الفكر السياسي الإنساني: النموذج الرواقي
تمهيد
تأسست المدرسة الرواقية Stoïcisme، على أفكار الفيلسوف زنون Zénon (332 ق.م- 262 ق.م)، ضمن مسارات الثورة على الفكر السياسي الكلاسيكي. فقد تبنت هذه المدرسة، مثلاً عليا مغايرة، وإطار سوسيو-سياسي مختلف جذرياً عن دولة المدينة، بتأثير من التحولات السياسية، الثقافية والاجتماعية، التي أحدثها التوسع المقدوني، على حساب المدن اليونانية، أو حتى الإمبراطوريات المحيطة. وبذلك اندمجت ضمن السياق العام، الذي اتخذه التفكير الفلسفي والسياسي، كغيرها من المدارس الفكرية في العصر الهيليني، مثل المدرسة الأبيقورية. خاصةً فيما يرتبط بمحركات السلوك الإنساني، وكذلك الطابع المادي للوجود والمعرفة، ورفض الطابع التجريدي للظواهر والمعرفة على حد سواء. غير أنها في نفس الوقت، قد احتفظت لنفسها ببعض الخصوصية الفكرية، التي ظهرت بشكل مميز، في أفكارها حول القانون الطبيعي، والموقف من الممارسة والأنظمة السياسية، وكذلك المبادئ الأخلاقية الرواقية.
جاءت المدرسة الرواقية، في نفس السياق التاريخي والزمني للمدرسة الأبيقورية، غير أنها مع ذلك تختلف عنها أيضاً، في امتداد تأثيرها في الفكر الفلسفي بشكل عام، بما في ذلك الفكر السياسي. فتأثير الأبيقوريين يمتد في الفكر الفلسفي، إلى غاية العصور الحديثة، ويظهر في صور مختلفة في الفكر السياسي، وصولاً إلى العصور الحديثة. غير أنه يظهر عبر فترات غير متصلة، عكس الرواقية التي بقي تأثيرها مستمراً في محطات متواصلة، وصولاً إلى العصر الحديث، حيث بدأت الأفكار الرواقية في الترسخ من خلال الفكر السياسي الروماني، وبعد مباشرةً عبر الفكر السياسي المسيحي، وصولاً إلى عصر الأنوار، وعصر المذاهب الإنسانية. ويرجع ذلك على الأرجح، إلى تجاوز الرواقيين الحدود الوطنية الضيقة، التي كانت تحد من نطاق التفكير السياسي، وكذلك إلى الجهود الواضحة، المبذولة من طرف الرواقية، لتوضيح فكرة القانون الطبيعي. وهو ما تماشى مع طبيعة الوضع السياسي، الاجتماعي والفكري، في مراحل مختلفة من مسار التطور التاريخي والسياسي الإنساني.
1. الرواقية: التأسيس للفكر الإنساني:
تندرج الأبيقورية ضمن الفكر السياسي الهيليني، المتميز بتصاعد السيطرة المقدونية على بلاد اليونان، ومن الأبعاد المميزة لهذه المرحلة، تعايش الطابع الفردي والإنساني. أي بتعبير آخر التواجد خارج إطار دولة المدينة، والتي اعتبرت منذ فترات زمنية طويلة، الإطار الوحيد للتطور السياسي، أو حتى التفاعلات الاجتماعية. وعليه فقد دفع انهيار هذا الإطار السوسيوسياسي بالأفراد، إلى البحث عن انتماءات جديدة، مع عدم ضعف متانة الارتباط السياسي والقانوني بالدولة (غياب نظام للجنسية)، المتمثلة في الإمبراطورية المقدونية، التي حلت محل الشعور الوطني السابق. وبذلك فإن هذا الوضع جعل الأفراد يحتفظون بخصائصهم الاجتماعية، اللغوية والثقافية، حتى وإن كانوا أجانب عن الدولة، عكس ما كان عليه الوضع، ضمن التنظيم الاجتماعي لدولة المدينة، خلال العصر الكلاسيكي.
وقد تكرس هذا الوضع من خلال سياسات الانصهار، التي تبناها الإسكندر المقدوني، خلال حملات التوسع نحو الشرق، التي قادها أولاً على حساب المدن اليونانية، ثم الإمبراطورية الفارسية ثانياً. حيث دمج كل الشعوب غير اليونانية، كمواطنين ضمن الدولة المقدونية، على قدم المساواة مع بقية اليونانيين، وهو ما تماشى مع التوجهات الرواقية، التي تضمنتها فكرة العالمية Universality. والتي تُشير إلى "مجتمع إنساني شامل، ينعم فيه الأفراد جميعاً بطبيعة مشتركة". وهو ما سيلتقي فيما بعد مع الأفكار السياسية والاجتماعية الرومانية والمسيحية، وتصوراتها حول العلاقات الاجتماعية والسياسية وحتى الإنسانية، والتي تظهر في أعمال المفكرين المسيحيين الأوائل.
تجسد التوجه الإنساني للفكر السياسي الرواقي، من خلال رفض الفوارق غير الطبيعية، التي لطالما افترضت التوجهات الفلسفية وجودها بين الأفراد. ويتجسد ذلك من خلال الافتراض أن جميع البشر متساوون فيما بينهم، سواءً داخل مجتمعاتهم، أو ضمن المجتمع الأوسع الذي ينتمون إليه، والمتجسد في مفهوم المدينة العالمية. كما أنهم يخضعون لمبادئ قانونية أسمى من القواعد القانونية الوطنية، تحكم الوجود الإنساني ككل، ممثلةً فيما يُعرف بالقانون الطبيعي. وهو ما يُشكل قطيعةً مع الأفكار الكلاسيكية.
2. المدينة العالمية: تجسيد التوجه الإنساني للرواقية:
يُعتبر التوجه الإنساني، أو فكرة الانتماء العالمي للإنسان، من الأفكار التي تفردت بها المدرسة الرواقية، عن بقية المدارس اليونانية المتأخرة. أو على الأقل يُمكن اعتبار أن هذه الفكرة، قد أخذت قالباً فكرياً أكثر دقةً وتنظيماً، مقارنة بالتوجهات الأبيقورية، والتي رفضت حصر الوجود الإنساني في دولة المدينة. ويتأسس التصور الرواقي حول المدينة العالمية، على افتراض وجود "إيمان ديني بوحدة الطبيعة وكمالها، أو بنظام أخلاقي حقيقي [و] التسليم بإرادة الله، والتعاون مع كل قوى الخير". وبذلك يُمكن اعتبار المدينة العالمية، هي الكون الخاضع للتنظيم الإلهي، من خلال المبادئ الطبيعية الكاملة، والتي ستكون مصدراً لاقتباس أنظمة للتنظيم الاجتماعي والسياسي.
وقياساً على ذلك تعتبر الرواقية، أن الإنسان هو جزء من مكونات الطبيعة، وبذلك فهو يخضع لنفس القوانين، التي تخضع لها كل مكونات الطبيعة. غير أنه مع ذلك يختلف عن بقية المكونات بالعقل، وبذلك فهو يتميز عنها بالقدرة على التمييز، بين الخطأ والصواب، أو الخير والشر، وكذلك القدرة على الانتظام في حياة جماعية اجتماعية. وعلى ذلك تنشأ علاقات الأخوة بين أعضاء المجتمع في مستوياته المختلفة، سواءً تعلق الأمر بالمجتمع الضيق، الذي ينتمي إليه بشكل مباشر، أو المجتمع الإنساني، الذي يشكل "دولة عالمية، الآلهة فيها والرجال مواطنون، ولها دستور هو العقل المنزه عن الخطأ". أي أن هذه المدينة لا تخضع لقانون إنساني، بل لمبادئ عالمية يتفق على احترامها جميع الأفراد بدون استثناء، باعتبارها مبادئ موجودة ضمن الطبيعة الإنسانية، يُطلق عليها اسم القانون الطبيعي.
تنتفي بموجب القانون الطبيعي، الفوارق بين الأعضاء، على أساس عرقي، اجتماعي، اقتصادي وكذلك سياسي، وهو ما تكرس مع التغيرات الاجتماعية والسياسية، التي عرفها المجتمع اليوناني، مع فتوحات الإسكندر المقدوني. وفي هذا الصدد تعتبر الرواقية أن "اليونانيون والبرابرة، والأشراف والعامة، والأرقاء والأحرار، والأغنياء والفقراء، كلهم سواء، والفرق الأصيل بين الناس هو الفرق بين العاقل والأحمق". أي أن ما يتمتع به الشخص من حكمة، وقدرة على تحديد الخطأ والصواب، هو أساس التفرقة الوحيد بين الناس، وهو ما يجعل المكانة الاجتماعية، التي يحتلها مواطن المدينة العالمية، هي في نفس الوقت مكتسبة وغير ثابتة. أي أنها غير قابلة للتوريث مثلما كان عليه الوضع في إطار دولة المدينة، وقابلة للاستمرار فقط باستمرارية سبب وجودها، وهو التمتع بالقدر الكافي من الحكمة.
لا يقتصر هذا الوضع على المدينة العالمية فحسب، بل يشمل كذلك المجتمع الواقعي، الذي ينتمي إليه الإنسان بشكل مباشر. فالرواقية ترفض الفوارق بين أعضاء المجتمع، باعتبارهم جميعاً خاضعين لنفس المبادئ القانونية، التي تُنظم المجتمعات الإنسانية، تحت مسمى القانون الطبيعي. وهو ما يعني أن كل إنسان، يتمتع بعضوية المجتمع الذي ينتمي إليه، وكذلك مجتمع إنساني أوسع، ورغم لك فإن الانسجام الطبيعي بين الانتماءين، يجعل من الإنسان خاضع لنفس المبادئ القانونية والأخلاقية، التي تحكم العلاقات الاجتماعية فيهما.
3. القانون الطبيعي: قانون الانتماء الإنساني:
لطالما شكل القانون Nomos، حجر الزاوية في الفكر السياسي، وكذلك التفاعلات السياسية والاجتماعية اليونانية، وبشكل خاص خلال العصر الكلاسيكي. حيث اعتبر المفكرون السياسيون الكلاسيكيون، أنه لا يُمكن للفرد اليوناني، أن يخضع إلا لسلطة القانون، الذي تشرعه المدن من جهة، ويعكس أرقى أشكال الحكمة الإنسانية، الممثلة في المشرعين اليونانيين. كما شكل القانون أساساً لتصنيف الأنظمة السياسية، بين أنظمة صالحة وفاسدة، أو تصنيف الشعوب والمجتمعات، بين متحضرة وبربرية. ولم يخرج الفكر الرواقي عن هذه القاعدة، فرغم رفض الرواقيين للكثير من مبادئ الفكر السياسي الكلاسيكي، إلا أنهم مع ذلك أكدوا على دور القانون في تنظيم العلاقات الاجتماعية، والتفاعلات السياسية.
لم تكن فكرة القانون الطبيعي، من إنتاج المفكرين الرواقيين بشكل خاص، حيث نجد إشارات لنفس الفكرة، خلال المراحل التاريخية السابقة، خاصةً خلال العصر الكلاسيكي. غير أن انهيار دولة المدينة، وأسلوب التفكير السياسي المرتبط بها، جعل من القانون الطبيعي، خاصيةً مميزة للمدارس الفكرية المتأخرة، والتي حاولت تشكيل صورةٍ أكثر وضوحاً لهذا المفهوم. وقد تميزت الرواقية عن غيرها من المدارس، بوضعها لتصور أكثر وضوحاً للقانون الطبيعي.
يتلاءم مفهوم القانون الطبيعي، مع الانتماء العالمي أو الإنساني، الذي يُميز الفرد في الفكر السياسي الرواقي، لذلك يُمكن اعتباره بمثابة قانون المدينة العالمية. فهو بمثابة "العقل المنزَّه عن الخطأ، الذي يهدي الناس إلى ما يجب أن يفعلوه، وما يجب أن يتجنبوه. فالعقل المنزه عن الخطأ هو القانون الطبيعي، هو المقياس في كل مكان، لما هو حق وعدل، لا تتغير مبادئه، وهو ملزم لكل الناس، حكاماً ومحكومين على حد سواء".
إن القانون الطبيعي بهذا المعنى، شامل لكل أصناف الناس، ولا يأخذ بالاعتبار التفاوت الحاصل بينهم، بالرغم من أن هذا التفاوت هو في حد ذاته أحد المبادئ الطبيعية. كما أن هذا القانون، لا يستند إلى مختلف وسائل الإقناع والإكراه، التي تُميز القواعد القانونية العادية، فهو لا يتميز بطابع إلزامي محسوس. فقواعد القانون الطبيعي، تظهر في الميل الطبيعي لدى الإنسان، بالتوجه نحو القيام بالصواب/الخير، وتجنب الخطأ/الشر، ويتم استنباط هذه القواعد، من خلال النشاط العقلي الإنساني.
والملاحظ في التعريف الرواقي للقانون الطبيعي، هو تبني نفس المبدأ الكلاسيكي في تعريف القانون، أي باعتباره "العقل المنزَّه عن الخطأ". فقد اُعتبر القانون وفق الفكر الكلاسيكي، بأنه نشاط عقلي محض، وهو ما ذهب إليه أفلاطون بالقول، أنه يجب "أن ننظم مدننا وبيوتنا طبقاً للقانون، ونعني بالاصطلاح المحدد قانون، تصنيف العقل". غير أن السياق الذي جاء فيه تعريف افلاطون للقانون، يُشير إلى أن المشرع هو إنسان، قد يصل إلى أرقى درجات الحكمة، وبالتالي فإن العقل في هذه الحالة غير منزه عن الخطأ. وعلى العكس من ذلك فإن القانون الطبيعي، يأخذ طابعاً إلهياً واضحاً، على اعتبار أن العقل المنزَّه عن الخطأ، لا يُمكن أن يكون خاصيةً إنسانية.
إضافةً إلى ذلك فإن تعريف المفكرين الكلاسيكيين للقانون، لا يتعدى نطاق الجماعة الإنسانية المباشرة، أي بتعبير آخر الأسرة كحد أدنى للجماعة، والمدن التي ينتمون إليها كحد أقصى. وهو ما يختلف جذرياً عن النطاق، الذي يمتد إليه تأثير القانون الطبيعي، وفق التصور الرواقي، والذي يمتد من الحد الأدنى للجماعة أي الأسرة، إلى الجماعة الإنسانية، التي تتجاوز الحدود السياسية، الاجتماعية والعرقية، الفاصلة بين الأفراد والجماعات.
تُقر الرواقية بالاختلاف الجذري، في طبيعة القواعد القانونية، المندرجة ضمن القوانين الوضعية، وكذلك مبادئ القانون الطبيعي، غير أنها في نفس الوقت، لا تتوجه نحو الفصل بين القانونين. فالإنسان يجب أن يخضع لكليهما، أي أنه مسؤول أمام القانون الوطني، المنظم للعلاقات الاجتماعية في الدولة، كما يخضع في نفس الوقت لقواعد القانون الطبيعي. وهذا الوضع لا يعني أن القانون الوضعي، المشرَّع من طرف الدول، يتساوى من حيث المكانة مع القانون الطبيعي، رغم وحدة الهدف من كليهما. فالرواقية تعتبر القانون الطبيعي، أسمى درجةً من القانون الوضعي، لهذا فإنه في حالة التعارض بينهما، فإن الأولوية ستكون لقواعد القانون الطبيعي.
4. السياسة وأنظمة الحكم: استمرارية القانون الطبيعي:
سبقت الإشارة، إلى أن الرواقية تنتمي إلى المدارس الفكرية المتأخرة، في الفكر السياسي اليوناني، والتي ثارت على المبادئ الفكرية للعصر الكلاسيكي. ورغم أن الرواقية قد أسست فكرها السياسي، من منطلقات مشابهة لبقية المدارس، إلا أنها تبنت مع ذلك تصورات ومبادئ، مختلفة جذرياً عن المدارس الأخرى، خاصةً المدرستين الكلبية والأبيقورية، حول الممارسة السياسية وأنظمة الحكم.
أولاً: الموقف من السياسة: أو السياسة كاستمرار لازدواجية الانتماء:
تتأسس النظرة الرواقية للحياة الاجتماعية، من نفس المنطلقات الأبيقورية، أي بالدعوة إلى الابتعاد عن اللذات المادية، وتبني الزهد والتقشف. كما أن السلوك الإنساني، يتحدد بالسعي الإنساني الدائم، لتجنب أسباب القلق، الخوف، والاضطرابات الروحية والنفسية، ما يحقق لـ"الإنسان الحكيم" السعادة والطمأنينة الروحية. غير أن تحقيق هذا الهدف، يتطلب سلوك طريق مختلف، لذلك الذي توقعه الأبيقوريون، من خلال تبنيهم لفلسفة الهروب، باعتزال الممارسة السياسية. وعلى النقيض من ذلك، فقد تبنى الرواقيون، مبدأ الانخراط في العمل السياسي، باعتباره واجباً أخلاقياً، يلتزم به الإنسان الحكيم بموجب مبادئ القانون الطبيعي، التي تنص على الحياة الجماعية والاجتماعية.
تأسيساً على ذلك، فقد اعتبرت الرواقية أن السياسة ليست شراً مطلقاً، أو مصدراً للخوف والقلق في حد ذاتها، بل هي نتاج مباشر للسلوك الإنساني. حيث يُمكن أن تتضمن الممارسة السياسية، الكثير من السلوكات السلبية، كالصراع السياسي، الخيانة، الخداع...إلخ، كما أنها كذلك يُمكن أن تتضمن الكثير من الصور الإيجابية، خاصةً إذا تمت ممارستها، من خلال المبادئ القانونية والأخلاقية، التي تحكم الطبيعة الإنسانية (القانون الطبيعي). وبذلك فإن الافتراض الرواقي بازدواجية الانتماء، يعني بالضرورة الخضوع للأحكام والالتزامات، التي يفرضها انتماء الإنسان للمدينة العالمية، والمدينة التي يعيش فعلياً فيها، ويخضع لقوانينها، ويتفاعل مع بقية أعضائها.
انطلاقاً من ذلك تفترض هذه المدرسة، ما يُطلق عليه اسم "واجب الرواقي"، والذي يكون بموجبه الاهتمام بالشؤون السياسية، وخير الوطن بشكل عام، من واجبات الرجل الحكيم. فهذا الأخير "سيهتم بالسياسة إلا إذا منعه ظرف ما من ذلك، فإذا كانت المدينة العالمية تحتل المرتبة الأولى في سلم القيم...فإن المدينة الصغيرة، أو الوطن الصغير الذي وُلد فيه الجسد، لا ينبغي مع ذلك التخلي عنه". وسيكون العقل الذي يتميز به الرواقي، أهم ما يمنع الانزلاق نحو الممارسات السياسية الفاسدة، كما سيكون كذلك تحصيناً له، ضد كل محاولات: الضغط، الإكراه والإغراء، التي يُمكن أن يتعرض لها، بمناسبة انخراطه الكلي في العمل السياسي.
انطلاقاً من ذلك ستكون الممارسة السياسية، عملة واحدة بوجهين اثنين، أي أنها يُمكن أن تتضمن في نفس الوقت، مظاهر الممارسات الفاسدة، المتناقضة مع السعي لنيل السعادة والطمأنينة، إضافةً إلى مظاهر الممارسة السياسية الرشيدة. كما أن الاشتراك في الحياة السياسية العامة، سيكون أحد الواجبات المترتبة على الإنسان الرواقي أو الرجل الحكيم، باعتبارها استمراراً لمبادئ القانون الطبيعي. حيث يُمكن من خلال ذلك توجيه المدينة الصغيرة، إلى الأخذ بأسباب الخير والصواب، وتجنب الأسباب المؤدية إلى ارتكاب الأخطاء والشرور، في التفاعلات الاجتماعية والسياسية بشكل عام. إضافة إلى مساهمة ذلك في اقتباس المبادئ العامة، التي تسير وفقها المدينة العالمية، باعتبار أن الانتماء للمدن والمجتمعات، لا يتعارض مع طبيعة الانتماء إلى المدينة العالمية.
ثانياً: في أنظمة الحكم: الملكية كمبدأ طبيعي:
تخضع تصورات الرواقية للأنظمة السياسية، لنفس المبدأ العام لهذه المدرسة، أي الخضوع لمبادئ القانون الطبيعي، وهو ما يُفسر غياب نظرية شاملة للأنظمة السياسية، وفق الأسلوب الكلاسيكي (مثل أفلاطون وأرسطو). فالرواقية لم تهتم كثيراً بمعايير تصنيف الأنظمة السياسية، أو عوامل التحول من الحالة الصالحة للنظام السياسي، إلى الحالة الفاسدة والعكس. بل تركز الاهتمام أساساً بالنظام الملكي، والبحث عن الصيغة الأمثل لهذا النظام، والمتمثلة في تحويل الملك الممارس للسلطة فعلاً، إلى الملك الحكيم المؤمن بالمبادئ الرواقية.
تتماشى الأنظمة الملكية بشكل عام، مع مبادئ القانون الطبيعي، باعتبارها تُمثل وجود الشخص القادر على فرض سيادته على بقية أفراد الدولة، وهو مبدأ سائد في كل أشكال الجماعات، العاقلة منها وغير العاقلة. ويبقى الاهتمام الرواقي منصباً في هذه الحالة، ليس على إيجاد البدائل لهذا النظام، بل إيجاد الصيغة الأمثل لممارسة السلطة الملكية. وقد توصل الرواقيون إلى أن إيجاد الصيغة الأمثل للنظام الملكي، ستكون من خلال وسيلتين أساسيتين، هما:
- التعليم الرواقي: تُشبه هذه الوسيلة ما جاء في محاورة الجمهورية لأفلاطون، حيث يكون اكتساب الحكمة ممكناً عن طريق التعليم. غير أن هذه الصيغة الرواقية، لا تستهدف تعليم أفراد من المجتمع ليكونوا ملوكاً حكماء، وفق صيغة الحاكم الفيلسوف، بل تستهدف تحويل الملوك، أو من سيتولون هذه المهمة، إلى ملوك حكماء. وذلك من خلال تعليم المبادئ والقيم الأخلاقية، التي يجب أن تُمارس من خلالها السلطة، وطريقة التعامل مع الرعايا ومواطني المدينة. وهذا التعليم سينعكس آلياً على الرعايا، والذين سيتبنون نفس القيم الأخلاقية، التي اكتسبها الملوك خلال تعليمهم من طرف الرواقية. فقد جاء في خطاب زينون الرواقي، الموجه لملك مقدونيا "الذي سيعلم الملك وسيلهمه سلوكاً فاضلاً، سيُحضِّر بالتأكيد رعاياه لفضائل الرجال، لأنه كما يكون القائد، يكون بشكل محتمل وعادةً رعاياه".
- التوجيه الرواقي: الحكيم الرواقي كمستشار: تعتبر الرواقية، أن النظام المختلط، والذي يضم إلى جانب الملك هيئات سياسية، تُمثل كل من الشعب (الجمعية العمومية)، والطبقة الارستقراطية (مجلس الشيوخ)، هو أحسن أشكال ممارسة السلطة. غير أنها في نفس الوقت تعتبر أنه من غير المحتمل أن يقبل الملوك، بإقامة أنظمة مختلطة، يتنازلون فيها بمحض إرادتهم عن سلطاتهم المطلقة، لصالح الشعب، وممثلي الطبقة الارستقراطية. لذلك فإن توجيه النظام الملكي، نحو أحسن ممارسة للسلطة، إلى جانب نظام التعليم، يكون عن طريق تنصيب المستشارين، المنتمين فكرياً إلى المدرسة الرواقية، أو على الأقل المؤمنين بمبادئها.
فقد ذهبت الكثير من الآراء، إلى أن الإسكندر المقدوني، ومن تولى السلطة بعده في أنحاء الإمبراطورية، أو المكيات التي ورثها أعوانه، قد صاغوا سياساتهم على ضوء المبادئ الرواقية. فقد اعتبر المؤرخ اليوناني بلوتارك، أن "ما كتبه زينون كما لو كان يحلم، قام الإسكندر بتحقيقه". وهو ما دفع المدرسة الرواقية نحو تشجيع أعضائها، على العمل كمستشارين لملوك مقدونيا، وغيرهم من الملوك الذين ينتمون إلى العالم الهيليني الذي أسسه الإسكندر المقدوني. وبذلك يُمكن أن تُصبغ تصورات الحكام وسياساتهم بالصبغة الرواقية، وبذلك يُمكن تجسيد فكرة الملك الحكيم أو حتى الرواقي، دون أن تكون هناك حاجة، إلى افتراض تغييرات جذرية، غريبة عن المجتمع، بنفس الطريقة التي افترضها أفلاطون في محاورة الجمهورية.
في الأخير يُمكن القول، أن الرواقية قد أسست لفكر سياسي ثوري، يرفض المبادئ التي تأسس عليها الفكر السياسي الكلاسيكي. ورغم أنها لم تخرج بشكل جوهري عن الإطار العام، للفكر السياسي الذي تأسس نتيجةً لانهيار دولة المدينة، خلال عصر المدارس الفكرية، إلا أنها مع ذلك قد صبغت بشكل واضح الأفكار السياسية في مراحل لاحقة بصبغة رواقية واضحة. ويظهر ذلك بشكل خاص، خلال المرحلة الرومانية، التي تشابهت من حيث الخصائص السياسية والاجتماعية مع المرحلة المقدونية. خاصةً فيما يتعلق بأسلوب ممارسة السلطة، والتنوع العرقي، اللغوي والثقافي، الذي ميز المجتمع الروماني، نتيجة للفتوحات العسكرية الرومانية.
وتتجسد الرواقية في الفكر السياسي الروماني، من خلال أعمال شيشرون، وأفكاره حول القانون الطبيعي، وبشكل خاص من خلال أعمال سينيكا، الذي صاغ أفكاره حول الواجب الأخلاقي للحكيم، وموقفه من الممارسة السياسية، وفكرة العصر الذهبي، على ضوء التراث الفكري للرواقية الهيلينية. غير أنه مع ذلك فإن مبادئ المدرسة الرواقية، قد تعرضت تدريجياً للتنقيح، حتى تتماشى مع خصائص المجتمع الروماني، المختلف نسبياً عن خصائص المجتمع المقدوني، وبشكل خاص خلال مرحلة حكم الإسكندر المقدوني.
ويمتد تأثير المدرسة الرواقية كذلك، إلى الفكر السياسي المسيحي، خاصةً بعد تعرضه للعديد من عمليات التنقيح خلال العصر الروماني، والذي شهد ظهور الشرائع المسيحية. لذلك توصف العديد من الأفكار المسيحية، المتعلقة بالمجال الأخلاقي، أو النطاق لشامل للانتماء المسيحي، أو حتى أفكار القديس أغسطين حول الانتماء المزدوج، لكل من المدينة الأرضية، وكذلك مدينة الله. أو حتى أفكار القديس توماس الإكويني، حول الشرائع والقوانين، وبشكل خاص أفكاره حول القانون الطبيعي، المستمدة من الأفكار الرواقية.