المحاضرة رقم 02: العلاات الدولية: المسارات التاريخية لتشكيل المفهوم
تمهيـــــــــــد:
تشكلت التفاعلات الدولية في مبدئها البسيط، منذ تشكيل الجماعات الإنسانية الأولى، والتي وُجدت فيما بينها علاقات التعاون، النزاع، والتنافس...إلخ. ثم أخذت هذه التفاعلات، بشكل تدريجي أشكالاً أكثر تعقيداً، مع تطور بنية هذه الجماعات، وأهدافها، وكذلك تفاوت مستويات القوة المادية وغير المادية. يُمكن -انطلاقاً من ذلك- القول، أن تشكيل العلاقات الدولية، يمتد إلى عصور قديمة جداً، بدأ من خلال سلوكات فردية وجماعية غير سياسية، ارتبط أولاً بسعي الجماعات لضمان البقاء. وقد تم ذلك من خلال تشكيل مفهوم "المصلحة"، المتمحور حول "مناطق النفوذ"، والتي تنعكس من خلال مناطق الصيد والرعي، ومختلف الموارد المساعدة على البقاء. غير أن هذه التفاعلات لم تتخذ تسميتها المعروفة، إلا خلال النصف الأول من القرن الـ20، تحديداً خلال مرحلة ما بين الحربين، حيث انتشرت مصطلحات السياسة الدولية International Politics، والعلاقات الدولية International Relations...إلخ.
يظهر في مقابل هذا التصور العام، تصور آخر يرفض إطلاق وصف العلاقات الدولية، على التفاعلات التي وقعت فيما بين الجماعات الإنسانية. ويؤرخ هذا التصور انطلاقاً من ذلك، لمسارات تشكيل العلاقات الدولية، من ظهور الجماعات المنظمة سياسياً، أو بتعبير آخر الدول، انطلاقاً من دولة المدينة القديمة. وتكمن وجاهة هذا التصور، في أن ربط التفاعلات المختلفة، المتدرجة بين حدي الحرب والسلام، لم تأخذ مضمونها السياسي إلا مع تشكيل الدولة والمؤسسات السياسية. وقد أضاف المتغير الجديد -أي الدولة-، القدرة على تفسير هذه التفاعلات عبر التاريخ، وإمكانية التوصل إلى وضع قواعد عامة لتفسير أنماط السلوك. وقد سمحت هذه الإضافة، للمؤرخ اليوناني ثيوسيدايد Thucydides (460 ق.م-395 ق.م)، من التأريخ لظاهرة الحرب بين مدن بلاد اليونان، من منطلق دولاتي محض، أي من منظور الأهداف الوطنية، والتحالفات وتوازن القوى، بعيداً عن الخلفيات الأسطورية، التي عادةً ما كانت ترافق التأريخ للحروب.
انطلاقاً من ذلك، فإنه رغم التشابه بين تفاعلات الجماعات الإنسانية الأولى، والعلاقات القائمة منذ القديم بين الدول، فإنه لا يُمكن طرح مفهوم العلاقات الدولية، إلا بشكل متصل بظاهرة الدولة. فالظواهر المتضمنة بين مفهومي الصراع والتعاون، لا تنشأ بنفس المضامين، الأهداف والنتائج، ضمن الجماعات الإنسانية والدول، حيث ترتبط بأبعاد أكثر تعقيد من مجرد ضمان البقاء الفيزيولوجي للجماعة. فهذه الأخيرة تتعامل مع التهديدات القائمة فعلاً، بينما تتعامل الدول منذ القديم حتى مع التهديدات المحتملة، ومنها ما أطلق عليه غراهام أليسون G. Allison Jr، وصف "فخ ثيوسيديد The Thucydides Trap".
رغم الطابع المتغير لخصائص الدول، والمجتمع الدولي بشكل عام، عبر المراحل التاريخية المختلفة، إلا أن الخصائص الأساسية لأنماط السلوك الدولي، تبقى ثابتة إلى حد كبير. وهو ما يدفع إلى التساؤل، حول التأثير الذي مارسته المسارات التاريخية المختلفة، على تشكيل مفهوم العلاقات الدولية، كما هو متعارف عليه في العصور الحديثة. وتتطلب الإجابة على هذا التساؤل، التطرق إلى المحاور الكبرى لتطور مفهوم العلاقات الدولية، أي التطرق إلى المفهوم خلال العصور القديمة، الوسطى وأخيراً العصور الحديثة والفترات المعاصرة.
أولاً: العصر القديم: فجر العلاقات الدولية:
يمتد العصر القديم تاريخياً، من اختراع الكتابة حوالي سنة 4000 ق.م، إلى غاية سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، على يد القبائل الجرمانية، سنة 476 م. غير أنه يُمكن القول -من حيث المبدأ-، أن انطلاق مسار تشكيل التفاعلات الخارجية، بدأ دون شك مع تشكيل الجماعات الإنسانية الأولى، المتميزة بالاستقلالية والاكتفاء الذاتي. وقد تشكلت هذه التفاعلات بشكل أساسي، حول التبادلات التجارية لفائض الإنتاج، أو الصراع والتنافس حول مناطق الصيد...إلخ. وقد تضمنت هذه العلاقات، صوراً مختلفة من العنف والتعاون، تركزت بشكل أساسي حول هدف البقاء، وتوسيع مجال النفوذ، من أجل تلبية الحاجات الأساسية. ومن بين التصورات المكونة حول هذه الفترة، نجد التصور الماركسي للتاريخ، ضمن مسار المادية التاريخية، أو نتائج البحوث المجراة في مختلف العلوم الاجتماعية، على رأسها علم التاريخ، الآثار وكذلك علم الاجتماع. وقد شكلت هذه الافتراضات، كما تمت الإشارة إليه، موضوعاً للنقاش حول إدماج هذا الشكل من التفاعلات، ضمن إطار العلاقات الدولية، بسبب الاختلاف الجوهري بين تركيبة الجماعات الإنسانية الأولى، وأهدافها ووسائل تحقيقها لأهدافها، وبين الدول بتركيبتها، أهدافها وسياساتها الخاصة.
انطلاقاً من ذلك يُمكن الافتراض، أن صور التعاون والتنافس، بين القبائل والجماعات الإنسانية البدائية، تفتقد للطابع السياسي المميز للعلاقات الدولية، والمرتبط بشكل أساسي بالدولة كمحور للتفاعلات. لهذا فإن دراسة التفاعلات الدولية خلال العصور القديمة، يتمحور حول العلاقات التي قامت بين الدول، رغم نفي بعض تأكيد بعض التصورات، على أن دراسة هذا الموضوع، يرتبط حصرياً بنهاية الحروب الدينية، من خلال معاهدة ويستفاليا Westphaly سنة 1648. بينما يُمكن نفي هذا الافتراض، من خلال أشكال العلاقات الدولية، التي ظهرت قبل هذا التاريخ بفترات طويلة، كما أن الكثير من المبادئ والأعراف الدبلوماسية، قد تم إقرارها خلال العصر القديم.
شهد العالم القديم، الكثير من المظاهر وأنماط السلوك، التي تعكس بدرجات متفاوتة إرادة الدولة، وتتدرج بين حدّي التعاون والصراع. فقد عرفت الحضارة المصرية القديمة، توجهاً نحو تأمين حدودها الشرقية، من خلال التوسع على حساب الدول المجاورة، من أجل تفادي التهديدات المتمثلة بشكل خاص في الغزوات الخارجية. وينعكس هذا السلوك في العصور الحديثة، من خلال سعي القوى الكبرى، لإقامة ما يُعرف بالمناطق الحاجزة Buffer zones، باعتبارها خط الدفاع الأول ضد الاعتداءات الخارجية.
ظهرت خلال هذه الفترة كذلك، الكثير من المظاهر المرتبطة بالدبلوماسية والتنظيم الدولي، والتي يُمكن اعتبارها كذلك، مقدمة لظهور القانون الدولي. فقد اُعتبرت معاهدة قادش، أول معاهدة في التاريخ الإنساني، أُبرمت سنة 1259 ق.م، بين المصريين والحثيين. وقد تضمنت الكثير من المبادئ المتضمنة في العلاقات الدولية المعاصرة، مثل الدفاع المشترك، والدعم المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، إضافةً إلى تقنين مبدأ تسليم المطلوبين (مجرمين، معارضين سياسيين...إلخ). وتنبع أهمية هذه المعاهدة من بعدين أساسيين، فهي من جهة -كما سبقت الإشارة إليه-، تُعد مصدراً لبعض المبادئ المُنظمة للعلاقات الدولية، إلى غاية العصر الحديث والمعاصر. أما البعد الثاني، فيتعلق بالقراءة العميقة للواقع الدولي، حيث جاءت المعاهدة في ظل عدم قدرة الطرفين على حسم الصراع العسكري بينهما، وكذلك الرغبة في مواجهة قوى صاعدة في النظام الدولي القائم، إضافةً إلى قراءة الوضع السياسي الداخلي في كل من الدولتين. وهو ما يجعل من العلاقات الدولية، في العصور القديمة، مشابهة إلى حد كبير للعلاقات الدولية المعاصرة، انطلاقاً من توفر مبادئ مشتركة، مثل العقلانية كأساس لاتخاذ القرار، الارتباط بين البيئتين الداخلية والخارجية...إلخ.
يُضاف إلى ذلك، المبادئ العامة، المُنظمة للعلاقات الدولية، في كل من الحضارة اليونانية القديمة، وكذلك الحضارة الرومانية، التي يُنسب إليها الكثير من مبادئ القانون الدولي. ففي العصر اليوناني، تم تشريع مبادئ مجلس دلفي الاتحادي، التي تُنظم العلاقات بين المدن اليونانية في أوقات الحرب والسلام، خاصةً مقف المدنيين، التعامل مع الأسرى والمصابين، موقع دور العبادة...إلخ. فقد أسس اليونانيون لمبدأ الأحلاف السياسية والعسكرية الدائمة، إضافةً إلى وضعهم للنواة الأولى للتنظيم الإقليمي الذي جسده مجلس دلفي، باعتباره تجمعاً كونفدرالياً، مهمته الأساسية تنظيم العلاقات بين المدن اليونانية. وحاول هذا المجلس كذلك، توفير الفرص لمنع اللجوء إلى القوة العسكرية، من خلال عقد اجتماعات دورية بين المدن، وتوفير ظروف التفاوض ومحاولة الوصول إلى التسويات والحلول الوسط.
أما في العصر الروماني، وبشكل خاص قبل اعتناق الإمبراطورية للدين المسيحي، فقد اهتمت بشكل كبير بإدارة علاقاتها ببقية الشعوب والدول، باللجوء إلى وسيلتين متناقضتين إلى حد كبير. فقد زاوجت الإمبراطورية الرومانية عبر مختلف مراحل تطورها (العهد الملكي، الجمهوري والإمبراطوري)، بين القوة العسكرية والمبادئ القانونية. فإلى جانب الأسلوب السائد في العصر القديم، القائم على عدم ثبات الحدود السياسية، وإمكانية تعديلها بموجب تغير موازين القوى، أقر الرومان مبدأ احترام الالتزامات الدولية. وذلك من خلال احترام الاتفاقيات والمعاهدات المبرمة مع غيرها من الدول. لذلك يحصل السفراء والدبلوماسيون على الحصانة، كما يحصل المواطنون العاديون على الحماية، بقوة القانون الروماني.
تماشت هذه الخصائص والمبادئ العامة، التي حددت ملامح العلاقات الدولية في هذه المرحلة، مع طبيعة هذا العصر، المتميز بالتغير المستمر وعدم الثبات. وبالتالي فقد تميز هذه المبادئ بدورها، بعدم الثبات والاستمرارية، رغم أنها في نفس الوقت شكلت نواةً لمختلف مبادئ العلاقات الدولية المعاصرة. فحتى المبادئ القانونية والدينية، لم تكتسب طابعاً إلزامياً، إلا بما يدعمها من قوة عسكرية، وتوسيع في مجال التأثير، وهو ما يتماشى إلى حد كبير مع التصور العام، المكون حول تفاعلات العلاقات الدولية المعاصرة.
ثانيًا: العصور الوسطى: بداية تشكيل المفهوم:
يبدأ التأريخ للعصور الوسطى، بسقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية سنة 476 م، وانتشار حالة التفكك في أوروبا الغربية، وانتقال مركز القوة والسيطرة العالميين، إلى الإمبراطوريات الشرقية، وبشكل خاص الإمبراطورية البيزنطية، والإسلامية. ورغم ضرورة الإقرار بالوضع العام في الغرب والشرق، إلا أن هناك الكثير من الخصائص العامة للعلاقات الدولية، وعلى رأسها هيمنة الدين، كأساس لاختيار أنماط السلوك، وفي نفس الوقت كأساس لتأويل وتفسير سلوك الغير. رغم ذلك يُمكن القول أن الكثير من السياسات، على أنها سياسات قائمة على القوة بمختلف أشكالها، وأبرزها القوة العسكرية أو الصلبة.
دخل الدين كأحد أهم المتغيرات الإضافية، المؤثرة على العلاقات الدولية، بفرضه كمعيار لتصنيف أطراف التفاعل، نظرتها للآخر. فقد تحولت التفاعلات بين أطراف البيئة الدولية، إلى علاقات قائمة على أساس الإيمان الديني، وبذلك يكتسي الفاعل طابع المؤمن أو الكافر، وعلى هذا الأساس، يتم تحديد أنماط السلوك تجاهه، وأوجه ردود الفعل على تصرفاته. ويظهر في هذا الصدد، انتشار الحروب الدينية، على المستويين الداخلي والخارجي، كأهم مثال على تبرير السلوك العنيف، تجاه بقية أعضاء لمجتمع الدولي.
يُضاف إلى الخصائص السابقة، انتشار الإقطاع كنظام اقتصادي، وكذلك كنظام سياسي وإداري، وارتبط ذلك بتغير طبيعة علاقة السلطة المركزية في الدولة، مع المقاطعات التابعة لها. والتي ترتبط بها برابطة الضرائب السنوية، وضرورة تقديم الدعم العسكري عند الحاجة، فيما تتمتع هذه الإمارات أو المقاطعات، باستقلالية واسعة النطاق، في إدارة شؤونها الداخلية. حيث يُمكنها الاندماج في مختلف التفاعلات، السياسية منها أو الاقتصادية، دون انتظار الموافقة المسبقة من السلطة المركزية، وتبقى هذه الاستقلالية ضمن نطاق محدد، وهو البقاء ضمن نطاق سيادة الدولة. رغم أن هذا المفهوم لم يصل بعد، خلال هذه المرحلة إلى معانيه الحديثة، التي يتعارض معها تعدد المراكز العسكرية، وغياب احتكار السلطة المركزية للقوة.
أما على مستوى هيكل النظام الدولي خلال هذه المرحلة، فإن سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، أدى إلى ظهور العديد من الدول، في شكل ممالك، إمارات أو إمبراطوريات جديدة، بشكل خاص في أوروبا الغربية. وقد تميزت هذه الدول، بتفاوت درجات القوة، وبالتالي تعدد الأدوار التي تؤديها كل منها، غير أنها في المقابل لم تصل إلى الصورة النهائية للدولة. فقد كان بعضها مؤقت الوجود، من خلال ممارسة دور الدولة الحاجزة Buffer State، في حسن سعت دول أخرى إلى مواصلة التطور، والوصول إلى تكوين إمبراطوريات إقليمية، مثل الإمبراطورية الرومانية المقدسة. فالتفاعلات السياسية الدولية، أصبحت تتم بشكل أكثر فأكثر، ضمن نادي الدول "ذات السيادة"، مقارنةً بالتفاعلات العصور القديمة. حيث بدأت في الظهور خلال هذه المرحلة، بوادر معاني الأهداف والمصالح الوطنية، رغم أنها كانت أكثر ارتباطا بالحاكم، أكثر من ارتباطها بالدولة.
استمراراُ لخضوع العلاقات الدولية، بشكل كبير لهيمنة العامل الديني، والذي شكل مُحدداً مهماً للفواعل، من أجل تحديد طبيعة العلاقات فيما بينها. وينطبق ذلك بشكل واضح، على التصورات المشكلة من الدول المسيحية والإسلامية، على حد سواء، خاصةً بعد تحول العالم الإسلامي، إلى تأسيس الإمبراطورية الإسلامية، مع تأسيس الدولة الأموية في دمشق (41-132هـ - 662- 750م). أما فيما يخص العالم المسيحي، فقد خضع بشكل كبير لهيمنة الكنيسة الكاثوليكية، من النواحي الدينية، السياسية وكذلك الاجتماعية. حيث تم تقسيم العالم بناءً على ذلك، إلى مؤمنين يحضون بالحماية، في تعاملاتهم المختلفة، وكفار تكون العلاقة معهم حالة مستمرة من الصراع.
وبناءً على هذا التقسيم، فقد وضع المسيحيون والمسلمون تصوراتهم، حول طبيعة العلاقات الدولية، والتي أخذت طابعاً مذهبياً، حدد مضمون العلاقة بين الدول والشعوب. فوفقاً للتصور المسيحي، فقد تم تقسيم الشعوب إلى فئتين، تضم الأولى المسيحيين، أو المؤمنين بتعبير آخر، بينما ينتمي غير المسيحيين إلى فئة الكفار. ويتوقف على ذلك، درجة التزام هذه الدول، بقواعد الحرب والسلام، والاتفاقيات الدولية، وغيرها من القواعد والأعراف الدولية غير المكتوبة. فخلال هذه المرحلة لم يتم التوصل بعد، إلى وضع قواعد دولية معترف بإلزاميتها، بل اقتصر الأمر على مبادئ مستمدة من المعتقد الديني. لذلك فقد كان قسم كبير من العلاقات الدولية للدول المسيحية، يخضع بشكل مباشر/غير مباشر، لسلطة الكنيسة الكاثوليكية، والتي كانت أحد أهم مصادر شرعية/لا شرعية السلوك الدولي. فقد منحت السلطة الدينية، مباركتها للكثير من السياسات الخارجية، التي تمت تحت شعارات دينية، مثل قرارات مجمع لاتران الرابع سنة 1215، بمنح الغفران لكل من يشارك في الحملة الصليبية.
إضافةً إلى ذلك، فقد وضع المفكرون المسيحيون، تصورات حول الحرب والسلام، بناءً على الانتماء الديني، مثل التصورات حول الحروب المشروعة وغير المشروعة، وأفكار القديس أغسطين حول الحروب العادلة. ويعتبر أن "الحكيم يستل سيفه كما قيل في سبيل العدل...لأنه لو لم يكن أمام حرب عادلة، لما قام بها الحكيم، ولما كان عليه أن يقاتل. ظلم العدو يفرض على الحكيم أن يتسلح دفاعاً عن العدالة...وظلم الإنسان هو الذي يأسف له الإنسان، ومن ثم ألا ينتج عن ذلك الظلم حاجة ماسة إلى القتال؟". وينطبق نفس المبدأ على تصور المسلمين للحرب العادلة، والتي اتخذت تسمية "الجهاد"، أي الحرب لأسباب دفاعية، من أجل صد اعتداءات خارجية، أو مواجهة قوى أخرى لحماية الدين الإسلامي. وقد أضفى الطابع الدفاعي للحرب، وفق تصورات المسيحيين والمسلمين في العصور الوسطى، صفة المشروعية على العمل العسكري، كآلية لتحقيق الأهداف الوطنية للدول، وقد لعب الإيمان الديني دوراً أساسياً في شرعنة الحرب خلال هذه المرحلة.
أما العالم الإسلامي، فقد تميز بسيطرة إمبراطورية واحدة، تمثلت أولاً في الدولة الأموية، والتي تلتها الدولة العباسية، والتي تمكنت من فرض هيمنتها، على جزء كبير من العلاقات الدولية خلال هذه الفترة. وعلى عكس العالم المسيحي، فقد أضافت الدولة الإسلامية، أبعاداً إضافية لتفاعلات العلاقات الدولية، تتجاوز إلى حد كبير الحدود الفاصلة بين الانتماءات الدينية. فالعلاقات مع غير المسلمين، تقع تحت طائلة مبادئ قانونية صارمة، مستمدة من مبادئ الشريعة الإسلامية. فالعلاقات الخارجية تخضع لمبدأ احترام الالتزامات، من خلال تقسيم الجوار إلى ثلاثة أقسام مختلفة، حسب الانتماء الديني، وحسب درجة الالتزام للدولة الإسلامية. وهذه الأقسام هي:
دار السلم/الإسلام: وتُعرف على أنها البلاد التي تُحكم بسلطان المسلمين، وتكون المنعة والقوة فيها للمسلمين، ويكون الدفاع عنها فرض عليهم، وفق حالات مختلفة. بحيث يمتد حكمه الفقهي، من فرض الكفاية، في حالة عدم نجاح العدو في اقتحامها، إلى فرض عين على أعضاء دار السلم، في حالة السيطرة عليها من العدو. أي أن دار السلم بذلك، هي المناطق التابعة للدولة الإسلامية، حيث تُطبق فيها تعاليم الدين الإسلامي، سواءً فيما يتعلق بالشؤون الخاصة بالمسلمين، او غيرهم من معتنقي الديانات الأخرى. وعليه فإن العلاقات بين أعضاء هذا المجتمع، تكون خاضعة لمبادئ القوانين والشرائع الإسلامية، سواءً كانت دار السلم موحدة أو متفرقة. علماً أن الدولة الإسلامية عبر التاريخ، قد تركت لمعتنقي الديانات الأخرى بإدارة شؤونهم الخاصة، وفق معتقدهم الديني.
دار الحرب: يتفق الفقهاء والباحثون، أن دار الحرب لا تتمتع بنفس خصائص دار السلم، حيث لا تخضع لحكم مبادئ وتعاليم الدين الإسلامي. غير أن الخلاف ينشأ في مدى آلية اعتبار الدول المخالفة آليا، بمثابة دار الحرب، حيث يبرز في هذا الصدد رأيان متباينين. فالأول يعتبر أن دار الحرب تخضع لسلطان غير المسلمين، أما الرأي الثاني فيعتبر أن المناطق التي لا تقع تحت سلطة الحكم الإسلامي، لا تكون داراً للحرب، إلا بتوفر مجموعة من الشروط. فإلى جانب الخاصية المشار إليها سابقاً، يتعين أن تكون هذه الدار، مصدراً لخطر متوقع على دار الإسلام، ويُضاف على ذلك، عدم تمتع المسلمين ورعايا الدولة الإسلامية، بالأمان الذي يُمنح لهم، نتيجة لعهد، بين المسلمين وأهل تلك البلاد. ويُفهم من ذلك أن العلاقات القائمة بين الدولة/الدول الإسلامية، ودار الحرب هي علاقات صراع مستمر، سواءً بشكل الاستعمال المباشر للقوة العسكرية، أو على الأقل التهديد باستعمالها، حيث تكون الحالة الأخيرة، بمثابة ما يُعرف حالياً باسم معضلة الأمن.
دار العهد: استمراراً للجدل والاجتهاد الفقهي، حول موقف المناطق غير الخاضعة لحكم السلطة لإسلامية، فقد استقر الفكر الإسلامي، على اعتبار أن هذه المناطق ليست معادية بالمطلق. ويُمكن انطلاقاً من ذلك أن تجمع هذه الدول معاهدات، أو عهود بمضامين مختلفة، مع الدولة الإسلامية، سواءً تمت هذه العهود بعد وقوع المواجهة العسكرية، أو تمت تفادياً لمثل هذه المواجهة. أي أن العلاقات بين المسلمين وغيرهم في هذه الحالة، تُحددها العهود والمعاهدات المبرمة، حيث يلتزم المسلمون انطلاقاً من تعاليم إيمانهم الديني، باحترام بنودها ما لم يقم الطرف الآخر بنقضها. كما أن الصيغة التي يتم بموجبها إبرام هذه العهود، وتحديد مضامينها من الحقوق والواجبات، تبقى خاضعة للتفاوض، دون الالتزام بصيغة محددة، وهو ما تبرزه الكثير من الأمثلة في التاريخ الإسلامي. وتبقى النقطة المشتركة، بين مختلف العهود التي يدخل فيها المسلمون كطرف، هو إلزامية احترام التعهدات المتضمنة فيها.
ويعتبر الباحثون في هذا المجال، أن هذا التقسيم مستمد من المرجعية الدينية والتشريعية، التي شكلتها مختلف النصوص، والاجتهادات الفقهية التي تمت في عهد الرسول(ﷺ)، والخلفاء الراشدين. رغم أن تقسيم العالم إلى دار سلام، دار حرب ودار عهد، يُعتبر من اجتهادات الفقهاء والمفكرين، خلال العصر العباسي، أو ما عُرف بعصر التدوين. غير أن إدارة العلاقات الدولية، سواءً في أوقات السلام أو الحرب، فقد خضعت لتعاليم الدين الإسلامي بشكل عام (القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة). حيث شكلت هذه الأخيرة مرجعية قانونية، تم تطبيقها حتى على تصرفات الدولة الإسلامية، مع الدول أو الشعوب (الأمم)، التي لا تربطها بها معاهدات أو أية التزامات. ومن أهم الأمثلة على ذلك، إصدار القضاء في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، حكماً بالانسحاب من سمرقند، بسبب عدم التزام قائد جيش المسلمين، بقواعد الاشتباك التي تقضي بتخيير الشعوب بين خيارات: الإسلام، دفع الجزية أو الحرب، حيث قام في المقابل اقتحام المدينة مباشرة. ويُمكن الاستناد إلى هذه الحادثة، وغيرها في تاريخ الدولة الإسلامية، من أجل الحديث عن تصور لتدخل المؤسسة القضائية، في إدارة السياسة الخارجية للدولة.
شهدت العلاقات الدولية خلال هذه المرحلة كذلك، إقراراً للكثير من المبادئ والتنظيمات الدبلوماسية، التي كانت سائدة خلال مرحلة العصر القديم. مع إعطائها بعداً دينياً إضافياً، باعتبارها جزءً من الالتزام بالتعاليم والشرائع الدينية، وهو ما أضفى عليها طابعاً أكثر إلزامية، خاصةً فيما يتعلق بالحصانة التي يتمتع بها السفراء، والمبعوثون الدبلوماسيون. وكذلك الإقرار بإلزامية العهود والمعاهدات الدولية، حيث عادةً ما يُجابه نقض المعاهدات، بعقوبات تمثلت بشكل خاص، في اللجوء المباشر إلى القوة العسكرية، أو التهديد باللجوء إليها. فنقض أي من الأطراف، لمعاهدات السلام أو الهدنة، يعني مباشرةً استئناف الأعمال الحربية، وسقوط كل الحقوق والامتيازات المحصل عليها بموجب المعاهدة. ولم يمنع هذا الوضع، من شيوع إبرام المعاهدات ونقضها من طرف الدول، حيث كانت وسيلةً لربح الوقت، في العلاقات الدولية خلال هذه المرحلة.
واستمراراً للخصائص العامة للتفاعلات الدولية، خلال هذه المرحلة، فقد شهد هذا العصر، وقوع مواجهات عسكرية، شكلت معلماً تاريخياً أساسياً. حيث خاضت الدول الكثير من الحروب، باللجوء إلى شعارات الإيمان الديني، رغم أنها في النهاية أفضت إلى نفس النتائج التقليدية، على المستويات: السياسية، الاستراتيجية، وحتى الجيوسياسية والاقتصادية. ويُمكن أن ذكر من بينها، الحروب الصليبية، التي دارت بين المسيحيين والمسلمين، والتي شملت مواجهة عسكرية بين الكاثوليك والأورثودوكس. حيث بقيت آثار هذا الصراع بين الأطراف الثلاثة: مسلمين، مسيحيين كاثوليك، ومسيحيين أورثودوكس، ممتدة إلى غاية اليوم، حيث عادةً ما يُواجه بابا الكنيسة الكاثوليكية، انتقادات من طرف الكنائس الشرقية، بسبب استمرار عدم الاعتراف، بالمسؤولية الأخلاقية عن المذابح، التي ارتكبها الصليبيون في حق المسيحيين الأورثودوكس، خلال الحملات الصليبية.
كما عرفت هذه المرحلة كذلك، تزايد حجم وكثافة الأنشطة الدبلوماسية، والتي بدأت تدريجياً في الخروج من صورتها غير الدائمة، لتأخذ شكل الاتصالات الدبلوماسية المستمرة، والسفارات طويلة الأمد. ويُمكن إرجاع ذلك بشكل خاص، إلى زيادة التشابك في العلاقات الدولية، من حيث المضمون والكثافة، والزيادة التدريجية المستمرة، في درجات الاعتماد المتبادل بين الدول. وهي الحالة التي خلقتها، زيادة الحاجة إلى التحالفات الدولية من جهة، والتغير المستمر في موازين القوى بين القوى الأساسية (المسيحية والإسلامية)، إضافةً إلى ارتفاع كثافة النشاط التجاري على المستوى الدولي. حيث شكلت الدبلوماسية، وسيلة للتوفيق بين تضارب المصالح السياسية من جهة، والمصالح التجارية للدول من جهة ثانية، مع تزايد القناعة بعدم فعالية القوة العسكرية، للتعامل مع كل أوجه العلاقات الدولية.
ويُمكن الملاحظة في هذا الصدد، أن الدبلوماسية بدأت خلال هذه المرحلة، تتداخل مع الأنشطة العسكرية، بحيث انعدمت الحدود الفاصلة بين المجالين. فإذا كانت الأنشطة الدبلوماسية، عادةً ما تنتهي خلال العصر القديم، مع بداية الأعمال الحربية، فإنها مع تطور العصور الوسطى، أصبحت إحدى صور إدارة هذه الأعمال. وقد شكلت مرحلة الحروب الصليبية، أحد أبرز صور النشاط الدبلوماسي خلال الحروب، من خلال الاتصالات التي تمت بين الطرفين، والتي تمثلت في المفاوضات، اتفاقيات التسليم، تبادل الأسرى...إلخ. وتتشابه هذه النماذج، مع الصور المعاصرة للأنشطة الدبلوماسية، المنتشرة في هذا المجال خلال فترات الحروب، سواءً تمت من طرف أطراف النزاع أنفسهم، أو حتى من طرف وسطاء محايدين. وقد استفادت الأنشطة الدبلوماسية، من المبادئ والأعراف التي بدأت تتكرس خلال العصور الوسطى، والتي تمنح الحماية للسفراء والمبعوثين، خلال أدائهم لمهامهم الدبلوماسية، حتى في حالة انتمائهم لدولة معادية.
ثالثًا: العصر الحديث: تبلور المفهوم:
يبدأ التأريخ للعصر الحديث، من سقوط القسطنطينية، سنة 1453 على يد الفاتحين العثمانيين، وهو ما أحدث تغييرات عميقة في مختلف المجالات. لا سيما بداية تقليص التأثير، الذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية، في الشؤون السياسية، على المستوى الداخلي وكذلك الدولي، إضافةً بداية تبلور مفهوم الدولة والسيادة الوطنية. ويُمكن القول بشكل عام، أن هذه المرحلة عرفت بداية تبلور مفهوم العلاقات الدولية، في شكله النهائي، رغم عدم استعمال هذا المصطلح بعد، في وصف التفاعلات الدولية المختلفة. فالعديد من الأحداث والتفاعلات المعاصرة، تجد جذورها في الأحداث الدولية الكثيفة، التي عرفتها هذه المرحلة، وبشكل خاص بداية ظهور تأثيرات النظام الدولي، على صنع القرار الداخلي، بشكل خاص قرارات الحرب والسلام.
ترتبط هذه المرحلة بشكل خاص، بسلسلة من التغيرات الاجتماعية والسياسية، التي طرأت على المجتمع الأوروبي، نتيجةً لجملة من العوامل. ويأتي على رأسها الاحتكاك بالعالم الإسلامي، خلال مرحلة الحروب الصليبية، ثم تزايد وتيرة النشاط التجاري الدولي، وبعلاقة متعدية حملات الاستكشافات الجغرافية الكبرى، التي ارتبطت بدورها بالأهداف التجارية. وقد شكلت هذه العوامل، نهايةً فعلية لخصائص مرحلة العصور الوسطى، وبداية إقرار الخصائص والقيم الحديثة، على المستويين السياسي والاجتماعي، وأبرزها تشكيل الملامح الأساسية للدولة القومية. كما أنها فتحت المجال تدريجياً لزيادة الدور الأوروبي، في تفاعلات العلاقات الدولية، وبداية تشكيل المركزية الأوروبية في النظام الدولي Euro-Centrism. وهي الميزة التي ستستمر إلى غاية الحرب العالمية الأولى 1914.
عرفت نهاية العصور الوسطى، تغيراً تصاعدياً في دينامية التجارة الدولية، التي تجاوزت نسبياً العوائق الجغرافية والسياسية، إضافة إلى الاختلافات اللغوية والثقافية. فقد وسع العرب خلال هذه المرحلة، في نطاق نشاطهم التجاري، ليصل مداه إلى مناطق شرق آسيا (الهند والصين...إلخ)، وهو ما جعل المدن العربية الأساسية، تتحول إلى مراكز تجارية كبرى. وقد زادت وتيرة هذه الدينامية التجارية، بالموازاة مع انطلاق الحملات الصليبية الأولى، والتي نتج عنها قيام مراكز تجارية أوروبية، في المشرق العربي، بسبب اشتراك الجمهوريات التجارية الإيطالية، مثل جنوة والبندقية في هذه الحملات. ونتيجةً لذلك فقد نشأت منطقة تجارية بديلة، بين الدول الآسيوية وأوروبا، وبذلك تخلصت التجارة الأوروبية، من الوساطة التجارية الاحتكارية، التي مارستها الإمبراطورية البيزنطية. حيث أمكن إقامة روابط اقتصادية، وكذلك علاقات سياسية غير رسمية، بين أوروبا وآسيا مروراً بالعالم العربي، بشكل خاص مصر وبلاد الشام قبل خضوعها للسيطرة العثمانية.
نتيجة لتوسع وكثافةً الأنشطة وخطوط النقل التجارية، بدأت حملات الاستكشافات الجغرافية، التي جاءت نتيجة البحث عن طرق مواصلات جديدة، التي زادت الحاجة إليها في التجارة الدولية، بسبب تغير موازين القوى في المشرق العربي. كما ترتبط حملات الكشوف الجغرافية كذلك، بعلاقة التأثير المتبادل، بين تطور الحاجات الإنسانية من جهة، وسعي النشاط التجاري لتلبية هذه الحاجات من جهة ثانية. ونتيجةً لذلك فإن زيادة التعداد السكاني في أوروبا بشكل خاص، وزيادة الحاجات السكانية لمختلف الموارد، أدى إلى ارتفاع وتيرة التبادل التجاري، وهو ما يعني زيادة الحاجة لوسائل التبادل. لذلك فقد شكلت الكشوفات الجغرافية، وسيلةً للبحث عن مصادر جديدة للمعادن الثمينة، المًستعملة في سك وإصدار العملات الوطنية. كما أنها كذلك وسيلة للبحث، عن مصادر جديدة للموارد، التي يُمكن من خلالها تلبية الحاجات المتزايدة للسكان، مثل التوابل، الموارد الغذائية...إلخ. ونتيجة لذلك، فقد انطلقت الكثير من الحملات الاستكشافية، الساعية للبحث عن طرق مواصلات جديدة، ومصادر جديدة للموارد، تساعد على تقليص التكاليف والزمن، أمام حركة التجارة الدولية.
ساهمت وتيرة النشاط التجاري المتزايدة، وتأثيرات حملات الاستكشافات الجغرافية، في زيادة وتيرة مسارات تشكيل الدولة الوطنية، بشكل خاص في أوروبا الغربية. فقد عرفت المراحل الأولى من العصر الحديث، انطلاقةً فعلية في هذا المجال، من خلال توجه الدول نحو فرض سيادتها الوطنية على مستوى البيئة الداخلية، والتقليص التدريجي للنفوذ الإقطاعي. وقد بدأ في مقابل ذلك، تشكيل الطبقة البرجوازية، وزيادة دورها الاجتماعي والسياسي، بتحالفها مع السلطة السياسية المركزية، ضد المكونات السياسية، الاقتصادية وحتى الدينية للنظام الإقطاعي. وجاءت هذه التغيرات نتيجةً لانتقال الثروة، والنفوذ المرتبط بها، نحو الطبقة المشتغلة بالتجارة، إضافةً إلى التحول التدريجي من النشاط الحرفي، إلى النشاط الصناعي الذي بدأ ضمن حدود معينة، يتحول إلى قطاع اقتصادي قائم بذاته.
انطلقت ضمن هذا السياق، مساعي السلطة السياسية المركزية، من أجل زيادة نفوذها الداخلي، على حساب القوى الاجتماعية والسياسية التقليدية المنافسة. وقد تضمنت هذه المساعي زيادة فعالية الأجهزة الرسمية، في معالجة الإشكاليات المختلفة، التي عجزت الأطر التقليدية السابقة عن مواجهتها، أو حتى ساهمت في زيادة تعقيدها. وهو ما أضفى درجة أكبر نسبياً من التنظيم، على أنشطة وسياسات الدول، لا سيما في المجالات: الاقتصادية، الدبلوماسية أو حتى العسكرية. وقد شهدت الخريطة السياسية الأوروبية في هذا السياق، حالة من التطور الدارويني، تجسدت فيها مقولة البقاء للأقوى، كنتيجة للصراع السياسي المستمر. فقد بدأت بعض الكيانات السياسية في التشكل، على حساب كيانات أخرى، إما انهارت أو دخلت تحت سيطرة الكيانات الأقوى. ونتيجةً لذلك فقد تأسست بعض الدول الأوروبية على أسس وطنية، مثل إنجلترا، فرنسا، وكذلك النمسا، والدول الاسكندنافية (الدنمارك، السويد)، إضافةً إلى زيادة استقلالية الإمارات الألمانية والإيطالية. وهو ما سيؤسس لمسارات جديدة في العلاقات الدولية، قائمة على محاولات مستمرة من تلك الدول، لإعادة رسم الحدود السياسية، وإعادة تشكيل مجالات النفوذ السياسي، على المستوى الأوروبي.
تزامن مسار تشكيل الدولة، مع حركية متسارعة تستهدف تقليص نفوذ الكنيسة، قادتها أطراف خارجية تقليدية، تمثلت في السلطة الزمنية. إضافةً إلى أطراف أخرى داخلية، استهدفت تحقيق إصلاح فعلي للكنيسة، انطلاقاً من أجهزتها الداخلية، تمثلت أولاً في محاولات فردية قادها مفكرون مسيحيون، ثم تحولت إلى تيار فكري سياسي، جسدته حركة الإصلاح البروتيستانتي. فقد أدت هذه الحركة، إلى إضعاف نفوذ الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا الغربية، وزادت التنوع الديني في القارة الأوروبية، وبعلاقة متعدية، تنوع فرص التحالفات السياسية، ذات الهدف المشترك. فقد وجدت بعض الإمارات الألمانية، في تأثير أفكار مارتن لوثر M. Luther (1483-1546)، وسيلةً فعالة لإضعاف الكنيسة الكاثوليكية، الحليف الرئيسي للإمبراطورية الرومانية المقدسة، المهيمن على إقليم ألمانيا. وكانت النتيجة الأساسية لذلك، تسريع وتيرة الانزلاق نحو المواجهة العسكرية الأبرز منذ 1453، والتي عرفت باسم الحروب الدينية، التي اندلعت سنة 1618، وانتهت سنة 1648 بعقد صلح وستفاليا Peace of Westphalia.
وُصف صُلح وستفاليا على أنه دستور لأوروبا، باعتباره مرجعية قانونية بالنسبة للكثير من أطراف النزاع، ومُحدداً لأدوار التي يُفترض أن يُمارسها كل منها، بشكل خاص القوى المنتصرة منها. أما على الصعيد الخارجي، فقد تم بموجب صلح وستفاليا، تقليص نفوذ الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وتحويل مركز القوة إلى النمسا، والتي ستلعب دوراً محورياً في العلاقات الدولية، خلال المرحلة الممتدة إلى غاية نهاية القرن الـ19. كما تم -إضافة إلى ذلك- فرض الاعتراف بالمذهب البروتيستانتي، كمذهب رسمي يحق للدول الأوروبية تبنيه، إلى جانب المذهب الكاثوليكي. أما أهم ما تضمنه صلح وستفاليا، فقد كان تحديد الحدود السياسية، بين الدول الأوروبية الأساسية، حيث كانت السويد وفرنسا المستفيد الأساسي، بسبب الاقتطاعات التي جعلت إقليمها يمتد إلى غاية نهر الراين.
وصلت انطلاقا من هذا الصلح، الخريطة السياسية الأوروبية إلى مراحل التشكيل النهائية، بالنسبة للقوى الأوروبية الكبرى، المهيمنة على النظام الأوروبي (فرنسا، النمسا...إلخ). بينما بقيت الدول المتوسطة والصغرى، في حالة تغيير دائم، وبشكل خاص بالنسبة للدول الصغرى، التي مارست وظيفتين أساسيتين على مستوى النظام. وتمثلت وظيفتها الأولى في دور الدول الحاجزة Buffer States، أي الدول الصغرى التي تقع بين إثنين أو مجموعة من القوى الأساسية، وبالتالي تكون حاجزاً أولياً أمام أي عمل عسكري معادي، تقوم به القوى الأخرى، ومسرحاً للقتال بين الجيوش الأوروبية المختلفة. أما الوظيفة الثانية فتمثلت في كونها الموضوع الأساسي للتسويات بين القوى الكبرى، من أجل الحفاظ على التوازن فيما بينها، من خلال تبادل الهيمنة عليها، وحتى تقاسم أجزاء من إقليمها الجغرافي، تبعاً لنتيجة المواجهات العسكرية.
دخلت العلاقات الدولية خلال هذه المرحلة، حالة من التنافس الدائم بين القوى الأوروبية، من أجل التأثير على التوزيع القائم فيما بينها للأدوار، وبعلاقة متعدية التأثير على مجال نفوذها. وقد تم بالموازاة مع ذلك، تطوير النشاط الدبلوماسي، بتقنين العديد من القواعد، لا سيما الخاصة منها بالتمثيل الدبلوماسي، مثل الحصانة الدبلوماسية، التمثيل الدبلوماسي والقنصلي الدائم...إلخ. إضافةً إلى التوجه المستمر، نحو وضع قواعد عامة للعلاقات الدولية، تتعلق بإعلان الحرب والسلام، احترام المعاهدات الدولي. غير أن التحول الأساسي الذي عرفته العلاقات الدولية خلال هذه المرحلة، تمثل في تحول بريطانيا إلى قوة عسكرية، ضمنت الحفاظ على توازن القوى الذي أقره صلح وستفاليا. وقد تكرس الدور البريطاني من خلال معاهدة أوترخت Utrecht Treaty سنة 1715. حيث منع التدخل البريطاني، من فرض الهيمنة الفرنسية المطلقة على النظام الأوروبي، خاصةً بعد تعاظم القوة الفرنسية بعد معاهدة وستفاليا، وقد استمر هذا الدور، إلى غاية مرحلة المؤتمرات الأوروبية، ابتداءً من نهاية الحروب النابوليونية سنة 1815، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية.
شكلت المؤتمرات الأوروبية، خلال المراحل الأخيرة من العصر الحديث، آلية لتنظيم العلاقات الأوروبية، ومن خلالها العلاقات الدولية بشكل عام. فقد جاءت في بداية الأمر كإجراء خاص Ad Hoc، لتسوية الأوضاع الأوروبية بعد نهاية مرحلة الحروب النابوليونية (1803-1815)، ثم تحولت إلى إجراء اعتيادي، يتم اللجوء إليه دوريا أو متى دعت إليه الحاجة. وهو ما نصت عليه معاهدة الحلف الرباعي La Quadruple Alliance في 20 نوفمبر 1815. حيث تضمنت المادة 4 من المعاهدة على أنه "لضمان وتسهيل تنفيذ هذه المعاهدة، وتعزيز العلاقات الحميمة التي توحد اليوم الملوك الأربعة من أجل سعادة العالم، اتفقت الأطراف السامية المتعاقدة على التجديد، في فترات محددة، إما تحت الرعاية المباشرة للملوك، أو من قبل وزرائهم، اجتماعات مخصصة للمصالح المشتركة الكبرى، ولدراسة التدابير التي تُعتبر خلال كل فترة من هذه الفترات، بأنها الأكثر فائدة لراحة الشعوب وازدهارها، وللحفاظ على السلام في أوروبا".
تولت هذه المؤتمرات تسوية المشاكل المرتبطة بالحروب النابوليونية (مؤتمر فيينا 1814-1815)، ثم تم اعتماد نفس الإجراء بشكل متكرر، لتسوية مختلف المسائل الأخرى، المطروحة على الساحة الأوروبية. ومنها مسألة تسوية مسألة فرنسا، أي إنهاء احتلالها من طرف الحلفاء، وإعادة إدماجها في منظومة الوفاق الأوروبي (مؤتمر أكس لاشابال 1818). غير أن مسألة الحفاظ على الوضع السياسي القائم في أوروبا، شكلت الموضوع الأساسي لسياسات الوفاق الأوروبي، حيث تعاملت القوى الأوروبية الأساسية، مع مشكلة النزعة الثورية، التي انتشرت ابتداءً من سنة 1820. لذلك فقد تم تخصيص المؤتمرات المتبقية، لمعالجة الثورات القائمة في الإمارات الإيطالية، إسبانيا، والبرتغال، وحتى ثورة اليونان (ضد العثمانيين). وذلك من خلال نتائج المؤتمرات المنعقدة في تروباو 1820 (النمسا)، ليباخ 1821 (النمسا)، فيرونا 1822 (إيطاليا)، سان بطرسبرغ 1823 (روسيا). ويُمكن إضافة مؤتمر برلين 1848 الموسع، الذي تضمن مناقشة تسوية الخلافات حول المستعمرات، بين القوى الاستعمارية الأوروبية. إضافةً إلى مؤتمر باريس سنة 1856، الذي جاء لتسوية نتائج حرب القرم، الذي أخرج روسيا بشكل نهائي، من التفاعلات الأوروبية. رغم أن الرأي السائد تقليديا، يعتبر أن سياسة المؤتمرات الأوروبية، عرفت نهايتها بشكل رسمي، بمؤتمر سان بطرسبرغ سنة 1823، الذي عالج المسألة اليونانية (حرب استقلال اليونان).
لم تستند إدارة العلاقات الدولية خلال هذه الفترة، فقد على دبلوماسية المؤتمرات، بل اعتمدت أيضاً على الأحلاف العسكرية، والتي تشكلت حول نواة أساسية، تمثلت في التحالف الأوروبي ضد نابوليون. ونتيجة لذلك فقد تأسس التحالف المقدس 1815، الذي بين ملوك روسيا، بروسيا وكذلك النمسا، ويُعتبر تحالف شخصي بين الملوك، أكثر منه تحالف بين دول، وبالتالي لم يتضمن بنود إلزامية قوية. وبالموازاة مع ذلك نشأ تحالف آخر يُعرف بالحلف الرباعي سنة 1815، الذي يضم أطراف التحالف الأول إضافة إلى بريطانيا، ويتميز بطابع أكثر تنظيماً وإلزاماً من التحالف السابق. ثم تحول إلى حلف خماسي، بعد انضمام فرنسا، إثر مقررات مؤتمر 1818. لذلك فقد لجأت النمسا إلى الحلف المقدس، من أجل تطبيق مقررات المؤتمرات الأوروبية المشار إليها سابقاً، والتي تخص التدخل العسكري، من أجل الإبقاء على الأنظمة الحاكمة في مواجهة القوى الثورية. وذلك على اعتبار أن هذا الحلف مشكل من القوى الأوروبية المحافظة (النمسا، بروسيا، روسيا)، المعارضة للتوجهات اللبرالية في أوروبا، وخوفها من انتقال النزعة اللبرالية والثورية إليها. إضافةً إلى تحفظ كل من بريطانيا وفرنسا، ذات النظام الدستوري اللبرالي، على مبدأ حق التدخل المباشر في الشؤون الداخلية، الذي أقرته القوى المحافظة الأخرى، لذلك لم يكن التحالف الخماسي، الوسيلة الأفضل لتنفيذ مبدأ التدخل.
رابعًا: العصر المعاصر: العودة إلى تنازع المفاهيم:
استمرت العلاقات الدولية، في تكريس معالمها الأساسية خلال بقية أطوار القرن الـ19، حيث استمر التوجه نحو دعم الدولة الوطنية، من خلال النزعة الوطنية الاستقلالية من جهة، والنزعة الوحدوية من جهة ثانية. حيث انفصلت كل من هولندا وبلجيكا عن السيطرة الفرنسية، إضافةً إلى إلغاء الهيمنة متعددة الأطراف، التي مارستها القوى الأوروبية، على الأقاليم الألمانية والإيطالية، وترسيم الوحدة فيهما انطلاقاً من سنة 1870. وفي هذا السياق، فقد زادت وتيرة التنافس حول مجال النفوذ داخل وخارج أوروبا، بين قوى أساسية تقليدية (فرنسا، بريطانيا، النمسا)، وقوى أخرى صاعدة تتميز بالقوة العسكرية والاقتصادية، مثل ألمانيا. وهو ما كرس سياسات الأحلاف وتوازن القوى، حيث كان الموضوع الأساسي للعلاقات الدولية، إدارة الصراع حول المستعمرات في أسيا وإفريقيا، ومسارات التخلص من الوجود العثماني في وسط وشرق أوروبا.
كانت خاتمة هذه المرحلة، وصول هذا الصراع إلى ذروته سنة 1912، من خلال حرب البلقان الأولى والثانية، والتي تنبع أهميتها من نتائجها، المرتبطة بإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية الأوروبية، واعتبارها من جهة ثانية، كانطلاقة غير رسمية للحرب العالمية الأولى، على اعتبار أن مخرجات حرب البلقان، زات تعقيداً مع زيادة الطموحات القومية، المتعارضة مع مخلفات مرحلة توازن القوى والوفاق الأوروبي. وعليه يُمكن اعتبار بداية القرن الـ20، مرحلة متميزة في تطور العلاقات الدولية، انطلاقاً من مجموعة من المؤشرات، على رأسها بداية الخروج من المركزية الأوروبية، في تشكيل التفاعلات الدولية، إضافةً إلى زيادة درجة تنظيم هذه التفاعلات.
نتيجةً للحرب الروسية اليابانية 1905، وحرب البلقان 1912-1913، تراجع تأثير القوى الأوروبية التقليدية، مثل الإمبراطوريتين النمساوية والعثمانية، ليتركز النفوذ حول كل من ألمانيا، فرنسا وبريطانيا. وفي المقابل فقد استفادت قوى أخرى غير أوروبية، يُمكن وصفها بالصاعدة، من تطور تغير موازين القوى في أوروبا، إضافةً إلى احتكاكها بالدول والمجتمعات الأوروبية. فعلى سبيل المثال، ساعد تطور الأحدث في أوروبا الولايات المتحدة، في إنهاء الهيمنة الخارجية على القارة الأمريكية، وبشكل خاص المستعمر الإسباني، وهو ما ساعد الولايات المتحدة، على فرض هيمنتها في القارة، رغم التبني الرسمي لسياسة العزلة. أما اليابان فقد حاولت بناء قوتها الاقتصادية والعسكرية، من خلال التجارب الأوروبية، خاصة بالشراكة مع المانيا خلال القرن الـ19، وقد نتج عن ذلك تحولها قوة إقليمية، خاصة بعد انتصارها على روسيا القيصرية سنة 1905. وينطبق ذلك بدجة أقل على النموذج الصيني، بعد انتهاء النظام الإمبراطوري، وتأسيس النظام الجمهوري، ابتداءً من سنة 1911، وانطلاق مسارات التحديث. وسيكون لهذا الوضع تأثيرات كبيرة في العلاقات الدولية، من خلال الدور الأمريكي والياباني، وبدرجة أقل الصيني، خلال الحربين العالميتين، النظام الدولي المنبثق عنهما.
وعليه فقد انطلق مع بداية هذه المرحلة، في تطور العلاقات الدولية، مسار طويل يمتد إلى غاية 1945، من إعادة تشكيل النظام الدولي، من حيث الهيكل، القيم والفواعل. فقد تعرضت القوى الأوروبية التقليدية، لمجموعة من الضربات المتتالية، انطلقت مع حروب بداية القرن الـ20، وقد نتج عنها الانتقال التدريجي لمركز التأثير، من أوروبا إلى خارجها. فكما تمت الإشارة إليه، قد بدأ هذا التحول، من تقليص عدد القوى الأوروبية المركزية، ثم انتقل التأثير الدولي نهائياً، نحو الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي المقابل انتقلت القوى الأوروبية إلى قوى تابعة، أو على الأقل قوى دولية من الدرجة الثانية، تُمارس دوراً أقل أهمية مقارنة مع قطبي النظام الدولي، مقارنة بالدور الأمريكي والسوفياتي. لينتقل النظام بعدها إلى تنافس جديد حول الهيمنة الدولية، خلال الفترة الممتدة منذ 1991، تاريخ تفكك الاتحاد السوفياتي، لتضاف الصين، ودول أوروبا الغربية، في محاولة للبحث عن موقع في التفاعلات الدولية.
تتضمن قائمة خصائص هذه المرحلة، في مسار تشكيل وتطور العلاقات الدولية، خاصية لم تشهدها بنفس الدرجة المراحل السابقة، رغم ظهور بوادرها بصور متعددة سابقاً. ويتعلق الأمر بالتنظيم والقانون الدوليين، رغم استمرار حدة النقاش، حول مدى فعالية التنظيم الدولي، وبشكل خاص قواعد القانون الدولي، في تنظيم العلاقات الدولية، وإلزام الدول بقواعد محددة للسلوك، في تفاعلاتها الخارجية، بسبب غياب صفة الإلزام. غير أنه بغض النظر عن صفتها الإلزامية، ومدى تأثيرها الفعلي ضمن التفاعلات الدولية، فإن تقنين قواعد السلوك الدولي، استناداً إلى إرادة الدول، يُمكن له ممارسة تأثير معين في علاقاتها المتبادلة. كما أنها من جهة أخرى، تتميز بصفة الاستمرارية والشمولية، عكس التدابير القانونية والتنظيمية السابقة، التي ميزت مناسبات وأحداث معينة، في إطار جيوسياسي محدد. فألية المؤتمرات التي ميزت مرحلة الوفاق الأوروبي، أو حتى القواعد العرفية الدولية، المستمدة من اجتهادات فلاسفة القانون، مثل أفكار غروتيوس H. Grotius (1583-1645)، كانت حالات منفردة ولم تتطور لتصبح آليات تنظيمية عامة. وبالعودة إلى مثال المؤتمرات الأوروبية، فإن انعقادها كان مرتبطاً بميزان القوة، السائد بين الدول الأوروبية الأساسية، وتقديرها لمصالحها الخاصة، وهو ما تكرس في تجاهل فرنسا وبريطانيا، للدعوة الروسية لعقد مؤتمر أوروبي، لدراسة مشكلة الثورات في أوروبا.
شهدت العلاقات الدولية خلال هذه المرحلة، إضافةً إلى التطورات الجيوسياسية والتنظيمية، تطوراً متسارعاً على المستوى التكنولوجي، والذي شمل حتى المجالات العسكرية. فالتطور الذي عرفته الأسلحة، مثل المدفعية، سلاح الدبابات، والقدرة التدميرية للقنابل، الذي عرفه العالم خلال الحرب العالمية الأولى، فتح المجال إلى التوصل إلى ما سيُعرف في فترات لاحقة، باسم الثورة في الشؤون العسكرية Revolution in Military Affairs (RMA). وقد شمل ذلك أيضاً إدخال التكنولوجيا النووية، ضمن الترسانة العسكرية للقوى الكبرى، ابتداءً من سنة 1945 بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، ثم الاتحاد السوفياتي سنة 1949، وانتهاءً بالدول الأوروبية الكبرى (فرنسا وبريطانيا)، وغير من الدول الأعضاء فيما يُعرف باسم النادي النووي. رغم أن هذا التطور، لم يوقف الطبيعة التقليدية للمواجهات العسكرية بمختلف صورها (النظامية، غير النظامية)، حيث بقي اللجوء إلى القوة النووية مجرد افتراض تحت مسمى الحرب عن طريق الخطأAccidental War.
وقد أثرت التطورات التكنولوجية المتلاحقة، في المجالات العسكرية والأمنية، في تصورات الدول وأنماط الفعل وردود الفعل، على مستوى العلاقات الدولية. فحتى مع القناعة شبه المطلقة، بعدم إمكانية اللجوء إلى القوة النووية، مارس الردع دوراً محورياً في ضبط تفاعلات القوى الكبرى، حتى بعد نهاية الحرب الباردة، وهو ما تكرر على سبيل المثال، خلال الحرب الروسية الأكرانية. كما أن القوة التقليدية، خرجت منذ منتصف القرن الـ20، من حسابات التفوق العددي والتكنولوجي، حيث وجدت القوى الكبرى نفسها متورطة في مستنقعات الحروب غير النظامية، أو ما يُعرف باسم حروب العصابات Guerrilla Warfare. والتي ساهمت في تغيير مسار الحرب الكورية، كما ساهمت بقدر كبير، في إنهاك القوى الاستعمارية في إفريقيا وآسيا، خلال النصف الثاني من القرن الـ20، ومازالت الأسلوب المفضل لحركات المقاومة المسلحة، ومنها المقاومة الفلسطينية حالياً.
انطلاقاً من التطورات المتلاحقة والمستمرة، التي عرفتها العلاقات الدولية، منذ بداية القرن الـ20، وبشكل خاص الانفتاح المستمر في الحدود الجغرافية والسياسية، الفكرية، اللغوية، فقد استمر النقاش حول دلالة المفاهيم. ليتحول الأمر إلى حالة من التنازع بين الاتجاهات النظرية، حول التسمية المناسبة الواجب إطلاقها، لوصف التفاعلات الدولية، بين مفاهيم: علاقات دولية International Relations، سياسات دولية International Plitics، سياسات عالمية World Politics...إلخ. ويبقى استعمال هذه المفاهيم وغيرها، مرتبطاً أساساً بالانتماء النظري، للباحثين في هذا الحقل، في حين يُحاول البعض الظهور في صورة المحايد، من خلال استعمال مفاهيم ذات دلالات عامة، مثل عبارة التفاعلات الدولية International Interactions.
خاتمة:
توحي النظرة العامة لمفهوم العلاقات الدولية، بما يتضمنه من ظواهر إنسانية متنوعة، أنه من غير الممكن الفصل بين هذا المفهوم/الظواهر، ومسارات تشكيل الجماعات الإنسانية الأولى، بمختلف أشكالها وتسمياتها. فكل سلوك يستهدف ضمان بقاء الجماعة، هو سلوك سياسي خارجي، يندرج ضمن المعنى العام لمفهوم العلاقات الدولية، ويكاد يتطابق مع ما يُطلق عليه حاليا اسم السياسة الخارجية Foreign Policy. ويُفضي هذا الافتراض إلى اعتبار أن السلوكات الدولية، المندرجة ضمن هذا المفهوم، هي امتداد طبيعي للسلوك الإنساني، في محاولته للبقاء وكذلك تحسين الوضع الفردي والاجتماعي. وبعلاقة متعدية ستكون السلوكات الدولية، متكررة بشكل متوقع، بسبب ارتباطها بنفس الأهداف العامة للفاعلين الدوليين. سواءً كانت هذه الأهداف محددة بشكل مسبق، كما يذهب إليه التقليديون (الواقعيون مثلاً)، أو تتشكل ضمن التفاعلات الدولية، كما تُشير إليه الاتجاهات الحديثة (البنائيون مثلاً).
انطلاقاً من ذلك فإن تكرار أنماط السلوك الدولي، يجعل من الظاهرة أو الأحداث التاريخية في مجال العلاقات الدولية، مختلفة بشكل جذري، عن بقية الظواهر والأحداث التاريخية. فإذا كان الاعتقاد السائد، في مجال الدراسة التاريخية، أن الحدث التاريخي، هو حدث منفرد بأسبابه، ظروفه ونتائجه، فإن الدراسات المندرجة ضمن مجال بتاريخ العلاقات الدولية History of international relations، تعتبر أن الحدث متكرر بشكل مستمر، عبر مختلف الفترات التاريخية، بأسباب، ظروف ونتائج متشابهة إلى حد كبير، إلى الحد الذي يُمكن من خلاله اعتبارها أحداث متكررة. فالاهتمام هنا لا ينصب على تفرد الحدث التاريخي، بل على تكرار نمط السلوك وردود الفعل، وهو ما يفتح المجال أمام البحث، عن القوانين المتحكمة في السلوك الدولي.
غير أنه في المقابل، وإن كانت هذه الحالة تمنح الباحثين، وبدرجة أقل الملاحظين، في مجال العلاقات الدولية، كحقل أكاديمي مستقل، القدرة على البحث في تفسير التفاعلات الدولية، واستشراف تطورها المستقبلي. إلا أن ذلك يتم بدون ضمانات، بإمكانية توفير القدرة على التوصل، إلى نتائج قابلة للتعميم، أو ذات درجة عالية من المصداقية واليقين العلمي. وهو ما أبقى النقاش مستمراً، حول مفهوم النظرية في حقل العلاقات الدولية، وبشكل أوسع مدى اعتباره حقلاً معرفياً قائماً بذاته. رغم إصرار المنتمين إلى هذا المجال، على التمسك باعتباره علماً قائم بذاته، بمواضيعه الخاصة، وأدواته النظرية المتميزة، عن بقية المجالات المعرفية الأخرى، في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية.