انطلاقاً من ذلك فإن السياسة الخارجية لدول المركز، لا تخرج عن الافتراض العام للفكر الماركسي، القائل بحتمية الاستغلال الطبقي كميزة للرأسمالية، على المستويين الداخلي والخارجي. وبذلك فإن التوجهات الأساسية لدول المركز، هو ضمان الهيمنة ضمن تفاعلات النظام العالمي، من خلال ممارسة شكل مختلف من الإمبريالية. يُطلق عليها بعض الماركسيين الجدد اسم الإمبريالية البنوية، والتي ترتبط بطبيعة بنية النظام الدولي، أكثر من ارتباطها بالرأسمالية، كما ترتبط بوسائل مختلفة، غير تلك التي تضمنتها تصورات الماركسية الأوروثودوكسية، ويأتي على رأسها العنف المسلح، أو القوة العسكرية.

مارست دول المركز خلال القرنين الـ18 والـ19، سياسات امبريالية استعمارية، استهدفت ضمان تدفق الموارد الطبيعية، وفتح أسواق واسعة للمنتجات الصناعية. وهو الوضع الذي حاولت هذه الدول الإبقاء عليه، بعد الحرب العالمية الثانية وتصاعد المد التحرري، وظهور ما يُعرف باسم العالم الثالث، كلاعب في العلاقات الاقتصادية الدولية. غير أن هذا التوجه لم يكن بنفس الأهداف والغايات، حيث اختلفت أهداف دول المركز، حسب تاريخ علاقاتها مع دول الأطراف من جهة، ووضعها في النظام الدولي من جهة أخرى. فقد توجهت الدول الاستعمارية، لإبقاء هيمنتها المباشرة/غير المباشرة على مستعمراتها، وقد انعكس هذا التوجه من خلال النموذجين الفرنسي والبريطاني.

أما الدول غير الاستعمارية، أو الولايات المتحدة على وجه التحديد، فقد سعت إلى خدمة أغراض استراتيجية وأيديولوجية، وهو ما يظهر من خلال النموذج الأمريكي. وبذلك يُمكن ملاحظة وجود درجة عالية من التباين، بين أهداف محاولات الهيمنة، التي تحاول دول المركز فرضها على الأطراف أو العالم الثالث. فالولايات المتحدة الأمريكية لم تجد في العالم الثالث، أياً من الدوافع أو الفرص الاقتصادية، التي تأسست عليها توجهات الدول الاستعمارية. بل أن العالم الثالث شكل بخصائصه الاقتصادية والاجتماعية، مصدراً للتهديد بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية، بسبب المخاوف من تبني النخب الوطنية للشيوعية، وبالتالي تحوله إلى حليف للاتحاد السوفياتي، في خضم الصراع الأيديولوجي والاستراتيجي الدائر بين المعسكرين. 

وعلى هذا الأساس، فقد توجهت السياسة الخارجية الأمريكية، إلى تبني توجه خاص تجاه العالم الثالث، يُطلق عليه والرشتاين اسم التحرر التعاوني Cooperative decolonization. ويتضمن هذا التوجه أساساً، توجيه الدعم السياسي للحركات التحررية، والأنظمة الشعبية المنبثقة عنها، مع اشتراط أن تبقى هذه الأنظمة ذات توجه معتدل. إضافةً إلى إدماج هذه الدول، ضمن برامج المساعدة المالية والتقنية، من أجل تحقيق التنمية والتحديث الاقتصادي والاجتماعي. مع الإبقاء على إمكانيات اللجوء إلى القبضة الحديدية، من خلال استعمال التدخل المباشر، في حال ظهور مؤشرات التوجه نحو تبني خيارات مناقضة للتوجه الأمريكي. ورغم الإعلان الرسمي عن دعم استقلال دول العالم الثالث، إلا أن الكثير من تلك الدول توجهت مباشرة بعد الاستقلال، نحو تبني الخيار الاشتراكي، والتحالف بدرجات متفاوتة مع الاتحاد السوفياتي.  

وقد تعارض هذا التوجه مع تصور دول المركز، التي شكلت القوى الاستعمارية الأساسية، والتي حاولت تعزيز هيمنتها أمام تصاعد المنافسة الأمريكية والسوفياتي، خلال مرحلة الحرب الباردة. إضافةً إلى تدخل منافسين آخرين، على مجال النفوذ التاريخي للقوى الاستعمارية، خاصةً في المجال الاقتصادي بعد نهاية الحرب الباردة. لهذا يعتبر والرشتاين، أن التنسيق فيما بين دول المركز، قد أخذ مرتبة ثانية في مقابل تصاعد وتيرة الخلافات، وتضارب المصالح فيما بين هذه الدول. وهذا يعني أن السياسة الخارجية لهذه الأخيرة، لم تعد منحصرة في ضمان الهيمنة على الأطراف، بل كذلك تقليص آثار المنافسة العالمية، سواءً من طرف دول المركز الأخرى، أو حتى القوى الصاعدة في النظام الدولي، بعد الحرب الباردة وعلى رأسها الصين.

تستهدف السياسة الخارجية لدول المركز تجاه منطقة الأطراف، الإبقاء على نمط الإنتاج القائم في كل من المنطقتين، أو يتعبير آخر الإبقاء على التقسيم القائم للعمل على المستوى العالمي. دول المركز تُمارس ما يُطلق عليه يوهان غالتونغ، اسم الهيمنة البنيوية Structural dominance، للإبقاء على مصالحها الاقتصادية في دول العالم الثالث. وتعتمد في هذا الصدد استراتيجيةً مكونة من عنصرين أساسيين، يهدف الأول إلى تجزئة دول الأطراف، بينما يهدف العنصر الثاني إلى اختراق البيئة الداخلية لهذه الدول.

*        عملية تجزئة منطقة الأطراف The fragmentation: وتستهدف منع أية مسارات للتعاون والتبادل الاقتصادي، على المستوى الأفقي، أي فيما بين دول الأطراف. ويُمكن اعتبار ذلك كرد فعل على التوجهات، التي قادتا بعض الدول الأساسية في العالم الثالث، من أجل دعم التعاون جنوب-جنوب. لدعم المطالبة بإعادة النظر، في النظام الاقتصادي العالمي.

*        عملية الاختراق The penetration: ويقصد غالتونغ بعملية الاختراق، ربط علاقات وثيقة مع النخب السياسية الأساسية، على مستوى البيئة الداخلية لدول الأطراف. من خلال تنمية روابط اقتصادية، تعليمية، ثقافية، وغيرها من صور العلاقات، بين النخب المحلية الصاعدة، والدول الاستعمارية السابقة. وبالتالي التأثير بشكل مباشر على صنع السياسة العامة، والخيارات السياسية والأيديولوجية الأساسية لدول الأطراف، بما يتماشى مع أهداف دول المركز.

إضافةً إلى ذلك، تعتبر الماركسية الجديدة أن دول المركز، في محاولاتها لإبقاء هيمنتها البنيوية، توجهت نحو وضع ترتيبات ملزمة دولياً لدول الأطراف، ضمن الآليات التي عادةً ما يتم ربطها بالعولمة Globalisation، على الأقل منذ نهاية الحرب الباردة. حيث جردت القواعد الخاصة بتحرير التجارة، دول العالم الثالث من الميزة الاقتصادية التي تتمتع بها، في المجالات الفلاحية والزراعية. وذلك من خلال استبعادها من مقررات جولات المفاوضات، حول مسارات تحرير التجارة العالمية، وبالتالي الإبقاء على القيود والسياسات الحمائية في هذا المجال. إضافةً إلى التأثير على طبيعة المنتجات الفلاحية والزراعية، من خلال التأثير على التقنيات المستعملة، من طرف دول العالم الثالث. حيث يتم تعويض المنتجات والتقنيات الفلاحية، بأخرى مقترحة من طرف مؤسسات دولية، أدت إلى تدهور الإنتاج الفلاحي، من حيث الكم أو من حيث النوعية. وهو ما يعني تكريس الهيمنة والتبعية الاقتصادية، وبعلاقة متعدية تبعية الأطراف بشكل كلي للمركز، سياسياً، ثقافياً، اجتماعياً...إلخ.

وفي نفس السياق تعتبر الماركسية الجديدة، أن السياسات الاقتصادية لدول العالم الثالث، شكلت موضوعاً للتدخل الخارجي، من أجل الإبقاء الاقتصاديات الوطنية، خادمةً للاقتصاديات الاستعمارية. لذلك فقد عملت دول المركز، على تحديد الاستراتيجية التنموية الواجب تبنيها في دول الأطراف، ومن خلال ذلك تكريس توزيع العمل بين الطرفين، وهو ما أنتج سياسات تنموية غير متكافئة، كرست التبعية للمركز. ثم تحولت هذه السياسات الاقتصادية، إلى موضوع أساسي لعمل مؤسسات العولمة، تحت عنوان الإصلاحات الهيكلية الاقتصادية. والتي عادةً ما يتم طرحها على مستوى صندوق النقد الدولي، أو حتى على مستوى البنك الدولي، والمؤسسات المالية الإقليمية، التي تمنح مساعدات اقتصادية مشروطة، بإدخال إصلاحات اقتصادية عميقة. وتخص هذه الإصلاحات دول العالم الثالث، التي قاومت لفترات طويلة محاولات المركز، الإبقاء عليها ضمن دائرة التبعية الاقتصادية. حيث قررت تبني النهج الاقتصادي الاشتراكي، كجزء من متطلبات تحقيق الاستقلال الاقتصادي، كبديل للسياسات الاقتصادية الاستعمارية، ذات الطابع الرأسمالي.         

يُمكن مما سبق ملاحظة الاختلاف الواضح، في تصورات الماركسيين الجدد، حول السياسة الخارجية لدول الأطراف، خاصةً فيما بين كل من إيمانويل والرشتاين، في مقابل أفكار يوهان غالتونغ، او حتى سمير أمين...إلخ. ويُمكن إرجاع هذا الاختلاف، إلى أن الماركسية الجديدة لم تتضمن أفكاراً واضحة، حول موضوع السياسة الخارجية، سواءً تعلق الأمر بدول المركز أو حتى الأطراف. حيث كان التركيز منصباً على قضايا التنمية، وموقع العالم الثالث في العلاقات الاقتصادية الدولية، وبعلاقة متعدية العلاقات شمال جنوب، أو بتعبير آخر العلاقات بين المركز والأطراف. لذلك فإن مختلف الاستنتاجات الواردة حول موضوع السياسة الخارجية، وفق تصور الماركسية والماركسية الجديدة، هي نتيجة للاستنباط من المبادئ الأساسية للنظرية الماركسية، بمختلف توجهاتها الأورثودوكسية والجديدة، مروراً بالماركسية اللينينية.


Modifié le: lundi 28 avril 2025, 17:20