اللبرالية الجديدة: تنقيح اللبرالية
اللبرالية الجديدة Neolebiralism:
عادت الأفكار اللبرالية من جديد إلى تحليل العلاقات الدولية، وكذلك السياسة الخارجية، من خلال نسخة مُحدّثة، حاولت الرد على انتقادات الواقعيين، وهي النسخة التي عُرفت باسم اللبرالية المؤسساتية Liberal Institutionalism، أو باختصار اللبرالية الجديدة Noeliberalism. وقد تأسست هذه الأخيرة على مجموعة من المبادئ، تتمحور حول:
* الإقرار بحالة الفوضى التي تُميز النظام الدولي، مع اعتبار أن هذا الوضع لا يمنع من إقامة التعاون بين الفواعل.
* تبقى الدولة الفاعل الأساسي في العلاقات الدولية، مع إعطاء أهمية أكبر لفواعل أخرى ذات طبيعة مؤسساتية، مثل المؤسسات والمنظمات الدولية، الشركات العابرة للحدود...إلخ.
* توسيع نطاق الأمن نحو الأبعاد غير العسكرية، ليشمل الرفاهية ومستوى المعيشة...إلخ.
* توسيع مجال حقل العلاقات الدولية، ليشمل مواضيع مختلفة عن تلك التي اقتصر عليها التنظير (المواضيع الدبلوماسية، الأمن...إلخ)، لتشمل قائمة المواضيع الجديدة: البيئة، التنمية الاقتصادية والرفاهية...إلخ.
يظهر من خلال هذه المبادئ العامة، التقاطع بين اللبراليين والواقعيين، الذي يظهر في الاتفاق النسبي حول افتراضين أساسيين. يتعلق الأول بالدولة كفاعل أساسي في العلاقات الدولية، حيث يشترك الطرفان في اعتبارها فاعلاً موحداً وعقلانياً، يسعى إلى تعظيم المصالح الوطنية. بينما يرتبط الافتراض الثاني بحالة الفوضى، التي تُعتبر السمة المميزة النظام الدولي، والتي لا تمنع من إمكانيات وجود التعاون، بدرجات وصور مختلفة. رغم أن بعض الاختلافات تظهر على السطح، عند محاولة اللبراليين تحديد مفهوم المصلحة، وكذلك طبيعة الخيار العقلاني لصانع القرار. إضافةً إلى الاختلافات الأخرى المشار إليها، مثل نطاق حقل العلاقات الدولية، أو حتى مدى تأثير المؤسسات والبنى الدولية على سلوك السياسة الخارجية الوطنية.
تبرز أهم الاختلافات بين تصورات اللبراليين الجدد والواقعية الجديدة، في تحليل العلاقات الدولية، والسياسة الخارجية على وجه خاص، في كيفية ترتيب أولويات الدول، بين مجالات السياسة العليا High politics، والسياسة الدنيا Low politics. فالبنيويون ممثلين في كينيث والتز K. Waltz، يعتبرون أن مجالات السياسة العليا، تحتل الأولوية بالنسبة للسياسة الخارجية، ولا مجال للحديث عن قوة الدولة بالاكتفاء بالقوة الاقتصادية. وفي مقابل ذلك يعتبر اللبراليون الجدد، أن التركيز على مجالات السياسة العليا، وتهميش أثر السياسات الدنيا، سيؤدي إلى فهم خاطئ لتفاعلات العلاقات الدولية، وبالتالي تكوين صور ذهنية غير حقيقية عن سلوك السياسة الخارجية.
انطلاقاً من ذلك، يعتبر اللبراليون الجدد أن "الدول التي تُقدم الأمن على حساب التعاون الاقتصادي...ليست نادرة جداً وحسب، بل قد تخسر أيضاً الكثير على مستوى الفرص التعاونية الرابحة. الادعاء هنا هو أن نظرية الواقعيين الجدد على خطأ، بما يتعلق بما يُحفز الدولة على التصرف". وانطلاقاً من ذلك يتضاءل تأثير الحدود، التي تفصل مجالات السياسات العليا عن السياسات الدنيا، حيث تتداخل هذه المجالات باختلاف الظروف. فالقضايا البيئية المناخية، التي عادةً ما تُعالج على مستوى البيروقراطيات، أخذت مكانةً أكبر على مستوى السياسة الخارجية للدول، وانعكس ذلك في مؤتمر باريس حول المناخ سنة 2015.
وينطبق ذلك على المسائل التجارية، والتي ورغم عدم ارتباطها بالمفهوم المادي للأمن القومي، إلا أنها عادةً ما تكون سبباً للصراع بين الدول، أو على الأقل أحد مظاهر التنافس. وينعكس ذلك من خلال الحروب التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أو في الإجراءات الصينية (تخفيض قيمة العملة مثلاً)، الهادفة إلى التأثير على مواقف السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصين، خاصةً قضايا حقوق الأنسان، والمشكلة التايوانية بشكل خاص. ويُمكن ملاحظة تراجع مكانة هذه القضايا في الخطاب الرسمي الأمريكي، مقابل تزايد المطالب الأمريكية برفع قيمة العملة الصينية، وكذلك مراجعة السياسات الضريبية، من أجل وقف هجرة مناصب العمل نحو الصين.
تلتقي في مقابل ذلك أفكار اللبراليين الجدد، مع الواقعيين بشكل عام، في اعتبار الدول كيانات عقلانية، تستهدف سياساتها الخارجية تعظيم المكاسب، وخدمة المصالح الوطنية. غير أن اللبراليين الجدد يرفضون أفكار البنيويين، حول تفضيل المكاسب النسبية، وبالتالي زيادة احتمالات الغش، أو فكرة الراكب المجاني Free Rider في التعاون بين الدول. وفي هذا الصدد يعتبر روبيرت كيوهان R. Keohan، أن التعاون يكون ممكناً "عندما يُكيِّف الفاعلون سلوكهم، مع التفضيلات القائمة أو المحتملة لفاعلين آخرين...يقوم التعاون ما بين حكومي Intergovernmental cooperation، عندما تكون سياسات دولة ما، في نظر شركائها تسهل تحقيق أهدافهم، كنتيجة لمسار التنسيق السياسي Process of policy coordination".
ويُفهم من تصور كيوهان، أن التعاون لا يُلغي الافتراض الواقعي، القائل باستهداف السياسة الخارجية للدولة، لتعظيم مصالحها الوطنية. غير يُمكن أن ذلك يكون في سياق جماعي، تتقاطع فيه توجهات الدول وتصوراتها، للعلاقة بين المصالح الوطنية من جهة، والمصالح الجماعية من جهة ثانية. كما أن توفر هذه الإمكانية يعني نفي فرضية الواقعيين البنيويين، حول عدم الملاءمة بين اعتبار النظام الدولي ذو طبيعة فوضوية، وقدرة الدول على إقامة التعاون فيما بينها. فهذا الأخير لا يقوم على حسابات المصلحة الفردية للدولة، بل على الانسجام بين المصالح الوطنية للدول، التي تُقرر تعديل حساباتها العقلانية، من خلال التوجه نحو الاشتراك في مسارات التعاون.
حتى أن هذه المسارات يُمكنها أن تُخفف من حدة فوضى النظام الدولي، من خلال فرض قواعد قانونية مُنظمة لسلوك الدول. من خلال الاتفاقيات الثنائية/متعددة الأطراف، أو ضمن الهياكل المؤسساتية ما بين حكومية، التي يتم إنشاؤها في إطار عملية التعاون. إضافةً إلى المزايا الاقتصادية والسياسية، التي يُنتجها التعاون بين الدول، حيث تُساهم المنظمات الدولية بفضل التعاون في المجالين الاقتصادي والسياسي، إلى تكوين ما يُطلق عليه جوزيف ناي J. Ney، اسم "جزر السلام Islands of peace". وذلك من خلال تخفيف حدة النزاعات، على الأقل تلك التي تتميز بدرجة منخفضة من الحدة، حتى وإن كان ذلك لن يؤدي إلى تغييرات جذرية على مستوى هيكل النظام الدولي.
إضافةً إلى ما سبق، يُمكن ملاحظة تشابه التفسيرين اللبرالي والواقعي، لأسس سلوك السياسة الخارجية، والذي ينطلق من الافتراضات المسبقة، وليس من مبادئ أو افتراضات مثبتة. حتى مع تناقض التفسير القائم على العلاقة، بين البيئتين الداخلية والخارجية للنظام السياسي، أي الانفصال لدى الواقعيين، مقابل افتراض الترابط لدى اللبراليين. وفي إطار الترابط بين البيئتين الداخلية، يفترض اللبراليون الجدد أن طبيعة النظام السياسي الداخلي، تؤثر بشكل مباشر على السلوك الخارجي للدولة.
انطلاقاً من ذلك يسود الاعتقاد، لدى اللبراليين الجدد بأن الدول ذات النظام الديمقراطي، لا تدخل في صراعات فيما بينها، رغم وجود هذه الإمكانية في مواجهة الدول غير اللبرالية. وهي الفكرة التي عُرفت في إطار نظرية العلاقات الدولية، باسم السلام الديمقراطي Democratic Peace، ومفادها أن "الأنظمة السياسية الديمقراطية اللبرالية، يتصرف بعضها إزاء بعض، بشكل مختلف عن تصرفها إزاء الأنظمة غير اللبرالية، وذلك لأسباب ثقافية معيارية، أو بنيوية مؤسسية".
ويُفهم من ذلك أن الدول اللبرالية أو الديمقراطية، لا تتبنى العنف في سياستها الخارجية، بسبب الثقافة السياسية، والقيم الاجتماعية السائدة في هذه الدول، والمتأثرة بفضائع الحربين العالميتين. إضافةً إلى تأثير البنية المؤسساتية والدستورية، والتي تجعل من قرار الحرب، مساراً معقداً من الحسابات العقلانية، وكذلك المساومات السياسية، إضافةً إلى الدور الذي تُمارسه قوى المجتمع المدني، والقوى السياسية المعارضة. وذلك عكس الدول غير الديمقراطية، والتي يُكون اتخاذ قرار الحرب فيها أبسط، بسبب مركزية القرار السياسي، وكذلك عدم وجود هامش واسع للمداولات، حول مختلف مسائل السياسة الخارجية، بما فيها المتعلقة بخيار الحرب واللجوء إلى العنف.
يستند الافتراض بأن الديمقراطيات، لا تلجأ استخدام العنف ضد بعضها، إلى المبادئ الفلسفية الكانطية، وبعض المؤشرات الإحصائية. وهي الأسس التي تمسك بها اللبراليون الجدد، رغم تعرضها للنقد، خاصةً فيما يتعلق بالدلالات الإحصائية، للمؤشرات الكمية التي تم الاستناد إليها. ففيما يخص الخلفية الفلسفية الكانطية، فقد تم تحوير أفكار إمانويل كانط E. Kant، حول مشروع السلام الدائم Projet de la paix perpétuelle.
يقوم نظام السلام الدائم حسب كانط، على ترتيبات ذات صبغة شبه فدرالية تعاقدية، والتي تتم حصراً بين الدول ذات النظام الجمهوري، المقابل للأنظمة الملكية المطلقة، التي تميل إلى الهيمنة واللجوء إلى العنف والحرب في علاقاتها الخارجية. ويعتبر كانط في هذا الصدد أن "الدستور الجمهوري، فضلاً عن صفاء مصدره، من حيث أنه مستمد من المنبع الخالص، الذي تنبع منه فكرة الحق، يمتاز بأنه يرينا في الأفق البعيد، النتيجة التي ترنو إليها أبصارنا، أعني السلام الدائم".
ويربط كانط بين السلام والنظام الجمهوري، بسبب طول مسارات اتخاذ القرار الخاص بالحرب، نظراً للقيود الدستورية، وكذلك الرقابة الشعبية أو البرلمانية، على أعمال السلطة التنفيذية. وهي نفس الخصائص التي تُميز الأنظمة الديمقراطية المعاصرة، والتي يستند صنع القرار فيها بشكل عام، إلى تدخل الفواعل غير الرسمية، وكذلك الخضوع لنقاشات مستمرة، إضافةً إلى الرقابة البعدية التي يُمارسها البرلمان، على تنفيذ قرارات السياسة الخارجية. علماً أن وصف كانط لمبادئ النظام الجمهوري، تجعله ينطبق بشكل تام مع ما يجري وصفه حالياً، باسم النظام الديمقراطي، المقابل للأنظمة الديكتاتورية.
غير أن اللبراليين الجدد أدخلوا تعديلاً بسيطاً على الفكرة الكانطية، ومفاده أن الدول المعنية بنظام السلام هي دول ديمقراطية لبرالية، كما أنها لن تندمج في نظام سياسي فدرالي، بنفس الطريقة التي اقترحها كانط. ويكون في مقابل ذلك، نظاماً قائماً على الاندماج في مسارات مختلفة للتعاون، وكذلك المنظمات الدولية والإقليمية، وهو ما يعني عدم وجود احتمالات استعمال العنف فيما بين هذه الدول. ويظهر هذا في أوروبا الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فتبني اللبرالية السياسية، والاستقرار السياسي والدستوري، جعلها تغير من طريقة إدارة خلافاتها ومصالحها الوطنية. بالتحول إلى الدبلوماسية والحلول الوسط، أو الآليات المؤسساتية المشتركة، ضمن إطار التكامل الإقليمي، بدل تبني خيار اللجوء إلى العنف.
أما الأساس الثاني لمحاولة إثبات فرضية السلام الديمقراطي، فتمثلت في الاعتماد على المؤشرات الإحصائية، والتي حاول اللبراليون الجدد من خلالها، البرهنة على عدم وجود نزاعات مسلحة، فيما بين الدول الديمقراطية اللبرالية. فقد قدم اللبراليون الجدد دراسة إحصائية، تنطلق من تحديدٍ للدول ذات النظام الديمقراطي اللبرالي، وثم ملاحظة مدى تورطها في حروب أو في نزاعات مسلحة. ومن خلال ذلك تحديد حالات لجوء الديمقراطيات، إلى العنف والقوة المسلحة في علاقاتها المتبادلة، ويُستخلص من ذلك تأكيد افتراض اللبراليين الجدد، بأن الديمقراطيات لا تتحارب فيما بينها، رغم وجود حالات لاستعمال العنف، لكن ضد الدول ذات الأنظمة غير اللبرالية، أو غير الديمقراطية.
غير أنه وإذا كان إجراء بحث حول تعداد الحروب، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يؤكد افتراض اللبراليين الجدد، بأن الدول اللبرالية الديمقراطية، لا تتحارب فيما بينها. إلا أن ذلك لا يمنع شن هذه الدول لحروب عدوانية، ضد غيرها من الدول الموصوفة باعتبارها غير ديمقراطية، مما يوحي بأن هذا النوع من الحروب، مشروع من الناحيتين القانونية والأخلاقية. أو أن المناقشات والعوائق الداخلية، والتي تعيق اتخاذ قرار الحرب ضد الدول الديمقراطية، لا تتدخل بنفس الحِدة، بحيث يُمكنها إعاقة اتخاذ قرار الحرب ضد الدول غير الديمقراطية. حيث يُمكن ببساطة إقناع قوى البيئة الداخلية، بمشروعية قرار الحرب، فقط بسبب طبيعة النظام السياسي للدولة، وينطبق ذلك بشكل ما على القرار الأمريكي البريطاني، بشن حرب على العراق سنة 2003، دون تقديم دلائل قاطعة، تؤكد ادعاء امتلاك أسلحة غير تقليدية، أو علاقة النظام العراقي مع الإرهاب.
غير أن عدم اللجوء إلى العنف والقوة العسكرية، لا يعني سيادة مبادئ التعاون الشامل، بين الدول الديمقراطية اللبرالية. فحالة الفوضوية للنظام الدولي، وتضارب المصالح السياسية والاقتصادية للدول، يجعلها في حالة تنافس وصراع مستمر، وهو ما يتفق حوله الواقعيون واللبراليون الجدد، بعد تخليهم عن التراث المثالي للبرالية التقليدية. لكن ما يُميز السياسة الخارجية لهذه الدول حسب اللبرالية الجديدة، هو السعي إلى التوصل إلى الحلول الوسط، عبر الآليات المؤسساتية المشتركة. ويظهر ذلك من خلال التضارب في المصالح الاقتصادية، داخل المجموعة الأوروبية مثلاً، التي يتم حلها عن طريق مؤسسات الاتحاد الأوروبي. فحتى الحروب التجارية، التي يُمكن أن تحدث بين الدول اللبرالية، لا تتطور إلى إجراءات تصعيدية متبادلة، سياسياً أو عسكرياً. بل عادةً ما يتم اللجوء إلى المفاوضات متعددة الأطراف، ضمن المؤسسات المشتركة، مثل المنظمة العالمية للتجارة، أو ضمن الترتيبات الإقليمية...إلخ.