المحاضرة رقم 01: العلاقات الدولية: مدخل مفاهيمي

تمهيـــــــــــد:

يُشكل مفهوم العلاقات الدولية International Relations\Relations Internationales، أحد المصطلحات الأساسية، المستخدمة في حقل العلوم السياسية المعاصرة. فهذا المصطلح لم يكن متداولاً قبل 1919، لغياب الاهتمام بهذا المجال، والذي كان مقتصراً على المناقشات الضيقة جداً، على مستوى النخب الحاكمة. إضافةً على عدم استقرار الإجماع، حول استقلالية علم السياسة، باعتباره الإطار الأوسع لدراسة الظواهر السياسية، بما في ذلك تلك المندرجة في إطار العلاقات الدولية. وانطلاقاً من ذلك، فإن انتشار استعمال المصطلح، في النقاشات العامة على المستويين الفكري والسياسي، صاحبه حالة من الغموض، وبدرجة أكبر عدم الاتفاق، على المضامين التي يحتويها المصطلح. وتجدر الإشارة، إلى أن هذا النقاش مازال مستمراً، ضمن النقاشات الفكرية، أو الدراسات الأكاديمية، دون التوصل إلى حالة الإجماع، التي استقرت في العلوم الاجتماعية الأخرى.

ينتج الغموض في كثير من الحالات، عند الاستعمال غير المتخصص لمصطلح العلاقات الدولية، دون مراعاة الفرق الجوهري بين دلالاته الأساسية. حيث يُستخدم المصطلح نفس المعنى، رغم تضمنه دلالتين مختلفتين بشكل جوهري، رغم الترابط الوثيق بينهما. وتُشير الأولى إلى ظواهر العلاقات الدولية، أي التفاعلات السياسية، الحاصلة على المستوى الدولي، بينما تُشير الثانية إلى الحقل المعرفي، الذي يتولى دراسة هذه الظواهر والتفاعلات، من حيث الشرح، التفسير وكذلك التنبؤ. ورغم وضوح استعمالات المصطلح، إلا أن النقاش مازال مستمراً، حول حدود وخصوصية الظواهر المندرجة ضمن مصطلح العلاقات الدولية، مقارنةً بأخرى مشابهة التي تندرج المجالات الاجتماعية الأخرى، الاقتصادية، الاجتماعية...إلخ. ويمتد النقاش بعلاقة متعدية، إلى الحقل المعرفي الذي يتولى دراسة هذه الظواهر، وبشكل خاص مدى اعتباره علماً قائماً بذاته، في ظل اعتماده على مخرجات مجالات معرفية أخرى. أي بتعبير آخر، مدى توفر القدرة على تحديد المسائل، المندرجة ضمن مجال العلاقات الدولية، عن غيرها من التفاعلات، وتوفير تفسيرات مقبولة لها.

ماهي الظواهر التي يُمكن اعتبارها جزءً من العلاقات الدولية، والتي تسمح بالتوصل إلى تعريف مقبول نسبياً.

تنطلق محاولتنا لتبسيط هذا الجدل، من العمل على تحديد مضمون مفهوم العلاقات الدولية، وذلك من خلال الإجابة على سؤال مفاده:

 

إن مناقشة هذه المسائل، أو على الأقل محاولة توضيحها، لابد أن يمر أولاً، بمحاولة إيجاد تعريف للعلاقات الدولية، على الأقل بما يخدم أغراض دراستنا لهذه المادة. ويثم محاولة الاستقراء التاريخي، لتطور هذا المجال، من خلال دراسة تطور طبيعة التفاعلات، من خلال المضمون، الفواعل وآليات التفاعل. ومن شأن ذلك أن يساعد على تكوين صورة واضحة نسبياً، عن هذا المجال، وتحديد اللاعبين الرئيسيين على اساحة الدولية، وهو ما يعني القدة على تحديد مضمون التفاعلات الدولية. غير أن هذا لا يعني الوعد، بالتوصل إلى تعريف جامع وشامل للعلاقات الدولية، والتي تعتبر كغيرها من مواضيع العلوم الاجتماعية، بعيدة عن الوصول إلى إجماع حولها من طرف الاتجاهات النظرية، والمدارس الفكرية.

انطلاقاً من ذلك يُمكن تحديد المحاور الأساسية لهذا المدخل المفاهيمي فيما يلي:

-          أولاً: العلاقات الدولية: الجدل حول التعريف:

-          ثانياً: العلاقات الدولية: إشكالية تداخل المفاهيم:

-          ثالثاً: العلاقات الدولية: مسارات التاريخ:

أولاً: العلاقات الدولية: الجدل حول التعريف:

تدفع تسمية العلاقات الدولية، وبشكل خاص ما يتعلق بصفة الدولية، التساؤل حول النطاق الذي تأخذه الظواهر والتفاعلات، التي تندرج ضمن هذا الاصطلاح. فاستعمال وصف الدولية Internationales، يوحي باقتصار هذه التفاعلات المختلفة، على تلك التي تقع فيما بين الدول Inter-States، إضافة إلى كون المسرح الذي تقع فيه، يكون بيئة النظام الدولي، بمعنى خارج حدود النظام السياسي الوطني. وقد شكل هذا الاعتقاد في حد ذاته، موضوعاً مستمراً للنقاش، بين مختلف الاتجاهات النظرية، في علم العلاقات الدولية. بين الاتجاهات القائمة على مركزية الدولة State-Centrism، والفاصلة بين البيئتين الداخلية والخارجية للنظام السياسي، والاتجاهات التي تعتمد مبدأ تعددية اللاعبين الدوليين، إضافةً إلى الربط بين بيئتي النظام السياسي. ويظهر هذا الجدل بشكل واضح، ضمن مختلف محاولات تعريف العلاقات الدولية، باعتبارها موضوعاً وحقلاً معرفياً.

تميل الاتجاهات النظرية، القائمة على مركزية الدولة في التفاعلات الدولية، إلى استعمال مصطلح السياسات الدولية International politics\Politique internationales، كبديل أدق للعلاقات الدولية International relations. باعتبار أن مختلف التفاعلات التي تتم ضمن هذا الإطار، ماهي إلا نتاج صدام السياسات الخارجية للدول ذات السيادة، دون الاهتمام بفواعل آخرين غير دولاتيين Non-State Acrors. ومن هذا المنظور يعتبر هانز مورغنثو Hans J. Morgenthau، أن "السياسات الدولية International politics مثل كل السياسات هي صراع من أجل القوة A struggle for power، فمهما كانت الأهداف القصوى Ultimate aims للسياسة الدولية، تبقى القوة بمثابة الهدف الفوري Immediate aim".

يبدو أن هذا التصور للعلاقات الدولية، قد تأثر بشكل واضح بالترتيبات الدولية، والتي كانت سائدة إلى غاية نهاية مرحلة ما بين الحربين 1919-1939. حيث ساد الصراع المحموم بين الدول، من أجل توسيع مجال نفوذها، لذلك فقد تم تخصيص حجم كبير من موارد الدولة الاقتصادية، من أجل تغطية تكاليف تطوير القوات المسلحة الوطنية. ويُفهم من تعريف مورغنثو للعلاقات الدولية، أن هذه الأخيرة هي محصلة لتفاعلات الدول، وصراعها المستمر من أجل القوة والنفوذ، بحيث يكون تعظيم حجم القوة، بمثابة الهدف الحيوي للدولة، خلال تفاعلاتها الدولية. وهو ما يُضيق من نطاق لمصطلح، ويجعل من الكثير من التفاعلات، غير المرتبطة بالصراع المستمر من أجل القوة، خارج نطاق التفاعلات الدولية، مقابل هيمنة الأبعاد لدبلوماسية والاستراتيجية. وهو ما يُفسر اعتماد تسمية السياسات الدولية: كبديل لتسمية العلاقات الدولية، على اعتبار أنها تفاعل سياسات الدول (بما ذلك السياسات الخارجية)، على المستوى الدولي.  

يقدم ريمون آرون R. Aron في سياق مشابه، تصوراً أكثر وضوحاً للعلاقات الدولية، بالتركيز على الفاعل الذي يتولى تشكيلها، وهو الدولة. ويعتبر انطلاقاً من ذلك، أن "العلاقات الدولية International relations، هي علاقات قائمة بين وحدات سياسية Political Units، ويشمل المصطلح الأخير دول المدينة اليونانية، الإمبراطوريات الرومانية أو المصرية، إلى جانب الممالك الأوروبية، الجمهوريات البرجوازية والديمقراطيات الشعبية". ويبدو من خلال هذا التصور، أن المعنى المتضمن في مصطلح الوحدات السياسية، المستعمل من طرف آرون، لا يختلف عن الأشكال التي أخذتها الدولة، عبر مختلف مراحل تطور التنظيمات السياسية. سواءً تعلق الأمر بنموذج دولة المدينة، أو الإمبراطوريات التي ميزت العالم القديم، الممالك والإمارات الأوروبية التي ميزت العصور الوسطى، أو الجمهوريات بمختلف أشكالها، والتي ميزت العصر الحديث. وبذلك، فإن تفاعلات العلاقات الدولية بهذا المعنى، تتمحور حول سلوكات الدولة، وهو ما يجعله مُندرجاً ضمن الاتجاه النظري، القائم على مركزية الدولة في العلاقات الدولية State-centrism.

لم يُقدم تعريف ريمون آرون، على العكس من تعريف مورغنثو، تصوراً حول مضمون العلاقات والتفاعلات، القائمة بين الوحدات السياسية -أي الدول-، بل تُرك معنى "العلاقات" غير محدد، ليشمل مختلف أوجه التفاعلات، والتي تتم لأهداف وغايات متعددة. حيث أن العلاقات بين الدول، يُعبر عنها -حسب ريمون آرون- من خلال سلوكات مُحددة Specific actions، يقوم بها من يُرمز له بالدبلوماسي The diplomat والجندي The soldier. وتشمل هاتين الصفتين الرمزيتين، الكثير من الوظائف الرسمية وغير الرسمية، التي تستهدف في نهاية المطاف، إلى تحقيق غايات الدولة. كما تتدرج بين حدّي هذه الثنائية، الكثير من السلوكات والأفعال، التي يقوم بها مختلف الفاعلين/الأفراد، الذين يشغلون مناصب رسمية، وبموجب ذلك، يتصرفون باسم الوحدات السياسية، أو بتعبير آخر باسم الدولة. وعليه فإن الفرد الذي يُشارك في تفاعلات العلاقات الدولية، لا يكتسب أية أهمية في دراسة العلاقات الدولية، إلا من خلال كونه يؤدي وظيفة، أو يقوم بدور ما، باسم الدولة التي ينتمي إليها، ضمن صنف الدبلوماسي أو الجندي.

إضافةً إلى ذلك، يُمكن القول -بتحفظ-، أن ثنائية الدبلوماسي The diplomat والجندي The soldier، تُمثل تدرجاً في خيارات الدول، وبالتالي بين مختلف أوجه التفاعلات الدولية، انطلاقاً من التعاون والسلام، وصولاً إلى التنافس والعنف. وبعلاقة متعدية، تُمثل كذلك تدرجاً في الوسائل التي تعتمد عليها الدولة، ضمن هذه التفاعلات لتحقيق أهدافهما الوطنية، ابتداءً من الوسائل الدبلوماسية/السلمية، من جهة، وصولاً إلى العنف والوسائل العسكرية من جهة مقابلة.

تظهر من جهة مقابلة، تصورات أخرى للعلاقات الدولية، تتميز بطابعها التعددي، وترفض انطلاقاً من ذلك، اقتصار الاهتمام على التفاعلات الدولية، التي تصدر عن الدول ذات السيادة. وفي مقابل ذلك، يُقدم هذا الاتجاه، تصورات مغايرة حول العلاقات الدولية، تتضمن أوجه متعددة للتفاعلات، تصدر عن لاعبين متعددين، من أجل تحقيق غايات وأهداف متباينة ومتنوعة. ونتيجةً لذلك فقد تميزت التصورات المختلفة حول العلاقات الدولية، المندرجة ضمن هذا الاتجاه، باتساع نطاق المفهوم، ليشمل متغيرات وزوايا متعددة.

يعتبر مارسيل ميرل M. Merle في هذا السياق، أن "كل التدفقات Flux، التي تعبر الحدود، أو حتى تتطلع نحو عبورها، هي تدفقات يُمكن وصفها بالعلاقات الدولية...وتشمل هذه التدفقات بالطبع على العلاقات بين حكومات هذه الدول، ولكن أيضاً على العلاقات بين الأفراد والمجموعات العامة والخاصة، التي تقع على جانبي الحدود". ونلاحظ من خلال هذا التصور، عدم تحديد مضمون واضح لمفهوم التدفقات، وبالتالي يُمكن اعتبارها كل الأحداث، السلوكات، التصورات والقناعات...إلخ، التي يكونها الفاعل. كما أن عدم تحديد الجهة التي تصدر عنها هذه التدفقات (الفاعل)، يفتح مجال التأثير في التفاعلات الدولية، إلى عدد متعدد من اللاعبين، يتدرجون من الشكل الأبسط أي الفرد، إلى الأشكال الأكثر تعقيداً، أي الكيانات متعددة الأطراف التي تشكلها الدول، مثل المنظمات الدولية، الأحلاف العسكرية...إلخ.

وأخيراً، فإن استعمال معنى "عبور الحدود"، يوحي بعدم وجود حدود فاصلة، بين البيئتين الداخلية والخارجية للنظام السياسي للدولة. وعليه فإن اتجاه التفاعل، لا يكون فقط باتجاه البيئة الدولية، بل يكون كذلك باتجاه البيئة الداخلية للدولة، في شكل مؤثرات خارجية، تدفعها نحو تحديد خيارات سياستها الخارجية. وبذلك يُشكل هذا التصور، جزءً من الاتجاه الرافض للفصل بين البيئتين الداخلية والخارجية، أو بتعبير آخر رفض نموذج الدولة ككرة البلياردو State as a billiard ball model. فهذا الأخير يجعل من العلاقات الدولية، تصادم مستمر للدول -مثل كرات البلياردو-، دون أن يكون لذلك التصادم أي تأثير على قلب الكرة، التي تعبير عن البيئة الداخلية.

تحاول تصورات أخرى، ضمن هذا الاتجاه التعددي، أن تكون أكثر تحديداً في نظرتها للعلاقات الدولية، من خلال السعي لتحديد الفواعل. سواءً تعلق الأمر بامتدادات الدولة (المنظمات الدولية...إلخ)، أو غيرهم من الفاعلين غير الدولاتيين، مثل الشركات العابرة للحدود، أو المنظمات الدولية غير الحكومية...إلخ. ومن التعاريف المثيرة للاهتمام، تجد تصور نيكولاس سبيكمان N. Spykman، الذي يأخذ اتجاها مناقضاً، لما ذهب إليه ريمون آرون، فيما يتعلق بدور الفرد في العلاقات الدولية. فإذا كان آرون لا يعطي أي اهتمام للأفراد، خارج ثنائية الدبلوماسي-الجندي، وبالتالي لا يتصرفون باسم الدولة، بشكل رسمي أو غير رسمي. فإن سبيكمان في مقابل ذلك، يعطي الفرد صفة الفاعل في العلاقات الدولية، بغض النظر عن عدم قيامه بأية وظائف، أو أدوار باسم الدولة التي ينتمي إليها. وعليه يُمكن إدراج السلوك الفردي أو الجماعي، الذي يقوم به أفراد لأهدافهم الخاصة، ضمن تفاعلات العلاقات الدولية، حتى وإن لم يكن مرتبطاً بأي شكل من الأشكال، بأهداف ومصالح الدول.

ويُعرف نيكولاس سبيكمان العلاقات الدولية، انطلاقاً من ذلك تفاعل سلوكات اجتماعية، صادرة عن الأفراد والجماعات، عبر الحدود الوطنية. وبهذا المعنى فهي "علاقات بين أفراد Individals ينتمون إلى دول مختلفة...والسلوك الدولي International behavior، هو سلوك اجتماعي لأفراد وجماعات، تستهدف أو تتأثر بوجود أو سلوك أفراد أو جماعات، تنتمي لدول أخرى". أي أن كل سلوك يقوم به أفراد، أو جماعة من الأفراد، مهما كانت طبيعتها (عرقية، لغوية، مهنية...إلخ)، يُمكن أن يُحدث تأثيرات على مستوى البيئة الدولية، ويُصنف بالتالي ضمن مفهوم العلاقات الدولية.

ويُمكن أن يلتقي هذا التصور، بسلوك الجماعات العرقية أو الدينية، خلال حالات عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، التي تعرفها بعض الدول ذات التنوع العرقي العالي. أو حتى سلوك بعض الأفراد، أثناء تعبيرهم عن مواقفهم السياسية، الثقافية، الاجتماعية أو حتى الدينية، مثل إقدام راهب بوذي على الانتحار حرقاً سنة 1963، احتجاجاً على سياسات السلطة في فيتنام الجنوبية، تجاه الطائفة البوذية خلال الحرب الفيتنامية. إضافةً إلى الأنشطة الاعتيادية، التي يقوم بها بعض رجال الأعمال، في إطار التجارة الدولية، أو التداولات المالية في إطار الأسواق المالية، والتي قد تؤدي إلى أزمات مالية ذات تبعات سياسية، على المستويين الإقليمي والدولي، مثل أزمة النمور الآسيوية سنة 1997، أو أزمة الرهن العقاري لسنة 2008. فرغم ارتباط هاتين الأزمتين، بسلوكات أفراد، أو حتى مؤسسات مالية خاصة، إلا أن تبعات هذه السلوكات، مارست تأثيرات كبيرة، على سياسات الدول، في القطاع المالي، وكذلك في مجال السياسة الخارجية، ويظهر ذلك بشكل خاص، خلال معالجة دول الاتحاد الأوروبي، لتأثيرات الأزمة المالية، على منطقة الاتحاد النقدي الأوروبي (منطقة اليورو).

يُشير عرض هذه النماذج من التصورات، التي وضعت ضمن محاولات إيجاد تعريف شامل، يرسم الصورة الكاملة للعلاقات الدولية، إلى نتيجة أساسية مفادها، أن هذا المفهوم كان ومازال متنازع حوله. حيث لن نتمكن من إيجاد تعريف نهائي، حتى داخل الاتجاه النظري الواحد، وبشكل خاص عند مقارنة تصورات الآباء المؤسسين للاتجاه، مع تلك التي وضعها المنظرون المتأخرون. وانطلاقاً من ذلك، يُمكن بما يتناسب مع أهداف هذه المحاضرة، تعريف العلاقات الدولية على أنها مختلف التفاعلات التي تتم بين مختلف الفاعلين على مستوى البيئة الدولية، لأهداف، غايات، مرجعيات مختلفة، وتُفضي بذلك إلى مخرجات متبادلة التأثير. علماً أن البيئة الدولية، في هذا الصدد، هي المسرح الرئيسي للتفاعل، وهو لا يمنع أن الكثير من المؤثرات على سلوك الفواعل، ومحفزات التفاعل (القضايا الدولية)، تكون صادرة عن البيئة الداخلية للدول.

ثانياً: العلاقات الدولية والمفاهيم المشابهة: توضيح التداخل:

يُستعمل وصف العلاقات الدولية International Relations\Relations Internationales، بمضامين ودلالات متعددة، ومتضاربة في بعض الأحيان، وهو ما تمت الإشارة إليه، عند التطرق إلى الجدل المستمر حول التعريف. وما يزيد من تعقيد هذا الوضع، وهو لجوء بعض الكتابات غير المتخصصة، إلى استعمال العديد من المفاهيم والمصطلحات، ومنحها نفس معنى مفهوم العلاقات الدولية. سواءً في بعض الأعمال الأكاديمية، أو حتى الاستعمالات الصحفية، أو ضمن كتابات الناشطين في المجتمع المدني الدولي، في معالجتهم للقضايا الإنسانية، البيئة أو الحوكمة العالمية...إلخ. وسنتطرق في هذا المجال، إلى نماذج عن حالات التداخل، الحاصل بدرجات متفاوتة، بين مصطلح العلاقات الدولية، وغيره من المفاهيم التي عادةً ما تُستعمل بنفس المعنى، وعلى رأسها مصطلح المجتمع العالمي، المجتمع الدولي International Society، السياسة الخارجية Foreign Policy وكذلك الدبلوماسية Diplomacy.

1.    العلاقات الدولية في مواجهة المجتمع العالمي:

ظهر مصطلح المجتمع العالمي World Society\La Société Mondiale، ضمن الدراسات النظرية لحقل العلاقات الدولية، التي حاولت مواكبة تطور الأوضاع على المستوى الدولي، من خلال منح الاهتمام لمؤثرات غير الدول. لذلك فقد اُستعمل مصطلح لسياسة العالمية، بتأثير من أعمال روبيرت كيوهان R. Keohane، وجوزيف ناي J. Nye، للتعبير عن اقتراض أساسي مفاده أن "نطاق الفاعلين والأنشطة، أوسع من سيناريوهات الحرب، السلم، الأمن والنظام، التي تنطوي عليها النماذج الكلاسيكية، المتمحورة حول الدولة".

ورغم التشابه الكبير، بين مصطلحي المجتمع العالمي والعلاقات الدولية، ما يوحي بأنهما مترادفان يحملان نفس المعنى، إلا أن التصورات النظرية، تُشير إلى أنه رغم التشابه في المبدأ، وهو وجود حالة من التفاعل على المستوى الدولي، بين فاعلين متعددين، إلا أن الدولة لم تعد تحتفظ بموقعها المهيمن، باعتبار أن مساهمة بقية الفاعلين، في التفاعلات الدولية، وحجم القوة -غير العسكرية- التي تسيطر عليها، تفوق بشكل واضح تلك التي تتمتع بها الدولة، والتي جعلت هذه الأخيرة، تحتل موقعها المهيمن في الدراسات الدولية. ويظهر ذلك من خلال الأدوار والتأثيرات، التي تُمارسها الشركات متعددة الجنسيات، المؤسسات المالية فوق الوطنية، إضافةً إلى تأثير الجماعات غير النظامية (حركات التحرر، الجماعات الإرهابية...إلخ)، على الساحة الدولية، والتي لا تقل أهمية عن دور الدولة.

لابد من الإشارة كذلك إلى أن المجتمع العالمي، يتجاوز كذلك من حيث النطاق مفهوم المجتمع الدولي، والذي بقي لفترة زمنية طويلة، مقتصراً على الدولة والمنظمات الدولية الحكومية. باعتبار أن هذه الأخيرة، تحتكر خاصية صنع قواعد القانون الدولي، من خلال كونها مصدراً للالتزامات الدولية، وبشكل خاص المعاهدات والأعراف الدولية. كما أن أهلية ممارسة حق التقاضي على المستوى الدولي، قد بقيت لفترة زمنية طويلة، مقتصرة على الدول، وكذلك المنظمات الدولية.

2.    العلاقات الدولية في مواجهة المجتمع الدولي:

يندرج مصطلح المجتمع الدولي International Society\Société Internationale، ضمن المفاهيم الأساسية في مجال الدراسات القانونية، وبشكل خاص تلك المرتبطة بالقانون الدولي العام. وكثيراً ما يُستعمل بمعاني تتداخل مع معنى العلاقات الدولية، خاصةً عندما يُعرف بالقياس إلى العلاقات القائمة، ضمن المجتمعات المحلية. ويُعرف المجتمع الدولي على أنه "المجتمع الذي يضم مجموعة من الوحدات السياسية التي يُطلق عليها وصف الدولة...صحيح أن هناك تنظيمات معينة تنشأ في إطار هذا المجتمع، يُطلق عليها اسم المنتظمات الدولية Organisations Internationales تتم فيها وبها نوعاً من المهايأة Aménagement للسلطات التي تُمارسها الدول، بحيث تُفوض الدول -أو تتنازل- عن جزء من سلطاتها في تلك المنتظمات، وبحيث يُتاح لهذه الأخيرة أن تتخذ بعض التصرفات بإرادتها وحدها، وتلزم بها الدول الأعضاء فيها. على أنه يبقى أن هذه التنظيمات، تظل صورة من صور التعاون الاختياري بين الدول". 

يُفهم من هذا التعريف، ان المجتمع الدولي هو مجتمع مكون من الوحدات السياسية، التي يُمكنها صنع القانون الدولي، من خلال اعتبارها كيانات ذات سيادة. وبذلك فإن المعنى لا يمتد إلى خارج الدول المستقلة ذات السيادة، والامتدادات الطبيعية للدولة، ونقصد بذلك بشكل خاص، التنظيمات الدولية بمختلف صورها، والتي تنتج عن ممارسة الدولة لسيادتها الوطنية. وبذل يُمكن القول -بتحفظ- أن المجتمع الدولي هو الإطار الذي تتشكل فيه مختلف العلاقات الاجتماعية، التي يُمكن وصفها باسم العلاقات الدولية.

3.    العلاقات الدولية في مواجهة السياسة الخارجية:

لا يختف مفهوم السياسة الخارجية Foreign Policy\Politique Etrangère، عن مفهوم العلاقات الدولية، في كونه مفهوماً متنازع حوله، بين مختلف الاتجاهات الفكرية، في علم العلاقات الدولية. ويُمكن تعريفها بشكل عام على أنها "النشاط الذي تقوم به الأطراف الفاعلة، بالفعل ورد الفعل، وبالتفاعل". علماً أن الأطراف الفاعلة المقصودة في هذا التعريف، لا يُمكن أن تكون فاعلاً آخر غير الدول ذات السيادة، على الأقل في الوقت الراهن. حيث تبقى السياسة الخارجية، خاصية حصرية تتمتع بها الدولة، مقارنة ببقية الفواعل، رغم سعي بعض التكتلات الإقليمية، إلى تنسيق توجهاتها الخارجية، تحت مسمى السياسة الخارجية المشتركة. ويظهر الاتحاد الأوروبي كأبرز الأمثلة في هذا المجال، من خلال إطلاقه مسار السياسة الخارجية الأوروبية المشتركة European Common Foreign Policy، منذ معاهدة ماسترخت 1992.

وعليه فإن مصطلح السياسة الخارجية، يُعبر على وجه أدق، عن أحد مظاهر تفاعل الدولة، في إطار العلاقات الدولية، تجاه مختلف الأحداث والقضايا، بغية تحقيق أهداف محددة. وبالنظر إلى هذه الأخيرة، يُمكن أن تتميز السياسة الخارجية، بنزعة تعديلية/هجومية، تسعى من خلالها الدولة لتغيير سلوك بقية الفاعلين، أو تعديل توزيع الأدوار على المستوى الدولي. كما يُمكن أن تتخذ نزعة محافظة/دفاعية، من خلال السعي إلى منع مساعي بقية الدول والفواعل، في تغيير الوضع القائم على مستوى البيئة الدولية. ويتوقف ذلك بشكلخاص على الإيديولوجيا الرسمية للدولة، وكذلك حجم القوة التي تتمتع بها الدولة، على المستوى الاقتصادي، الدبلوماسي والعسكري...إلخ.

4.    العلاقات الدولية في مواجهة الدبلوماسية:   

يُعتبر مصطلح الدبلوماسية Diplomacy\Diplomatie، من بين أكثر المصطلحات المشابهة للعلاقات الدولية استعمالاً، سواءً بمعناها السياسي، أو بمعنى مجازي في العلاقات الشخصية والاجتماعية. ويُستعمل هذا المصطلح في المجال السياسي، بمعنيين مختلفين من حيث النطاق، يتميز المعنى الأول بنطاقه الشامل، بينما يتخذ الثاني نطاقاً أقل اتساعاً. وبموجب ذلك فإن "الدبلوماسية في معناها الشامل، هي العملية الكاملة، التي تقيم عبرها الدول علاقاتها الخارجية، [فهي] وسيلة الحلفاء للتعاون، ووسيلة الخصوم لحل النزاعات، دون اللجوء إلى القوة. فالدول تتواصل وتساوم، وتؤثر إحداها في الأخرى، وتحل خلافاتها، بواسطة الدبلوماسية...وفي معناها الضيق، الدبلوماسية هي تطبيق السياسة الخارجية، وهي مختلفة عن عملية صنع السياسة. قد يؤثر الدبلوماسيون في الساسة، لكن مهمتهم الأساسية هي التفاوض مع ممثلي الدول الأخرى. فالسفراء والوزراء والمبعوثون متحدثون رسميون باسم بلادهم في الخارج، وهم الأدوات التي تحافظ بها الدول على الاتصال المباشر والدائم فيما بينها".

 أي أن الدبلوماسية، هي أحد وسائل تنفيذ السياسة الخارجية الوطنية، وبالتالي فهي إحدى وسائل التفاعل المستخدمة في العلاقات الدولية. وعليه فإن ارتباطها بالسياسة الخارجية، يجعلها وسيلة من وسائل تحقيق الأهداف الوطنية، ويوحي ذلك بمعاني، قد تختلف عن تلك المتضمنة في التعاريف الاصطلاحية. فمعنى الدبلوماسية لا يقتصر بالضرورة، على حل الخلافات بين الدول، دون اللجوء إلى القوة العسكرية أو العنف، بل يُمكن أن تكون مقدمة لاستعمال القوة. كما يُمكن أن تكون وسيلة لكسب الوقت، أو الإبقاء على الوضع الراهن بين الدول، دون الرغبة الحقيقية في التوصل إلى حل مقبول، للقضايا محل الخلاف بين الأطراف.


آخر تعديل: Saturday، 2 November 2024، 12:18 PM