اللبرالية التقليدية: العلاقات الدولية من وجهة نظرمثالية/يوتوبية
النظرية اللبرالية وتحليل العلاقات الدولية:
ظهرت الأفكار السياسية اللبرالية Liberalism، على أنقاض الإطلاقية السياسية Political Absolutism، التي ميزت أوروبا خلال عصر الأنوار. حيث قامت تدريجياً على محورية الحرية، في تنظيم الحياة العامة، على المستويات السياسية، الاقتصادية أو حتى الاجتماعية. وقد عرفت هذه الأفكار مسارات تطور طويلة نسبياً، انطلاقاً من الميركانتيلية، ثم اللبرالية الراديكالية التي قامت على إطلاقية الحرية (أفكار جيرمي بنتام، جيمس ميل...إلخ). وصولاً إلى اللبرالية في شكلها المتصالح مع القيود القانونية والاجتماعية (أفكار جون ستيوارت ميل، هربرت سبنسر...إلخ). ليصل الفكر اللبرالي ليجد معالمه الأساسية خلال القرن الـ20، من خلال مبادئ الديمقراطية والتداول على السلطة، هيمنة المؤسسات السياسية كضمانة لهذه المبادئ، إضافةً إلى حماية الحقوق والحريات الأساسية...إلخ.
انتقلت الأفكار اللبرالية من الساحة السياسية الوطنية، إلى محاولات لتنظيم العلاقات الدولية، وذلك في شكل ومضات غير منتظمة. ظهرت هذه المحاولات على سبيل المثال، من خلال أفكار سبينوزا B. Spinoza (1632-1677)، الذي اقترح فكرة العقد الاجتماعي على الصعيد الدولي، بهدف منع تكرار اللجوء إلى الحرب في العلات الدولية. وكذلك إيمانويل كانط E. Kant (1724-1804)، والذي طرح ما أطلق عليه اسم مشروع السلام الدائم، والذي يُمكن أن يتحقق من خلال نظام دولي مزود بسلطة مركزية، تُشبه إلى حد ما النظام السياسي الفدرالي.
لم تُعرف الأفكار اللبرالية في مجال العلاقات الدولية، إلا بعد النتائج الكارثية لتنظيم التفاعلات الدولية، والذي أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918). وهو ما دفع اللبراليين إلى انتقاد غياب تنظيم دولي، قادر على تسوية النزاعات بين الدول، وفشل الدبلوماسية كآلية وحيدة لإقامة العلاقات السلمية فيما بينها. إضافةً إلى تحميل الأنظمة الدكتاتورية ذات النزعة العسكرية، مسؤولية كارثة الحرب العالمية الأولى، على اعتبار أن الدول اللبرالية والديمقراطية، لا تلجأ إلى القوة في سياستها الخارجية. وهي الأفكار المؤسسة للمدرسة المثالية في العلاقات الدولية، وأساس ما سيُعرف في مراحل لا حقة باسم نظرية السلام الديمقراطي Democtratic Peace.
انقسمت المدرسة اللبرالية إلى اتجاهين أساسيين، يُعرف الأول باسم اللبرالية الدولية أو اللبرالية التقليدية، المتميزة بطابعها "المثالي"، بينما يُعرف الثاني باسم اللبرالية الجديدة، التي حاول منظروها سد الثغرات النظرية التي ميزت اللبرالية التقليدية. مع الإشارة إلى أن كل من الاتجاهين، لم يخصصا تحليلاً خاصاً للسياسة الخارجية، حيث كانت المدرسة اللبرالية اتجاهاً في تحليل العلاقات الدولية بشكل عام. لذلك فإن التحليل اللبرالي للسياسة الخارجية، ما هو إلا محاولة لإسقاط الإطار النظري اللبرالي الكلي، على موضوع السياسة الخارجية، كأحد المواضيع الجزئية.
1. اللبرالية التقليدية/الكلاسيكية Classical Liberalism:
جاءت اللبرالية التقليدية كطرف في الحوار النظري، الذي ميز نظرية العلاقات الدولية تحت مسمى الحوار الأول، حيث حاول اللبراليون التقليل من شأن النظرة التشاؤمية، التي سادت خلال فترة ما بين الحربين
. والتي تجسدت لاحقاً من خلال أفكار الواقعيين الكلاسيكيين، التي تعززت بتأثير من أوضاع الحرب العالمية الثانية، ثم طبيعة السياسات الدولية، التي ميزت مرحلة ما بعد الحرب. لذلك يُمكن ملاحظة تطور الأفكار اللبرالية منذ مرحلة ما بين الحربين، أين تميزت بطابعها المثالي، المتجسد من خلال الأفكار الويلسونية بشكل خاص، وتوجه الدول إلى تأسيس أولى أشكال المنظمات السياسية الدولية، التي جسدتها بشكل خاص عصبة الأمم. لتأخذ الأفكار اللبرالية تدريجياً طابعاً أكثر متانة، انطلاقاً من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في محاولة للرد على الانتقادات التي تعرضت لها، خاصةً من طرف الواقعيين.
تخلت اللبرالية انطلاقاً من ذلك عن خاصيتها المثالية، والتي كانت أساس الانتقادات الواقعيين الكلاسيكيين، خاصةً أفكار هانز مورغنثاو. فقد تم تبني التعارض في المصالح الوطنية، كأحد محددات العلاقات بين الدول، وبالتالي كمحدد للسياسة الخارجية الوطنية. إضافةً إلى تبني فرضية اعتبار الفرد بشكل عام، كفاعل عقلاني قادر إدراك وتقدير مصالحه، وتبني أنماط السلوك الكفيلة بتحقيق ذلك. وبذلك فقد أصبحت اللبرالية أكثر تقبلاً لفرضيات الواقعيين، رغم عدم الاتفاق حول بقية عناصر البناء النظري، خاصةً الطابع الهوبزي للبنية الدولية. فعقلانية الفرد وعدم التعارض في المصالح الوطنية من حيث المبدأ، لم تكن أسباباً كافية لاستمرار اللبراليين، في اعتبار السلام كوضع طبيعي Natural condition في العلاقات الدولية، بل هو وضع يجب أن تعمل الدول على إقامته Must be constructed.
لا تختلف التصورات اللبرالية للبنية الدولية، عن تلك التي تقوم عليها الأفكار الواقعية، والتي تعتبر أن بنية النظام الدولي هو ذو طابع فوضوي، غير أن الاختلاف يكمن في طبيعة هذه الفوضى. فاللبراليون يعتبرون أن فوضى النظام الدولي، هي ذات طابع كانطي، لا يكون فيها الصراع شمولياً أو حتمياً بالضرورة. وعليه تنطلق اللبرالية التقليدية في نظرتها للعلاقات الدولية، من اعتبار الفرد (وبالتالي صانع القرار) ذو طبيعة عقلانية، إضافةً إلى افتراض إمكانية لإيجاد أرضية لانسجام المصالح الوطنية للدول، وإمكانيات التعاون فيما بينها. كما أن الإقرار بإمكانية لجوء الدول إلى العنف، كوسيلة لتحقيق مصالحها، أو الدفاع عن أمنها الوطني، لا يعني انعدام وسائل تقييد هذا الخيار. وهو ما يُمكن تجسيده من خلال التعاون، وكذلك إحداث تغييرات سياسية ومؤسساتية، على الأنظمة السياسية على المستوى الوطني.
انطلاقاً من ذلك لن تكون خيارات الدولة، منحصرة في الدفاع عن أمنها الوطني، وضمان البقاء وفق تصورات البنيويين والدفاعيين. كما أنها لن تكون مسكونة بهواجس تعظيم القوة، والسعي الدائم لممارسة الهيمنة وتفادي المرض الهولندي، كما ذهب إليه الواقعيون الهجوميون. إضافةً إلى ذلك، فإن التوجه نحو سياسات القوة، من أجل خدمة المصالح الوطنية، أو حماية الأمن الوطني، كمحرك لسلوك الدول لن يكون سياسة مفضلة، بل توجه مقيد بمجموعة من القيود. يرتبط بعضها بعقلانية صانع القرار، وتأثير التفاوت في التوزيع النسبي للقوة، والاعتماد المتبادل بين الفواعل، وكذلك انتشار التعددية Multilateralism كإطار للتفاعل...إلخ.
تتحدد طبيعة العلاقات الدولية، ومن ضمنها السياسات الخارجية الوطنية، من خلال مجموعة من المحددات، التي تقيد اللجوء إلى العنف كوسيلة لتجسيد أهداف السياسة الخارجية الوطنية. فحتى الأمن الوطني كمسألة حيوية للدولة، سيتم التعامل معها ضمن أطر متعددة، يُستبعد معها استخدام القوة العسكرية، والتي غالياً ما تكون ذات تكاليف أعلى من المكاسب التي يُمكن أن تُحققها الدولة. ويُمكن تلخيص القيود على استخدام القوة العسكرية، كآلية لتجسيد السياسة الخارجية للدول في:
أولاً: الديمقراطية:
يفترض اللبراليون أن الديمقراطيات (الدول الديمقراطية)، لن تتحارب ولا حتى يُهدد بعضها بعضاً إلا في الحالات النادرة. ويرجع ذلك من إلى المبدأ المتضمن في الديمقراطية، القاضي بتسوية الخلافات عن طريق الحوار، والوسائل السياسية السلمية، حيث يتوقع صانع قرار السياسة الخارجية، أن كل الدول الديمقراطية تتصرف وفق نفس المبدأ. ومن جهة أخرى فإن سلوكات الدول، بما في ذلك تلك المرتبطة باستعمال القوة، لابد وأن تخضع للرقابة المؤسساتية/البرلمانية. إضافةً إلى التأثير الذي تُمارسه جماعات المصالح والراي العام، في تحديد التوجهات العامة للسياسة الخارجية، خاصة تلك التي لها علاقة مباشرة بمصالح مادية أو غير مادية.
تمارس المؤسسة البرلمانية في النظام الديمقراطي، دوراً محورياً في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، بما في ذلك الإجراءات المتخذة ضمن عملية صنع وتنفيذ السياسة الخارجية. سواءً عن طريق اللجان الخاصة التي تتولى التحقيق والمساءلة البرلمانية، حول قضايا محددة مثل مكافحة الإرهاب، العلاقات الثنائية مع دول معينة...إلخ. كما يُمكن أن تتدخل المؤسسة التشريعية، في التأثير على أعمال السياسة الخارجية، من خلال صلاحياتها في اتخاذ قرار الحرب (الكونغرس الأمريكي)، أو من خلال صلاحياتها في مجال اعتماد الميزانية، أو الاعتمادات المالية الخاصة بأنشطة غير اعتيادية.
ثانياً: التجارة الدولية أو الاعتماد المتبادل:
تحتل المصالح المادية مكانة أساسية في الفكر اللبرالي بشكل عام، نظراً للأبعاد الاقتصادية التي صاحبت تطوره، من خلال نظرية الاقتصاد الكلاسيكي. فعقلانية الأفراد تدفع إلى الاعتقاد بوجود علاقة وثيقة، بين تحقيق المصالح المادية كهدف، والسلام في العلاقات الدولية كشرط ضروري لتحقيقه. أي أن هذا الهدف سيدفع الدول إلى العمل على إيجاد مناخ مناسب، يتضمن تفادي اللجوء إلى الحرب كخيار في السياسة الخارجية، من أجل تعظيم المكاسب والإبقاء على التكاليف في حدها الأدنى.
يعتبر اللبراليون أن النشاط التجاري العالمي، يعتمد على طبيعة العلاقات بين الدول/الشركاء، حيث يُشكل العنف عائقاً أمام حرية الحركة التي الضرورية لازدهار التجارة. فالحرب تمنع -أو على الأقل تعيق -حركة السلع ورؤوس الأموال، وكذلك القدرة على الوصول إلى الأسواق، من طرف الفاعلين الاقتصاديين من الدول أو غير الدول، وبالتالي زيادة التكاليف وتقليص هوامش الربح. وعلى العكس من ذلك فإن التأثير الإيجابي، للنشاط التجاري والاعتماد المتبادل، في حالة الاقتصاد الوطني، ستزيد في توسيع القاعدة المؤيدة، لاستمرار هذا الوضع القائم.
تظهر هذه الافتراضات بشكل ميداني، من خلال التأثيرات السلبية للنزاعات والأزمات، على الأسواق المالية وأسعار الطاقة، وكذلك انسياب الحركة في خطوط المواصلات التجارية. وهو ما يؤثر في شكل موجات متلاحقة، وعلى مستويات متعددة تبدأ من مستوى الاقتصاد الكلي للدولة، إلى الحالة الاقتصادية اليومية للأفراد.
ثالثاً: المنظمات الدولية:
تُعتبر المنظمات الدولية الحكومية، امتداداً طبيعياً للدول القومية، تنقسم بين منظمات ذات طابع عالمي/كوني، وأخرى ذات امتداد إقليمي. غير أن الميزة المشتركة فيما بينها، هو سعيها بطرق مختلفة إلى إحلال السلام، بما يتماشى مع نطاق اختصاصاتها الجغرافي والموضوعي. ولتحقيق هذا الهدف يتم اللجوء إلى وسائل مختلفة تتدرج من الوساطة، إلى غاية استخدام القوة كملاذ أخير لحفظ السلام. كما تتدخل المنظمات الدولية في مرحلة ما بعد النزاع، من أجل منع العودة إلى العنف من خلال إجراءات تعزيز الثقة وبناء السلام. حيث تكون النتيجة المتوقعة نزع عوامل الشك وبالتالي المعضلة الأمنية، من العلاقات بين الدول الأعضاء في المنظمة.
تُعتبر المنظمات الدولية أحد مصادر تشريع القانون الدولي، كما أنها إطار للتداول والتفاوض حول القضايا الدولية المختلفة، وتسوية الخلافات فيما بين الدول الأعضاء. وبذلك فإنها تحافظ على الحد الأدنى من الاتفاق، حول عدم اللجوء إلى العنف ضمن السياسة الخارجية للدول الأعضاء. حيث تتضمن المنظمات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، آليات للتحكيم والوساطة لتنفيذ الأحكام التي عادةً ما تتضمنها المواثيق الأساسية للمنظمات الدولية.
ونجد من الأمثلة على ذلك أنشطة الأمم المتحدة، والمنظمة العالمية للتجارة، حيث تنص مواثيق الأمم المتحدة، على الامتناع عن استعمال القوة في العلاقات الدولية. إضافةً إلى الدور الذي تمارسه منظمة التجارة، في مجال التحكيم في المنازعات التجارية ذات العلاقة بتحرير التبادل التجاري ومكافحة الإغراق...إلخ. بينما يُمارس دوراً مشابها على المستوى الإقليمي، كل اتحاد جنوب شرق آسيا، أو الاتحاد الأوروبي...إلخ، والتي يعتبر الالتزام بعدم اللجوء إلى العنف، أحد الشروط الأساسية لقبول العضوية فيها.
عرفت الأفكار اللبرالية حول التنظيم الدولي، تطوراً واضحا بسبب صدمة الحرب العالمية الثانية، فرغم الاستمرار في التأكيد على دور المنظمات الدولية، إلا أن ذلك لا يتم دون تزويدها بالقدرات الكافية، لتحمل مسؤولياتها في مجال الأمن والسلام الدوليين. لذلك فقد أصر اللبراليون خلال الحرب العالمية، على ضرورة استبدال عصبة الأمم، بمنظمة دولية قادرة على تحقيق هذا الهدف، من خلال استخلاص الدروس من أسباب فشل العصبة.
لا يعتبر اللبراليون أن القيود المذكورة أعلاه، من شأنها أن تمنع الدول من اللجوء إلى القوة العسكرية، كآلية لتجسيد أهداف السياسة الخارجية، حيث تُعتبر على أنها عناصر مساعدة، على إقامة العلاقات السلمية بين الدول. فقد تجنب اللبراليون تكرار أخطاء المثاليين، والتي افترضت إمكانيات تحقيق السلام بشكل آلي، بمجرد توفر منظمة دولية، وآليات تحكيم مناسبة ونظام للأمن الجماعي، إضافة إلى كفاية الثقة المتبادلة من أجل منع تجدد لجوء الدول إلى العنف. وبذلك انفصلت بشكل جذري عن واقع العلاقات الدولية، وبالتالي عجزت عن تفسير الظواهر من جهة، كما فشلت في الإقناع بإمكانية تشكيل المشروع اللبرالي لبديل عن سياسات القوة السائدة، ما جعلها هدفاً للانتقادات الواقعية.
لا تُمارس هذه العوامل تأثيرها بشكل آلي، بل ترتبط بمفهومين أساسيين في الفكر اللبرالي، وهما عامل العقلانية وكذلك المصلحة الوطنية. ورغم ارتباط المفهومين تقليدياً بالأفكار الواقعية، إلا أن مضمونهما اللبرالي يتميز باختلاف واضح، في محاولة من اللبراليين إعطاءهما صفة تفسيرية، سواءً لتفاعلات العلاقات الدولية بشكل عام، أو السياسة الخارجية الوطنية بشكل خاص.
يظهر في هذا الصدد عامل العقلانية، كعامل مؤثر في السياسة الخارجية للدولة، ليس من منظور واقعي بل من منظور "الإنسان الاقتصادي". فهذا العامل لا يرتبط بصانع القرار فحسب، بل يرتبط بسلوك مختلف الفاعلين بما في ذلك الأفراد، والذين يميلون إلى تقليص التكاليف مقابل تعظيم الفائدة. وهو ما يجعل الرأي العام وكذلك جماعات المصالح الاقتصادية، المتأثرة سلباً بلجوء الدولة نحول العنف، أهم مصادر الضغط على آلية صنع القرار. إضافةً إلى أن تكاليف الحروب والتدخلات الخارجية، تنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على الحياة اليومية للأفراد، ما يجعلهم معنيين بشكل مباشر بخيارات السياسة الخارجية الوطنية.
وتكون العقلانية بهذا المعنى أكثر وضوحاً، من الصيغة المطروحة ضمن النظرية الواقعية، أين تكون حسابات التكاليف والعائدات، أكثر وضوحاً بالنسبة للأفراد وجماعات المصالح، مقارنة الحسابات العقلانية على مستوى السياسة الخارجية. فخيار اللجوء إلى القوة العسكرية، قد يكون ذو طبيعة عقلانية بالنظر إلى الحسابات الخاصة بالدولة، وتقدير صانع القرار للمصالح الوطنية، في حين قد تتعارض نفس الحسابات "العقلانية" على مستوى الدولة، مع التقديرات الفردية والتي تكون النتائج فيها أكثر وضوحاً. فحتى مع تحقيق الدولة لمصالحها عن طريق الحرب، فهذا لا يعني بالضرورة عدم إلحاق الضرر ببقية الفاعلين، خاصةً على المستوى الاقتصادي والتجاري.
يُمكن انطلاقاً من ذلك ملاحظة ارتباط العقلانية بمفهوم المصلحة، والذي تركه الواقعيون بدون مضمون محدد، باستثناء البعد الذي تتطابق فيه المصلحة الوطنية مع القوة. ففي حين ترك الواقعيون كيفية تحديد صانع القرار، لمفهوم المصلحة الوطنية غامضاً، أدرج اللبراليون هذا المسار ضمن البناء السياسي الداخلي، والتفاعلات بين مختلف الفاعلين ضمن بيئة النظام. حيث يُمكن بذلك إعطاء مفهوم المصلحة مضموناً محدداً، وكذلك فهم كيفية تشكل مضامين هذا المفهوم، وبالتالي إعطاؤه البعد التفسيري الضروري، لفهم توجهات وسلوكات السياسة الخارجية الوطنية، وفهم تفاعلات العلاقات الدولية بشكل عام.
لا تنفصل مصالح الأفراد والجماعات ضمن المجتمع اللبرالي، عن المصالح الوطنية للدولة التي تنعكس في سياستها الخارجية، والإجراءات المندرجة ضمن هذا الإطار. انطلاقاً من ذلك فإن المصالح ترتبط بعقلانية للأفراد والجماعات، وما تتضمنه من حسابات للتكاليف والعائدات، بحيث تكون الدولة وسيلة عقلانية لتجسيد المصالح الفردية والجماعية. لهذا يفترض اللبراليون أنه إذا كانت تكاليف تحقيق أهداف الأفراد والجماعات، أعلى من السقف الذي تُحدده الإمكانات والوسائل الذاتية، فإن الفاعلين يميلون إلى الاستعانة بالدولة لتجسيد أهدافهم ومصالحهم الذاتية. وذلك بالاستعانة بالتأثير الذي تُمارسه الجماعات ضمن النظام السياسي، مثل الرأي العام وجماعات الضغط والمصالح...إلخ. بمعنى قيام الأفراد والجماعات في حدود معينة، بالمطابقة بين مصالحهم الذاتية والمصلحة الوطنية للدولة، وبالتالي إمكانية تحقيق الأهداف والمصالح الذاتية، دون الاضطرار إلى تحمل تكاليف مرتفعة.
يرتبط ذلك بشكل النظام السياسي، وبنيته المؤسساتية، حيث لا يُمكن حدوث هذا التداخل في المصالح، إلا ضمن نظام لبرالي ديمقراطي. فهذا النظام يسمح للأفراد والجماعات، بالتأثير على توجهات السياسة العامة، والسياسة الخارجية بشكل خاص، عن طريق القدرة على التأثير في عمل المؤسسات السياسية. حيث يظهر الارتباط بين الديمقراطية كإطار للتفاعل، ووسيلة لخدمة المصالح المادية وغير المادية، للأفراد والقوى المجتمعية وجماعات المصالح. من خلال استغلال آليات عمل النظام، لتفادي كل التأثيرات السلبية لتوجهات السياسة الخارجية، التي من شأنها تعريض تلك المصالح للخطر. في مقابل الدفع نحو تبني كل الإجراءات أو السياسات، التي من شأنها تعظيم المكاسب المادية، أو على الأقل خفض التكاليف على مستوى الشركات الاقتصادية، أو حتى المستوى المعيشي للفرد العادي.
رغم افتراض اللبراليين بأن المصالح هي ذات طبيعة تعددية، بالنظر إلى طبيعة المجتمعات والأنظمة السياسية اللبرالية، إلا أن ذلك لا يعني أن المصالح الوطنية، ستكون محصلة التوفيق بين توجهات القوى المجتمعية المختلفة. حيث لا تتميز هذه المصالح بالتناغم الطبيعي، الذي افترض اللبراليون المثاليون وجوده فيما بين توجهات قوى البيئة الداخلية. لهذا فإن الأهداف والتوجهات الأساسية، المتضمنة في السياسة الخارجية الوطنية، وتحديد صانع القرار لمضمون المصلحة الوطنية، يعتمد أساساً على توزيع القوة والنفوذ فيما بين الفاعلين الأساسيين، داخل بيئة النظام السياسي. سواءً أكان هؤلاء الفاعلون داخل أو خارج الأجهزة والمؤسسات، التي عادةً ما تُمارس ضغوطا مستمرة على عملية صنع السياسة الخارجية.
رغم محاولتها الاستجابة لظروف العلاقات الدولية، والتي أحدثت فجوة نظرية كبيرة بين أفكار اللبراليين الدوليين (المثاليين)، مسارات تطور الأحداث الدولية، إلا أن اللبرالية التقليدية تعرضت لجملة من الانتقادات. وقد شملت هذه الأخيرة الخلط الواضح بين البعدين التفسيري والغائي للنظرية، أي تفسير واقع التفاعلات الدولية من جهة، والرغبة اللبرالية في إقرار أنماط مختلفة للتفاعلات.
لم تكن القيود الكانطية للحرب، كافية لمنع تجدد اللجوء إلى العنف وسياسات القوة، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وما تلاها من مؤتمرات سلام. فمعظم الترتيبات التي تم إقرارها منذ 1919، انطلاقاً من مؤتمر فرساي، كانت السبب الرئيسي في تجدد الحرب سنة 1939، حيث أدت هذه الترتيبات إلى تعزيز النزعة الانتقامية، لدى الدول المنهزمة في الحرب، أو تلك التي لم تحصل على ما يكفي من المكاسب، جراء مشاركتها إلى جانب الحلفاء ضد ألمانيا. ويصدق ذلك بشكل خاص على كل من إيطاليا واليابان، والتي توجهت نحو تحقيق أحلامها الإمبراطورية، عن طريق القوة العسكرية بسبب خيبة أملها، من توزيع مناطق النفوذ بعد مؤتمر الصلح 1919. خاصة المقاطعات الألمانية في إفريقيا (بالنسبة لإيطاليا)، والمستعمرات في جنوب شرق آسيا وشرق الصين (بالنسبة لليابان).
كما أن دول أوروبا حتى مع تبنيها للنظام الديمقراطي، إلا أنها حافظت على طابعها الإمبريالي الموروث عن القرنين الـ18 والـ19. بحيث استمرت في سياساتها الاستعمارية إلى ما بعد منتصف القرن الـ20، وكانت بذلك طرفاً في الحروب الثورية التي قادتها حركات التحرر، التي سعت إلى نيل استقلالها الوطني بالقوة العسكرية، بعد فشلها في تحقيق ذلك عن طريق الطرق السلمية والديمقراطية. إضافةً إلى مواصلة الدول اللبرالية لهيمنتها الاقتصادية، عن طريق فرض التبعية والتقسيم العالمي للعمل، وهو ما أدى إلى المساهمة في إفشال برامج دعم الاستقلال الاقتصادي. وقد أضفي حالة من الشك على مصداقية الافتراض اللبرالي، القائل بأن الدول اللبرالية تميل نحو السلام في علاقاتها الخارجية، وأن المؤسسات الديمقراطية تقيد السلوك الخارجي للدول، فيما يتعلق باستخدام القوة أو العنف. فقد أثبتت أحداث الحرب الباردة عكس هذا الافتراض، خاصةً فيما يتعلق بتدعيم قوى الثورة المضادة، في الدول التي استطاعت فيها الحركات السيارية الوصول إلى السلطة، ولو بطرق سياسية ديمقراطية، مثل بعض دول أمريكا اللاتينية (حالة الشيلي سنة 1972 كمثال).
شهدت العلاقات الدولية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تأسيس منظمة الأمم المتحدة كاستمرار لمسار عصبة الأمم، وكذلك إقامة نظام اقتصادي ومالي، بمؤسسات وآليات عمل قوية تجسدت من خلال النظام المالي لبروتن وودز Bretton Woods، وما تضمنته من مؤسسات على غرار صندوق النقد، وكذلك البنك الدولي للإنشاء والتعمير...إلخ،. فهذه الإضافات المؤسساتية الاقتصادية، ورغم انسياقها ضمن البناء الفكري اللبرالي العام، إلا أنها مع ذلك كانت أقرب إلى الحجج/الانتقادات الواقعية، باعتبارها وسيلة لتحقيق الهيمنة، من طرف مجموعة من القوى الدولية، المهيمنة على هذه المؤسسات المالية والاقتصادية، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر من كونها وسيلة كفيلة بتحقيق السلام كما تصوره المفكرون اللبراليون (التقليديون والجدد). فقد اعتمد عمل الآليات الأساسية لنظام بروتن ووزدر، على مبدأ الحصص/الأسهم في رأسمال صندوق النقد الدولي وكذلك البنك الدولي، وهو ما يحدد دور الدول في عملية صنع القرار، وبذلك كانت الدول الأساسية الأكثر مساهمةً، هي من يحدد التوجهات الأساسية للنظام المالي الدولي.
انطلاقاً من ذلك، فقد كان من الضروري إعادة النظر في البناء النظري للبرالية، وتحليلها للعلاقات الدولية، وبعلاقة متعدية للسياسة الخارجية. وقد تجسد ذلك من خلال أفكار اللبراليين الجدد، والتي حاولت سد الثغرات التي ظهرت في النظرية اللبرالية، والتي كانت الموضوع الأساسي لانتقادات الواقعيين.