Aperçu des sections

  • تاريخ العلاقات الدولية

    تاريخ العلاقات الدولية

     السنة الثانية علوم سياسية جذع مشترك

     تقديم: أ. دريكش نجيم

    مقدمة عامة 

             تتضمن دراسة العلاقات الدولية شقا تاريخيا مهما،ً يُمارس أثراً إيجابيا على استيعاب الدراسة النظرية لهذا الحقل، ويُعرف هذا المجال بشكل عام تحت مسمى تاريخ العلاقات الدولية History of international relations. فالأطر النظرية المختلفة التي تُميز حقل الدراسات الدولية تعتمد بدرجات متفاوتة، على استقراء الوقائع التاريخية، في محاولة لإثبات الافتراضات النظرية، التي تحدد أنماط سلوك الفواعل. فحتى وإن كانت الدراسات الدولية، قد ركزت اهتمامها على مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن الافتراضات الأساسية حول هذه المرحلة، تم تكوينها انطلاقا من دراسة مراحل زمنية سابقة، ترجع إلى تأثيرات معاهدة وستفالياWestphalia سنة 1648 ، وما تلاها من نظام توازن القوى. وتظهر النظرية الواقعية التقليدية، من أبرز الأمثلة على اللجوء إلى المسارات التاريخية، كأساس لتفسير واقع العلاقات الدولية المعاصر.

    قبل تفصيل مواضيع هذه المادة، لابد من الاهتمام بالفرق الجوهري بين الدراسة التاريخية للأحداث، في مقابل دراسة تاريخ العلاقات الدولية. فالدراسات التاريخية عادة ما تنطلق من فرضية مفادها، أن الوقائع والأحداث التاريخية فريدة من نوعها، ولا يُمكن أن تتكرر بأسبابها ونتائجها. وفي المقابل فإن تاريخ العلاقات الدولية، ينطلق من الافتراض أن الأحداث والتفاعلات الدولية، متكررة ومتشابهة، بحيث يُلجأ إليها لمعرفة أنماط سلوك الدول، وأنماط استجابتها للتحديات، وردود أفعالها تجاه قوى البيئة الدولية. فالحرب، السلام، التعاون، التنافس...إلخ، هي سلوكات متكررة وغير منتهية في مجال العلاقات الدولية، بغض النظر عن ظروفها الذاتية. غير أن ذلك لا يعني أن المجالين منفصلين، فالدراسات التاريخية تكون ضرورية، من أجل التوصل إلى النتائج المستهدفة، من دراسة تاريخ العلاقات الدولية.


    • مدخل إلى مادة تاريخ العلاقات الدولية

      لقد نشأت العلاقات بين الكيانات المختلفة والقوى المتباينة منذ نشوء الجماعات البشرية، ثم قامت القبائل وتطورت وعرفت الحرب والسلم والتجارة وأنماط من التعاون والصراع، ومن هنا يمكننا القول بأن تاريخ تلك العلاقات قديم الحياة البشرية. ولكن، وعلى الرغم من ذلك فان العلاقات بين الدول القومية ذات السيادة تشكل المساحة الرئيسية في حقل العلاقات الدولية المعاصرة، وهذا لسبب بسيط وهو إننا نعيش في رحاب نظام الدولة القومية باعتبارها الكيان السياسي الرئيسي في العلاقات الدولية، فهي صاحبة السيادة ولا توجد سلطة أعلى منها، ولا يعترف القانون الدولي والمجتمع الدولي بوجود سلطة يمكن أن تحل محلها.



    • التحليل النسق لتطور العلاقت الدولية من صلح وستفاليا 1648 إلى الثورة الفرنسية 1789

       سبق وقدمنا شرحا نظريا لمنهجية التحليل النسقي لتطور العلاقات الدولية، ووضحنا كيف  أن العلاقات الدولية تتطور في إطار نسق دولي  معين من خلال العلاقة التي ، تربط بين مختلف عناصر هذا النسق (الوحدات الدولية، البنية، الأطر المؤسسية، العمليات والتفاعلات السياسية)، وفيما يلي سيتم اسقاط هذا الإطار النظري على على المرحلة التي تقع بين صلح وستفاليا 1648 والثورة الفرنسية

      أولا: من حيث الوحدات الدولية  (الفواعل)

      الوحدات دولية من حيث طبيعتها في هذه المرحلة هي الدول فقط ، أي لا وحود لشكل آخر للفواعل الدولية، والدول/الفواعل الأساسية هي بريطانيا، فرنسا، روسيا، بروسيا، والامبراطورية الرومانية المقدسة (النمساوية). مع وجود دول أخرى لكنها أقل تأثيرا مثل اسبانيا، الدولة العثمانية، البرتغال، السويد، الولايات المتحدة، هولندا،...، بالإضافة إلى الدول الصغيرة مثل بلجيكا وبعض الدويلات الإيطالية والألمانية .

      في تحليلنا، يجب التركيز على الدول الأساسية، لأنه من خلالها تتحدد بنية النق الدولي، وعنها تصدر مختلف السلوكات والعمليات السياسية الدولية التي تميز كل مرحلة.

       واقع هذه الدول الأساسية أيضا لهدور وتأثير مهم على سلوكات وسياسات الدول الأخرى، وبالتالي على مجمل التفاعلات الدولية (علاقات الفعل ورد الفعل) برمتها.  ففرنسا على سبيل المثال؛ تمثل مثالا حيا عن كيفية تأثير قضايا السياسة الدخلية لدولة ما على سياسات دول أخرى وعلاقاتها مع هذه الدول؛ حيث دارت العلاقات الدولية منذ بداية الثورة الفرنسية وحتى نهايتها مع مؤتمر فيينا 1815، حول قيام الأحلاف وسقوطها في وجه الحروب والسياسات التوسعية لنابوليون. كذلك واقع الامبراطورية  النمساوية التي تيزت بتكوينها القومي المتعدد وغير المتجانس، وتناثر ممتلكاتها وموقعها الجغرافي المحاط بدول معادية قوية، جعل منها مصدرا للكثير من التحولات التي عرفتها العلاقات الأوروبية.

      ثانيا: من حيث بنية النسق الدولي 

      نركز في هذا العنصر على توزيع القوة والتأثير بين وحدات النسق الدولي، وترتيب هذه الوحدات حسب مككانتها ودرجة تأثيرها، بالإضافة إلى تأثير البنية على سلوك الوحدات الدولية.

      من حيث الشكل الأساسي للنسق الدولي نلاجظ أنه متعدد الأقطاب، قائم بشكل أساسي على مبدأ توازن القوى، وذلك بانظر إلى التكافؤ النسبي في الموارد ودرجة التأثير في النسق العام للعلاقات الدواية خلال هذه المرحلة.

      من حيث توزيع القوة، هناك تكافؤ نسبي في القوة بين الدول الأساسية ، بحيث لم يكن هناك دولة استطاعت أن تغير بنية النسق الدولي أو تغير القيم السائدة فيه (المبادئ  التي أفرزها صلح وستفاليا) خاصة مبدأ توازن القوى.

      ثالثا: من حيث الأطر المؤسسية السائدة خلال هذه المرحلة (القانونية أوالتنظيمية)

      الإطار المؤسسي الذي تتفق حوله الوحدات الدولية خلال هذه المرحلة هو معاهدة/صلح وستفاليا والمبادئ التي اتفقت عليها الدول الموقعة بعد نهاية الحروب الدينية، بالإضافة إلى بعض المعاهدات الأخرى التي جاءت في سياق بعض التطورات/التفاعلات  خاصة بين بريطانيا وفرنسا. وأهم سؤال نجيب عنه في هذه النقطة هو: ما مدى التزام وحدات النسق الدولي بالأطر المؤسسية الناظمة للعلاقات الدولية خلال المرحلة محل الدراسة؟

        (نهاية الحروب الدينية وتراجع سلطة الكنيسة)ــ مبدأ التعايش الديني بين الكاثوليك والبروتستانت

      ــ مبدأ الدولة القومية/الوطني الحديثة كنتيجة لنهاية السلطة الدينية، وبداية تفكك الامبراطورية الرومانية المقدسة

      ــ مبدأ احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول

      ــ مبدأ توازن القوى كآلية لحفظ السلم والاستقرار في أوروبا (يُعرّف مبدأ توازن القوى بأنه: نوع من التكافؤ النسبي في ال قوة بين الدول الكبرى/الأساسية، بحيث لا تسيطر دولة معينة أو تحالف من الدول على السياسة الدولية (الأوروبية)، وأن تعمل جميع الدول على منع ذلك بالوقوف في وجه السياسات التوسعية لأي طرف). 

      رابعا: من حيث العمليت السياسية والتفاعلات الدولية

      لقد سادت روح مبادئ صلح وستفاليا إلى حد كبير خلال هذه المرحلة ، بحث لم تحدث تحولات عميقة غير من الوجع العام للعلاقات الدولية. وأكثر ما يمكن ملاحظته السياسات الفرنسية الرامية إلى تغيير الواقع الدولي لصالحها، حيث استغلت فرصة خروجاها من الحروب الديني كأحد أكبر الرابحين بسبب ضعف الولايات الألمانية وتراجع الامبراطورية الومانية المقدسة، وبالتالي تصرفت دائما بما يناقض المبادئ التي ذكرنا، وسعت في أكثر من مرة إلى التوسع على حساب دول أوروبية أخرى، غير أن باقي الدول الأخرى وقفت ضدها استنادا إلى مبدأ توازن القوى خاصة بريطانيا التي كان لها دورا كبيرا في الوقوف أمام السياسات التوسعية الفرنسية، ونتج  عنها ذلك توقيع جملة من المعاهدات التي تحد بين فرنسا والدول الأوروبية منها:

       ــ معاهدة أوترخت في أفريل 1713 بين التحالف الأعظم بقيادة بريطانيا من جهة وفرنسا واسبانيا من جهة أخرى بعد هزيمة فنسا و اسبانيا

      ــ معاهدة اكس لاشابيل 1748 بين فرنسا وبريطانيا بعد حرب الوراثة داخل الامبراطورية النمساوية

      ــ صلح باريس 1763، انتهت بموجبه حرب السنوات السبع بين فرنسا وبريطانيا، حيث بموجبه فقدت فرنسا معظم مستعمراتها في أمريكا الشمالية وغرب المتوسط لصالح بريطانيا. وفي1774 تولى لويس 16 الحكم في فرنسا واندلعت في عهده الثورة الفرنسية في 1789  والتي كانت مقدمة لتغيرات عميقة في العلاقات الدولية الأوروبية.


      • تطور العلاقات الدولية من مؤتمر فيينا 1815 إلى الحرب العالية الأولى

        المحور الثاني: العلاقات الدولية من مؤتمر فيينا 1815 إلى الحرب العالمية الأولى.

        مثّل مؤتمر ومعاهدة فيينا 1815 بداية الطريق نحو الحرب العالمية الأولى1914، بسبب الإبقاء على النمط القائم للتفاعل الدولي منذ 1648، والذي تميز باستمرار اللجوء للقوة العسكرية، لتسوية الخلافات الثنائية أو الجماعية، حيث لم تتضمن التسويات المتضمنة في مؤتمر فيينا، أي تنظيم دولي بين حكومي أو فوق وطني، لمنع تحول الخلافات إلى نزاعات مسلحة، ولعل هذا الوضع يرجع إلى أن المؤتمر انعقد في جلساته النهائية، قبل انتهاء الحروب النابوليونية (1802-1815). لذلك، فقد تولت القوى الأوروبية الأساسية مسؤولية الحفاظ على توازن القوى السائد منذ 1648، من خلال شبكة من الأحلاف العسكرية غير المستقرة/غير الدائمة.

        سيتم في هذا المحور التطرق إلى تطور العلاقات الدولية خلال الفترة الممتدة من 1815 إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، مروراً عبر مرحلة الوفاق الأوروبي. وسيتم تقسم هذا المسار، عبر مجموعة من المواضيع الجزئية، نوردها وفق الترتيب التالي:

        أولاً: الوفاق الأوروبي .

        ثانيا: انبعاث النزعة القومية ورفض نظام فيينا.

        ثالثا: العلاقات الدولية قبل الحرب العالمية الأولى.

        أولاً: نظام الوفاق الأوروبي:

        يعرف نظام الوفاق الأوروبي على أنه نظام دولي أوروبي، قائم على الاتفاق بين القوى الأساسية، على الاحترام الصارم لمجموعة من المبادئ، التي تُنظم العلاقات القائمة فيما بين هذه القوى، وبشكل عام العلاقات الدولية الأوروبية. حيث تركزت الاهتمامات الأساسية للقوى الأوروبية حول :

        -       المحاولات الفردية للهيمنة القارية، والتي يمكن أن تكون بنفس الأسلوب والنتائج، المتضمنة في تجربة مرحلة الحروب النابوليونية.

        -       انتشار المبادئ الثورية الراديكالية، التي يُمكن أن تنشأ عن التأثر بمبادئ الثورة الفرنسية، وتشكل تهديداً للأنظمة السياسية القائمة في أوروبا. وهي الحالة التي ظهرت بعد نجاح الثورة في فرنسا، حيث توجهت الحركات القومية الأوروبية، بدفع من هذه المبادئ، وسياسات نابوليون بونابارت، إلى الإعلان عن تغييرات ثورية في أنظمة الحكم في كل من هولندا وبلجيكا...إلخ.

        1 المبادئ الأساسية لنظام الوفاق الأوروبي : -

        تم إقرار نظام فيينا أو الوفاق الأوروبي، من خلال السلوكات والأعراف الدولية، التي أقرتها الدول الأوروبية الكبرى، بعد نهاية الحروب النابوليونية، والهزيمة الفرنسية في الصراع الدولي، فضمن هذا النظام، اعتمدت الدول الأوروبية الكبرى، على وسيلتين متعارضتين من حيث المبدأ، لكنهما عمليا تتميزان بالتكامل والتجانس.  حيث تحمل الأولى طابعا دبلوماسيا، وتتمثل في المؤتمرات الأوروبية، بينما تحمل الثانية طابعا عسكريا، وتتمثل في الأحلاف العسكرية، التي تأسست منذ الحلف المقدس. وبشكل عام تتمثل المبادئ الأساسية لنظام الوفاق الأوروبي في :

        -        تكفل القوى الأساسية في أوروبا بحفظ الوضع القائم في القارة الأوروبية، استناداً إلى الموقع الذي احتلته بعد انتصاراتها المحققة سنة1815، حيث يتم إقرار التوازن الذي تأسس بموجب مؤتمر فيينا، بناءً على المبادئ التي تقررها هذه القوى.

        -        تعمل القوى الأساسية على التصدي جماعيا لكل محاولة انفرادية لتغيير النظام الدولي، أي أن كل تغييرات أو تسويات محتملة، لا يجب ان تكون ذات طابع انفرادي أو حتى ثنائي، بل يجب أن تكون جماعية، بالتشاور مع كل القوى الأساسية.

        -       إقرار آلية المؤتمرات الأوروبية كوسيلة لحل الإشكالات السياسية، التي يُمكن أن تنشأ بين الدول الأوروبية، والتي تعكس مسؤوليات هذه الدول في الحفاظ على الوضع القائم، فعلى سبيل المثال تمت تسوية المسألة الفرنسية، بطريقة اختلفت جذريا عن الأسلوب المتبع سنة 1814، حيث تم استبدال القوة العسكرية بالمؤتمر الذي شمل القوى الأوروبية المنتصرة، وعليه فقد كان من مقررات مؤتمر أكس لاشابيل سنة 1818 تسوية تلتزم بموجبها القوى المنتصرة بسحب قواتها من الأراضي الفرنسية، مقابل التزام هذه الأخيرة بدفع التعويضات دفعة واحدة .

        -        منع القوى الثورية من تشكيل تهديد للنموذج القائم للتنظيم السياسي، من خلال الامتناع عن دعم أي من هذه الحركات، أو الاعتراف بها كأمر واقع على الساحة الأوروبية. حيث أن ذلك من شأنه زيادة عدد القوى الأوروبية، وبالتالي تهديد التوازن القائم بين القوى الأساسية المهيمنة على النظام.

        تعني هذه المبادئ أن أيًّا من الدول الأوروبية، لم تكن قادرة بشكل منفرد على تغيير الخريطة السياسية الأوروبية، دون أن تتعرض لمخاطر المواجهة مع البقية، لذلك فقد شكلت مرحلة الوفاق الأوروبي، حالة من الاستقرار النسبي في العلاقات الأوروبية، استمرت إلى غاية المراحل السابقة للحرب العالمية الأولى .

        2 / المراحل الأساسية لنظام الوفاق الأوروبي:

        أقر نظام التوازن أو الوفاق الأوروبي آلية الأحلاف العسكرية والمؤتمرات، كوسيلة لإدارة العلاقات الأوروبية، وهو ما أدى إلى تكريس نمط معين في التفاعلات الأوروبية. ويتمثل ذلك في السعي الجماعي لمقاومة التغيير، وبذلك فقد تشكلت حالة من الردع في العلاقات الأوروبية، تظهر من خلال الامتناع عن الإخلال بالتوازن القائم، بسبب المخاوف من رد فعل القوى الأخرى. وعليه يُمكن تقسم مسار تطور نظام الوفاق الأوروبي، إلى مرحلتين مختلفتين من حيث استقرار نمط التفاعلات، عرفت الأولى حالة من الاستقرار النسبي، لم تستمر بشكلها القائم خلال المرحلة الثانية.

        ·     المرحلة الأولى: من 1815 الى حرب القرم:

        تم خلال هذه المرحلة التأسيس للتحالف المقدس، والذي وإن كان قائما من حيث الإعلان الروسي النمساوي، على القيم المسيحية، إلا أنه كان موجها بالأساس، لمواجهة مخاطر النهضة العسكرية الفرنسية. لذلك فقد تم تغييره بسهولة نسبية إلى التحالف الرباعي، بعد انضمام بريطانيا بعد شهرين من قيام التحالف المقدس، وحتى في حالة التدخل من أجل الحفاظ على المبادئ الأساسية للنظام، لا يكون ذلك إلا بغطاء جماعي، وهو ما أقره مؤتمر أكس لاشابيل، والذي تم من خلاله التوفيق بين موقفين متناقضين :

        الموقف البريطاني: يعتبر أن التدخل في الشؤون الداخلية للدول، من أجل قمع أية حركة ثورية تهدد النظام السياسي القائم، وتمارس نفس تأثيرات الثورة الفرنسية، قد يزيد من مخاطر توجه دولة إلى الهيمنة على النظام الأوروبي، على حساب بقية الدول.

        الموقف النمساوي: يقوم نظام الوفاق الأوروبي على منع أية حركة ثورية، من تهديد النظام القائم، وبالتالي فإن التدخل الذي تُمارسة أيا من القوى الأوروبية، يتماشى مع القواعد المقررة وفق نظام فيينا 1815 ، كضمانة لعدم توجه أيّ من القوى الثورية لتكرار نموذج الحروب النابوليونية.

        لذلك، فقد توجهت القوى الأوروبية، نحو اعتماد آلية المؤتمرات، لإخطار بقية الدول برغبة إحدى القوى في التدخل في شأن سياسي داخلي، وهو ما سيتم عرضه للمناقشة والمداولة، من طرف بقية الدول الأعضاء في الحلف الرباعي، وعليه فقد تم احتواء  الخلاف بين القوى الأوروبية، وضمان استمرار التحالف الأوروبي لفترة زمنية أطول، دون تأثير عميق من الخلافات حول القضايا المختلفة. رغم ذلك، فقد كان هذا الاختلاف أساسا لتوجه التحالف  الأوروبي نحو التفكك، حيث أقرت الدول الأوروبية مبدأ إعادة الوضع القائم قبل الثورات، وهو ما يعني تهديداً للمصالح البريطانية، في المستعمرات الإسبانية السابقة في القارة الأمريكية. توجهت هذه الأوضاع إلى التغير، بعد ثورة 1848 في فرنسا، والتي أدت إلى قيام الإمبراطورية الثانية، تحت حكم نابوليون الثالث، وقد استبقت فرنسا ذلك، بإعلانها الالتزام بالقواعد المتضمنة في نظام فيينا  1815،  لمنع تدخل الدول الأوروبية الأخرى، من أجل قمع التغيير الذي أحدثته الثورة، إضافةً إلى ذلك فقد حدثت تغييرات سياسية في النمسا، أدت إلى استقالة المستشار ميترنيخ.

        ·     المرحلة الثانية: من حرب القرم إلى الحرب العالمية الأولى 1914

        كما سبقت الإشارة إليه، نشأ نظام الوفاق الأوروبي، على أساس امتناع أي من دول الحلف الرباعي، عن القيام أي سلوك سياسي أو عسكري، يؤدي إلى تغير جذري في الخريطة الجيوسياسية الأوروبية.  فقد قاوم هذا النظام مختلف التغييرات، إلى غاية بداية التوجه الانفرادي نحو الإخلال بالتوازن القائم، من بعض الدول من داخل النواة الصلبة للنظام، أي من أعضاء التحالف الرباعي. توجهت بريطانيا كقوة أساسية في النظام الأوروبي، إلى ضمان استمرار بقاء الإمبراطورية العثمانية، ومنع وقوع ممتلكاتها تحت سيطرة قوة أوروبية بشكل منفرد، وهو ما يعني نهاية التوازن في أوروبا، والوقوع تحت الهيمنة الكاملة لأي دولة تستولي على مجال النفوذ العثماني في أوروبا، وقد تصادف ذلك مع مساعي روسية للحصول على امتيازات أكبر، كغطاء من أجل استغلال الضعف العثماني، من أجل تحقيق الأهداف الروسية للوصول إلى منطقة المتوسط والمياه الدافئة.

        وعليه، فقد بدأت سلسلة من الأحداث سنة 1852، انطلاقا من المطالب بمنح امتيازات للطائفة الأرثودوكسية، على حساب الطوائف المسيحية الأخرى (خاصة الكاثوليكية(، في الأراضي المقدسة، إضافةً إلى الحصول على حق حماية الأورثودوكس المتواجدين على الأراضي العثمانية، وهو ما يسمح لها بالتدخل عسكريا داخل الدولة العثمانية، وقد أدى رفض السلطان العثماني للمطلب الأخير، إلى إعلان روسيا الحرب، وقيامها بالاستيلاء على مجموعة من الأقاليم العثمانية في أوروبا. وكرد فعل على هذا السلوك الروسي، تم لدوافع مختلفة اللجوء إلى قواعد نظام فيينا، لمواجهة المحاولة الروسية لتغيير النظام لصالحها، وقد تم ذلك من طرف بقية أعضاء التحالف الرباعي )بريطانيا، النمسا، وبروسيا(، زيادة على التدخل الفرنسي.

         رغم اشتراك الدول الأوروبية في التدخل، إلا أنها اختلفت من حيث دوافع القرار، فعلى سبيل المثال استهدفت بريطانيا الإبقاء على الوضع القائم منذ 1815 ، إلا أن فرنسا استهدفت استمرار حقها في إدارة الشؤون الدينية المسيحية في الأراضي المقدسة، وكذلك العودة إلى الساحة الأوروبية كقوة مساوية لبقية الحلفاء.

        بتأثير من حرب القرم، تغيرت موازين القوى نسبيا في أوروبا، حيث تصاعدت القوة البروسية، على حساب القوى القارية الأخرى )النمسا، فرنسا بشكل خاص). وعليه، فقد دخلت القارة الأوروبية، في مسارات جديدة من العلاقات الدولية، دارت حول قيام الحركات القومية الأوروبية بتوحيد الأقاليم على أساس إثني أو قومي، ومن أهم الأمثلة على ذلك حركة الوحدة في ألمانيا، وإيطاليا.

        ثانياً: انبعاث النزعة القومية ورفض نظام فيينا:

        لم يكن ممكنا أمام الحركات الثورية والقومية، إحداث تغييرات جذرية لوضعها ضمن الساحة الأوروبية، خلال الفترة ما بين 1815 إلى غاية نهاية حرب القرم1956. غير أن ضعف بعض القوى الأوروبية، مثل روسيا والنمسا، وتصاعد قوى بعض الدول والإمارات الأخرى مثل بروسيا وبيدمونت، أدى إلى تصاعد الحركات القومية، وتبنيها سياسات تستهدف تحقيق وحدتها القومية، سواءً من خلال السعي إلى نيل وتدعيم الاستقلال الوطني، او من خلال توحيد الإمارات على أساس قومي، وهو ما سنستعرضه من خلال نموذجي الوحدة الإيطالية والألمانية .

        1/ بداية ظهور النزعة القومية في أوروبا:

        أدت التحولات التي عرفتها أوروبا بعد مؤتمر فيينا، إلى ظهور النزعة القومية لدى الشعوب الخاضعة إلى الهيمنة، وبالتالي المقسمة بين مجموعة القوى الأوروبية الأساسية، وبشكل خاص فرنسا والنمسا، حيث توجهت هذه الأخيرة مثلاً، إلى فرض الرقابة الصارمة على الصحف الألمانية، من أجل السيطرة على الأفكار القومية في المقاطعات الألمانية الخاضعة لهيمنتها، وقد استفادت هذه الحركات من الضعف، الذي عرفه نظام فيينا من أجل التوجه نحو تحقيق الأهداف القومية، حيث تميز الوضع الدولي في تلك المرحلة ب:

        * التحولات السياسية التي عرفتها فرنسا، بعد ثورة 1848 ، والتوجه نحو إعلان الإمبراطورية الثانية بقيادة لويس نابوليون بونابارت )نابوليون الثالث(.

        * التحولات السياسية الداخلية التي عرفتها النمسا، من خلال حالة عدم الاستقرار بسبب رفض سياسات ميترنيخ، الأمر الذي أجبر هذا الأخير على الاستقالة ومغادرة النمسا .

        * عدم الثقة التي ميزت العلاقات بين أطراف التحالف الرباعي، خاصة بين النمسا وبريطانيا.

        وقد شهدت هذه المرحلة العديد من المحاولات، من أجل التخلص من الهيمنة الخارجية، وتشكيل دول قومية متحررة من قيود نظام فيينا، ومن أهم المحاولات، نجد محاولة تأسيس الاتحاد السلافي في المجر، والذي يجمع كل الشعوب السلافية في المنطقة، والتحرر من السيطرة النمساوية سنة 1849 ، وهي المحاولة التي تم قمعها من طرف النمساويين بالتحالف مع روسيا.

        وبشكل عام، توجهت القوى الأساسية الأوروبية، إلى معارضة الحركات القومية في أوروبا، على اعتبار أنها ستؤدي إلى اختلال التوازن، بسبب الضعف الذي ستتسبب فيه هذه الحركات للقوة النمساوية، وبالتالي فتح المجال أمام الطموحات الروسية للهيمنة على أوروبا. أما الفرنسيون فقد تبنوا نفس الموقف البريطاني، خوفا رد فعل دول الحلف الرباعي، وبالتالي عدم الاعتراف بالوضع السياسي الناتج عن ثورة 1848.

        لم يتوقف الموقف السلبي من الحركات القومية، على دول الحلف الرباعي فحسب، بل شمل حتى تلك الحركات في حد ذاتها. فقد تميزت العلاقات بينها بشكل عام، بعدم الثقة والخوف من استبدال الهيمنة النمساوية، بهيمنة مملكة أوروبية أخرى من نفس القومية، فالإمارات الألمانية كانت تخشى، من استبدال الهيمنة النمساوية بالهيمنة البروسية، ونفس الشيء بالنسبة للإمارات الإيطالية، التي كانت تخشى من تحول السياسة الوحدوية لسردينيا )أو مملكة بيدمونت(، إلى سياسة للهيمنة لا تختلف كثيراً عن النمسا.

        انطلاقا من ذلك فقد عرفت بعض الحركات القومية، نجاحا في تشكيل الدولة القومية منذ سنة 1830، على غرار بلجيكا التي تخلصت من السيطرة الفرنسية. غير أنها من الحالات النادرة للحركات القومية، التي عرفت نجاحا في تحقيق أهدافها، لذلك فقد بقيت الحالات الأبرز في وسط أوروبا، مثل ألمانيا، ومنطقة البلقان، وحتى إيطاليا، مؤجلة إلى مراحل لاحقة، حيث كان النموذج الإيطالي والألماني أبرز الأمثلة على المسارات الطويلة لتشكيل الدولة القومية، من خلال شبكة معقدة من التحالفات والحسابات السياسية .

        2/  الوحدة القومية في إيطاليا وألمانيا:

        تشترك الحالتان الإيطالية والألمانية، في وضع الانقسام الذي عرفتاه منذ فترات زمنية طويلة، والذي تعزز منذ نهاية الحروب الدينية. كما تشتركان أيضا في المحاولات المتكررة، لإعادة بناء الدولة القومية في كل من ألمانيا وإيطاليا، حيث كان من الضروري التأقلم مع النظام الدولي القائم، وانتظار الفرص الملائمة لتحقيق الوحدة القومية، ورغم التشابه بين الحالتين، إلا أنهما تختلفان من حيث قوة وحضور النزعة القومية في السياسات الوطنية، حيث يظهر التوجه نحو تحقيق الوحدة في الحالة الألمانية  أكثر منه في الحالة الإيطالية، فقد تميزت سياسات الإمارات الألمانية، بتوجه جماعي نحو إعادة التوحيد، من خلال مجموعة من السياسات والإجراءات المشتركة، على رأسها الاتحاد الجمركي المعروف باتحاد الزولفرين سنة 1834 ، والمساعي البروسية لتحول الاتحاد الجرماني، إلى تحالف عسكري سنة  1845.

        في المقابل، تميزت التجربة الإيطالية، بسيطرة النزعة القومية على التوجهات السياسية في عدد أقل من الإمارات، على راسها مملكة سردينيا )بيدمونت(. ورغم تأييد التوجه الوحدوي لدى الكثير من الممالك الإيطالية، إلا أنها كانت كرد فعل على السيطرة الأجنبية النمساوية والفرنسية بشكل خاص، أكثر من كونها توجها وحدويا خالصا وجماعيا.  لذلك فقد أخذت مسألة الوحدة في إيطاليا مسارات مختلفة نسبيا مقارنة مع ألمانيا، حيث كان من الضروري إحداث تغييرات سياسية داخلية، بالموازاة مع التغييرات التي شهدتها العلاقات الخارجية للممالك الإيطالية.

        * مسار الوحدة الإيطالية :مثلت مساعي الوحدة في إيطاليا، أحد أهم عناصر سياسات مملكة سردينيا، والتي قادها رئيس الحكومة كافور C. Cavour (1810-1861 (. إضافة إلى الجهود التي بذلها جوسيبي غاريبالدي G. Garibaldi (1807-1882 زعيم حركة إيطاليا الفتاة. وقد أخذت الوحدة الإيطالية مسارين مختلفين، قام الأول على اعتماد أسلوب المواجهة المباشرة مع القوى المهيمنة على إيطاليا، في حين قام الثاني بالمواجهة غير المباشرة، واستغلال العوامل والظروف الدولية . فتوجهت مملكة سردينيا إلى المواجهة المباشرة مع النمسا، حيث نشبت ما يُعرف بحرب الاستقلال الأولى، سنة 1848 والتي انتهت بهزيمة الجيوش الإيطالية سنة 1849 ، رغم الانتصارات الأولية التي حققتها على حساب النمسا. وقد فشل هذا المسار في تحقيق الأهداف الوحدوية الإيطالية، بسبب التفاوت في القوة العسكرية بين النمسا ومملكة سردينيا، وكذلك عدم تماسك الجبهة الداخلية الإيطالية، بسبب اختلاف أنظمة الحكم، والمواقف الداخلية من الوحدة تحت قيادة سردينيا.

        أما المسار الثاني، فقد اعتمد على المواجهة غير المباشرة، من خلال إجراء حسابات سياسية، وصلت إلى حد "المقامرة"، من خلال المشاركة في حروب وتحالفات خارجية، على رأسها مشاركة مملكة سردينيا إلى جانب الحلفاء في حرب القرم(1853-1856)، في مسعى لنيل موافقة دول التحالف الرباعي، على توحيد إيطاليا تحت قيادة مملكة سردينيا، وهو المسعى الذي انتهى بالفشل بسبب المعارضة النمساوية الفرنسية.

        رغم ذلك فقد توصلت سردينيا إلى اتفاقيات سرية مع فرنسا، من أجل إقامة تحالف ضد النمسا، يقوم على تنازل سردينيا عن بعض المناطق لصالح فرنسا، مقابل تدخلها في الحرب ضد النمسا. وقد قامت على هذا الأساس مواجهة عسكرية سنة 1959 ، عُرفت باسم حرب الاستقلال الإيطالية الثانية، والتي قامت خلالها فرنسا بالتدخل العسكري، ضد النمساويين إلى جانب مملكة سردينيا. غير أن الفرنسيين توجهوا نحو إنهاء الحرب قبل تحقيقها لأهدافها، بسبب حسابات فرنسية منفردة، والتي تخوفت من اتساع مجال النفوذ البروسي.

        رغم عدم تحقيق كل الأهداف الإيطالية من هذه الحرب، إلا أن مملكة سردينيا حصلت على تنازلات عديدة، من النمسا عبر فرنسا، حيث تم الحصول على العديد من المناطق الإيطالية، عبر ضمها أولاً إلى فرنسا بموجب الاتفاق الفرنسي النمساوي، ثم تنازلت عنها فرنسا لصالح سردينيا، وفق بنود الاتفاق السري بين الدولتين، غير ان هذه الانتصارات المحدودة، لم تُنهي المسألة الإيطالية بشكل نهائي، حيث كان من الضروري تكرار المواجهة العسكرية مع النمسا، وقد تمثل ذلك في حرب الاستقلال الثالثة سنة 1866 ، حيث تحالفت سردينيا مع بروسيا، التي بادرت بإعلان الحرب على الإمارات الألمانية الواقعة تحت الهيمنة النمساوية، وبالتالي فقد تم إعلان الحرب على النمسا، هو نفس الموقف الذي اتخذته مملكة سردينيا، والملاحظ أن القوات الإيطالية المشاركة، لم تحقق انتصارات عسكرية على النمسا، باستثناء النصر الوحيد الذي حققته قوات غير نظامية. رغم ذلك فقد تضمنت الحرب تنازلاً نمساويا على آخر المناطق الإيطالية لصالح فرنسا، لضمان عدم دخولها في الحرب إلى جانب بروسيا، وبموجب الاتفاق السابق تنازلت فرنسا عن إمارة البندقية، لصالح مملكة سردينيا، على أن يتم ضمها إلى هذه الأخيرة بموجب استفتاء شعبي.

        انطلاقا من ذلك، فقد تم توحيد إيطاليا تحت سيطرة فيتكتور إمانويل ملك سردينيا، باستثناء إمارة روما، التي بقيت تحت الحماية الفرنسية، وتحت قيادة بابا الكنيسة الكاثوليكية. ولمعاجلة هذه الوضعية، انتظرت مملكة إيطاليا الجديدة، إلى غاية 1870 تاريخ الحرب الفرنسية البروسية، حيث اضطرت فرنسا لسحب قواتها العسكرية من روما، وهو ما أدى إلى ضم الإمارة الأخيرة إلى مملكة إيطاليا في نفس السنة.  غير أن هذه الإمارة بقيت تمثل مشكلة مستعصية على الحل، بسبب مواقف باباوات الكنيسة الكاثوليكية، الرافضين للخضوع للسلطة الجديدة. وقد استمرت المشكلة إلى غاية 1929 ، حيث عقدت السلطة المركزية اتفاقا مع البابا، يتم بموجبه اعتراف هذا الأخير بسلطة الدولة الإيطالية على كامل الإقليم، في مقابل اعتراف الدولة بسلطة البابا على إقليم ما يُعرف حاليا باسم الفاتيكان.

        * مسار الوحدة الألمانية :

        أحذت مسارات الوحدة الألمانية مسارات أقصر نسبيا، وبشكل مباشر مقارنة مع الحالة الإيطالية، حيث توجهت بروسيا إلى استغلال وضعها كقوة أساسية في أوروبا، من أجل تحقيق الوحدة الألمانية. وبذلك فقد اعتمدت ألمانيا على المحركات الداخلية، أكثر من الاعتماد على العوامل المساعدة، التي وفرتها البيئة الخارجية. ويُمكن تحديد مسارات الوحدة الألمانية فيما يلي:

        * المسار الاقتصادي والقومي الفعلي:  بدأ هذا المسار من خلال التأسيس لاتحاد جمركي يضم الإمارات الألمانية، تحت مسمى الزولفراين 1834، وقد شجع هذا الاتحاد على زيادة التبادل التجاري بين الإمارات الألمانية، وقد أدى ذلك بدوره إلى تدعيم البنية التحتية الضرورية، لمواكبة ارتفاع معدلات التبادل، وبذلك زادت حركية المواصلات فيما بين الإمارات، خاصةً فيما يتعلق بالسكك الحديدية، وتحول مؤشر التبادل التجاري إلى السوق الداخلية، أكثر من مؤشرات التجارة مع القوى والدول غير الألمانية.

        أدت الزيادة في حجم التبادل التجاري، وزيادة شبكة السكة الحديدة، إلى زيادة الاتصال فيما بين القوى السياسية الداخلية، خاصةً تلك التي تتبنى النزعة القومية الجرمانية، وهي القوى التي ستزيد من حضور الفكرة القومية، ضمن التفاعلات السياسية الداخلية، وبالتالي تكوين جبهة مؤيدة للوحدة، حتى داخل المقاطعات المؤيدة للنمسا، أو على الأقل الخاضعة لسيطرتها المباشرة .وعلى هذا الأساس يُمكن اعتبار تنامي الشعور القومي، في الأوساط السياسية والشعبية الداخلية، وكذلك ترابط الاقتصاديات الداخلية للإمارات الألمانية، تُشكل حالة من الوحدة الفعلية، غير أنه لابد من إعطاء هذه الوضعية، بعداً سياسيا يتمثل في إعلان الدولة الألمانية الموحدة، التي تحل محل الاتحاد الجرماني(الجمركي) المفكك، الذي تم إنشاؤه سنة 1815 ، ويخضع بشكل مباشر للإرادة النمساوية .

        المسار السياسي الوحدوي: تكملة للإنجازات المرتبطة بالاتحاد الاقتصادي، فقد كان من الضروري تهميش تأثير النمسا، ومن خلالها كل القوى الأوروبية، في الشأن الداخلي الألماني، وقد كان ذلك عبر سلسلة من المواجهات العسكرية، أهمها الحرب البروسية النمساوية، والحرب البروسية الفرنسية، فبعد ضمان المستشار الألماني بيسمارك حياد فرنسا، في أية مواجهة عسكرية محتملة مع النمسا، وبسبب خلافات مفتعلة من الجانب البروسي، حول إدارة الاتحاد الجرماني، أعلنت النمسا سنة 1866 الحرب على بروسيا، والتي انتهت بضغوط فرنسية، بسبب مخاوفها من استمرار الانتصارات البروسية، وقد تضمنت معاهدة الصلح )معاهدة براغ 1866 ( بين الطرفين، مجموعة من النقاط التي تخص المسألة الألمانية، وهي :

        - حل الاتحاد الجرماني المؤسس سنة 1815 .

        -  ضم المقاطعات محل خلاف بين النمسا وبروسيا إلى هذه الأخيرة، ويتعلق الأمر بمقاطعتي هالشتاين وشولزويخ.

        -  ضم بعض الإمارات الألمانية إلى السيادة البروسية.

        -  تكوين اتحاد ألماني يضم إمارات ألمانية تحت الإدارة المباشرة لبروسيا.

        - إقامة تحالف بين بروسيا وبقية الإمارات غير العضوة في الاتحاد، تضع بموجبه جيوشها تحت تصرف بروسيا عند الحاجة.

        كما تضمنت المعاهدة مجموعة من النقاط الأخرى تخص كل من النمسا وإيطاليا، تشمل تقر ير مصير إمارة البندقية التابعة للإمبراطورية النمساوية .

        أثرت نتائج الحرب البروسية النمساوية، على طبيعة العلاقات البروسية الفرنسية، حيث بدأت المخاوف الفرنسية من الطموحات الوحدوية البروسية، وما قد يمكن أن ينتج عنها من اختلاف في ميزان القوى بين الدولتين، والذي لن يكون في صالح فرنسا، وعلى إثر ذلك ظهرت مؤشرات قوية، تتضمن مواجهة عسكرية بين الدولتين، حيث بقيت فرنسا القوة الأوروبية الوحيدة، التي تُعارض الوحدة الألمانية، وقد بدأ مسار الحرب قبل سنة 1870 ، حيث انطلقت بروسيا في أنشطة دبلوماسية، جردت من خلالها فرنسا من كل الحلفاء المحتملين، ولم يبقَ لفرنسا إلا وعد بالدعم قدمته النمسا، التي انسحبت كليا من محاولاتها للتأثير على السياسات الأوروبية، بعد هزيمة 1866.

        بدأت الحرب البروسية الفرنسية سنة 1870 ، بسبب خلاف بين الدولتين حول عرش إسبانيا، حيث طالبت فرنسا بضمانات بروسية بعدم التدخل في الشؤون الإسبانية، التي كانت ضمن مجال النفوذ الفرنسي، وهو الطلب الذي رفضته بروسيا. وتذهب الدراسات التاريخية إلى أن بروسيا قد تراجعت فعلاً عن موقفها تجاه العرش الإسباني، في حين قلل نابوليون الثالث من تأثير الرفض البروسي للمطالب الفرنسية. وبذلك فإن استكمال الوحدة الألمانية وفق بيسمارك سيأخذ وقتا أطول، وهو ما دفع هذا الأخير إلى تعديل محضر الاجتماع الذي دار بين السفير الفرنسي والملك البروسي، ما أدى إلى إعلان فرنسا الحرب، كرد فعل على إهانات وجهها ملك بروسيا للدولة الفرنسية، رداً على أسلوب غير لائق في الحديث من طرف السفير

        الفرنسي. وانتهت الحرب سنة 1871 ، بهزيمة فرنسية أنهت الإمبراطوية ودفعت إلى إعلان الجمهورية، ومن جهة مقابلة إعلان تأسيس ألمانيا الموحدة، التي ستنجح لاحقا في تأسيس إمبراطورية قوية .

        ثالثا: العلاقات الدولية قبل الحرب العالمية الأولى :

        استمر النمط القائم في العلاقات الأوروبية، بعد انتهاء الحرب البروسية الفرنسية وتوحيد ألمانيا سنة 1871، حيث بدأت مرحلة جديدة لإعادة ترتيب الأوضاع الأوروبية، وفق وجهات نظر متباينة، تنعكس من خلال:

        -          مساعي ألمانية للحفاظ على الوضع القائم بعد الحرب البروسية الفرنسية .

        -          مساعي النمسا وإيطاليا لإعادة النظر في الحدود القائمة، مع رغبة نمساوية للاحتفاظ بمنافذ على البحر المتوسط .

        -          مساعي روسية للعودة للتأثير على الساحة الأوروبية، بعدما فقدت تأثيرها بعد هزيمتها في حرب القرم.

        -          مساعي نمساوية لإعادة النظر في تقسيم مناطق شرق ووسط أوروبا، بين القوى الأساسية، والمطالب القومية السلافية .

        وعليه، فقد تميزت العلاقات الأوروبية، خلال المرحلة الممتدة ما بين 1871 إلى غاية1914، بانتهاء تأثيرات القواعد التي تم إقرارها سنة 1815 . رغم ذلك فقد استمرت السياسيات القائمة على الحفاظ على الوضع الراهن، الذي تم إقراره بعد الحرب البروسية الفرنسية. غير أن السياسات الأوروبية لهذه الفترة، كانت تُشكل باستمرار مسيرة متسارعةً، نحو مواجهة عسكرية جديدة، ستعرف باسم الحرب العالمية الأولى .

        1/ السياسات الألمانية المحافظة:

        عُرفت السياسات الألمانية منذ 1871 ، باسم السياسات البيسماركية، حيث انعكست توجهات المستشار الألماني، على التوجهات العامة للسياسة الخارجية الألمانية. وقد استهدفت ألمانيا خلال هذه المرحلة، الممتدة إلى غاية 1890 ، تاريخ استقالة بيسمارك من منصبه بعد خلافات كثيرة مع القيصر فيلهلم غيوم الثاني.

        تميزت السياسة الخارجية الألمانية في هذه المرحلة، بتجنب الدخول في أية مواجهات عسكرية في أوروبا، بهدف المحافظة على المكاسب المحققة سنة1871، حيث اعتبر بيسمارك أن اية مواجهة مع أي دولة أخرى، تعني الحرب على جبهتين، بسبب الاستعداد الفرنسي الدائم، من أجل استعادة الألزاس واللورين. لذلك فقد تمت إقامة مجموعة من التحالفات، وكذلك التفاهمات بين ألمانيا والقوى الأوروبية الأخرى باستثناء فرنسا، وهو ما عُرف باسم النظام البيسماركي للأحلاف، والذي شمل مجموعة من القواعد المتفق عليها بين كل من ألمانيا، روسيا، وكذلك النمسا والمجر. وقد أخذ هذا النظام صورتين أساسيتين هما :

        النظام البيسماركي الأول (وفاق الإمبراطوريات) : بدأ هذا النظام سنة 1872 ، باجتماع ضم كل من ألمانيا، النمسا، روسيا، من أجل وضع أسس العلاقات بين الدول الثلاث، تهدف منع تحول أي خلاف بينها، إلى نزاع مسلح يستدعي التدخل الفرنسي، وبذلك فقد تم الاتفاق على الحفاظ على الوضع الراهن في أوروبا، من خلال :

        -          عقد اتفاقية تحالف بين الدول الثلاث، تتعهد بموجبه بتقديم المساعدة العسكرية في حال تعرض إحداها لعمل عسكري خارجي، بحيث يتم تقديم قوة عسكرية مكونة من 200 ألف جندي.

        -          الاتفاق بين الدول الثلاث على ضرورة التشاور المستمر، فيما يخص القضايا المختلفة، والخلافات التي يُمكن أن تنشأ بينها.

        وقد أدت أزمة البلقان وتعارض المواقف بين روسيا والنمسا، إلى انهيار هذه التفاهمات، لتلجأ ألمانيا إلى دفع الدولتين إلى وضع قواعد جديدة. حيث تم الاتفاق سنة 1881 ، على حياد الدول الثلاث، في حال دخول إحداها في حرب ضد دولة أخرى، وهو ما يعني عدم تدخل كل من روسيا والنمسا، في أية مواجهة عسكرية تنشأ بين ألمانيا وفرنسا.

        النظام البيسماركي الثاني( الحلف الثلاثي): تضمن هذا النظام مجموعة من الاتفاقيات العلنية والسرية، حول تأسيس حلف دفاعي بين كل من النمسا وألمانيا، تتعهد فيه الدولتان بتقديم المساعدة العسكرية، في حالة قامت روسيا بمهاجمة إحداهما، وقد انضمت إيطاليا إلى هذا الحلف، من أجل التأثير على الأوضاع الداخلية، على اعتبار أن كل من النمسا وألمانيا تضمان أغلبية كاثوليكية، وهو ما قد يساعد في عزل البابا ودفعه إلى تغيير موقفه من الوحدة الإيطالية، والتي أفقدته السلطة السياسية على الإمارة البابوية )روما(. وقد تعهدت الدول المعنية )روسيا، النمسا، ألمانيا، إيطاليا(، بتقديم المساعدة العسكرية، وفق كيفيات محددة، بحيث تضمن الدول الثلاث الدعم في حال تعرضها لعمل عدواني من طرف دولة أخرى غير عضوة في التحالف، أو على الأقل تضمن عدم تدخل الدول الأعضاء، في حال قيامها بعمل عسكري ضد دولة أخرى من غير الدول الأعضاء.

        لذلك، فقد كانت فرنسا هي المستهدف الأول، من وجهة النظر الألمانية والإيطالية، على اعتبار أنها تشكل

        تهديداً لاستمرار الوحدة، في حين تضمنت التدابير المتضمنة في هذه الاتفاقيات، محاولةً لتخفيف التوتر الروسي النمساوي، حول مجال النفوذ في البلقان، وحرية الملاحة في الأنهار والمضائق التي كان جزء كبير منها تحت السيطرة العثمانية، ومحل أطماع روسية نمساوية متعارضة.

        2 / معضلة منطقة البلقان:

        واجهت ألمانيا معضلة حقيقية، شكلت عائقا أمام مساعيها لمنع المواجهة العسكرية، التي قد تشكل تهديداً لوضعها المتميز، الذي حصلت عليه بعد انتصاراتها على النمسا سنة 1866، وعلى فرنسا سنة1870. فقد كان من الصعب إيجاد توافق في المصالح المتضاربة بين روسيا والنمسا، حيث ارتبط هذا التضارب بسياسات صفرية، من أجل الاستيلاء على ممتلكات الدولة العثمانية في أوروبا، خاصةً في منطقة البلقان. ويظهر هذا التضارب من خلال:

        -          سعي روسيا للتأسيس لحقوق حماية الشعوب السلافية، في منطقة البلقان الخاضعة  للنفوذ الفعلي والإسمي العثماني .

        -          سعي النمسا لتوسيع منافذها البحرية على البحر المتوسط، وحماية مجال نفوذها من تأثير السياسات الروسية، تجاه مسألة القومية السلافية، حيث تضم النمسا جزءً كبيراً من القومية السلافية ضمن مجال نفوذها .

        -          سعي الدولة العثمانية من أجل استمرار سيطرتها على ممتلكاتها، في البوسنة، صربيا، وكذلك بلغاريا ورومانيا.

        وقد استمرت المسألة البلقانية دون حلول جذرية إلى غاية 1914 ، حيث أسفرت الأحداث التاريخية منذ 1874  عن تغيرات كبيرة، في السيطرة على منطقة البلقان، دون إنهاء المطالب الإقليمية، أو الحركات الثورية القومية، فقد فقدت الدولة العثمانية سيطرتها على العديد من الأقاليم في شرق أوروبا، مثل بلغاريا ورومانيا، إضافة إلى صربيا في منطقة البلقان، وانتقال الإدارة على شؤون البوسنة والهرسك، إلى الإمبراطورية النمساوية، رغم بقاء المنطقة تابعة إسميا للسلطة العثمانية.

        وقد استمرت المطالب القومية في التأثير على سياسات الدول، حيث كانت سببا فيما يُعرف بحرب البلقان سنة 1912 ، الناتجة عن سلسلة من الأحداث التي بدأت سنة 1908 بإعلان النمسا ضم إقليم البوسنة والهرسك نهائيا إلى أراضيها، وانتهت بتوجه الحلف البلقاني )بلغاريا، اليونان، الجبل الأسود، صربيا(، إلى إعلان الحرب على الدولة العثمانية، بدعم من روسيا الراغبة في انتزاع السيطرة على المضائق )البوسفور والدردانيل(، من العثمانيين، وقد انتهت هذه الحرب سنة 1913 ، بمزيد من التنازلات العثمانية، لصالح النمساويين ودول الحلف البلقاني.

        كما عرفت المنطقة حربا جديدة عُرفت باسم حرب البلقان الثانية سنة 1913 ، والتي نشبت بسبب قيام بلغاريا بمهاجمة كل من صربيا واليونان، بسبب اقتطاعهما لأراضي بلغارية، وقد أدى ذلك إلى تجدد الحرب مع الدولة العثمانية، التي رغبت في استعادة بعض الأقاليم التي فقدتها لصالح بلغاريا، وقد أدت الهزيمة التي لحقت ببلغاريا إلى زيادة القوة الصربية في منطقة البلقان، في مواجهة بقية دول المنطقة، وهو ما دفعها إلى محاولة استعادة بعض الأقاليم البلقانية من النمسا، وهو ما أدى في النهاية إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى.

        3/ نهاية المركزية الأوروبية Eurocentrism :

        تركزت العلاقات الدولية لفترات زمنية طويلة، في التفاعلات الأوروبية بشكل خاص، حيث تميزت التفاعلات خارج القارة بكونها ذات تأثيرات هامشية، خاصةً إذا لم تكن إحدى الدول الأوروبية منخرطة فيها، غير أن نهاية القرن 19 ، الذي عرف هيمنة ألمانية على السياسات الدولية الأوروبية، دفع دولاً أخرى إلى محاولة توسيع نطاق سياساتها إلى خارج الإطار الأوروبي، وتمثل روسيا أبرز الأمثلة على ذلك. والتي توجهت إلى محاولات التوسع في الأقاليم الآسيوية، لتعويض خسائرها الإقليمية في أوروبا بعد هزيمتها في حرب القرم، وفشلها في استعادة تأثيرها في العلاقات الأوروبية.

        بالموازاة مع ذلك فقد أدت حركة التجارة، وتصاعد حركات التحرر من السيطرة الأوروبية، إلى ظهور الكثير من الدول الجديدة، في القارتين الأمريكية والآسيوية. حيث اكتسبت الصين والهند أهمية كبيرة في السياسة الخارجية البريطانية، التي توجهت نحو زيادة تواجدها العسكري، بالموازاة مع تزايد أنشطتها التجارية، كما أن فقدان إسبانيا لسيطرتها على المستعمرات الأمريكية، أدى إلى تراجع نفوذها في أوروبا، وقيام الكثير من الدول الجديدة، التي خضعت بشكل مباشر للتأثير الأمريكي، تجسيداً لمبدأ مونرو 1823 ، المعروف بشعار "أمريكا للأمريكيين".

        إضافة إلى ذلك، فقد توجهت ألمانيا بعد 1890  واستقالة بيسمارك من منصب المستشارية، إلى محاولة إعادة النظر في التقسيم القائم للمستعمرات الإفريقية، وتعتبر أزمة أغادير 1911 ، كأحد أهم الأحداث في هذا السياق، حيث شكلت التحركات العسكرية الألمانية، للمطالبة بمناطق السيطرة في المغرب، وفي مقابل ذلك هددت فرنسا بإعلان الحرب على ألمانيا، غير أن الأزمة تم حلها بالمفاوضات بين الدولتين، وبموجب اتفاق بينهما تتخلى ألمانيا عن مطالبها في المغرب، مقابل حصولها على مناطق في إفريقيا كتعويض .

        وأخيراً، فرغم التسويات المختلفة للمطالب القومية والإقليمية، إلا أن الدول الأوروبية الأساسية، لم تتمكن من إيجاد تسوية دائمة للأزمات البلقانية، فكل المطالب كانت ذات طبيعة صفرية، لا يمكن التوصل ضمنها إلى حلول وسط، وبالتالي فقد كانت هذه الأزمات لا يمكن التوصل إلى حل حولها، إلا من خلال تسويات ما بعد الحرب، وقد كان هذا الوضع السبب الذي دفع بأوروبا في المقام الأول، ثم العالم ككل إلى الانزلاق سنة 1914 ، إلى الحرب العالمية الأولى، والتي لم يسبق لأي من الدول الأوروبية الأساسية، ان شهدت صراعا متعدد الأطراف بهذا الحجم، او بنفس النتائج المترتبة عنها.

        • العلاقات الدولية بين الحربين العالميتين