نشأة الفكر السياسي: بين الجذور الشرقية وادعاءات المعجزة الأوروبية
مقدمـــــــــــــــــة:
يُعبر الفكر الاجتماعي بمختلف تشعباته، عن مسار طويل من التراكم المعرفي، الساعي إلى إيجاد تفسيرات "عقلانية" للظواهر الاجتماعية بشكل عام. وينطبق ذلك بصور ودرجات مختلفة، على الظواهر السياسية، التي تُشكل موضوعاً للفكر السياسي، المرتبطة بنشأة وتطور الدولة، آليات إسناد السلطة السياسية، إضافةً إلى الهرمية الاجتماعية...إلخ. ونتيجةً لذلك، يكتسب الفكر الاجتماعي بشكل عام، والفكر السياسي بشكل خاص، طابعاً إنسانياً يتجاوز إلى حد ما، الحواجز اللغوية والثقافية، بما في ذلك الحدود التي تفرضها السياسة والأيديولوجيا، وهو ما يتماشى مع الطبيعة الإنسانية، التي تُميز الظواهر السيوسياسية. كما يوفر بدائل فلسفية وفكرية متعددة، لمعالجة الظاهرة السياسية، من خلال زيادة "زوايا النظر"، التي يُمكن أن تتوفر للباحث، لدراسة هذه الظواهر. وهو ما تجسده الدراسات حول ظاهرة السلطة السياسية، العلاقات والتراتبية الاجتماعية، وبشكل خاص تصنيف الأنظمة السياسية...إلخ.
غير أن محاولة دراسة مضامين، واتجاهات الفكر السياسي الإنساني، تضعنا في مواجهة إشكالية أساسية، تتعلق بـ"سؤال النشأة" في الفكر السياسي الإنساني، أي بتعبير آخر، محاولة تحديد المصدر الأساسي لهذا الفكر. ويبرز في هذا الصدد الجدل بين موقفين أساسيين، يذهب الأول إلى اعتبار الفكر السياسي -والاجتماعي بشكل عام-، هو بمثابة مسار تراكمي طويل، ينطلق من الحضارات الشرقية القديمة. في حين يعتبره تصور آخر، على أنه أحد أبز مخرجات تطور الحضارة الأوروبية، انطلاقاً من المرحلة اليونانية والرومانية، قبل أن يؤدي الاقتباس، إلى انتشار مبادئ الأفكار الإغريق-رومانية، وتظهر بذلك العديد من الاتجاهات والمدارس الفكرية الإنسانية. ويُمكن ملاحظة هذا التضارب، من خلال فهارس مختلف الكتب، المؤلفة حول موضوع تاريخ الفكر السياسي، حيث ينطلق بعضها من دراسة أنماط التفكير السياسي، في الحضارات الشرقية (الصين والهند القديمة، الحضارة المصرية...إلخ). في حين تكتفي مؤلفات أخرى، بالتركيز على الإنتاج الفكري للحضارة اليونانية، والامتدادات المختلفة المنبثقة عنها، داخل أو خارج أوروبا، خلال عصور وفترات زمنية مختلفة.
تظهر انطلاقاً من ذلك، الحاجة إلى التساؤل، ما إذا كان التراكم المنشئ للفكر السياسي، يمتد إلى جذور شرقية قديمة، أم أن الحضارة الأوروبية، كانت المنطلق لتأسيس هذا التراكم. ويتطلب التوصل إلى تصور للإجابة على هذه الإشكالية، فحص الادعاءات الخاصة بكل اتجاه، اعتماداً على استقراء تاريخ الحضارات الشرقية والأوروبية، والبحث عن صور القطيعة والاستمرارية فيما بينها. مع ضرورة الاعتراف المسبق، أن ذلك لن يُفضي إلى نتائج من شأنها حسم الجدل، حول نشأة الفكر السياسي، حتى فيما بين الباحثين المنتمين إلى نفس الجماعة المعرفية.
أولاً: نقد فكرة "المعجزة اليونانية":
ينطلق هذا التصور من افتراضين أساسيين، يتعلق الأول بالتحيز الحضاري والقومي، للكثير من المؤرخين الأوروبيين، والذي يتنافى مع الموضوعية التاريخية. فقد "دأب المؤرخون الأوروبيون، خاصةً في عصر اشتداد الروح القومية خلال القرن التاسع عشر، على تمجيد الحضارة اليونانية -حضارة الأجداد-، وتحدثوا طويلاً عن المعجزة اليونانية، أي عن ذلك الإنجاز الهائل الذي حققه اليونانيون، فجأة دون أية مقدمات تُذكر، ودون أن يكونوا مدينين لأي شعب سابق". ولعل ربط ادعاءات "المعجزة اليونانية"، بفترة تاريخية محددة -أي القرن الـ19-، وما صاحبه من صعود المد الوطني/القومي، والرغبة في إقامة الإمبراطوريات الكبرى، يجعل من هذه الادعاءات، جزءً من الفكر المبرر للظاهرة الاستعمارية. خاصةً وأن القوى الأوروبية، استعملت في كثير من الأحيان خطاب نشر الحضارة الأوروبية، في أوساط شعوب بربرية، لم تعرف أي شكل من أشكال التحضر والمدنية.
أما الافتراض الثاني، فيتأسس على تصنيف الحضارات نفسها، أي اعتباها غير متشابهة، وبالتالي ترتيبها ضمن مجموعات متمايزة من حيث الخصائص. فالنظرة العامة -غير المتخصصة- تضع جميع الحضارات في نفس الصنف، مع مراعاة الاختلافات: الدينية، اللغوية، العرقية، أو حتى الاختلافات الناجمة عن حجم المساهمة في التراث الإنساني. أما النظرة العلمية لتاريخ الحضارات، تُصنف هذه الأخيرة إلى مجموعتين مختلفتين، بالاعتماد على معيار مسار التأسيس الخاص بكل منها. وعلى هذا الأساس، "يُقسم علماء الحضارات القديمة، الحضارات إلى قسمين: أصلية ومكتسبة، والحضارات الأصلية اُكتشفت هي حضارة وادي النيل [الحضارة المصرية]، ووادي الرافدين [حضارة العراق القديم]، وحضارة الهند والصين. أما الحضارة الكريتية واليونانية والرومانية، وغيرها من الحضارات المعاصرة، فهي حضارات مكتسبة، لأنها بنيت على أساس الحضارات الأصلية كلاً أو بعضاً".
وانطلاقاً من هذا الافتراض، فإن اليونانيون وغيرهم من المنتمين للحضارات الأوروبية القديمة، لم يكن بإمكانهم تحقيق "المعجزة"، أي بناء حضارة من العدم، حيث اعتمدوا على التراث الحضاري، الذي أنتجته الشعوب السابقة. فهذه الأخيرة انطلاقاً من ذلك، اعتمدت على الخبرات العملية التي شكلها الإنسان، خلال مسار تطوره منذ عصور أقدم، والتي تحولت تدريجياً إلى قواعد ونظريات علمية. وفي هذا الصدد، تُشير كتابات الفلاسفة والمؤرخين اليونانيين القدماء، إلى التأثير الكبير الذي مارسته الحضارات القديمة، في نقل الكثير من المعارف العلمية، لا سيما الحضارة المصرية والبابلية.
يعتبر الاتجاه الرافض لفكرة "المعجزة اليونانية"، أن الفكر الفلسفي بشكل عام، بما في ذلك الفكر السياسي، يتميز بطبيعة تراكمية، تغيب فيه الحدود الفاصلة بين الفترات التاريخية، والتي تنتج عن الثورات المعرفية. فالفكر السياسي كأحد مباحث المعرفة الإنسانية والاجتماعية، لم يتعرض لقطيعة -أو ثورة- معرفية وفق تصور توماس كوهن T. Kohn، وبالتالي يصعب الحديث بشكل دقيق، عن فترة محددة لنشأة هذا المبحث المعرفي. ونتيجةً لذلك، لا يُمكن الجزم بصحة الافتراض القائل، بارتباط نشأة التفكير الفلسفي بكل فروعه، بالموروث الحضاري والفكري اليوناني، والغربي بشكل عام. فالظواهر الدينية، الاجتماعية، السياسية، كانت دائماً ضمن دائرة الاهتمام الفردي والجماعي للأفراد، سواءً في إطار الفضول، أو الذكاء الفردي للبعض، وبشكل خاص في إطار التفكير السياسي، الذي قد يظهر بصور مختلفة في مختلف المجتمعات الإنسانية، بغض النظر عن درجة تطورها الثقافي والحضاري.
ويذهب بعض مؤرخي الفلسفة في هذا الصدد، إلى اعتبار أن "الزعم بأنه لا يُمكن الأخذ بيد شخص ما في رحاب الفلسفة، إلا من خلال دراسة كبار المفكرين، والمشكلات الرئيسية في الفكر الغربي، فهو افتراض ضيق الأفق على نحو بالغ الوضوح". ويتجسد "ضيق الأفق" في حصر الإنجازات العلمية والفكرية، في أعمال اليونانيين والرومان، وغيرهم من المنتمين إلى الحضارة الغربية، في حين يتم تجاهل الإنتاج الفكري والعلمي، الذي تميزت به الحضارات الإنسانية السابقة. أي أن دراسة التفكير الفلسفي وقضاياه الأساسية، ومنها الظواهر والقضايا السياسية، لا يجب أن ينحصر في التراث الفكر الغربي، والأوروبي على وجه التحديد (اليوناني، الروماني...إلخ). حيث يُمكن إيجاد العديد من الأطر الفكرية، والتي سبقت التفكير السياسي الأوروبي، بفترات زمنية طويلة، على غرار الفكر السياسي في الحضارات الشرقية، وبشكل خاص حضارات الهند والصين القديمة.
ويحاول هذا الاتجاه كذلك، دعم الموقف الرافض لفكرة المعجزة اليونانية، من خلال افتراض وجود تأثير معين، للمتغير الجغرافي في نشأة التفكير الفلسفي والسياسي اليوناني. فأصول التفكير الفلسفي اليوناني، بمختلف أبعاده: الطبيعية، الأخلاقية والسياسية، لم تتأسس في بلاد اليونان ذاتها، كما أن مؤسسيه لم يكونوا عادة من المواطنين اليونانيين. فالفلسفة اليونانية نشأت جغرافياً، وفقاً لهذا التصور، على تخوم الحضارة اليونانية، تحديداً في المستعمرات الواقعة بالقرب من نقاط التماس، الفاصلة بين اليونانيين والحضارات الشرقية، لا سيما الصين، بلاد الفرس وما بين النهرين. ومن هذا المنطلق، يُمكن أن يكون دليل المعتمد، لإثبات حدوث "المعجزة اليونانية"، هو في حد ذاته أحد البراهين على إمكانية نفي الفكرة. وضمن هذا السياق، فإن المعجزة اليونانية، القائمة على انتشار الفلسفة، بفضل المدارس الفلسفية اليونانية الأولى، يُمكن أن تدل على أن الفلسفة والفكر السياسي، من بين مظاهر الاقتباس اليوناني عن الحضارات السابقة.
ويذهب البعض -في هذا السياق- إلى أنه "لا جدال في أن المكان الذي ظهرت فيه، أولى المدارس الفلسفية والعلمية اليونانية، هو في ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين الحضارة اليونانية، والحضارات الشرقية السابقة. فلم تظهر المدارس الفلسفية الأولى، في أرض اليونان ذاتها، وإنما ظهرت في مستوطنة أيونية، التي أقامها اليونانيون على ساحل آسيا الصغرى (تركيا حالياً)، أي أقرب أرض ناطقة باليونانية إلى بلاد الشرق، ذوات الحضارات الأقدم عهداً. وهذا أمر طبيعي لأنه من المحال أن تكون هذه المجموعة من الشعوب الشرقية، قريبة من اليونانيين إلى هذا الحد، وأن تتبادل معها التجارة على نطاق واسع، وتدخل معها أحيانا في حروب طويلة، دون أن يحدث تفاعل بينها".
فالعلاقات بين الشعوب المتجاورة، عادةً ما تتضمن الكثير من صور الاقتباس، ومختلف صور العلاقات الثقافية (المثاقفة)، وهو ما حدث بين اليونانيين أنفسهم والرومان. ففي هذه الحالة، انتقلت الكثير من صور الإنتاج الفكري اليوناني، إلى الحضارة الرومانية، بسبب مختلف أشكال العلاقات التي جمعت الشعبين، أولاً الحرب، الهيمنة العسكرية والسياسية، التعليم...إلخ. لذلك فقد اكتسب الرومان فكرهم السياسي والقانوني، من الاقتباس من أفكار المفكرين السياسيين، على رأسهم الرواقيين، إضافةً إلى أعمال المشرعين القانونيين اليونانيين. وينطبق ذلك على حالة اليونانيين، مع شعوب الحضارات المتاخمة، حيث أشار أفلاطون -على سبيل المثال- إلى دور الحضارة المصرية، في نقل علوم الطب والرياضيات إلى اليونانيين.
يُقدم هذا الاتجاه -في المقابل- تفسيره الخاص، للاعتقاد بوجود "المعجزة اليونانية"، ويتلخص هذا التفسير في ضياع حجم كبير من الموروث الحضاري، والإنتاج العلمي للكثير من حضارات الشرق القديم. ويتمثل ذلك في فقدان الكثير من الدلائل، والآثار المادية المثبتة لأسبقية الحضارات الشرقية، في المجالات العلمية والفكرية المختلفة، بما في ذلك الفكر والفلسفة السياسية. ويفترض المؤرخون أن "من الأسباب التي يُعلل بها البعض ضياع العلم الشرقي القديم، أن الفئة التي كانت تمارسه، كانت من الكهنة، التي حرصت على أن تحتفظ بمعلوماتها العلمية سراً دفيناً، تتناقله هذه الفئة جيلاً بعد جيل...حتى تظل محتفظة لنفسها بالقوة والنفوذ، والمهابة التي تولدها المعرفة العلمية...وفضلاً عن ذلك، فناك كوارث طبيعية، وحروب كثيرة، وحرائق متعمدة وغير متعمدة، أدت بدورها إلى ضياع ما يُمكنه أن يكون دُوِن من هذا العلم في كتب".
وقد تكررت عبر التاريخ الإنساني، نفس الأسباب الذاتية والموضوعية، التي أدت إلى ضياع حجم كبير من الإنتاج العلمي والفكري، والموروث الحضاري المرتبط بها. فمن الأمثلة على ذلك، احتكار المعرفة من طرف الكنيسة ورجال الدين، في أوروبا خلال العصور الوسطى، من خلال احتكار معرفة اللغة اللاتينية، وتحريم ترجمة العلوم الدينية إلى اللغات المحلية. وقد كان الهدف الأساسي من ذلك، ضمان استمرار هيمنة الكنيسة على المجتمعات الأوروبية، وبالتالي ضمان التأثير والمشاركة في السلطة السياسية. ويُوضح هذا المثال، دور احتكار للمعرفة، في الهيمنة الاجتماعية، أو حتى السياسية. وعليه فإن احتكار المعرفة، والامتناع عن نشرها، بهدف الحفاظ على المكانة والنفوذ الاجتماعيين، يؤدي -وفق هذا الافتراض- إلى ضياع الموروث الفكري والحضاري المرتبط بها. إضافةً إلى الدور، الذي لعبته الكوارث ونتائج الحروب، والتي أدت إلى ضياع الكثير من المؤلفات والكتب العلمية، وعلى رأس هذه الأحداث، حريق مكتبة الإسكندرية ومحتوياتها، من طرف الرومان سنة 48 ق.م، وتخريب مكتبة بيت الحكمة في بغداد، من طرف المغول سنة 1258م.
ثانياً: "المعجزة اليونانية" ونشأة الفكر السياسي:
ظهر في مقابل الاتجاه المُنكر لـ"المعجزة اليونانية"، اتجاه آخر تبنى فرضية عامة، مفادها أنه لم يكن ممكناً التأسيس للفكر الفلسفي والسياسي، أو حتى بقية صور المعرفة العلمية، على المستويين الأوروبي والإنساني، دون جهود الفلاسفة والمفكرين اليونانيين. وهو ما يُعطي هذه الأعمال الفكرية وصف المعجزة، حيث نشأت من العدم، دون أي تمهيد أو اقتباسات من الحضارات السابقة، والتي لم يكن بإمكانها في أحسن الحالات، تجاوز المعارف العملية، والتي لا تنتج بالضرورة عن معارف نظرية عقلية عامة، فهي نتاج تراكم غير واعي لخبرات عملية، ناتجة عن نجاح وفشل التجارب. وقد وجدت هذه الفكرة، لدى الكثير من المفكرين والمؤرخين الأوروبيين، مثل برتراند راسل B. Russell (1872-1970)، ألبير ريفو A. Rivaud (1876-1956)، أرنولد توينبي A. Toynbee (1889-1975)...إلخ.
يعترف -ضمن هذا الاتجاه- الفيلسوف والسياسي الفرنسي، بارتوليمي سانت هيلير B. Saint-Hilaire (1805-1895)، بوجود فكر فلسفي وإنجازات علمية، على مستوى الحضارات الشرقية. غير أنها -مع ذلك- بقيت بدون تأثير يُذكر، على مسارات تشكيل الفلسفة -وبعلاقة متعدية الفكر السياسي- في بلاد اليونان، والعالم الغربي بشكل عام. وإجابةً على التساؤل حول ما إذا كان اليونانيون والحضارة الغربية، مدينون للحضارات الشرقية، في مختلف مجالات المعرفة. يعتبر سانت هيلير في ترجمته لكتاب الكون والفساد لأرسطو، أن "إغريقيا [اليونان] لم تدن بشيء لأحد غيرها...وإذا كانت تلقت شيئاً من جيرانها، فما هو إلا أصول عديمة الصور، فصورتها وبلغت في تصويرها حد التمام، بحيث يُمكن القول بحق أنها هي التي أوجدتها".
ويُفهم من هذا التصور، أن الاقتباسات اليونانية عن الحضارات الشرقية، وإن كانت موجودة، فإنها كانت جد هامشية، بحيث لا تؤثر على أصالة الفلسفة والفكر اليونانيين، وبالتالي لا تؤثر على متانة فكرة "المعجزة اليونانية". رغم أن هذا التصور في حد ذاته، لم ينفي بشكل قطعي، قيام اليونانيين باقتباسات، من الموروث الحضاري الشرقي القديم، إلا أنه يُقلل من قيمة هذه الاقتباسات من جهة، ويُبرز دور اليونانيين في إعادة صياغتها، وإعطائها شكلاً أكثر وضوحاً. وهو ما يوفر مبرراً كافياً لهذا الاتجاه، من أجل نسبة الأعمال الفكرية والعلمية للحضارات الشرقية، لفلاسفة بلاد اليونان القديمة، واعتبارها موروثا حضارياً غربياً خالصاً.
يذهب برتراند راسل B. Russell في سياق مشابه، إلى اعتبار أن اليونانيين قبل سقراط، هم أول من أوجد التفكير العلمي والفلسفي. ويعتبر في هذا الصدد الفلسفة تبدأ "حين يطرح المرء سؤالاً عاماً، وعلى النحو ذاته يبدأ العلم، ولقد كان أول شعب أبدى هذا النوع من حب الاستطلاع هو اليونانيون. فالفلسفة والعلم كما نعرفهما اختراعان يونانيان، والواقع أن ظهور الحضارة اليونانية، التي انتجت هذا النشاط العقلي العارم، وهو حدث لم يظهر له نظير قبله ولا بعده. ففي فترة قصيرة لا تزيد عن قرنين، فاضت العبقرية اليونانية، في ميادين الفن والأدب والفلسفة، بسيل لا ينقطع من الروائع، والتي أصبحت منذ ذلك الحين مقياساً عاماً للحضارة الغربية".
لم يفترض راسل، على العكس من تصور بارتوليمي سانت هيلير B. Saint-Hilaire، وجود أية اقتباسات يونانية ولو هامشية، من الحضارات السابقة. بل اعتبر أن الإنتاج الفكري والعلمي اليوناني، ظاهرة فريدة من نوعها في تاريخ العلم، بحيث لا يُمكن وجود أي نموذج فكري أو علمي شبيه به. ويُفهم من هذا الموقف أن الحضارات القديمة، لم توقفت عند حد معالجة الإشكاليات العملية، التي كانت تواجهها على المستوى السياسي، الاجتماعي وكذلك العملي. في حين أن اليونانيين قد ركزوا اهتمامهم، على قضايا عامة تتجاوز النواحي العملية، من خلال الاهتمام بقضايا عقلية، تتعلق بالوجود، الأخلاق وغيرها من القيم. وهو ما يُضفي على انتاجهم العلمي، طابقاً شمولياً غير مرتبط بقضايا محددة، قد تفقد أهميتها في الحياة اليومية، بسبب التطور التقني والعلمي.
والملاحظ في هذا التصور كذلك، أن برتراند راسل استعمل وصف "العبقرية اليونانية"، للتعبير عن دور اليونانيين في اختراع العلم والفلسفة. وبذلك فإنه لا يُمكن -في المقابل- إطلاق نفس التسميات، على الأنشطة الفكرية التي كانت سائدة، لدى "فلاسفة" الحضارات الشرقية القديمة. أي أن الفلسفة والمعرفة العلمية، كما هي معروفة في شكلها النهائي، أي بطابعها العقلي والعلمي، تدين بوجودها لمجهودات اليونانيين دون غيرهم. وبذلك فقد تحول الموروث الفكري والحضاري اليوناني، إلى مرجعية عامة للتطور العلمي والثقافي، للحضارة الغربية بشكل عام إلى غاية العصور الحديثة. ويظهر ذلك من خلال الاقتباسات المباشرة التي مارسها الفلاسفة والمفكرين السياسيين الرومان، إضافة إلى حالة العودة إلى الجذور اليونانية، كمقدمة لعصر الأنوار، وتأسيس الفكر الفلسفي والسياسي الحديث في أوروبا.
يعتبر برتراند راسل، أن الحضارات الشرقية القديمة، كانت عاجزة عن تحويل معارفها العملية إلى فلسفة عقلية، بسبب مجموعة من الأسباب، يتعلق بعضها بالمستوى العلمي والفكري، لشعوب هذه الحضارات، إضافةً إلى دور الأوضاع الاجتماعية السائدة. غير أن العامل المحوري في محدودية المساهمة الشرقية، في مسار تشكيل المعارف الفلسفية والعلمية، يتمحور حول المعتقدات الدينية السائدة، والتي من شأنها كبح التطور الفكري والحضاري. ويعتبر راسل في هذا السياق أنه "لقد توصلت مصر القديمة وبابل إلى بعض المعارف التي اقتبسها الإغريق فيما بعد، ولكن لم تتمكن أي منهما من الوصول إلى علم أو فلسفة. على أنه لا جدوى من التساؤل في هذا السياق، عما إذا كان ذلك راجعا إلى افتقار العبقرية، لدى شعوب هذه المنطقة، أم إلى أوضاع اجتماعية، لأن العاملين معا كان لهما دورهما بلا شك. وإنما الذي يهمنا هو أن وظيفة الدين لم تكن تساعد على ممارسة المغامرة العقلية".
تظهر في هذا التصور النظرة الاستعلائية الأوروبية، من خلال نفي قدرة الشعوب غير الأوروبية، على تشكيل موروث فكري وحضاري، بسبب غياب العبقرية لدى هذه الشعوب. ويتلاقى هذا الادعاء مع "البروباغاندا" الكولونيالية، التي تولت تبرير التاريخ الاستعماري الأوروبي، كوسيلة لتزويد شعوب بربرية بمنتجات الحضارة الأوروبية. غير أن هذا التصور في نفس الوقت، يُسلط الضوء على متغير أساسي، والمتمثل في المعتقدات الدينية السائدة، على مستوى الشرق القديم. فالسلطة السياسية، ارتبطت بملوك يُمارسونها بموجب تفويض مباشرة/غير مباشر من طرف "الآلهة"، حتى أن الكثير من ملوك مصر القديمة، وفارس وبلاد ما بين النهرين، أعلنوا أنفسهم آلهة تتم عبادتها خلال حياتهم. وبالتالي لم يكن هناك هامش كبير، لوضع تصورات فكرية وفلسفية، حول الحياة الاجتماعية والسياسية، حيث تبقى كل الظواهر مرتبطة بالإرادة الإلهية.
يعتبر أرنولد توينبي من وجهة نظر تاريخية، على أن الحضارة اليونانية هي جزء من مسار طويل، تُمثله الحضارة الأوروبية الغربية. ويعتبر في هذا الصدد أن "أرومة الحياة الاجتماعية في الغرب الحديث، تكونت في جسم الحياة الاجتماعية الإغريقية، كما تتكون الأجنة في الأرحام". ويتطور هذا التشكيل عبر مختلف مراحل التاريخ الأوروبي، حتى يصل إلى صورته النهائية، حيث بلغت الحضارة أوج مراحل تطورها مع العصر الحديث. حتى وإن كان موقف توينبي من حيث الشكل، يوحي بأنه يتحدث عن مسار تطور الحضارة الغربية ذاتها، والتي لا يوجد جدال حول ارتباطها بالتاريخ اليوناني والروماني بدرجة أقل. غير أنه في المقابل، مع التسليم بهذا الافتراض، فإن الحديث عن الحضارة الغربية، لا يُمكن أن يكون منفصلاً عن جذورها الأخرى، وبشكل خاص الحضارات الشرقية. وهو ما يدفع للاعتقاد أن تصور توينبي، لا ينفصل عن التصور العام القائل بانعدام التأثيرات، أو على الأقل هامشية دورها، في حدوق المعجزة اليونانية، وبعلاقة متعدية التأسيس لمسار الحضارة الغربية.
ثالثاً: تركيب لابد منه:
تظهر تصورات الاتجاه المُنكر لمفهوم "المعجزة اليونانية"، أقرب إلى المنطق التاريخي، حيث لا يًمكن التوصل بشكل دقيق، إلى أي إنجاز علمي أو فكري، ينفصل تماماً، عن الانجازات العلمية والفكرية، خلال المراحل التاريخية السابقة له. ويُمكن دعم موقف هذا الاتجاه، بالعديد من الأمثلة عن اقتباس اليونانيين، لعلوم ومعارف الشرق القديم، مثل الرياضيات، الطب وعلم الفلك...إلخ، من الحضارة المصرية، وبلاد ما بين النهرين...إلخ. وعليه وإجرائياً -أي لأغراض هذا البحث-، لا يُمكن التسليم بشكل مطلق بفرضية المعجزة اليونانية، والتي يُمكن وضعها في إطار خطاب حضاري تاريخي، حاول من خلال الغربيون، إثبات التفوق الغربي على بقية الشعوب، في محاولة لتبرير الظاهرة الكولونيالية.
يُمكن من خلال إجراء قراءة في حجج الفريقين السابقين، التوصل إلى نوع من الاتفاق حول مجموعة من الحقائق، حول نشأة الفكر الفلسفي والسياسي. فقد أشار الاتجاه الأول إلى احتكار فئة معينة، للأنشطة العلمية والفكرية في المجتمع الشرقي القديم، ويتعلق الأمر بالكهنة وأصحاب النفوذ السياسي والاجتماعي. وهو ما منع من تحويل هذا الفكر إلى مجال معرفي قائم بذاته، حيث ارتبط بميكانيزمات تحقيق واحتكار الهيمنة، ضمن البيئة الاجتماعية والسياسية. وقد نتج عن ذلك عدم خضوع المعارف المتوصل إليها، لعمليات التنقيح والتطوير، وهو ما تسبب في ضياعها من جهة، وعدم التوصل إلى التأسيس لتراكم معرفي ذو أهمية. وفي المقابل، فقد نشأت حالة من "دمقرطة" المعرفة، أي السماح بانتشارها على مستوى واسع، بغض النظر عن المستوى الاجتماعي للأفراد. حتى أن الكثير من الفلاسفة والمفكرين السياسيين، على رأسهم سقراط وأفلاطون، انتقدوا عملية التعليم مقابل أجر، الذي مارسه السفسطائيون في العصر اليوناني الكلاسيكي.
أما الاتجاه الثاني، فقد أشار إلى القيم والمعايير: السياسية، الاجتماعية والدينية، السائدة على مستوى الحضارات الشرقية القديمة. فالسلطة السياسية التي كانت تُمارس من طرف ملوك-آلهة، أو ملوك حاصلين على التفويض الإلهي، لم يترك مجالاً واسعاً للحركة، أمام عملية تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية. فالتفسير الوحيد الممكن، يربط هذه الظواهر مباشرةً، بالإرادة الإلهية المنفردة التي يُمارسها الحاكم، عكس الوضع السائد في بلاد اليونان، أين تكون الظواهر السياسية، عملاً إنسانياً محضاً غير مرتبط بإرادة الإله. وقد فتح هذا الوضع المجال، أمام العديد من المحاولات اليونانية، لوضع تفسيرات للظاهرة السياسية، في إطار علم السياسة أو العلم الملكي، في إطار الفكر السياسي أفلاطوني، أو علم السياسة الجديد في إطار الفكر السياسي الأرسطي.
إضافةً إلى ما سبق، ذهبت بعض الآراء إلى نفي صفة التفكير الفلسفي، عن المحاولات السائدة ضمن الحضارات الشرقية، لارتباط هذه المحاولات بالأسطورة، وبالتالي تنفي عنها الطابع العقلي، الذي تتمسك به لتأكيد فكرة المعجزة اليونانية. غير أنه بالرغم الطابع العقلي للفلسفة والفكر السياسيين، في إطار الحضارة اليونانية، إلا أنه لم يكن مجرداً بشكل كامل، من تأثير الأسطورة. فقد تحدث أفلاطون في محاورته عن السفسطائيين -أو محاورة بروتاغوراس-، عن نشأة علم السياسة، كوسيلة لضمان لبقاء وتنظيم الجماعة الإنسانية، وذلك ضمن ما عُرف باسم "أسطورة الخلق". ووفقاً لهذه الأسطورة فقد تم تكليف بروميثيوس Promētheús، وأخيه إبيميثيوس Epimētheús، بتزويد الكائنات الفانية -أي الإنسان والحيوانات-، بمختلف الوسائل المساعدة على العيش والبقاء. ونتيجةً لخطأ الثاني، فقد تم تزويد مختلف الحيوانات بمختلف آليات البقاء والدفاع عن النفس، بينما بقي الإنسان منعزلاً عن غيره، مُجرداً من كل وسائل البقاء. ولتصحيح هذا الخطأ، فقد زود بروميثيوس الإنسان بالنار والحكمة، بعد أن سرقها من الآلهة، في حين لم يتمكن من سرقة العلم السياسي من زيوس، كبير الآلهة -في المعتقد اليوناني القديم-. وقد قام هذا الأخير، ولضمان بقاء الإنسان، بتزويده بالنزعة نحو الحياة الجماعية، ومن أجل إضفاء التنظيم عليها، زوده بالميل نحو حب العدالة، وكذلك بالمعرفة السياسية.
تُشير هذه الأسطورة إلى أن اليونانيين أنفسهم، رغم الطابع العقلي الذي كثيراً ما يُميز به إنتاجهم الفكري، والطابع الإنساني للطواهر الاجتماعية والسياسية. إلا أن المعرفة السياسية لا تعدو في النهاية، أن يكون من الاختصاصات الإلهية، التي منحتها الآلهة للإنسان، من أجل إضفاء شيء من النظام، على التفاعلات ضمن الجماعة. وبذلك لا تختلف قصة نشأة الحياة الاجتماعية والسياسية، في بلاد اليونان القديمة، عنها في الحضارات الشرقية الأخرى، عكس ما تذهب إليه الآراء الواردة، ضمن الاتجاه المؤيد لفكرة المعجزة اليونانية. فالأسطورة شكلت جزءً من الحياة الاجتماعية والفكرية، في كل أرجاء العالم القديم، وهو ما عرفته مختلف الحضارات القديمة، بدرجات متفاوتة.
خاتمـــــــــــــــــة:
بالنظر إلى مجموع المؤشرات التي تم التطرق إليها سابقاً، يُمكن القول -بتحفظ-، أن نشأة وتطور المعرفة بشكل عام، بما في ذلك المعرفة والفكر السياسيين، قد خضعت للمسار التاريخي التراكمي. حيث تنتفي أفضلية الحضارات والشعوب، لتساهم كل منها بقدر معين في تطور المعرفة، وبالتالي لا يُمكن بشكل دقيق، تحديد تاريخ أو مكان لنشأة أي من المعارف والعلوم محل البحث. ونتيجةً لذلك فإنه لا يُمكن القول بانفراد الحضارات الشرقية، في التأسيس للفلسفة والفكر السياسيين، والتي تميزت خلال هذه المرحلة بالطابع العملي، في شكل استشارات يقدمها الوزراء، والحكماء بطلب من الملوك. كما لا يُمكن في نفس الوقت قبول فكرة "المعجزة اليونانية"، باعتبارها نقطة انطلاق مختلف المعارف، بما في ذلك علم السياسة، حيث ارتبطت هذه المعرفة تقليدياً بممارسة السلطة، التي لم تبدأ مع الحضارة اليونانية. رغم أن الفلاسفة اليونانيين تركوا لمستهم الخاصة لمستهم الخاصة، في مسار تطور المعرفة بشكل عام، وبشكل خاص المعرفة السياسية.
غير أن نفي المعجزة اليونانية في المقابل، لا يعني نفي الدور المحوري لليونانيين، في تطور المعرفة بشكل عام، وبشكل خاص الفلسفة والفكر السياسيين. مع التأكيد أن هذا المجال، قد عرف تطوراً بدرجات متفاوتة، خلال مسارات تطور الحضارات الشرقية، غير أن هذه الأخيرة عكس اليونانيين، لم تتمكن من تحويله إلى مجال معرفي قائم بذاته. فقد تحول كل من الفلسفة والفكر السياسيين، من كونهما أحد أشكال الذكاء الفردي، الذي يتمتع به الكهنة والمستشارون، إلى ممارسة نظرية عقلية منتشرة بين أوساط الفلاسفة وتلاميذهم. وبذلك فقد كانت بلاد اليونان القديمة، أول موطن للمدارس الفلسفية، التي تطرقت لمختلف الظواهر المادية، الاجتماعية وكذلك السياسية.
وعليه، فإن الانطلاق من المرحلة اليونانية، في دراسة مسارات تاريخ وتطور الفكر السياسي، لا يعني بالضرورة، التسليم بفكرة المعجزة اليونانية. غير أن التوسع في نطاق البحث، سيفضي إلى التعرف على محاولات منفردة ومنعزلة عن بعضها، بحيث لم تتشكل قبل هذا العصر اتجاهات متجانسة، أو مدارس في الفكر السياسي، كما حصل بشكل واضح في المرحلة اليونانية. ويُعتبر هذا التوجه، الصورة الأبرز للبحث في هذا المجال، في مختلف الدراسات المجراة في إطار تاريخ الفكر السياسي، سواءً تعلق الأمر بالاتجاه المؤيد لفكرة المعجزة اليونانية، أو حتى المعارض لها.