الماركسية في العلاقات الدولية
انطلقت محاولات تحويل حقل العلاقات الدولية، إلى مجال معرفي مستقل ببنائه النظري والإبستمولوجي، المتميز نسبياً عن بقية مجالات العلوم السياسية. حيث بدأت عملية التنظير في هذا الحقل، تأخذ طابعاً أكثر متانة مع أفكار المثاليين خلال مرحلة ما بين الحربين، ثم الواقعيين الكلاسيكيين خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد جاءت هذه الأفكار على أنقاض المناهج السابقة لهذه المرحلة، القائمة على دراسة التاريخ الدبلوماسي، وكذلك دراسات القانون الدولي، والتي لم تُوفر تفسيراً عقلانياً لمختلف ظواهر العلاقات الدولية. لهذا فقد اهتمت نظريات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بفهم سلوك الدول ومحاولة تحديد الأنماط السلوكية المتكررة، وذلك من خلال مبادئ فكرية عامة، يتم اللجوء إليها لتفسير مختلف السلوكات، الممتدة عبر درجات متنوعة من التعاون إلى الصراع.
I. النظرية الماركسية وتحليل العلاقات الدولية:
جاءت التفسيرات الماركسية للعلاقات الدولية، بتأثير من النمط الجديد للعلاقات بين الدول، الذي ظهر خلال منتصف القرن الـ20، جراء ديناميكية تصفية الاستعمار. فقد خلف ذلك ظهور دول جديدة، تختلف من حيث الخصائص والأهداف، وبالتالي من حيث توجهات السياسة الخارجية، عن تلك التي شكلت موضوعاً لنظرية العلاقات الدولية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل. ويقوم المبدأ الأساسي لهذا الاتجاه، على القول بأن الافتراضات التقليدية (الواقعية واللبرالية)، عاجزة عن تفسير الظواهر الجديدة للعلاقات الدولية، خاصةً ظاهرة الدول الجديدة بخصائصها المميزة، أو طبيعة علاقاتها مع الدول المستعمرة، أو الإمبرياليات التقليدية. وكذلك التوجهات والأهداف الجديدة للسياسة الخارجية، ودوافع النزاع والتعاون، وكذلك طبيعة الفاعلين في النظام الدولي. لذلك فقد اُعتبرت الأفكار الماركسية، بمثابة "البديل الثوري"، للاتجاهات النظرية المهيمنة في حقل العلاقات الدولية، خلال القرن الـ20.
1. الماركسية الأوروثودوكسية Orthodox Marxism: عدم كفاية التحليل:
جاءت الفلسفة الماركسية أساساً، من أجل تفسير الظواهر الاجتماعية القائمة، استناداً إلى الأساس الاقتصادي، المتمثل في طبيعة النظام الاقتصادي، وملكية وسائل الإنتاج المرتبطة به. وعلى هذا الأساس، فقد تم تفسير العلاقات الاجتماعية، تحت تسمية علاقات الإنتاج، على المستويين الداخلي والخارجي، دون الإشارة إلى دراسة أو تفسير العلاقات الدولية، أو حتى السياسات الخارجية، بغض النظر عن مسمياتها السائدة. وقد تم الاكتفاء بإسقاط التفسيرات المتوصل إليها، على ظواهر اعتبرها الماركسيون استمراراً للصراع الطبقي، ومسار التطور الرأسمالي نحو مرحلة الإمبريالية Imperialism، باعتبارها أقصى مراحل تطور البنية الاجتماعية والاقتصادية الرأسمالية. وهو ما عُرف في أدبيات الفكر السياسي باسم الماركسية الأوروثودكسية Orthodox Marxism، وهي التسمية التي تُشير إلى أفكار كل من كارل ماركس K. Marx (1818-1883) وفريدريك إنجلز F. Engles (1820-1895).
وقد جاءت هذه التسمية، لتمييز الاتجاهات الماركسية التي تبنت الأفكار الأصلية لكل من ماركس وإنجلز، عن الحركات الاجتماعية الاشتراكية، التي أدخلت تعديلات على الفكر الماركسي، ليتماشى مع الوقائع الاجتماعية والسياسية. لذلك فإن دراسة التحليل الماركسي للعلاقات الدولية، سيكون أقرب إلى دراسة في الفكر السياسي، منه إلى دراسة في نظرية العلاقات الدولية. ويُمكن استخلاص بعض الأفكار الماركسية، من أجل إسقاطها على حقل العلاقات الدولية، من خلال تصورات الماركسيين حول الدولة، الصراع الاقتصادي كمحرك للتاريخ، وكذلك الإمبريالية الرأسمالية.
أولاً: المادية التاريخية: التحليل الاقتصادي للتاريخ:
تنطلق الافتراضات الماركسية، من اعتبار أن مسار التاريخ هو مشاهد متكررة، من التغيرات الجذرية التي تعرفها الأنظمة، والتي يُطلق عليها اسم البنيات الاقتصادية والاجتماعية. فما يُطلق عليه في علم السياسية اسم النظام السياسي، ما هو إلا أحد الأنظمة الفرعية، الناتجة بشكل مباشر نظام ملكية وسائل الإنتاج، والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بها، تحت مسمى علاقات الإنتاج.
وعليه ينقسم النظام أو البنية الاقتصادية والاجتماعية، إلى بنيتين فرعيتين، تضم الأولى (البنية التحتية) وسائل وعلاقات الإنتاج، بينما تتكون الثانية (البنية الفوقية) من الأنظمة الفرعية: النظام السياسي، القانوني، الروحي والثقافي...إلخ. ويعتبر ماركس أن "البنية الاجتماعية والدولة تنبثقان باستمرار من التطور الحيوي لأفراد محدد، لكن هؤلاء الأفراد لا كما يُمكن أن يظهروا في تصورهم الخاص، أو تصور الغير، بل كما هم في الواقع. يعني كما يعملون ويُنتجون مادياً، وبالتالي كما يفعلون على أسس وفي ظروف وشروط وحدود مادية، محددة ومستقلة عن إرادتهم". فالأفراد لا يُمكنهم تأسيس نظامهم السياسي، وفقاً لإرادتهم المستقلة، بل أن هذا النظام ينتج بشكل حتمي، عن النظام الاقتصادي المتبع، أو بتعبير ماركسي عن "طبيعة الإنتاج المادي".
ونتيجةً لذلك، فإن أي تغير في البنية التحتية، يؤدي آلياً إلى التغير الشامل للبنية الاقتصادية والاجتماعية، في حين تؤدي التغييرات في البنية الفوقية، إلى تغيرات جزئية لن تؤدي إلى تغيير النظام الاقتصادي. ومن هذا المنطلق يًفرق ماركس بين الثورة السياسية، التي تؤدي إلى تغييرات على مستوى البنية الفوقية (تغييرات جزئية)، والثورة الاجتماعية التي تؤدي إلى تغيير البنية الاقتصادية ككل (تغييرات جذرية). وعلى هذا الأساس فقد اعتبر ماركس الثورة الفرنسية، على أنها ثورة سياسية محدودة الأثر، حيث اقتصرت على تغيير في النظام السياسي، دون أن يمتد أثرها إلى ملكية وسائل وعلاقات الإنتاج السائدة.
إن التحولات المختلفة التي تحدث على مستوى البنية، هي نتاج الصراع المستمر حول وسائل الإنتاج، والتي تكون نتيجتها الحتمية استمرارية التاريخ. حيث تعتبر النظرية الماركسية، أن "تاريخ أي مجتمع حتى الآن ليس سوى تاريخ صراعات طبقية. حر وعبد، نبيل وعامي...وبكلمة ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارةً معلنة وطوراً مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين".
وسواءً انتهى الصراع الطبقي، بانتصار إحدى الطبقتين المتصارعتين، أو هلاكهما معا مثلما ذهب إليه ماركس، فإن النتيجة هي سيطرة طبقة جديدة على وسائل الإنتاج (البنية التحتية). وبالتالي إحداث تغييرات جوهرية على المجتمع، لا سيما نظام الحكم والعلاقات السياسية، النظام القانوني، العقائد الدينية والانتماءات الثقافية...إلخ. ولا تلبث هذه البنية الجديدة أن تدخل في صراع جديد، بسبب التناقض القائم بين علاقات الإنتاج من جهة، والأنظمة الفرعية القائمة على مستوى البنية الفوقية. ويستمر الصراع كمحرك للتاريخ، إلى غاية استيلاء الطبقة البروليتارية (الطبقة العاملة)، على ملكية وسائل الإنتاج، وبالتالي الوصول إلى آخر مراحل التطور الإنساني، والتي يُطلق عليها الماركسيون اسم نهاية التاريخ، والتي لا تعني نهاية التعاقب الزمني، بل انتفاء محرك التاريخ وهو الصراع من أجل ملكية وسائل الإنتاج.
ثانياً: الدولة كفاعل مؤقت:
يقوم التفسير الماركسي لظاهرة الدولة، باعتبارها نتيجة للانتقال من البنية الاقتصادية والاجتماعية الإقطاعية، إلى البرجوازية نتيجةً للثورة الفرنسية 1789. فبعد إلغاء النظام الإقطاعي، وسيطرة الطبقة الوسطى على المجتمع، والانتقال من الاقتصاد الزراعي إلى التجارة ثم الصناعة. وبذلك فإن الدولة القومية شكلت الأداة الجديدة، والتي تسمح للبرجوازية بممارسة السيطرة على المجتمع، وحماية النظام الاقتصادي القائم، وما ينتج عنه سياسياً، قانونياً واجتماعياً...إلخ.
لا يعني هذا أن أصل ظاهرة الدولة، مرتبط حصراً بالثورة الفرنسية، فقد عرفت المجتمعات الإنسانية منذ القديم هذه الظاهرة. غير أن نشوء الدولة كجهاز محتكر للسلطة، وشرعية استعمال العنف، وفرض القانون والنظام، بدأ مع نهاية القرن الـ18 كنتيجة الثورة الفرنسية، التي ألغت الإقطاع وما يُصاحبه من تقاليد اقتصادية، وبعلاقة متعدية التقاليد الاجتماعية والسياسية. وسيكون على الدولة انطلاقاً من ذلك، ضمان استمرار احتكار البرجوازية لوسائل الإنتاج، حتى في حالة تحول هذه الطبقة إلى أقلية، بسبب تركيز رأس المال، وقوانين المنافسة الاقتصادية، والتي ستزيد في اتساع الطبقة المستغلة. حيث تعتبر الماركسية الدولة، وسيلةً تستعملها الطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج، من أجل ممارسة القهر على الطبقة المُستغلة.
وقد ذهب ماركس وإنجلز في هذا الصدد إلى اعتبار "أن هذه الدولة ليست شيئاً آخر سوى الشكل التنظيمي الذي يتخذه البرجوازيون بالضرورة، كي يضمنوا بصورة متبادلة ملكيتهم ومصالحهم في الخارج والداخل". أي أن استهداف خدمة المصالح البرجوازية، يُمكن أن يُحدد حسب ماركس توجهات الدولة، في علاقاتها الدولية بشكل عام، وسياستها الخارجية بشكل خاص. رغم أن كل من ماركس وإنجلز لم يوضحا، الكيفيات التي يتم بها ذلك، أو حتى تأكيد التجانس بين مصالح أفراد الطبقة البرجوازية، بما يسمح بتشكيل توجهات السياسة الخارجية للدولة.
أي أن الدولة هي حالة ظرفية في التاريخ، يرتبط وجودها واستمرارها بالصراع الطبقي حول وسائل الإنتاج، وبتعبير أدق باستمرار وجود الملكية الخاصة في المجتمع. وعلى اعتبار أن العبودية، والاستغلال والقهر الطبقي، والملكية الخاصة، هي جوهر وجود الدولة، فإن استمرار هذه الأخيرة مرهون باستمرار الصراع حول ملكية وسائل الإنتاج. وبما أن الحتمية التاريخية وفق المنظور الماركسي، تتبنى فكرة زوال الملكية بتأسيس البروليتاريا للمجتمع المشاعي، فإن قيام الثورة الاجتماعية، أو بتعبير آخر ثورة البروليتاريا، وما ينتج عنها من إلغاء الملكية، سيعني إلغاء وجود الدولة، بانتفاء الحاجة أو سبب وجودها.
ثالثاً: الإمبريالية الرأسمالية:
تُشير الدراسات المختلفة في مجال تاريخ الفكرالسياسي، إلى أن كارل ماركس أو حتى فريدريك إنجلز، لم يستعملا تعبير الإمبريالية Ipmerialism، لوصف تطور توسع النظام الرأسمالي. لذلك فعادة ما تُنسب هذه التسمية إلى الماركسيين، الذين تولوا إجراء تعديلات فكرية على الماركسية الأورثودوكسية، مثل لينين V. Lénine وليون تروتسكي L. Trotski. غير أن صحة هذا الافتراض نسبياً، لا يمنع اعتبار أن كل من ماركس وبدرجة أقل إنجلز، قد تطرقا لفكرة الإمبريالية الرأسمالية، لكن دون استعمال هذا المصطلح بشكل مباشر. ويظهر ذلك في كل من البيان الشيوعي، ثم بشكل أكثر تفصيلاً في مؤلف رأس المال.
اعتبر ماركس أن توسع الرأسمالية، يُعتبر مرحلة طبيعية في التطور التاريخي للمجتمع الإنساني، وكتمهيد نحو الثورة الاجتماعية، التي تُحدث تغييرات جذرية على مستوى البنية الاجتماعية والاقتصادية ككل. غير أن النظام الرأسمالي يختلف عن الأنظمة السابقة، في قدرته على تجاوز الحدود الوطنية، أو ما اصطلح عليه في البيان الشيوعي باسم "الأسوار الصينية". أي الحدود التي كانت تفصل الشعوب والمجتمعات، ووقفت عائقاً أمام تطور الإنتاج، وما يرتبط به من استهلاك للموارد البشرية والطبيعية.
ونتيجةً لذلك يعتبر ماركس أن الصناعة "لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية، بل المواد الأولية من أقصى المناطق، [و] لا تُستهلك منتجاتها في البلد نفسه فحسب، بل أيضاً في جميع أنحاء العالم. فمكان الحاجات القديمة التي كانت المنتجات القديمة تسدُّها، تحل حاجات جديدة تتطلب لإشباعها، منتجات أقصى البلدان والأقاليم. ومحل الاكتفاء الذاتي الإقليمي والقومي والانعزالي القديم، تقوم علاقات شاملة في كل النواحي، وتقوم تبعية متبادلة بين الأمم".
أي أن الصناعة وبعلاقة متعدية الراسمالية، تتميز بالطابع التوسعي، والتطلع إلى تجاوز الحدود والعوائق الوطنية، عكس حالة النظام الإقطاعي مثلاً. فهذا الأخير يرتبط بالنفوذ السياسي أكثر من ارتباطه بتحقيق الربح. بينما يكون هذا الهدف -أي تحقيق وتعظيم الربح-، سبباً إلى البحث عن الأسواق العالمية، التي تعوض الخسائر أو محدودية الأرباح، التي قد تتسبب فيها المنافسة، التي تعرفها الأسواق الداخلية. كما أن الطابع التجاري للإنتاج الصناعي، يتطلب الحصول على المزيد من المواد الأولية، نمع الإبقاء على تكاليف هذه المواد في الحدود الدنيا، وهو ما دفع القوى الأوروبية البرجوازية، نحو تشديد وتيرة الاستعمار/الكولونيالية، والتي سيُطلق عليها لينين في مرحلة لاحقة اسم الإمبريالية.
وسيدفع هذا التوجه بالنسبة للدول الرأسمالية، إلى الدخول في دوامة من المنافسة حول العمالة والمواد الأولية، إضافةً إلى الحفاظ على الاحتكارات والأسواق لتصريف المنتجات. فوصول الإنتاج الصناعي إلى مستويات كبرى، يجعل الحصول على أسواق جديدة ضرورة حيوية بالنسبة للاقتصاد الوطني، وعليه سيكون تهديد حصص الدولة من الأسواق الخارجية، بمثابة إعلان حرب صريح من طرف الدول الأخرى. وهو ما فرض في النهاية على الدول الإمبريالية، محاولة تسوية تنافسها الاستعماري، من خلال سياسة المؤتمرات الأوروبية، التي استهدفت توزيع مقبول لمجال النفوذ الاستعماري، بداية من مؤتمر برلين 1848 إلى غاية 1914، تاريخ اندلاع ما يصفه لينين باسم الصراع بين الإمبرياليات الأوروبية.
لم تتضمن الماركسية الأوروثودوكسية، تفسيراً مستقلاً للعلاقات الدولية، عن التفاعلات الاجتماعية الداخلية، للمجتمعات الصناعية الأوروبية. لذلك فقد جاءت تحليلات ماركس وانجلز، للعلاقات الدولية، كاستمرار لتوسع التفاعلات المتضمنة في النظام الاقتصادي والاجتماعي الرأسمالي، مع التركيز على الحالة البريطانية، وبدرجة أقل الحالة الألمانية. وعليه فإن التفاعلات الدولية، خاصة حالات الصراع العسكري والتجاري، هي أحد المظاهر اللصيقة بالنظام الرأسمالي، بحيث تتوجه الدول نحو هذه الخيارات في سياستها الخارجية، باعتبارها حتمية يفرضها التنافس التجاري، والسعي لاكتساب المزيد من الأسواق، مصادر المواد الأولية وكذلك اليد العاملة.
وأمام هذا الغموض في التفسير الماركسي للعلاقات الدولية بشكل عام، وعدم الاهتمام بقضايا السياسة الخارجية بشكل خاص، فقد نشأت بعض التوجهات الفكرية، التي حاولت توضيح تنقيح التفسيرات الماركسية. وذلك في محاولة لتكييفها مع التغيرات السياسية، الداخلية والدولية التي عرفتها المجتمعات الأوروبية، والعلاقات الدولية بشكل عام. وقد ظهرت هذه التوجهات في بداية ومنتصف القرن الـ20، حيث تظهر الماركسية اللينينية Marxism Léninism والماركسية الجديدة Neo Marxism كأهم الأمثلة على ذلك.
2. تنقيحات الماركسية اللينينية: نشأة: من أجل نظرية بديلة للسياسة الخارجية:
تتضمن الماركسية اللينينية Marxism Léninism التنقيحات المختلفة، التي أدخلها كل من فلاديمير لينين V. Lénine (1870-1924)، وليون تروتسكي L. Trotski (1879-1940). وقد جاءت هذه التقيحات بتأثير من تطور العلاقات الدولية، وانهيار نظام الوفاق الأوروبي، واندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، التي شكلت حسب لينين أهم نماذج الحرب الإمبريالية. حيث شكل هذا الحدث مناسبة لتحديث أفكار ماركس، حول تطور النظام الرأسمالي، والوصول إلى مرحلة تركيز رؤوس الأموال، وتحول المنافسة الاقتصادية إلى صدام سياسي عسكري. وهو الوضع الدولي الذي شكّل بيئةً مناسبة، من أجل التوجه نحو نظرية ماركسية للعلاقات الدولية. غير أن هذه التنقيحات لا تخرج بدورها عن الإطار العام للفكر الماركسي، حيث تُعتبر على أنها شرح وتوضيح لأفكار ماركس وإنجلز حول الدولة وتطور النظام الاقتصادي والاجتماعي الرأسمالي...إلخ.
أولاً: الإمبريالية كتوجه في السياسة الدولية:
يعتبر لينين أن الإمبريالية هي "الرأسمالية في مرحلة من التطور، تكونت فيها سيطرة الاحتكارات والرأسمال المالي، واكتسب تصدير الرأسمال أهمية كبرى، وابتدأ تقاسم العالم بين التروستات العالمية، وانتهى تقاسم الأرض كلياً إقليمياً بيت كبريات البلدان الرأسمالية". أي أن هذا المفهوم لم يعد مرتبطاً بأعلى مراحل التصنيع، بل بالنتائج المترتبة عنه، مثل هيمنة الاحتكارات المالية وتركيز رؤوس الأموال، إضافةً إلى التحولات التي عرفتها الظاهرة الاستعمارية.
انطلاقاً من ذلك فإن السلوك الخارجي للدولة، سيكون نتيجة مباشرة للإمبريالية، ومتطلبات استمرار الرأسمالية كنظام اجتماعي واقتصادي من جهة، وكأساس للتنظيم السياسي من جهة ثانية. إضافةً إلى كونه مرهوناً باستهداف السلطة الحفاظ على استمرارية استقرار النظام السياسي، وتوجيه الضغوط الداخلية نحو البيئة الخارجية. لهذا فإن الإمبريالية كسياسة رأسمالية حتمية، تتضمن سعياً لتجسيد أهداف داخلية بالأساس، لكن ذلك يتم على المستوى الخارجي.
تجدر الإشارة إلى أن اعتبار الإمبريالية، بمثابة التوجه الأساسي في السياسة الخارجية، للدول الأوروبية إلى غاية 1918، يرجع أساساً إلى هيمنة النظام الرأسمالي، باعتباره الوجه الأبرز للتنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي في أوروبا. والذي استمر إلى ما بعد سنة 1917، تاريخ قيام الثورة البلشفية، وبالتالي تكريس تنظيم سياسي واجتماعي واقتصادي مغاير، وهو ما يعني رسم وتنفيذ سياسة خارجية مغايرة، للنمط الأوروبي السائد. لذلك فإن جزءً كبيراً من العمل الفكري للماركسية اللينينية، سينصب على دراسة السلوك الخارجي للدول الرأسمالية، انطلاقاً من تصورات وأفكار مسبقة، تندرج ضمن التصور العام للنظرية الماركسية.
يعتبر لينين أن الإمبريالية كسياسة لصيقة بالدول الرأسمالية بشكل عام، بدرجات مختلفة حسب تفاوت قوة الدولة في المجالات الاقتصادية والصناعية، العسكرية...إلخ. وهو بذلك يرفض التصورات الماركسية الإصلاحية، على رأسها كارل كاوتسكي K. Kautsky (1854-1938)، التي يعتبرها لينين مجرد امتداد للأفكار البرجوازية. حيث تذهب كاوتسكي إلى أنه "لا ينبغي أن يُفهم من الإمبريالية مرحلة أو درجة بلغها الاقتصاد، بل سياسة يُفضلها الرأسمال المالي، وأنه لا يصح اعتبار الإمبريالية والرأسمالية الحديثة شيئاً واحداً". فاعتبار أن الإمبريالية سياسة مفضلة، يُناقض جوهر الفكر الماركسي عموماً، والذي يعتبرها مرحلة قصوى تصل إليها الرأسمالية. كما يعني بالضرورة أنها ليست خياراً ثابتاً في العلاقات الدولية لكل الدول الرأسمالية، التي يُمكن أن تتبنى توجهات غير استعمارية، حتى في حالة بحثها المستمر عن الموارد الاقتصادية. وهو التصور الذي يرفضه لينين، ويعتبره دفاعاً عن الرأسمالية، ومحاولة لتحسين صورتها أمام الرأي العام الداخلي (البروليتاريا)، من أجل مكاسب مادية واجتماعية شخصية.
انطلاقاً من ذلك فإن الإمبريالية كسياسة خارجية للدول الرأسمالية، تستهدف تحقيق مجموعة من الأهداف، تتنوع بين الأهداف الاقتصادية، وكذلك السياسية. وعلى تنعها فإن هذه الأهداف لا يُمكن تجسيدها، إلا من خلال مجموعة من العلاقات والتفاعلات، التي تجري حتماً على مستوى البيئة الخارجية، أو بتعبير آخر ضمن نطاق النظام الدولي. ويُمكن تلخيص أهداف السياسة الخارجية الإمبريالية في:
أ. الأهداف الاقتصادية:
ترتبط هذه الأهداف بجوهر النظام الرأسمالي، الذي يستهدف تحقيق القدر الأكبر من الربح، في مقابل تخفيض تكاليف الإنتاج إلى حدها الأدنى، ضمن التوجه العام لتحقيق تراكم وتركيز رؤوس الأموال. لذلك تسعى الدول الرأسمالية، إلى البحث عن مصادر جديدة للمواد الأولية، تضمن قدرة الدولة وصناعتها المحلية، على منافسة الدول الأخرى في الأسواق العالمية. وفي هذا الصدد يذهب لينين إلى أن "الخاصية الأساسية في الرأسمالية الحديثة، هي سيطرة الاتحادات الاحتكارية، التي يؤسسها كبار أصحاب الأعمال، وهذه الاحتكارات هي أوطد ما تكون، حين تتفرد بوضع يدها على جميع مصادر الخامات...وكلما بدا بصورة أوضح نقص الخامات، ولكما استعرت [المنافسة] واشتد الركض وراء مصادر الخامات في العالم كله، احتدام الصراع من أجل حيازة المستعمرات".
ولا يتوقف الأمر عند الحصول على الموارد الأولية، أو حتى اليد العاملة الأقل تكلفة، من تلك المتواجدة على المستوى الوطني، بل يمتد أثر السياسة الاستعمارية الرأسمالية، إلى الحصول على الأسواق الكافية لتصريف فائض الإنتاج. فالرأسمالية تسعى باستمرار، إلى تجنب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وبعلاقة متعدية الأزمات السياسية، التي تنجم جميعها عن الكساد، وتضاؤل معدلات الاستهلاك المحلي. وهو ما يفرض عليها توسيع مساحة الأسواق، الضرورية لاستمرارية الإنتاج الصناعي من جهة، وتراكم الأرباح ورؤوس الأموال من جهة مقابلة. حيث تكون المستعمرات أسواقاً احتكارية، تتمتع فيها الدولة المُسيطرة، بحقوق حصرية بموجب قوانين خاصة تقوم بتشريعها، لحماية منتجاتها الصناعية والمالية، من المنافسة الخارجية. وبذلك فإن من السهل -حسب لينين- حماية المصالح التجارية، عبر الأسواق الناشئة ضمن المستعمرات، مقارنة بالأسواق العالمية الخاضعة لمنطق المنافسة.
ويعتبر لينين أن سياسة الدولة بشكل عام، بما في ذلك سياستها الخارجية، تسعى بكل إمكاناتها إلى تجسيد الأهداف الاقتصادية السابقة، من خلال تبني التوجهات الإمبريالية. وبذلك فإن أسس ومحددات السياسة الخارجية، تخضع للمنطق البنيوي الماركسي، والذي تكون بموجبه هذه السياسة، نتاجاً مباشراً لطبيعة ملكية وعلاقات الإنتاج السائدة (النظام الاجتماعي والاقتصادي)، على النحو الذي وضعه ماركس وإنجلز. كما يتعارض هذا التوجه الإمبريالي من جهة أخرى، مع المبادئ الأساسية المُعلنة للنظام لرأسمالي، القائمة على مبادئ المنافسة الحرة، وحرية التجارة والأسواق...إلخ.
ويقول لينين في هذا الصدد "إن البناء الفوقي غير الاقتصادي، القائم على أساس الرأسمال المالي، سياسة وأيديولوجية هذا الأخير، كل هذا يُشدد السعي إلى الاستيلاء على المستعمرات...إن الرأسمال المالي لا يريد الحرية بل السيطرة". وعليه فالسياسة الخارجية الإمبريالية للدول الرأسمالية، لا تسعى لإقرار حرية الممارسة الاقتصادية، كما كان عليه الوضع قبل مرحلة الحركة الاستعمارية، بل تهدف إلى تقليص آثار المنافسة على الاحتكارات الاقتصادية والمالية الوطنية. وقد يدفع ذلك الدول إلى تبني آليات غير اقتصادية، لتجسيد أهداف السياسة الخارجية، وتأتي على هذه الآليات الحروب، التي يعترها لينين على أنها حروب إمبريالية، وينفي عنها بذلك صفة العدالة أو الشرعية، باعتبارها تتنافى مع مفهوم الحرب الدفاعية أو العادلة.
ب. الأهداف السياسية:
استمراراً للمنطق البنيوي الماركسي، تأتي الأهداف السياسية للسياسة الخارجية الإمبريالية، كتابع للأهداف الاقتصادية. حيث يُمكن اعتبار أن تجسيد الأجندة السياسية، تُشكل وسيلة لتحقيق الغايات الاقتصادية الأساسية، للأنظمة الرأسمالية. أي أن الإمبريالية هي ضمان لاستمرارية وضعية ملكية وسائل الإنتاج، وبعلاقة متعدية النمط القائم لعلاقات الإنتاج، إضافةً إلى حماية الاحتكارات والأسواق الخارجية، كأساس لتراكم وتركيز رأس المال.
يأتي استقرار النظام السياسي، أو بتعبير أدق البنية الاجتماعية والاقتصادية، على رأس أولويات السياسة الخارجية الإمبريالية للدول الرأسمالية. فوفقاً لمنظومة الأفكار الماركسية عموماً، فإن وصول النظام الرأسمالي إلى درجات عالية، من ممارسة الاستغلال والتفقير ضد البروليتاريا، يعني بالضرورة حدوث الثورة الاجتماعية، التي تُمثل نهايةً للنظام الرأسمالي. وعليه فإن السياسة الإمبريالية الاستعمارية، تُشكل وسيلة لتخفيف الضغط البروليتاري، داخل المجتمعات الرأسمالية، من خلال التخلص من فائض السكان، وما يرتبط به من حاجات ومشاكل اقتصادية واجتماعية.
ويستشهد لينين ببعض الأفكار المدافعة عن الحركة الاستعمارية، مثل أفكار السياسي ورجل الأعمال سيسيل رودس C. Rhodes (1853-1902) الذي أعتبر أنه "لكي ننقذ أربعين مليوناً من سكان المملكة المتحدة من حرب أهلية فتاكة، ينبغي علينا نحن الساسة طلاب المستعمرات، أن نستولي على أراضي جديدة، لنرسل إليها فائض السكان، ولنقتني ميادين جديدة لتصريف البضائع التي تنتجها المصانع والمناجم...فإذا كنتم لا تريدون الحرب الأهلية ينبغي عليكم أن تصبحوا إمبرياليين". علماً أن مصطلح الحرب الأهلية، من وجهة النظر السياسية، ما هي إلا مرادف للثورة الاجتماعية، من وجهة النظر الماركسية اللينينية.
يدفع هذا التصور للعلاقة بين الأوضاع السياسية الداخلية، والتوجه نحو تبني السياسات الإمبريالية، إلى الاعتقاد بأن الماركسية اللينينية، ترفض الانفصال بين البيئتين الداخلية، في دراسة السياسة الخارجية. فالضغوط التي تُمارسها قوى البيئة الداخلية، ممثلة في القوى العمالية الثورية، وكذلك القوى المالية الاحتكارية، تدفع الدول نحو التوسع الخارجي، من خلال السياسة الاستعمارية/الإمبريالية. رغم أن الأدبيات الماركسية اللينينية، لا تستعمل مصطلح البيئة الداخلية والخارجية، بل تستعمل على الأصح مصطلح السوق الداخلية والخارجية. حيث يعتبر لينين في مؤلفه حول الإمبريالية، أنه "لا مناص للسوق الداخلية في عهد الرأسمالية من أن ترتبط بالسوق الخارجية". ورغم أن مصطلح السوق في هذه الحالة، يبدو على أنه ذو دلالة اقتصادية محضة، إلا أنه يُشير ضمن سياق الأفكار اللينينية -والماركسية بشكل عام-، إلى البيئة العامة التي تتم فيها مختلف التفاعلات، بما في ذلك الاجتماعية والسياسية، وترتبط به كذلك السياسات الخارجية، والعلاقات الدولية بشكل عام.
وقد واجهت أفكار لينين حول السياسة الاستعمارية، التي تنتهجها الدول الرأسمالية، كجزء من سياستها الخارجية، انتقادات الماركسيين المعاصرين لينين، أو حتى ضمن القراءات الفكرية الحديثة. والتي تعتبر أن نظرية لينين حول الاستعمار والإمبريالية كحتمية، لا تتماشى مع تصورات ماركس وإنجلز، حول تطور النظام الرأسمالي. وملخص هذه الانتقادات أن الرأسمالية لا تحتاج بالضرورة إلى المستعمرات، بالطريقة التي تضمنتها أفكار لينين، أي أن الإمبريالية في هذه الحالة ليست حتمية، بل على الأصح هي سياسة مفضلة في السياسة الدولية الرأسمالية. فالإمبريالية سواءً كفكرة أو كمصطلح، لم تُستعمل في كتابات ماركس وإنجلز، كما أن الدول الرأسمالية "لا تحتاج إلى منطقة خلفية، أو منطقة نائية خاضعة لها، لكنها تستعمل تلك المنطقة إن وُجدت".
أي أن الدول الرأسمالية يُمكنها من خلال المنافسة الاقتصادية، وآليات التجارة العالمية، الحصول على المواد الأولية، أو الخامات الضرورية للصناعة، وتوسيع الأسواق لتصريف المنتجات المحلية. رغم أن السياسة الاستعمارية في حد ذاتها اعتبرت من طرف ماركس وإنجلز، على أنها الخطوة الأساسية، التي أدت إلى إزالة الأنظمة الإقطاعية في المستعمرات، وإحلال الرأسمالية محله، وأهم الأمثلة على ذلك المستعمرات الواقعة تحت الهيمنة البريطانية. وهو ما يعني أن الثورة البروليتارية، لن تكون منحصرة في الدول الأوروبية الرأسمالية، بل ستشمل كذلك مناطق النفوذ -المستعمرات- التابعة لها.
ثانياً: الحروب الإمبريالية: أو التوجهات التعديلية:
تندرج أفكار لينين حول الطابع التعديلي للسياسة الخارجية، ضمن الإطار العام للأفكار الماركسية اللينينية، حول ظاهرة الإمبريالية، والتي تعززت خلال الحرب العالمية الأولى، من خلال محاولة لينين لتفسير سلوك القوى المتصارعة. مع ذلك تبقى الحرب كآلية، لإدارة العلاقات الدولية الإمبريالية، ظاهرةً مرتبطة بشكل وثيق بالصراع الطبقي المُميز للمجتمعات الرأسمالية. فقد اعتبر لينين أن الحرب خطوة أساسية في مسار النضال الطبقي، ولا يُمكن القضاء على الحروب بين الأمم، إلا من خلال إلغاء التقسيم الطبقي للمجتمع، وإقامة النظام الإشتراكي. وهو ما يؤكد الارتباط بين البيئتين الداخلية والخارجية، حيث أن إلغاء التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وبعلاقة متعدية النظام السياسي الداخلي، يعني إحداث تغييرات آلية تمس العلاقات الدولية. فتغيير النظام السياسي والاجتماعي الداخلي (إقامة النظام الاشتراكي)، يعني بالضرورة إقرار حالة من انسجام المصالح، تتماشى مع زوال النزعة الوطنية، والتي تندمج ضمن التيار الاشتراكي العالمي، وهو ما يعني بعلاقة متعدية زوال الحاجة إلى التنافس، وفي المحصلة النهائية زوال الحرب كوسيلة لتحقيق الأهداف الوطنية.
يرفض لينين الدوافع الشوفينية للحرب، حيث يعتبر أن خطاب الدفاع عن الوطن، أو مبادئ الحروب الدفاعية والعادلة، هو استمرار لمنطق التزوير البرجوازي للتاريخ. فالحرب القائمة بين القوى الرأسمالية (أي الحرب العالمية)، هي حرب بين مالكي العبيد، وبالتالي هي في النهاية حرب إمبريالية، من أجل إعادة النظر في توزيع المستعمرات، أو بتعبير لينين من أجل تقسيم عادل للعبيد. وبالتالي فقد عارضت الماركسية اللينينية الخطاب الشوفيني الوطني، الذي لجأت إليه الدول المتحاربة، على اعتبار أن هذه الدول تخوض حرباً استعمارية إمبريالية، وليست حرباً من أجل الدفاع عن الوطن، أو التزاماً بالقوانين والمعاهدات الدولية.
وانطلاقاً من ذلك فإن الدول الرأسمالية، وفقاً للتصورات اللينينية، تسعى بشكل دائم لتغيير توزيع القوة والأدوار، السائد على مستوى النظام الدولي. فالدول المتضررة من توزيع المستعمرات ومناطق النفوذ، تسعى إلى زيادة نصيبها من المستعمرات، وبالتالي توسيع حصصها من الأسواق، وتنويع مصادر المواد الأولية (ألمانيا كمثال). في حين تسعى الأخرى المالكة لنصيب كبير من المستعمرات، إلى زيادة مجال نفوذها الاستعماري، حتى بالاستيلاء على مستعمرات الدول الأخرى (بريطانيا كمثال). وهو ما يُشكل مبدأً أساسياً في السياسة الخارجية للدول الرأسمالية، وذلك بسبب الميل الطبيعي في هذا النظام، نحو تعظيم الأرباح وتقليص آثار المنافسة، سواءً بين الفاعلين الاقتصاديين الداخليين، أو حتى على مستوى الاقتصاد العالمي. أي أن السياسة الخارجية الإمبريالية، تأخذ اتجاهين متعارضين، رغم أنهما في النهاية يسعيان إلى تحقيق نفس الهدف، وهو إحداث تغييرات على توزيع الأدوار في النظام الدولي.
ينتج عن هذا الوضع إحداث نوع من التوازن بين هذين التوجهين، عن طريق الإبقاء على الوضع القائم بالنسبة للدول الصغيرة، والتي لم تتوصل إلى توسيع مجال نفوذها من المستعمرات. فعدم توفر إمكانية حسم التنافس، وأحيانا الصراع العسكري المباشر، لصالح أي من القوى الكبرى، يخلق نوعاً من الاتفاق الضمني، على تأجيل حسم مصير هذه الدول، ضمن مسارات التنافس حول المستعمرات، وبذلك فهي تبقيها وفقاً لتعبير لينين "هدفاً لتقسيم جديد". وبالتالي فإن توجهات الدول الرأسمالية ذات الطابع التعديلي، تبقى التوجه الأساسي للدول الرأسمالية، حتى في حالة عدم توفر القدرة الكافية، لتجسيد الأهداف الأساسية. وهو ما يفرض تأجيل حسم الصراع عن طريق التحالفات أو المعاهدات الثنائية/الجماعية غير الدائمة، وهوما تُمثله الترتيبات الدولية خلال القرن الـ19 إلى غاية 1914.
إضافةً إلى ما سبق، يعتبر لينين أن السلوك الدولي للدول الرأسمالية، لا يتم رسمها وتحديد توجهاتها، على مستوى الأجهزة الرسمية المكلفة تقليدياً بهذه المهمة. أو بتعبير آخر فإن رسم وصنع السياسة الخارجية الإمبريالية، لا يتم فعلياً على مستوى الدولة القومية، كما تذهب إليه النظريات المختلفة في هذا الحقل. فوفقاً للتصورات الماركسية اللينينية، فإن صنع السياسة الخارجية بشكل فعلي، يكون على مستوى الاحتكارات الرأسمالية الكبرى، تماشياً مع المنطق الماركسي البنيوي (البنية التحتية والبنية الفوقية). وبذلك تكون السياسة الخارجية للدولة، بمثابة استجابة للضغوط التي تُمارسها النخب الاقتصادية، التي تُمارس سيطرة مباشرة على الحياة الاقتصادية، وبالتالي السيطرة على الحياة السياسية. فتطور النظام الرأسمالي جعل من الدولة القومية، مجرد إطار سياسي غير قادر على مواكبة تطور الاحتكارات المالية، وبالتالي فقد توجهت هذه الأخيرة، نحو مجال نشاط على المستوى العالمي، من خلال السياسة الاستعمارية.
وعليه فإن التصورات اللينينية للسياسة الخارجية، تفتح المجال للاعبين غير الدولاتيين، كفاعلين أساسيين في تشكيل العلاقات الدولية الرأسمالية. على أن دور هؤلاء اللاعبين، يرتبط بعلاقتهم بملكية وسائل الإنتاج، وبالتالي الدور الذي يُمارسونه في إطار العمليات الاقتصادية الرأسمالية، والصراع الطبقي على المستويين الوطني والعالمي. وبذلك فإن مفهوم الفاعلين الأساسيين غير الدولاتيين، لا يخرج عن إطار أصحاب الاحتكارات الاقتصادية، المهيمنة على النظام الرأسمالي. ولا يخرج ذلك عن التعريف الماركسي للدولة، باعتبارها الأداة التي تستعملها الطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج، من أجل فرض سيطرتها على المجتمع. هو ما يجعل المحددات الاقتصادية، تأتي على رأس العوامل المؤثرة، في تحديد التوجهات والأهداف الأساسية للسياسة الخارجية، في حين تحتل المحددات الأخرى مكانة ثانوية.
لقد عالجت أفكار لينين السياسة الخارجية للدول الرأسمالية، وذلك في سياق تحليل الظاهرة الإمبريالية، دون أن تمتد هذه المعالجة، إلى وضع نظرية للسياسة الخارجية، سواءً بشكل مستقل أو ضمن نظرية كلية للعلاقات الدولية. فهذه المواضيع يُمكن تحليلها بالتبعية، لمواضيع المتعلقة بالبنية التحتية (النظام الاقتصادي)، استناداً إلى المنطق البنيوي الماركسي. لكن التحليل اللينيني لم يتطرق إلى السياسة الخارجية، للدول التي تتبنى النظام الاشتراكي، وبشكل خاص السياسة الخارجية الروسية، بعد نجاح الثورة البلشفية 1917، وانتهاء الحرب الأهلية الروسية (1917-1922).
وباعتبار أن الماركسية اللينينية توصف على أنها توجه عملي، أكثر من كونها عقيدة أو مذهب فلسفي، فقد توجهت روسيا ثم الاتحاد السوفياتي في مراحل لاحقة، إلى تبني سياسة خارجية تتناقض في بعض الأحيان، مع التحليلات اللينينية. خاصةً فيما يتعلق بالتقارب الاقتصادي مع الدول الرأسمالية، سواءً المنهزمة أو المنتصرة في الحرب العالمية الأول، وتبني لينين لمبادئ التعايش السلمي. لذلك فقد اعتبر لينين أن البرنامج الاقتصادي الروسي، بعد نهاية الحرب الأهلية، لا يُمكن أن يتم بدون رؤوس الأموال، ووسائل الإنتاج التي توفرها الدول الأوروبية الغربية. فسياسات البناء الاقتصادي الروسي، تحتاج التمويل الرأسمالي، تماماً كما تحتاج هذه الدول للموارد الطبيعية الروسية، من أجل استعادة عافية الاقتصاد العالمي.
ويظهر التباين في توجهات لينين، إزاء السياسة الخارجية للدولة الاشتراكية/الشيوعية، وتوجهاتها الأساسية تجاه قوى البيئة الدولية. فرغم التناقض بين توجهات النظامين الاشتر اكي والرأسمالي الإمبريالي، إلا أنه يُمكن إقرار حالة من الاعتماد المتبادل الاقتصادي، والذي لا يُمكن تأويله على أنه وفاق سياسي. فالدولة الاشتراكية وفقاً لذلك تتميز بالنزعة البراغماتية، التي يُمكن من خلالها استغلال المزايا المتاحة، من خلال "التعاون" أو تبادل المنافع الاقتصادية، من أجل اكتساب القدرة على تحقيق غايات الثورة الاجتماعية.
لذلك ورغم تبني الماركسيةاللينينية كفكر سياسي، لفكرة الثورة الاجتماعية الدائمة، إلا أن السياسة الخارجية الاشتراكية في عهد لينين، لم تتضمن تبني مبدأ تصدير الثورة، أو الثورة العالمية الدائمة، المتضمنة في الفكر السياسي الماركسي. وذلك رغم إبقاء هذا التحول الفكري، مجسداً في السياسة الخارجية الروسية/السوفياتية، إلا أنه لم يتحول إلى منهج فكري إلا في عهد ستالين، من خلال تبني مذهب الاشتراكية في بلد واحد. وبذلك تحولت الدولة الثورية، إلى النمط التقليدي للسياسة الخارجية، القائم على مبادئ الأمن والمصلحة القومية، وحتى تبني نفس المبادئ الإمبريالية. ويتجسد ذلك من خلال السعي المستمر لتوسيع نطاق الحدود السياسية للاتحاد السوفياتي (مرحلة ما بين الحربين)، ثم في مرحلة لاحقة إقامة مجال النفوذ المكون من مجموعة الدول التابعة، (مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية)
جاء الاستثناء في تصورات الماركسية اللينينية، حول السياسة الخارجية للدول الاشتراكية، التي تتبنى نهج الثورة العمالية، من خلال أفكار ليون تروتسكي L. Trotsky المتضمنة لمفهوم الثورة الدائمة The permanent revolution. وانطلاقاً من هذا المفهوم فإن هذه الدول، ممثلة في روسيا السوفياتية -ثم الاتحاد السوفياتي-تبني استراتيجية استباقية Preemptive strategy، لحماية الثورة العمالية/البروليتارية من "المؤامرات الإمبريالية". وفي هذا الصدد يعتبر تروتسكي أنه "إذا تُركت الطبقة العاملة الروسية للاعتماد على قواها فقط، فإن الثورة المضادة سوف تسحقها حتماً، حالما يتخلى عنها الفلاحون، فلن يكون أمامها من بديل سوى أن تربط مصير حكمها السياسي، وبالتالي مصير الثورة الروسية كلها، بمصير الثورة الاشتراكية في أوروبا".
أي أن الهدف الأساسي للثورة الاشتراكية، ليس الانغماس في الصراع الدولي حول المستعمرات، أو إيجاد نوع من السلام الدائم أو المؤقت مع القوى الرأسمالية. بل يتوجب على السياسة الخارجية في هذه الحالة، هو تصدير المبادئ الثورية الاشتراكية، بهدف حماية الثورة في روسيا أولاً، وكذلك ضمان استمرارية النضال الطبقي، ضد الاستغلال الإمبريالي الرأسمالي، وفقاً للتصورات المتضمنة في النظرية الماركسية. ويذهب تروتسكي إلى أن "البروليتاريا الروسية الحاكمة، إزاء وجود الثورة المضادة من ورائهاـ، والرجعية من أمامها، سوف ترسل إلى رفاقها في جميع أنحاء الأرض، صيحة الحرب القديمة، والتي تكون هذه المرة صيحة الهجوم الأخير: يا عمال العالم اتحدوا".
ويُمكن اعتبار استعمال تروتسكي للعبارة الختامية للبيان الشيوعي، الداعية لاتحاد عمال العالم، تعبيرٌ عن رفض التحولات الفكرية اللينينية لما بعد ثورة 1917 والسياسة الاقتصادية الجديدة سنة 1924، بما في ذلك التحول في نظرة لينين حول السياسة الخارجية، سواءً تلك الخاصة بالدول الإمبريالية، أو حتى ما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية، للدول الثورية أو الاشتراكية. وهو ما سيكون أحد المواضيع الأساسية، للصراع الفكري والسياسي الذي عرفه الاتحاد السوفياتي، بعد وفاة لينين ابتداءً من 1924. بين التصورات الستالينية، التي أدخلت تعديلات على البناء الفكر للماركسية اللينينية، في مواجهة تمسك تروتسكي بالتعاليم الفكرية اللينينية. غير أن انتهاء الصراع لصالح ستالين، جعل السياسة الخارجية السوفياتية، تندرج بشكل نهائي ضمن الأشكال التقليدية للسياسة الخارجية الوطنية، بنفس الأهداف والتوجهات، وحتى الآليات التي تضمنتها نظرية السياسة الخارجية، على رأسها النظرية الواقعية.
انطلاقاً من ذلك فإن النظر إلى السياسة الخارجية، باعتبارها آلية لتجسيد أهداف الاحتكارات الرأسمالية الكبرى، لم يعد ينطبق على الدول الرأسمالية دون غيرها. فحتى الدول الاشتراكية التي تتبنى خطاب الثورة الاجتماعية، والملكية العامة لوسائل الإنتاج، وبالتالي إلغاء الطبقية...إلخ، قد اندمجت في السياقات التقليدية للعلاقات الدولية. وبالتالي تبني نفس الخطاب على مستوى السياسة الخارجية، من خلال تبني أهداف تعظيم القوة والقدرات، وحماية المصالح والأمن الوطنيين، وذلك من خلال آليات تتدرج بين التنافس/الصراع والتعاون.