المحاضرة رقم 01: مدخل إلى تاريخ الفكر السياسي

مقدمـــــــــــــــــة:

استمرت الأدبيات التقليدية في علم السياسة، في طرح التساؤل المستمر: هل السياسة فن أم علم؟، ويبدو أن التوصل للإجابة حول هذا التساؤل البسيط، بشكل يُحقق الإجماع مازالت مستبعدة. فالمهتمون بهذا الحقل من غير المتخصصين تعلق في أذهانهم، صور السياسيين ضمن النقاشات العامة، والأنشطة الحكومية المختلفة، والمعارك السياسية داخل مبنى البرلمان. وكل هذه الصور وغيرها تعكس فكرة أن السياسة ما هي إلا فن الممكن. وهو ما عبر عنه هارولد لاسويل H. Lasswell بالقول أن السياسة هي "من يحصل على ماذا متى وكيف Who Gets What, When and How". وفي المقابل فإن العاملين في هذا الحقل الأكاديمي، يتوجهون نحو اعتبار السياسة علم مستقل، يهتم بدراسة ظواهر اجتماعية مختلفة، لها علاقة بتنظيم الدولة، مثل السلطة والسيادة والتنظيم السياسي...إلخ.

بصرف النظر عن هذا النقاش، فإن السياسة سواءً أكانت فناً أو علماً، فإنها في كل الحالات تتطلب الإحاطة بالأطر الفلسفية والفكرية المختلفة والمتنوعة. والتي استهدفت عبر مختلف مراحل تطور المجتمع السياسي الإنساني، البحث عن تفسير الظواهر السياسية من جهة، وكذلك عن صيغ أمثل للتنظيم الاجتماعي والسياسي. وتندرج هذه الأطر الفلسفية والفكرية، ضمن مجال فرعي آخر من مجالات علم السياسة، تحت اسم تاريخ الأفكار السياسية. فعلى اعتبار أن السياسة فن، فإن هذه الأفكار تساعد على دعم المواقف السياسية، بالحجج المستوحاة من التاريخ السياسي الإنساني. كما أنه باعتبار السياسة علماً، فإن هذه الأفكار تشكل أساساً نظرياً وفلسفياً لدراسة، الظواهر السياسية، أي تراكم معرفي نتج عبر إسهامات فلاسفة ومفكرين ينتمون إلى بيئات سياسية مختلفة، تمنح الفرصة للنظر إلى نفس الظاهرة على زوايا مختلفة.

يشترك مصطلح "الفكر السياسي Political Thought" في الكثير من نقاط التقاطع، مع مصطلحات أخرى مثل "النظرية السياسية Plitical Theory"، أو حتى "الفلسفة السياسية Political Philosophy"، أو "الأيديولوجبا Ideology". لذلك فإنه من الضروري قبل الانطلاق في دراسة تاريخ الأفكار السياسية، عبر مسار تطورها الطويل والمتشعب، محاولة تحديد المعنى المقصود بكل مصطلح، ثم تحديد نقطة ننطلق منها في دراسة الموضوع.

انطلاقاً من ذلك يُمكن تحديد المحاور الأساسية لهذا المدخل المفاهيمي فيما يلي:

-          محاولة لتعريف الفكر السياسي، وتحديد خصوصيته مقارنةً مع المفاهيم الأخرى المشابهة.

-          محاولة تحديد المواضيع الأساسية، التي اشتركت في دراستها مختلف المدارس والتيارات الفكرية.

-          تحديد المسار الزمني لتطور الفكر السياسي، من خلال تحديد مراحل متميزة موضوعياً ومنهجياً، بغض النظر عن عامل التعاقب الكرونولوجي.

أولاً: المقصود بالـفكر السياسي:

يُعرف الفكر على أنه "إعمال العقل في الأشياء، للوصول إلى معرفتها، ويُطلق بالمعنى العام على كل ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية. وهو مرادف للنظر العقلي Reflexion، والتأمل Meditation، ومقابل للحدس Intuition". ويُفهم من ذلك أن المعارف الحدسية التي تتم بطريقة مباشرة، دون وساطة أي من الوسائل الفكرية أو العقلية، لا يندرج ضمن نطاق المعرفة العلمية، أو الفكر بشكل عام. وقياساُ على التعريف السابق، فإن تخصيص مثل هذا النشاط العقلي أو الفكري (النظر العقلي، التأمل...إلخ)، بهدف التوصل إلى معرفة وفهم الظواهر السياسية، يُشكل من حيث المجموع ما يُعرف باسم الفكر السياسي Political Thought. رغم أن هذا الإسقاط من جهة أخرى، لا يعني بالضرورة إدراج الفكر ضمن نطاق المعرفة العلمية، المعتمدة على مناهج علمية تُعطي مصداقية أكبر للنتائج المُتوصل إليها.  

يُشير معنى اصطلاح الفكر السياسي بالمعنى العام، إلى "كل النظريات Theories والقيم Values، التي تؤسس للسياسة Policy والسلوك السياسي Political behavior. حيث تشكل هذه النظريات أساساً هذا السلوك، في حيت نُشكل القيم في نفس الوقت أساساً للحكم، وآلية للتحكم فيه".  وبالتالي فإن الفكر السياسي، يُشكل في إحدى جزئياته تفسيراً للسلوك السياسي، او التفاعلات السياسية بشكل عام، ومن جهة ثانية يُعتبر أساساً للأحكام المعيارية، التي يُمكن إطلاقها على السلوكات والمواقف المتضمنة في هذه التفاعلات.

 وبشكل أعمق نسبياً من القياس المقترح أعلاه، إلى "أحد أشكال الأعمال الفكرية حول وضع الإنسان في المجتمع، والذي ساهم بقوة في صنع الحضارات. فهو يُنسق ويربط بين التمثلات أو الأفكار التي لم يكن بإمكان العقل، ولا يُمكن له إلا أن يكونها عن الظاهرة الأساسية والجذابة التي تُسمى بالسلطة، والتي وصفت صراحةً أو ضمنا بالسياسة". فعلم السياسة يوصف لدى بعض الاتجاهات النظرية، بأنه علم يعنى بدراسة السلطة السياسية، باعتبارها جوهر الممارسة والصراع السياسي. وبغض النظر عن هذا التركيز على ظاهرة السلطة كجوهر لعلم السياسة، فإن الفكر السياسي عموماً، لا يخرج عن المعنى مع توسيع دائرة اهتمام المفكرين السياسيين، من السلطة السياسية إلى مختلف الظواهر، المرتبطة بالصراع السياسي حول السلطة.

غير أنه وإن كانت السلطة السياسية Political power، موضوعاً أساسياً في علم السياسة عبر التاريخ، إلا أن تطور هذا العلم وترسيخ قواعده المنهجية والإبستمولوجية، وسعت من دائرة اهتمام الباحثين في هذا الحقل. وهو ما يعني أن الأفكار السياسية، قد عرف نفس مسار التطور من حيث المناهج والموضوع، حيث اهتم المفكرون السياسيون عبر التاريخ، بإضافة مواضيع جديدة لنشاطهم الفكري. وهو ما يُميز كل مرحلة من مراحل تطور الفكر السياسي. وبالتالي فإن حصر مفهوم وموضوع الفكر السياسي، في ظاهرة السلطة السياسية فحسب، يعني تكوين نظرة اختزالية، لا تعكس المضمون الفعلي لهذا الحقل المعرفي.

كما يُعرف الفكر السياسي في سياق مشابه، على أنه "التمثلات Les représentations التي يُكونها الإنسان حول السياسة، من خلال الأهداف، الوسائل والنتائج. ويُمكن أن تتشكل هذه الأفكار لدى جميع افراد المجتمع، لذلك فهي تتفاوت من حيث الأصالة والعمق، مقارنةً مع النظريات الفلسفية السياسية". ويكون الفكر السياسي بهذا المعنى، أكثر شموليةً من حيث المضمون، وأوسع نطاقاً من حيث القائمين بعملية التفكير السياسي، ومدى خضوع هذه العملية للقيود المنهجية، والتي عادةً ما تتدخل في فلسفة أو علم السياسة. أي أن الفكر السياسي هي ما يتم تكوينه عقلياً، من أفكار وتصورات حول الظواهر السياسية، وما تتضمنه من سلوكات ونتائج، ولا يهم إن كانت من نتاج الفلاسفة، أو ذوي التحصيل العلمي العالي، أو حتى محدودي الثقافة والتحصيل المعرفي.

والملاحظ في النماذج المقترحة لتعريف الفكر السياسي، تركيزها على ظاهرة السلطة السياسية، باعتبارها جوهر العمليات والتفاعلات السوسيوسياسية. غير أن إسقاط مضمون الفكر السياسي، على مجال السياسة بنطاقه الواسع، يجعل من هذا الفكر، مرتبطاً بمواضيع سياسية متعددة، تشمل إلى جانب السلطة السياسية، ظواهر مثل المشاركة السياسية، التنشئة والمحافظة السياسية، الدولة وأشكال التنظيم السياسي...إلخ.

وانطلاقاً من ذلك يُمكن أن تتقاطع تسمية/عملية التفكير السياسي، مع مظاهر متعددة من الأنشطة الفكرية، تختلف من حيث التعريف، باختلاف درجة الخضوع للضوابط الإبستمولوجية والمنهجية. ويظهر من بين الأمثلة على هذه الأنشطة الفكرية، مفاهيم: الفلسفة السياسية، النظريات السياسية، المذاهب السياسية أو حتى الأيديولوجيات السياسية.   

‌أ.  الفلسفة السياسية Political philosophy: تُشتق اصل كلمة فلسفة  من اللغة اليونانية القديمة، وتتركب من كلمة Philo وSophia، وتعني حرفيا "حب الحكمة". أما الفلسفة السياسية فتعني "محاولة لفهم طبيعة الدولة، أي بنيتها الأساسية كتنظيم لجماعة تاريخية، تسمح لهذه الجماعة باتخاذ قرارات تؤثر على حياتها واستمرارها...فهي ليست علماً وضعياً للظواهر السياسية وللوقائع الإحصائية كما هو حال علم السياسة أو علم الاجتماع السياسي، بل هي معيارية تنطلق من مفهوم عام للإنسان وأحياناً للألوهية لتعكيها في الحقل السياسي، من أجل تشكيل نموذج مثالي لا يصلح كمعيار وحسب، وإنما كهدف لتعديل سلوك الحكام والمحكومين".

تشترك الفلسفة السياسية مع مفهوم الفكر السياسي بهذا المعنى، في التصورات المكونة حول التنظيم السياسي للمجتمع أو الدولة، فهي تتضمن بعداً تفسيرياً للظواهر السياسية. في حين تختلف الفلسفة السياسية عن الفكر السياسي، في اعتبارها محاولة فكرية لوضع نماذج مثالية/كاملة، يُستند إليها عند محاولة إطلاق أحكام معيارية، حول أنماط السلوك والتفاعلات السوسيوسياسية، ضمن الجماعة السياسية (مجتمع، دولة...إلخ). فالحالات الخاضعة للدراسة (دول، أنماط للسلوك السياسي...إلخ)، تتفاوت فيما بينها من حيث الأحكام المكونة حولها، بتفاوت درجة اقترابها أو ابتعادها من تلك النماذج المثالية.

‌ب.  النظرية السياسية Political Theory: تُعرف النظرية السياسية على أنها "التفسير العلمي L’explication scientifique أو يدعي العلمية à prétention Scientifique، لطبيعة التنظيم السياسي للمجتمع، ممارسة السلطة السياسية وغاياتها، والمحددات المتحكمة في تطور الظاهرة السياسية". ويُفهم من تعبير "ادعاء العلمية"، عدم التقيد بمعايير وشروط النظريات العلمية، كما هي معروفة في المجالات التقنية والتجريبية، أين يُمكن بسهولة التأكد من صحة النتائج المتوصل إليها، والتي تمت صياغتها في شكل نظرية علمية.

فالمجالات الإنسانية والاجتماعية تتميز بشكل عام، بارتفاع درجة التخمين مقابل انخفاض كبير لليقين العلمي، وبالتالي فإن إطلاق صفة العلمية على النظرية السياسية، لا يعني أنها ذات درجة مقبولة من اليقين العلمي. بل أنها على الأصح تخضع لمنهج علمي، يتم من خلاله إيجاد تفسير للظواهر السياسية، يتميز بالدقة والمصداقية، مقارنة مع المعنى العام لمفهوم الفكر السياسي.    

‌ج.   المذهب السياسي Political doctrine: تتميز الفلسفة والنظرية السياسية بالنسبية، وعدم ادعاء امتلاك الحقائق المطلقة، عكس مظاهر أخرى للتفكير السياسي. ويظهر ذلك بشكل خاص مع المذاهب السياسية والأيديولوجيات، والتي تقترب بدرجات مختلفة من العقائد السياسية Dogmes. وفي هذا الصدد يُعرف المذهب السياسي على أنه "بناء فكري Construction intellectuelle، يتضمن الادعاء بتوفير التفسير الحقيقي للوقائع السياسية، وطبيعة الأهداف أو الغايات الواجب تحقيقها. ويقترح في المقابل الوسائل الضرورية لتجسيد هذه الأهداف".

وعليه فإن الادعاء بتوفير التفسير الحقيقي للظاهرة السياسية، يعني إلغاء احتمال التعايش مع الأفكار السياسية الأخرى، والتي لا يُمكنها أن تصل إلى نفس الكفاءة في تفسير الظاهرة السياسية. مع ذلك فإن مفهوم المذهب السياسي يبقى ضمن الإطار الفكري التفسيري، أي أنه لا يكون أساساً للحركات الاجتماعية، وهي الخاصية التي تتميز بها الإيديولوجيا.

‌د.       الأيديولوجيا Ideology: ترتبط الأيديولوجيا بالممارسة السياسية، والحركات الاجتماعية خاصة منها الحركات الثورية، حيث يتم تحويل الأفكار السياسية مع الأيديولوجيا، إلى دليل إرشادي لفهم الواقع السياسي، ومعرفة أليات العمل لتغييره. لهذا عادةً ما تختار الحركات الاجتماعية أيديولوجيا مُحددة، انطلاقاً من درجة انسجامها مع الواقع الاجتماعي القائم، وبالتالي صلاحيتها لإنجاح التغيير السياسي المنشود.

وتُعرف الأيديولوجيا انطلاقاً من ذلك، على أنها "نسق فكري عام، يُفسر الطبيعة والمجتمع والفرد، مما يُحدد موقفاً فكرياً معيناً لمعتنقي هذا النسق الفكري". وعليه فإن الادعاء بتوفير التفسير الحقيقي للظاهرة السياسية، يعني إلغاء احتمال التعايش مع الأفكار السياسية الأخرى، والتي لا يُمكنها أن تصل إلى نفس الكفاءة في تفسير الظاهرة السياسية. مع ذلك فإن مفهوم المذهب السياسي يبقى ضمن الإطار الفكري التفسيري، أي أنه لا يكون أساساً للحركات الاجتماعية، وهي الخاصية التي تتميز بها الإيديولوجيا.

ويُمكن انطلاقاً مما سبق القول، أن الفكر السياسي هو معنى عام يضم مختلف الأنشطة الفكرية السابقة، سواءً تلك المتقيدة بالشروط الإبستمولوجية والمنهجية، أو تلك المتميزة بالطابع العلمي، وحتى تلك المرتبطة بالتخمين والعقائد السياسية. حيث تشترك هذه المظاهر الفكرية، في محاولاتها تفسير الوضع السياسي العام للإنسان، ودوافع وأنماط السلوك السياسي، إضافةً الأشكال القائمة والممكنة للتنظيم السياسي. سواءً كانت تلك الأطر الفكرية تتميز بالنسبية، والمحاولات المستمرة لسد الثغرات المعرفية، أو حتى كانت تدعي تقديم الحقائق المطلقة غير القابلة للتشكيك أو النقد، أي المتميزة بالطابع الدوغماتي.

ثانياً: المواضيع الأساسية للـفكر السياسي:

انطلاقاً من التعريف الإجرائي الوارد أعلاه، فإن اعتبار الفكر السياسي معنى شامل، لمجموعة متعددة ومتنوعة من الأنشطة الفكرية والمعرفية. فإنه بذلك يتضمن دراسة لمختلف الظواهر السياسية، والتي يُمكن أن تتضمنها مختلف فروع المعرفة السياسية، سواءً تعلق الأمر بالنظريات، الفلسفات، أو حتى الأيديولوجيات والمذاهب السياسية. غير أنه بشكل عام، يُمكن أن تتمحور المواضيع الأساسية للفكر السياسي، حول المحاور التالية:

‌أ.         الأخلاق والطبيعة الإنسانية: ينطلق الفكر السياسي بمختلف تشعباته، بمحاولة تحديد الطبيعة الإنسانية بشكل عام، ومدى تأثيرها على التفاعلات الاجتماعية والسياسية. حيث تنطلق بعض الاتجاهات الفكرية، من التسليم بالطبيعة الخيرة للإنسان، وبالتالي إمكانية بناء المجتمع الكامل، الخالي من أية مظاهر للصراع الاجتماعي والسياسي. وفي مقابل ذلك تظهر اتجاهات مناقضة، تنطلق في تحليلها للظواهر السياسية، من ضرورة الإصلاح الأخلاقي، أو حتى الديني للفرد، كشرط للوصول إلى هذه النماذج الكاملة من المجتمعات.

لا يتوقف النقاش عند الطبيعة الخيرة أو الشريرة للإنسان، بل يمتد ليشمل مسألة ذات علاقة وطيدة بالموضوع، وهي علاقة الأخلاق بالسياسة، والتفاعلات السوسيوسياسية بشكل عام. وبذلك شكلت الأخلاق موضوعاً للخلاف، بين المفكرين الذين يعتبرون أنه لا يُمكن فصلها عن السياسية، في مقابل فريق آخر يعتبر أن الأخلاق أهم عائق أمام الفعالية السياسية.  

‌ب.     الـــدولـة: تُعتبر الدولة من أهم مواضيع علم السياسة، وبشكل عام من المواضيع الأساسية للفكر السياسي، سواءً تعلق الأمر بالنظريات السياسية، الفلسفة السياسية، أو حتى الأيديولوجيا. حيث لا يوجد أي مفكر سياسي، لم يتطرق لموضوع الدولة، حتى مع تفاوت درجة أهمية الموضوع، باختلاف الانتماءات الفكرية والفلسفية.

لا يُفهم من ذلك أن موضوع الدولة، قد تمت معالجته من زاوية واحدة، أي أهميتها كأحد أشكال التجمع السياسي والاجتماعي. فقد اهتمت بعض الأفكار بالصورة الأمثل للدولة، في حين اهتمت أفكار أخرى بأصل نشأة الدولة (نظريات نشأة الدولة). كما اختلف المفكرون السياسيون في تقييم وجود الدولة كشكل للتجمع الإنساني، فقد اعتبر البعض أنه لا يُمكن تصور التفاعل السياسي خارج هذا الإطار (ميكيافيللي مثلاً). بينما اعتبرها الماركسيون أحد وسائل الصراع الاقتصادي، وبالتالي فإن بقاءها أو زوالها يرتبطان بنتيجة الصراع، أو بتعبير أدق الطبقة الاجتماعية، التي يُمكنها حسم الصراع حول وسائل الإنتاج لصالحها.  

‌ج.      التنظيم الاجتماعي والسياسي: يرتبط موضوع التنظيم الاجتماعي، بشكل وثيق بموضوع الدولة، نظراً للارتباط الوثيق بين الطبيعة الاجتماعية للإنسان، والدولة كإطار أساسي للتجمع السياسي. فالنموذج المتكامل المكون حولها من طرف المفكرين السياسيين، تنطلق من افتراض مفاده أنه لا يُمكن الوصول إلى نموذج مثالي للدولة، دون إيجاد حل للإشكاليات الناتجة عن اختلاف المواقع الاجتماعية، وما ينتج عنها من علاقات صراع اجتماعي. وعليه فقد شكل النظام الاجتماعي، كأحد أهم أبعاد التفاعلات السياسية، محور التفكير السياسي على الأقل في العصر القديم، وكذلك العصور الوسطى. فقد انصب الاهتمام حول التنظيم الاجتماعي الأمثل، لمعالجة عدم الاستقرار، والصراع بين الطبقات الاجتماعية، والذي كان أحد أهم أسباب الحروب الأهلية في هذه المراحل.

أما البعد الثاني لتنظيم الدولة في الفكر السياسي، فيتمثل في الهيكل المؤسساتي الذي يجب أن يتوفر في نموذج الدولة. وفي هذا الصدد فقد اهتم الفكر السياسي عبر العصور، بموضوع البناء المؤسساتي الأمثل، من خلال اقتراح المؤسسات (البنية)، وما يتلاءم معها من دور اجتماعي وسياسي (الوظيفة). ويظهر في هذا الصدد أثر الأفكار المؤسساتية، والتي تجسدت في نماذج سياسية متنوعة، من أبرزها أعمال المفكرين السياسيين في الولايات المتحدة، الذين انقسمت انتماءاتهم بين التيار الكونفدرالي والتيار الفدرالي.

‌د.       الأنظمة السياسية: شكلت السلطة والأنظمة السياسية، أحد أبرز مواضيع الفكر السياسي عبر العصور، والتي لا تقل من حيث الأهمية عن موضوع الدولة. فقد انشغلت المدارس الفكرية المختلفة، بموضوع تصنيف الأنظمة السياسية، من خلال معايير مختلفة باختلاف سياقاتها الزمنية والسياسية. فقد اهتم اليونانيون مثلاً (أفلاطون وأرسطو)، بتصنيف الأنظمة بين الصالحة والفاسدة، قبل تحديد النظام النموذجي، أو الأصلح لتنظيم العملية السياسية. غير أن مختلف هذه المحاولات تلتقي عند محاولاتها طرح النموذج الأمثل للنظام، سواءً انطلاقاً من الأسس الأخلاقية والدينية للمجتمع (العصر القديم والعصور الوسطى)، أو انطلاقاً من الغايات البراغماتية للسياسة (عصر النهضة والعصر الحديث). سواءً أتم ذلك في إطار فكر سياسي مثالي، أو حتى ضمن برامج عملية للإصلاح السياسي، أو حتى في إطار العقائد والأيديولوجيات السياسية، الموجهة للحركات الاجتماعية والثورية.

يجدر التذكير بأن هذه المحاور، هي عبارة عن محاولة لتجميع المواضيع الكبرى، والتي تتضمن العديد من المواضيع الجزئية، التي تعرض لها الفكر السياسي بالدراسة عبر التاريخ، والتي ستشكل مواضيع للنظريات السياسية. كما أنه يتوجب على الباحثين في هذا المجال، الاهتمام بالسياقات العامة التي تمت معالجة هذه المواضيع في إطارها. فالحديث عن شكل الدولة، والتنظيم الاجتماعي والمؤسساتي في مرحلة ما، لا بد وأن يشكل خلفية لمعالجة نفس المواضيع في مراحل أخرى. غير أنه لا يُمكن الحكم على الأفكار من منظور مراحل مختلفة، من خلال الاستناد إلى سياق زمني وفكري مختلف. مثلما يظهر أن الاستناد إلى الأساطير، السائد في العصور القديمة، بعيدٌ جداً عن المناهج العلمية المعتمدة، في الفكر السياسي خلال العصور المتأخرة.

ثالثاً: تطور الـفكر السياسي:

عند البحث في تطور تاريخ الأفكار السياسية، يظهر إلى السطح النقاش حول أهمية تحديد مراحل هذا التطور، وجدوى الاهتمام بالسياقات العامة التي جاءت فيها هذه الأفكار (الزمان، المكان، القيم والممارسات السياسية...إلخ). وفي هذا الصدد يظهر الاتجاه المهتم بالفكرة، أي التأسيس لتراكم معرفي، بمعزل عن المنهج والسياق لتاريخي، وبذلك تكون الأفكار بمثابة النظرية السياسية، يُمكن اللجوء إليها في أي وقت من أجل تفسير الظواهر السياسية. فبتجريد الفكرة من بيئتها السياسية والاجتماعية الخاصة، يُمكن من جعلها أكثر قدرة على التأقلم مع التغيرات الزمانية والمكانية، وبالتالي أكثر قدرة على التعامل مع الإشكالات السياسية والفكرية، حتى مع اختلاف البيئة الاجتماعية.

أي أن النظريات السياسية أو الأفكار السياسية بشكل عام، تفقد أهميتها بربطها ببيئة سياسية واجتماعية محددة، حيث تفقد قدرتها على التعامل مع وقائع، جاءت في بيئات اجتماعية وسياسية، مختلفة من الناحيتين الزمانية أو المكانية. وعليه سيكون من المفيد تحويل الأفكار السياسية، إلى نظرية أو فلسفة سياسية مجردة، يُمكنها تفسير طبيعة الإنسان ككائن اجتماعي، وكذلك البنيات السياسية، وأسس التفاعل أو الصراع السياسي. وهو ما سيسمح لها بتجاوز الحدود الفاصلة بين المراحل التاريخية، وكذلك البيئات الاجتماعية المختلفة.

يظهر في المقابل اتجاه مختلف، يعتبر أنه من الضروري الاهتمام بدراسة الأفكار السياسية، في إطار التأثيرات التي يُمارسها السياق التاريخي من جهة، والبيئة الاجتماعية والسياسية من جهة ثانية. وفي هذا السياق يُعتبر أنه من الخطأ عزل الأفكار السياسية عن سياقها العام، حيث ترتبط وشكل وثيق بالإنتاج الفكري، وكذلك أسلوب التفكير السائد في مرحلة ما، وهي عوامل متغيرة بتغير المراحل التاريخية. كما أن الفكر السياسي يخضع للقيم الاجتماعية والثقافية، وكذلك الممارسات السياسية، التي تميز بيئة بعينها عن الأخرى. وعليه فإن دراسة تاريخ الفكر السياسي، بمعزل عن هذه المؤثرات، سيؤثر سلباً على قدرته التفسيرية، لمختلف الظواهر السياسية.

فدراسة الفكر السياسي اليوناني، لا يجب أن يكون بمعزل عن المعتقدات الدينية السائدة، وكذلك أسلوب التفكير وإنتاج الفلسفة والنظريات السياسية. وينطبق ذلك على دراسة الأفكار السياسية في العصور الوسطى، والذي يتميز بهيمنة المنظور الديني على مختلف أشكال التفكير، بما في ذلك في المجالات السياسية. وعليه فإن عزل نظريات المفكرين المسيحيين حول السلطة، من السياق العام الذي ميز أوروبا خلال العصور الوسطى، سيفرغ هذه الأفكار من محتواها، ويجعلها غامضة وغير قابلة للفهم. وانطلاقاً من ذلك فإننا نميل إلى تبني الموقف الثاني، أي دراسة تطور الفكر السياسي، بدلالة البيئة الاجتماعية والسياسية السائدة في كل مرحلة تاريخية.

وبغض النظر عن هذا الجدل، يُمكن بشكل عام تقسيم مسار تطور الفكر السياسي عبر ثلاث مراحل كبرى، وهي:

‌أ.         المرحلة الأولى: الفكر السياسي في العصر القديم: تُعتبر هذه المرحلة بمثابة التأسيس للفكر السياسي، من خلال وضع تصورات فكرية حول الظاهرة السياسية، اعتماداً على مناهج علمية تتناسب مع هذه المرحلة. فقد بدأ هذا الفكر في صورة تقديم المشورة والنصح، المستندة إلى الخبرة السياسية، وشغل المناصب الاستشارية، والتي نتج عنها وضع مجموعة من المؤلفات، المتضمنة لتوجيهات ونصائح خاصة بسياسة الملك. ليتحول الفكر السياسي خلال هذه المرحلة، إلى مؤلفات سياسية تحاول التعامل مع الظاهرة السياسية، ويظهر ذلك بشكل خاص مع أعمال الفيلسوف الصيني كونفوشيوس Confucius (552ق.م-479ق.م)، وأعمال المفكرين اليونانيين على رأسهم أفلاطون Plato (427ق.م-347ق.م).  

‌ب.     المرحلة الثانية: الفكر السياسي في العصر الوسيط: يُؤرخ لهذه المرحلة انطلاقاً من 476م، وهو تاريخ انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية، وانتقال المركز السياسي إلى الإمبراطورية الشرقية.  أما من الناحية الفكرية، فتتميز هذه المرحلة بدخول الدين كأحد أهم المؤثرات على التفكير السياسي، وكذلك انتقال الموضوع الأساسي من الدولة والأنظمة السياسية، إلى موضوع السلطة السياسية. فقد كان الصدام بين مصادر الشرعية الدينية والسياسية، إضافة إلى التنظير لسمو الكنيسة على حساب السلطة الزمنية، تحتل المكانة الأساسية في ترتيب مواضيع الفكر السياسي خلال مرحلة العصور الوسطى.   

‌ج.     المرحلة الثالثة: الفكر السياسي في العصر الحديث: يؤرخ لهذه المرحلة التاريخية انطلاقاً من 1453م، وهو تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية الشرقية، على يد الفاتحين العثمانيين. قد شهد الفكر السياسي خلال هذه المرحلة، تراجعاً في تأثير الدين على دراسة الظواهر السياسية، مقابل تصاعد مكانة العقل في التفكير السياسي. وقد شكلت السلطة السياسية موضوعاً أساسياً، خاصةً فيما يتعلق بنطاق السلطة، وكذلك استبدال المصدر الديني للشرعية بالمصادر السياسية وكذلك الشعبية. لهذا فقد تم الانتقال تدريجياً من الإطلاقية السياسية Absolutisme politique (أو السلطة المطلقة)، إلى اللبرالية والديمقراطية الغربية.

يُضاف إلى ذلك مرحلة إضافية تندرج ضمن العصر الحديث، وتُعرف باسم المرحلة المعاصرة L’époque contemporaine، وتبدأ خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. وتتضمن هذه تأثيراً للنزعة الاجتماعية، على رؤية المفكرين السياسيين للسلطة والأنظمة السياسية، وتظهر الأفكار الاشتراكية Socialisme، وكذلك اللبرالية الاجتماعية...إلخ.

تجدر الإشارة إلى أن الأفكار السياسية، وإن تم تصنيفها ضمن مراحل متباينة، إلا أنه لا يُمكن الحديث عن قطيعة إبستمولوجية بين تلك المراحل. فمفهوم وشروط الثورة المعرفية The scientific Revolution، كما هو مستخدم في فلسفة العلوم، لا تتوفر في مجال العلوم السياسية، حيث لن تتمكن أي من المعارف والنظريات الجديدة، أو ما يُعرف بالسم العلم غير العادي La science extraordinaire، من الحلول بشكل كلي محل المعارف والنظريات السائدة خلال المراحل السابقة، والتي تُعرف باسم العلم العادي La science ordinaire.

خـــــــــــــــــاتـمة:

يندرج الفكر السياسي ضمن الإطار العام للعلم السياسة، حيث يُمكن اعتباره مساراً طويلاً ومستمراً للنظريات السياسية. غير أنه يجب النظر إلى مفهوم النظرية، بما يتوافق مع كل مرحلة من مراحل تطور الفكر السياسي، وكذلك عدم المقارنة بين النظريات في المجالات التجريبية، وتلك المعروفة في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية. فالأفكار السائدة خلال مرحلة معينة، تعكس الصورة السائدة للتفسيرات العلمية خلال تلك المرحلة، وتتماشى مع معايير الموضوعية والعلمية السائدة. وعليه فإنه يتوجب قبل دراسة تاريخ الفكر السياسي، إجراء فحص لعناصر البيئة الاجتماعية والسياسية، وكذلك القيم الدينية والثقافية السائدة.

كما أنه يتوجب عدم الوقوع في خطأ افتراض القطيعة بين المراحل التاريخية، حيث لم يُمكن إلى غاية اليوم، تطبيق مبدأ الثورة المعرفية في مجال علم السياسة، كما هو الحال بالنسبة للعلوم الاجتماعية بشكل عام. حيث لم تتمكن الأفكار السياسية عبر العصور، إثبات الخطأ المطلق للأفكار السياسية، خلال المراحل التاريخية السابقة لها، وبالتالي يبقى منطق التراكم هو المبدأ العام لتطور الفكر السياسي. فالأفكار والنظريات الحديثة، في مختلف مجالات علم السياسة، عادةً ما تستمد مرجعيتها الفكرية من الأصول القديمة للفكر السياسي. أو على الأقل يمكن ملاحظة التقاطعات بين النظريات الحديثة، والأفكار السياسية القديمة، مثل التفسير الاقتصادي للنزاعات الاجتماعية الداخلية، أو مكانة القانون والحرية في النظام السياسي، ويُمكن سرد الكثير من الأمثلة على هذا التقاطع بين الأفكار القديمة والحديثة.


Modifié le: samedi 2 novembre 2024, 13:34