الفكر السياسي الإنساني: المدرسة الأبيقورية كنموذج

تمهيد

تأسست المدرسة الأبيقورية Epicurisme، على يد الفيلسوف اليوناني أبيقور Épicure (341 ق.م-270 ق.م)، بتأثير من الأوضاع السياسية والاجتماعية، القائمة في بلاد اليونان خلال العصر الهيليني. وقد اندرجت هذه المدرسة، ضمن التقاليد الفلسفية، التي ميزت هذه المرحلة التاريخية، وعلى رأسها التخلي عن دولة المدينة، كإطار وحيد للتفاعل الاجتماعي والسياسي. غير أنها في المقابل، اتخذت موقفاً سلبياً من الممارسة السياسية، حيث تُعتبر الأبيقورية بشكل عام، على أنها "فلسفة هروب"، عكس ما توجهت إليه المدارس الأخرى، على رأسها الرواقية.

إن اعتبار الرواقية كمدرسة فكرية، تتبنى مبدأ تجنب الاندماج في الحياة السياسية، لا يُخرجها من إطار الفكر السياسي. فعلى الأقل يُمكن اعتبار الأبيقورية، بمثابة الخلفية الفلسفية، لبعض المدارس الفكرية المتأخرة، على غرار الأفكار اللبرالية التقليدية. إضافةً إلى ذلك، فقد شكلت المدرسة الأبيقورية، منطلقاً جديداً في النظر إلى الظواهر السياسية، من خلال إعادة النظر في محرك السلوك الإنساني بشكل عام، ومكانة المعتقدات الدينية في الحياة الاجتماعية والسياسية، إضافةً إلى نقد نظرية المعرفة السائدة خلال العصر الكلاسيكي.

1.     اللذة والألم كمحرك للسلوك الإنساني:

تقوم الفلسفة الأبيقورية، على مبدأ عام لتفسير السلوك الإنساني، ومن خلال ذلك السلوك السياسي، ويتمثل هذا المبدأ في ثنائية اللذة والألم. فمحرك سلوك الإنسان، وخياراته الشخصية والاجتماعية، لم يعد نابعاً من كونه حيواناً سياسياً كما افترض أرسطو، بل تنبع أساساً من اعتبارات حسية. وتتلخص هذه الأخيرة، في سعي الإنسان لتحقيق القدرة الأعظم من السعادة، من خلال التمتع بالقدر الأكبر من المتعة أو اللذة، وتجنب الألم ومختلف صور المخاوف النفسية. على أن هذا المبدأ يرتبط بالسلوك الفردي، وليس بالتفاعلات التي تتم ضمن الجماعة الإنسانية، سواءً أكانت ذات طابع سياسي، أو ذات طابع اجتماعي محض. فلمصلحة الذاتية، تتمثل في تحقيق المنفعة الذاتية، بغض النظر عن علاقة ذلك بالصالح العام، حيث لا تهتم الأبيقورية بالمبادئ الأخلاقية، والقيم الاجتماعية غير المتماشية مع هذا الهدف.

ينطبق ذلك كذلك على المبادئ، التي تأسست عليها الأفكار السياسية التقليدية، خلال العصر الكلاسيكي (أفكار أفلاطون وأرسطو). فرغم عدم رفض المبادئ الاجتماعية والأخلاقية، إلا أن هذه الأخيرة مع ذلك اخذت موقعاً مختلفاً في التصورات الفلسفية الأبيقورية. فقد اُعتبرت على أنها غايات اجتماعية، يتوقف على توفرها طبيعة العلاقات بين أفراد المدينة، وكذلك طبيعة التنظيم الاجتماعي والسياسي السائد. ثم جعلتها الأفكار الأبيقورية وسيلة لتحقيق السعادة، والتخلص من الاضطراب الروحي والنفسي، ومختلف صور القلق والألم. فالفضيلة والمبادئ الأخلاقية على سبيل المثال، ليست مهمة بذاتها في العلاقات الإنسانية، بل لأنها قد تكون مصدراً للسعادة أو اللذة. التي يُمكن أن تنشأ عن الطمأنينة والراحة النفسية، المترتبة عن الفضائل الأخلاقية، ما يجعلها ذات تأثير غير محدد سلفاً، أي أنها يُمكن أن تكون سبباً في الحصول على السعادة، أو سبباً للمعاناة من الألم والقلق.

ويُفهم من ذلك أن الفضائل الأخلاقية، التي تضمنتها الفلسفة اليونانية، لكل من سقراط وأفلاطون وغيرهما، لا يُمكن أن تكون ذات قيمة، لأن المبادئ التي لطالما آمن بها سقراط، قد انتهت بتعرضه لحكم الإعدام. وأن تلك الفضائل المبادئ الأخلاقية، هي ما جعلته يرفض مقترح تلامذته بالهروب من السجن، والنجاة من الموت، وفق ما تضمنته محاورة الدفاع لأفلاطون.  

كما يستند النقد أو الرفض الأبيقورية، للأهمية التي منحتها الفلسفة اليونانية، للمبادئ الأخلاقية والاجتماعية، على النظرة الخاصة لكل اتجاه فلسفي، عن غيره من الاتجاهات، لتلك المبادئ والقيم. فرغم وحدة مضمون الفضيلة، الأخلاق، العدالة...إلخ، إلا أن كل اتجاه فلسفي استخدم هذه المفاهيم، وفق مصالح مادية خاصة (السفسطائيين مثلاً)، أو على الأقل وفق تصور خالص مختلف (أفلاطون وأرسطو). أي أن الحياة الاجتماعية، لا يُمكن أن تتأسس على مفاهيم، بمضامين غير ثابتة ومتغيرة، بتغير الانتماء الفكري أو العقائدي، وكذلك حسب المصلحة المادية والسياسية.

يجدر التنبيه إلى أن مفهوم اللذة والألم، اللذين تقوم عليهما المبادئ الاجتماعية والأخلاقية الأبيقورية، لا ينحصر في الأحاسيس المادية المؤقتة، ولا التي لا ترتقي لأن تكون مصدراً للقيم الأخلاقية. بل أن المبدأ يلتقي مع مفهوم الأتاراكسيا Ataraxia، أي الطمأنينة وراحة البال، وتخلص الإنسان من القلق والهموم، وكل ما من شأنه أن يعيق الإنسان، عن الوصول إلى هذه الحالة. وفي هذه الحالة فإن معاني اللذة والألم، تأخذ طابعاً داخلياً غير مادي، أكثر من كونها متعة مادية قد تُنتج ألماً ومعاناة أكبر منها.

انطلاقاً من ذلك فإن اللذة والألم، لا تتضمنان معاني جسدية أو مادية بالمطلق، حيث ترتبطان أساساً بالإدراك العقلي للإنسان. وفي هذا الصدد يعتبر الأبيقوريون أن "مفتاح الحياة السعيدة، هو العقل المتيقظ، الذي يبحث بثقة عن دوافع ما يجب اختياره، وما يجب تجنبه، والذي يرفض الآراء العقيمة، التي يكتسح الاضطراب الأكبر بواسطتها النفوس". فأسباب الشعور بالسعادة وتجنب القلق، ترتبط بخيارات عقلية وليست مسعى شهواني غير عقلاني، فالإنسان يحتاج إلى إدراك السعادة الحقيقية، والابتعاد عن المعتقدات الوهمية، التي تؤدي إلى نتائج عكسية.

يتبادر إلى الذهن التساؤل، حول وجود علاقة منطقية ممكنة، بين اعتبار الأبيقورية كفلسفة هروب، وتصوراتها الفلسفية حول مختلف مواضيع الفكر السياسي، كبديل للأفكار السائدة في العصر الكلاسيكي. ويُمن توضيح ذلك باعتبار أنه حتى مع تبني الأبيقوريين لمبدأ القطيعة مع الحياة السياسية، بهدف تحصيل السعادة واللذة وتجنب الألم، فإن هذا الموقف يتطلب بدوره تصوراً فلسفياً، يتضمن محاولة تأكيد العلاقة بين الأتراكسيا، والقطيعة مع الحياة العامة، والمشاركة في الشؤون السياسية للمدينة. ويتضمن هذا التصور الفلسفي، نظرية بديلة للمعرفة، والتصورات حول الظواهر الدينية والسياسية، ومنها العدالة، الحرية وكذلك الدولة، ومن خلال ذلك كله يُمكن فهم الموقف السلبي من المشاركة السياسية.

2.     النظرية الأبيقورية للمعرفة كسبيل للأتراكسيا:

تقوم الفلسفة الأبيقورية بشكل عام، على التخلص من القلق والاضطراب، وتحقيق السعادة النفسية والروحية، وفق ما يُعرف بالأتراكسيا. وعليه فإن تحقيق هذا الهدف، يعتمد على وسائل مختلفة ومتنوعة، لكنها تشترك على اختلافها، في كونها ذات طبيعة حسية مادية، وينطبق ذلك على مفهوم المعرفة العلمية. فهذه الأخيرة قد خرجت من عالم المثل، لتتحول إلى ممارسة عملية، من خلال تحويلها إلى دليل عملي، لتحقيق غايات الوجود الإنساني. ونتيجةً لذلك، فقد رفض الأبيقوريون العلوم التجريدية، التي شكلت عصب الحياة العلمية والفكرية خلال العصر الكلاسيكي، وعلى رأسها علم الرياضيات، والذي تأسست عليه فلسفة أفلاطون.

إن المعرفة العلمية وفق المنظور الأبيقوري، تندرج ضمن المنظور البراغماتي، فهي وسيلة للوصول إلى الإدراك الفعلي لجوهر الظواهر والمفاهيم الاجتماعية. أي أن المعرفة يجب أن تتوصل إلى نتائج، حول المعتقدات الدينية، الاجتماعية والسياسية السائدة في المجتمع، وبذلك فقط يُمكن للإنسان التوصل إلى استبعاد القلق لصالح الطمأنينة. ويرتكز ذلك على منهج التشكيك في هذه العقائد، والتي شكلت لفترات زمنية طويلة، سبباً مباشراً للمخاوف التي يُعاني منها الناس، خاصةً فيما يتعلق بالحياة والموت، والعلاقة مع الآلهة، والخوف من الحساب الإلهي بعد الموت، إضافةً إلى العلاقة مع السلطة السياسية...إلخ. وفي هذا السياق فقد قسّم الأبيقوريون المعرفة إلى مبحثين أساسيين، يتمثل الأول في علم الطبيعة، بينما يهتم الثاني بالإنسان والأخلاق.

-   علم الطبيعة: دحض الخرافة:

يهتم علم الطبيعة بدراسة عناصر البيئة المادية، التي يعيش ويتفاعل ضمنها أفراد المجتمع، وتشمل مختلف الظواهر الطبيعية، المناخية، الجيولوجيا...إلخ. واستمراراً للطابع البراغماتي للمعرفة، فإن دراسة هذه الظواهر، لا يستند إلى رغبة ذاتية للباحث، في التخصص في هذا الحقل. بل يستهدف الفيلسوف من خلال ذلك، التعرف على الأسباب الحقيقية للظواهر الطبيعية، كوسيلة لتفنيد الخرافات والأساطير، التي تدور حول القدرات الخارقة للقوى الغيبية. والتي تُمارس تأثيراً مسيطراً، على حياة الإنسان، المقتنع بصحة تلك الروايات، دون الاستناد إلى دلائل علمية مثبتة.

-   علم الأخلاق: اللذة والألم كمعيار للخير والشر:

تُعتبر ثنائية اللذة والألم، العامل المحرك للسلوك الإنساني، وبعلاقة متعدية أساس القيمة الأخلاقية، في التصور الأبيقوري، كمرادف للخير والشر. فالإنسان يميل إلى السعي للشعور باللذة، وكل ما يًساعد على تحقيق ذلك فهو ذو طبيعة خيرة، وفي المقابل يظهر الشر في كل ما يُمكن أن ينتج عنه الشعور بالألم والاضطراب. فهذا المسعى ذو الاتجاهين المتعارضين (اللذة والألم)، يُشكل الغاية القصوى لحياة الإنسان، ومعياراً للأحكام التي يكونها حول الظواهر والمفاهيم الأخلاقية المختلفة.

وقد جرى الاعتقاد أن اللذة والألم، لا تكونان إلا من طبيعة مادية مؤقتة، وهو ما تجسد في الكثير من المجتمعات عبر مختلف مراحل التاريخ، وكذلك في تصورات الكثير من الحضارات المتعاقبة. غير أن الأبيقورية على العكس من ذلك، تعتبر أن اللذة الحقيقية المرتبطة بالسعادة وتحقيق الطمأنينة، هي ذات طبيعة غير مادية من جهة، وغير محدودة زمنياً من ناحية أخرى. حيث يذهب الأبيقوريون إلى أن اللذة الأهم التي يُمكن للإنسان أن يسعى إلى تحقيقها، هي هدوء البال والطمأنينة، وهو ما يعتمد على النفس الإنسانية ذاتها، أكثر من اعتماده على أسباب وعوامل خارجية.

وفي كل الحالات، فإن المعرفة العلمية بمختلف مباحثها، تعتمد على الحاس كوسيلة للوصول إلى الحقيقة، والتأكد من صحة المعارف القائمة. فحتى مع الانتقادات التي طالت هذا الاعتقاد، فإن الأبيقورية تعتبر بأن القول بأن الحواس قد تُقدم صورة خاطئة، غير صحيح ولا يُمكن أن يُقلل من قيمتها (أي الحواس). حيث لا تكون المشكلة مرتبطة بالمعلومات التي نستخلصها من خلال هذه الوسيلة، بل تكمن أسباب النتائج الخاطئة، في عملية التحليل التي تكون قد تعرضت لها المعلومات المحصل عليها. فالحواس حسب الأبيقورية تُقدم الصورة الحقيقية، لكن القراءة العقلية لهذه الصور، قد ينتج عنها تأويلات خاطئة، ناتجة عن عدم قدرة العقل على مسايرة الحواس.

3.     النظرية السياسية الأبيقورية: الدولة من منظور براغماتي:

يُشكل مفهوم اللذة والألم، الجذر الذي تتفرع عنه مختلف التصورات الفلسفية، الموضوعة لتفسير الظواهر السياسية، وفق المنظور الأبيقوري. لذلك فقد شكل هذا المفهوم أحد مظاهر الاختلاف، بين تصورات الأبيقوريين، مقابل التصورات السياسية الأفلاطونية والأرسطية. فقد توجه أفلاطون إلى اعتبار أن الدولة، تنشأ من أجل تبادل إشباع الحاجات، لذلك فإن العلاقة بين أفرادها هي علاقة تكامل وظيفي، يؤدي من خلالها الأفراد الأعمال والوظائف، التي لا يُمكن لغيرهم أداؤها بنفس الكفاءة. وفي سياق مشابه يرى أرسطو أن الدولة، تنشأ لخدمة الخير العام لمختلف أعضائها، وهو ما يتماشى مع مفهوم المصلحة العامة. وقد شكل هذان التصوران المتقاربان نسبياً، التفسير السائد لنشأة الدول خلال المرحلة الكلاسيكية، لدى أتباع المدرستين الأفلاطونية والأرسطية.

يتبنى الأبيقوريون على العكس من ذلك، تصوراً مختلفاً عن الأفكار السائدة خلال المرحلة الكلاسيكية، ويقترب إلى حد كبير من تصور توماس هوبز حول العقد الاجتماعي. وتعتبر الأبيقوريون في هذا الصدد، أن الدول عموماً تنشأ فقط لتوفير الطمأنينة فيما بين أفراد الجماعة الإنسانية، الذين يسعون بشكل أناني لخدمة مصالحهم الخاصة فقط، وهو ما يُمكن أن يتسبب بإحداث أضرار قد تلحق ببقية الأفراد. وعليه فإن الدولة هي نتاج عقد أو اتفق ضمني، يلتزم بموجبه الأفراد، بالامتناع عن الإضرار بمصالح بقية أفراد الدولة، وهو ما يؤدي إلى العيش في طمأنينة بعيداً عن الخوف من التعرض للظلم أو الأذى. 

غير أنه مع ذلك، فإن تأسيس الدولة لتحقيق الطمأنينة والأمن لأفرادها، لا يؤدي آلياً إلى الاستنتاج، بأن المشاركة في الحياة العامة للدولة، ستكون مصدراً للسعادة. فعكس ما ذهبت إليه التصورات الفلسفية، والمعتقدات السياسية في العصر الكلاسيكي، فإن الاندماج في الحياة العامة سيكون مصدراً للألم والقلق. وعليه فإن التسليم بصحة الافتراضات الأبيقورية، يؤدي إلى الاعتقاد بأن الخيار الأحسن بالنسبة للإنسان، هو الامتناع الكامل عن كل أشكال المشاركة، في الشؤون العامة للمجتمع والدولة. فالخيارات الأخرى ستكون مصدراً للقلق والخوف الدائم، من المؤامرات السياسية، أو تقلب مواقف القوى في البيئة الداخلية للنظام السياسي (انتقال الشعب من التأييد إلى المعارضة)، والذي ينجر عنه الخوف الدائم على فقدان النفوذ السياسي، كلها عوامل تتعارض مع الهدف الأسمى للإنسان. وبالتالي فإن "الرجل الحكيم"، وفق التعبير الأبيقوري، يتوجب عليه تجنب المشاركة السياسية، والهروب من القلق والهموم الناتج عن السياسة.

يجعل هذا التوجه من الأبيقورية، تُصنف على أنها فلسفة هروب، من العوامل التي يُمكنها أن تمارس تأثيراً سلبياً، على الحالة الروحية والنفسية للإنسان. رغم أن هذا الاتجاه يُبقي الباب مفتوحاً أمام أفراد المجتمع، للمشاركة في الحياة السياسية والعامة للدولة، بشرط أن يرتبط ذلك بضرورة ما، رغم أن الأبيقوريين لم يُحددواً الضرورة المقصودة في هذا الاستثناء. وبالنظر إلى مضمون المبدأ الأساسي للأبيقورية، يُمكن القول -بتحفظ-، أن هذا الاستثناء يرتبط بتحقيق سعادة روحية، أو على الأقل تجنب القلق والاضطراب الروحي، الذي يُمكن أن ينجر عن الاستغناء الكلي عن التدخل في الشؤون السياسية والاجتماعية العامة.

4.     النظرية السياسية الأبيقورية: العدالة والحرية من منظور تعاقدي:

افترض الفكر السياسي الكلاسيكي، أنه لا يُمكن للحياة الاجتماعية والسياسية، أن تتأسس بشكل صحيح وأخلاقي، دون أن يتمتع المواطن بالقدر الضروري من العدالة والحرية. كما أنهما تعتبران من المعايير غير القابلة للجدل، للتفريق بين الشعوب اليونانية المتحضرة، والشعوب البربرية التي تقبل حياة العبودية والخضوع. وعليه تكون العدالة والحرية قيم أخلاقية قبل كل شيء، وهو ما جعلها على رأس المثل العليا، في الفكر السياسي اليوناني في العصر الكلاسيكي، خاصةً أفكار سقراط وأفلاطون، وبدرجة أقل نسبياً أرسطو.

أخذت العدالة والحرية، مكانة مختلفة في الفكر السياسي الأبيقوري، حيث يُنظر إليها من منطلق منفعي براغماتي. فبغض النظر عن القيمة الأخلاقية لكل من المفهومين، إلا أنهما يؤديان دور الوسيلة، التي تؤدي إلى الشعور بالطمأنينة والسعادة، والبعد عن أسباب الخوف والقلق. واستمراراً لذلك فإن العدالة والحرية، لم تعد من القيم الاجتماعية، السائدة بشكل آلي فيما بين أعضاء المجتمع، بل تحولت إلى علاقة تعاقدية، ناتجة عن تصور مشترك للأفراد، حول كيفية إدارة الحياة الجماعية.

-   العدالة أساس الأمن الجماعي:   

نعتبر الأبيقورية أن القانون لا أهمية له بالنسبة للرجل الحكيم، فهو لا يحتاج إلى ما يقوم سلوكه تجاه المجتمع. كما أن الإنسان من وجهة نظر أبيقورية، لن يكون خاضعاً لأحكام القانون، لأنه سيكون سعيداً بالالتزام بالغايات التي يسعى القانون لتحقيقها، وهو ما يُعرف باسم روح القانون. وفي مقابل ذلك فإن القانون ضروري فقط للأشخاص العاديين، الذين لا يمكنهم تحديد السلوك الصحيح، الواجب اتخاذه تجاه الآخرين، وهو ما يجعلهم موضوعاً لردع القواعد القانونية، التي توافقت الجماعة على إقرارها، احترامها وكذلك تزويدها بمختلف آليات الردع المشروع (استعمال القوة). فعكس الافتراضات الأرسطية، فإن أفراد المجتمع لا يسعون للخير العام، بل يتصورون مصالحهم بشكل أناني، وهو ما يزيد من فرص الصدام، وبالتالي زيادة الإحساس بالخوف والقلق.

وفي هذه الحالة تنتفي صفة القانون كقيمة مطلقة، ضرورية للمجتمع بذاتها، بل باعتبارها مجرد وسيلة لتنظيم العلاقات الاجتماعية، بما يضمن الأمن والاستقرار لأفراد المجتمع، بما يتماشى مع الافتراضات الأبيقورية حول العلاقات الاجتماعية، ومحركات السلوك الإنساني. وانطلاقاً من ذلك يعتبر الأبيقوريون أن "العدل المطلق لم يوجد قط، إنما وُجد تعاون يتولد عن الاختلاط المتبادل في إقليم ما، ما بين آونة وأخرى، يحول دون إيقاع الأذى أو احتماله".

-   الحرية كأساس للسعادة:  

إن انهيار النموذج السياسي والاجتماعي لدولة المدينة، وما صاحبه من انهيار المثل العليا المرتبطة، حول فكرة الحرية من قيمة مقدسة بالنسبة للمجتمع، إلى أساس للاختيار الشخصي. فاعتبار الطمأنينة أساس للسلوك الإنساني، لا يعني بالضرورة أن كل الأشخاص، سيتبنون نفس أنماط السلوك، والذي قد يختلف باختلاف تعريف الأشخاص لمصدر طمأنينتهم. ومن هذا المنطلق فإن اعتبار الأبيقورية، للسياسة كمصدر للقلق والألم، لا يجعلها قادرة أو راغبة في فرض هذا التصور، سواءً على أعضاء المدرسة المؤمنين بمبادئها، أو على بقية أعضاء المجتمع.

وبنفس الطريقة، ينظر الأبيقوريون إلى الرجل الحكيم، على أنه يُفضل الحياة الاجتماعية العادية، دون الانخراط في العمل السياسي، وبذلك ينعم بحياة هادئة عامرة بالطمأنينة. وفي المقابل يُمكن أن يقوم الأشخاص، باختيار طريق مغاير لتصور الرجل الحكيم، من منطلق الحرية. وفي هذا الصدد تعتبر الأبيقورية أن "الذين يحبون الألقاب الشرفية والمجد، هم أحرار في اتباع طبيعتهم، لكي لا يتألموا من الجمود، ويخلقوا لأنفسهم عذاباً ما، إنهم أحرار في الاهتمام بالشؤون العامة"

ويظهر من هذا المنطلق أن الخياران وإن كانا متناقضين، إلا أنهما يُعبران عن تصور خاص للطمأنينة واللذة، ناتجين عن الحرية في تعريف مصادرهما. فهما لم يعودا ناتجتين عن تعريف محدد مسبقاً، وفق تصورات أخلاقية متفق عليها، بل انطلاقاً من تصورات شخصية، بناءً على الظروف الاجتماعية والاقتصادية، المستوى الفكري والثقافي، أو حتى على أساس التفضيلات والأذواق الشخصية. غير أن الأبيقورية قد أوضحت الحدود، التي يجب أن تخضع لها الحرية، انطلاقاً من السعادة التي يشعر بها الرجل الحكيم، من خلال انسجامه مع مصالح بقية أفراد المجتمع، أو من خلال الالتزامات التعاقدية، التي يخضع لها الأشخاص، من خلال المبادئ القانونية الملزمة، والمنظمة للتفاعلات الاجتماعية، السياسية...إلخ.

أخيراً لابد من القول:

أن فلسفة الهروب، لا تعني الانفصال الكلي لأفراد المجتمع عن التفاعلات الاجتماعية والسياسية، حيث يلتزم هؤلاء -أي أفراد المجتمع-، بعدم تعريض حق الآخرين في الإحساس بالطمأنينة والسعادة، وهو ما يتطلب الانخراط في عمليات التشريع، والتفاعلات السياسية التي من شأنها تحقيق هذا الهدف. أي أن الانعزال لا يمس إلا مصادر القلق والاضطراب النفسي والروحي. وهو ما يفسره تصور أبيقور أن الرجل الحكيم يعتزل السياسة ما لم تكن هناك ضرورة لذلك، وقد ترك في المقابل تفسير حالة الضرورة، لكل شخص بما يتماشى مع مبدأ الحرية، ومع ما يُمكن أن يُحس به من متعة وطمأنينة. 

كما أن فلسفة الهروب الأبيقورية، لم تُحدد مصادر السعادة والقلق بشكل صارم، غير قابل للنقاش، بل اعتمدت مبدأ الحرية، من أجل ترك المجال للأشخاص، لكي يُحددوا أسباب السعادة، ويجتنبوا أسباب الألم. فحتى لو كانت السياسة مصدراً للقلق والاضطراب، بالنسبة للرجل الحكيم، إلا أنها قد تكون مصدراً للسعادة، ليس من منطلق التمتع بالامتيازات، التي يحصل عليها السياسي على المستويين المالي والاجتماعي، بل من منطلق السعادة التي يحصل عليها الإنسان، نتيجةً لمساهمته في خدمة الصالح العام.


Modifié le: jeudi 19 décembre 2024, 13:52