المحاضرة رقم 05: العلاقات الدولية: اللاعبين غير الدولاتيين

تمهيـــــــــــد:

استمرت تفاعلات العلاقات الدولية منذ العصور القديمة، تتمحور حول الدولة بمختلف أشكالها، بدايةً بدولة المدينة القديمة، مروراً بالممالك والإمبراطوريات في العصور الوسطى، وصولاً إلى النموذج الحديث للدولة. ولم يشهد هذا الوضع، تغييراً ذو معنى، حتى مع ظهور المنظمات الدولية الحكومية، حيث بقيت الدولة المحرك الأساسي للتفاعلات الدولية، حتى ضمن المنظمات الدولية فوق الحكومية. ويُمكن إرجاع ذلك، إلى طبيعة وموضوع التفاعلات الدولية، التي بقيت إلى حد كبير، مرتبطة بالسياسات والمصالح الوطنية، وبالنشاط الدبلوماسي الرسمي، مثل قضايا الأمن الوطني، التنمية الاقتصادية...إلخ. وبالتالي فإن تنازل الدولة عن بعض صلاحياتها، أو على الأقل تفويضها للمنظمات الدولية، لم يصل إلى حد خروج العلاقات الدولية، من دائرة مركزية الدور، الذي مارسته في هذا المجال.

غير أن تحولاً جذرياً عرفته مواضيع العلاقات الدولية، بتوسعها لمواضيع جديدة، لم تكن ضمن دائرة الاختصاصات الحصرية للدولة، مثل قضايا حقوق الإنسان، أو الأنشطة الاقتصادية التجارية الخاصة، أو حتى قضايا التحرر من الاستعمار. وهو ما أنتج ظهور مجموعة من الأطراف، التي لا تُشكل أي امتداد للدولة، مثلما هو حال المنظمات الدولية الحكومية، فقد ظهرت منظمات دولية، تم تأسيسها من طرف أفراد أو جماعات، تُعرف باسم المنظمات الدولية غير الحكومية، أو حتى جماعات مسلحة غير نظامية، تهدف إلى تحقيق غايات وأهداف سياسية، إضافةً إلى شركات كبرى، ذات طابع اقتصادي (تجاري وصناعي)، تُعرف بالشركات متعددة الجنسيات. وقد فُتح المجال كذلك أمام الأفراد، للقيام بأدوار تؤثر بدرجات متفاوتة العمق، على تفاعلات العلاقات الدولية، رغم بقاء هذا الافتراض، من المواضيع المتنازع حولها، بين التيارات النظرية المختلفة، في حقل العلاقات الدولية.

وسنحاول في هذا الصدد، الإجابة على تساؤل أساسي، يستند إلى المفارقة القائمة، في اعتبار الدولة محركاً أساسياً للعلاقات الدولية، الممتدة بين حدي الحرب والسلام، وبين منح صفة الفاعل لمجموعة من اللاعبين، الذين لا يُمكنهم ممارسة نفس الدور. فهل يُمكن اعتبار الأطراف غير الدولاتيين، بمثابة فواعل في العلاقات الدولية، أم أنها مجرد متغير تابع للفاعل المحوري في هذا المجال أي الدولة؟      

وسيتم ذلك، من خلال تحليل الدور اذي تقوم به هذه الفواعل، بالمقارنة مع دور الدولة، من أجل اختبار الافتراض الذي يعتبر أنه بالرغم من الدور المتزايد الذي تُمارسه الفواعل غير الدولاتية، إلا أنه لا يصل إلى اعتبارها من الفواعل الأساسية. أو بتعبير آخر، أن الدور الذي تُمارسه هذه الفواعل هو التكيف مع العلاقات الدولية التي تُشكلها الدولة، وليس صنع التفاعلات والأحدث إلى جانب الدولة كفاعل أساسي.    

أولاً: التحول نحو نموذج السياسة العالمية:

نتيجةً لهيمنة الدولة، على تفاعلات العلاقات الدولية، بقيت هذه الأخيرة منحصرة -نظرياً على الأقل-، ضمن نطاق السياسة الدولية International Politics، والتي تعكس إلى حد كبير، تصورات، مصالح وسلوكات الدولة. في حين تبقى الأطراف الأخرى من غير الدول، إما غير معترف بها، كما يذهب إليه الواقعيون التقليديون، أو على الأقل قابلة للإهمال، كما يذهب إليه الواقعيون الجدد/البنيويون. إلا أن التحول في عدد، طبيعة ودو الفاعلين الدوليين International Actors، أثر في تردد Frequency، نطاق ومواضيع التفاعلات الدولية. بحيث أدى ذلك إلى إضعاف سيطرة الدولة على هذه التفاعلات، وفتح المجال أمام فاعلين جدد، ومواضيع جديدة، لتتحول إلى مضمون جديد للعلاقات الدولية، واتخذ ذلك تسمية السياسة العالمية World Polics.

تم انطلاقاً من ذلك، تجاوزت الفواعل غير الدولاتية Non-State Actors، العقبات التي شكلت في السابق -ومازالت-، حواجز أمام دور الدولة. فالمنظمات الدولية غير الحكومية، أو الشركات متعددة الجنسيات، وإن كانت أنشطتها تتأثر بدرجات متفاوتة، حسب الحالات والمواقف الدولية، إلا أنها بشكل ما، تجاوزت تأثيرات الحدود السياسية. فهذه الأخيرة مازالت تحد من حرية الدولة على الحركة، بسبب ارتباط حدود الدول، بمفهوم السيادة الوطنية، التي مازالت تُمارس تأثيرها، رغم التحولات التي شهدها المفهوم، وتراجع فكرة السيادة المطلقة، لصالح مفهوم السيادة المحدودة. وعليه فقد استحدثت الفواعل غير الدولاتية، بعداً جديداً في التفاعلات الدولية، يحول هذه الأخيرة من علاقات تتم في اتجاهات منتظمة، إلى نمط مختلف يُمكن وصفه بالشبكة. فإذا كانت الصورة النمطية التقليدية، تحصر التفاعلات الدولية، بين الدول وكذلك المنظمات الدولية، فإنه وقف نموذج السياسة العالمية، فإن الفاعلين الدوليين، بما في ذلك الدولة، تنخرط في علاقات متشعبة، تجمع بين فاعلين مختلفين، حول قضايا متنوعة ومتعددة.

وعليه، فإن مفهوم السياسة العالمية، يُشير إلى توسيع نطاق التفاعلات الدولية، بالشكل الذي يتجاوز الحدود التقليدية، التي نتجت عن تمحور العلاقات/السياسة الدولية، حول مواضيع الحرب، السلام، الأمن الوطني...إلخ. ويتجسد ذلك، اعتماداً على لتطور التدريجي، الذي شهده مؤشر الدور الذي مارسته هذه الفواعل، منذ نهاية فترة الستينات من القرن الـ20 على الأقل. حيث زادت وتيرة مساهمة المنظمات الدولية غير الحكومية، في معالجة مختلف القضايا الإنسانية، التي لم تكن لفترة زمنية طويلة، ضمن نطاق اختصاص الدولة. وينطبق ذلك كذلك على الشركات متعددة الجنسيات، التي وإن كانت مازالت تعتمد على الدولة، وتعمل ضمن قوانينها الوطنية، إلا أنها في المقابل، تلعب دوراً بشكل متزايد، فيما يُعرف باسم الاقتصاد السياسي الدولي International Political Economy.   

 وقد انطبق ذلك بشكل أكثر تأثيراً، على الجماعات شبه العسكرية، أو المنظمات المسلحة غير النظامية، والتي ظهرت بشكل أساسي، في منتصف القرن الـ20. فقد ظهرت بدايةً، في شكل جماعات التحرر الوطني، أو حركات مسلحة ثورية ذات توجهات يسارية، أو جماعات مضادة للأنظمة اليسارية، وهي الحالة التي عرفتها أمريكا الجنوبية، خلال السبعينات والثمانينات من القرن الـ20. ثم اتخذت أشكال مختلفة نسبياً على هذه الصورة، مع نهاية الحرب الباردة، وتزايد سعي الدول إلى تقليص التكاليف البشرية للحرب، وهو ما ساعد على ظهور منظمات شبه عسكرية، تمثلت في الميليشيات، وكذلك الشركات العسكرية الخاصة. وتنبع أهمية هذه المنظمات، في أنها أصبحت تنافس الدولة، في أحد أهم المجالات السيادية، وهو المجال الأمني والدفاعي، والذي بقي لفترة زمنية طويلة، أحد الاختصاصات الحصرية، التي تمتعت الدولة بشرعية احتكارها واستعمالها.

يُمكن القول انطلاقاً ممن ذلك، أنه بغض النظر عن المكانة الاحتياطية، التي يمنحها القانون الدولي العام، للفواعل من غير الدول، إلا أنه لا يُمكن الاعتماد على نفس المنظور، عند تحليل دورها من وجهة نظر العلاقات الدولية. فقد أخذت هذه الفواعل تدريجياً دوراً محورياً، في تشكيل التفاعلات الدولية، وفق وتيرة وكثافة لا يُمكن تهميشهما، في التحليلات النظرية لحقل العلاقات الدولية. ويتوجب التركيز انطلاقاً من ذلك، على مجموعة من اللاعبين غير الدولاتيين التقليديين، مع ضرورة الاهتمام بفاعلين آخرين، بدأ دورهم في التوسع، بسبب ارتباطهم بمفهوم الأمن السبراني، أو أمن خطوط التجارة الدولية...إلخ.    

ثانيًا: المنظمات الدولية غير الحكومية:

تميزت العلاقات الدولية خلال مرحلة الستينات، بتزايد دور المنظمات الدولية غير الحكومية، بسبب الانتباه إلى جملة من القضايا الدولية، التي لم تكن موضوعاً أساسياً في سياسات الدول. فقد تمت إثارة قضايا العالم الثالث، مثل الفقر، التعليم وكذلك الصحة، إضافةً إلى إثارة النقاش حول المسائل التي تم تجاهلها خلال الحرب البارد’ مثل قضايا حقوق الإنسان، بشكل خاص خلال النزاعات المسلحة، أو في حالات عدم الاستقرار السياسي. غير أن تحليل دور المنظمات الدولية غير الحكومية، يجب أن يستند إلى تحديد صارم، للمعايير التي تجعل منها متميزة عن بقية الفواعل، المنفصلة من حيث التأسيس أو التسيير، عن الدولة.

1.     المنظمات الدولية غير الحكومية: حدود التسمية:

لا يُوحي مفهوم المنظمات الدولية غير الحكومية، بأية درجة من درجات التعقيد والغموض، مما يتسبب في الجدل الكبير حوله بين التيارات الفكرية المختلفة، سواءً في مجال القانون الدوي، أو العلاقات الدوية. غير أنه على العكس من ذلك، تسبب -على بساطته- في إثارة الاختلاف، حتى ضمن الحقل المعرفي الواحد، حول ماهيته، وخصائصه التي تُميزه عن المنظمات الدولية الحكومية. فحتى خاصية عدم إنشائه من طرف الدول، لم تعد كافية لتعريف المنظمات الدولية غير الحكومية، حيث اعتبرت بعض محاولات التعريف، على أن ذلك يفتح المجال أمام فاعلين آخرين، لحمل نفس التسمية، على غرار الشركات متعددة الجنسيات.   

تُعرف المنظمات الدولية غير الحكومية، في معناها الشامل، على أنها "المنظمة المستقلة عن الحكومة، [أي] التي لم تؤسسها الدولة. وبهذا المعنى تُعد الشركات منظمات غير حكومية. غير أن هذا المصطلح، أصبح مستخدماً بشكل عام، للإشارة إلى المنظمات الخيرية". ويُمكن ملاحظة المعنى الواسع، الذي تميز به هذا التعريف، بحيث توسع نطاق مفهوم المنظمات الدولية، ليشمل حتى الشركات متعددة الجنسيات، وكذلك المنظمات الخيرية. رغم أن هذه الأخيرة قد تفتقد في حالات كثيرة، إلى الخصائص الأساسية للمنظمة غير الحكومية، فتجاوز بعض المؤسسات الخيرية لحدود الدولة، لا يجعل منها منظمة دولية غير حكومية. فمؤسسة أفرد نوبل Alfred Nobel Foundation مثلاً، هي مؤسسة خيرية غير حكومية، تهتم بدعم الإنجازات الفكرية والعلمية، غير أنها لم تُصنف بأي حال من الأحوال على أنها منظمة دولية غير حكومية.

ذهبت تصورات أخرى، في محاولة لتضييق نطاق التعريف، إلى اعتبار المنظمات الدولية غير الحكومية على أنها "جمعيات خاصة، لا يتم تكوينها باتفاق بين الحكومات، إنما بين أفراد وهيئات خاصة أو عامة، من دول وجنسيات مختلفة، تسعى للتأثير على مجرى العلاقات الدولية". والملاحظ أن هذا التصور، قد أضاف بعض العناصر الإضافية، حيث أن إنشاءها لا يكون بواسطة اتفاق دولي بين الحكومات، كما أنها تضم في عضويتها أطراف مختلفة من حيث الطبيعة، أو من حيث الجنسية، وأخيراً فهي تسعى للتأثير على التفاعلات الدولية. غير أن هذا الهدف، يُمكن أن يتم بصور متعددة، قد تجعل من مفهوم المنظمات الدولية غير الحكومية، يتسع ليشمل مجدداً أطرافاً أخرى، إلى جانب المنظمات غير الحكومية. ومن الأمثلة على ذلك، يُمكن ذكر الشركات متعددة الجنسيات في المقام الأول، وكذلك تجمع الأحزاب والجماعات السياسية، ذات التوجه الأيديولوجي المشترك (الأحزاب الشيوعية، الإخوان المسلمين...إلخ).    

وأخيراً، تعتب تصورات أخرى، وبشكل ضيق من حيث نطاق التعريف، أن المنظمات الدولية غير الحكومية، هي "جمع لأشخاص طبيعيين أو معنويين خواص [من غير الدول]، من جنسيات مختلفة، دولية بطابعها، بوظائفها وبنشاطها، ولا تهدف إلى تحقيق الربح، وتخضع للقانون الداخلي، للدولة التي يوجد فيها مقرها".  وقد تم بموجب العناصر الواردة في هذا التعريف، استبعاد المؤسسات الخيرية أو الثقافية غير الحكومية، والتي لا تتميز بتعددية الأعضاء المؤسسين من حيث الجنسية. إضافةً إلى استبعاد الشركات متعددة الجنسيات، على اعتبار أنها تسعى في المقام الأول، إلى جني أرباح مالية من وراء أنشطتها الاقتصادية العابرة للحدود. وأخيراً فقد أضاف هذا التصور، وجود تنظيم قانوني لأنشطة هذه المنظمة، متضمنة في اتفاقية المقر، أو المتضمنة في القوانين الوطنية المنظِّمة لأنشطة هذه الكيانات، التي تتواجد على إقليمها.

وعليه يُمكن القول من ناحية إجرائية، أن المنظمات الدولية غير الحكومية، هي كيانات يتم إنشاؤها من جهات غير حكومية، سواءً أكانت أشخاص طبيعيين أو معنويين، من أجل خدمة أهداف غير ربحية، يمتد نشاطها ليشمل دولاً وأقاليم مختلفة. ويؤدي ذلك إلى إحداث تأثيرات على سياسات الدول، وبعلاقة متعدية التأثير على مجريات العلاقات الدولية، ويتفاوت هذا التأثير، باختلاف حساسية النشاط الذي تتخصص فيه كل منظمة. 

2.     المنظمات الدولية غير الحكومية: حدود التأثير:

يُعتبر تأثير المنظمات الدوية غير الحكومية، مسلماً بحدوثه في أغلب الحالات، التي تتعلق بأحد أوجه التفاعل، ذو العلاقة المباشرة، أو حتى غير المباشرة، بنشاط المنظمة. حيث عادةً ما تؤدي الضغوط المكثفة، التي قد تأخذ شكل حملات دعائية مكثفة، سواءً عبر وسائل الإعلام الجماهيري التقليدية، ووسائل الإعلام البديلة، مثل الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، إلى إحداث تغييرات في سياسات ومواقف الدول. غير أن التأثير الذي تُمارسه هذه المنظمات، يتوقف من جهة أخرى، على مدى حساسية موضوع التأثير، من وجهة نظر الدول، وكذلك على مدى قدرة هذه الأخيرة، على استيعاب هذا التأثير.

تمتد أوجه نشاط المنظمات الدولية غير الحكومية، بشكل متدرج من القضايا الإنسانية، المتعلقة بالجوانب الصحية، ومستويات المعيشة، إلى قضايا دولية ذات حساسية أعلى نسبياً. ويندرج ضمن الصنف الأخير، قضايا مثل التلوث والتنمية المستدامة، وكذلك انتشار الأسلحة والتجارب النووية، وبشكل خاص قضايا حقوق الإنسان...إلخ. وقد ساهمت هذه المنظمات بشكل فعال، في التأثير على سياسات الدول، وكذلك المنظمات الدولية، في مجالات تتعلق بمكافحة الأمراض المستعصية، وكذلك زيادة حجم المساعدات الإنسانية، لمساعدة الدول التي تشهد مستويات مرتفعة من الفقر وسوء التغذية. وقد ارتبطت هذه المسائل، ببذل جهود كبيرة، لكنها لم تصطدم بمصالح حيوية للدول، يجعل من الصعب اقناعها بتغيير سياساتها، أو ببذل جهود أكبر في هذه المجالات.

غير أن التأثير الذي يجدر الانتباه إليه، هو حالات التعارض، بين مجالات النشاط الخاص بالمنظمات الدولية، ومصالح الدول، ودرجة حساسية تلك المجالات من جهة مقابلة. فقدت شهدت العلاقات الدولية في فترات مختلفة، وبشكل خاص خلال فترات الثمانينات والتسعينات، صداماً بين توجهات بعض المنظمات الدولية غير الحكومية، التي تتعارض بشكل كبير، مع مصالح وسياسات الدول. ومن الأمثلة على ذلك، جهود منظمة السلام الأخضر، من أجل منع التجارب النووية، التي تجريها فرنسا في المحيط الهادي، والتي انتهت بقرار فرنسا التوقف نهائياً، عن إجراء تلك التجارب، بعد حادثة محارب الريمبو Rainbow Warrior.

غير أن النشاط الأبرز الذي تُمارسه المنظمات الدولية غير الإقليمية، يرتبط بشكل وثيق، بمسائل حقوق الإنسان، والتي أخذت حيزاً أوسع في العلاقات الدولية، خاصةً بعد نهاية الحرب الباردة. فقد شكل ذلك أداة ضغط على بعض الدول، التي شهدت مستويات مرتفعة، من حالات انتهاك حقوق الإنسان، خاصةً في الدول الإفريقية والآسيوية. فقد عرفت هذه الدول مواجهات كثيرو مع هذه المنظمات، من خلال التقارير الدورية، التي يتم رفعها إلى المنظمات الدولية، وعلى رأسها لجان حقوق الإنسان، على مستوى الأمم المتحدة. وقد يمتد الوضع، إلى إحالة بعض الملفات إلى النظر فيها، من طرف مجلس الأمن الدولي، وبالتالي إمكانية اتخاذ قرار بشأنها، تحت طائلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أو بتعبير آخر اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية ضد الدول المعنية.

توفر المنظمات الدولية غير الحكومية، في سياق متصل، الذريعة The pretext، التي تسمح بتجاوز مبدأ عدم التدخل، المنصوص عليه في ميثاق ومبادئ الأمم المتحدة. فالتركيز على المسائل المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، قد يكون له دور إيجابي، في تسليط الضوء على الحالات التي تعرفها بعض الدول، وقد ظهر ذلك بشكل واضح، قبل ظهور الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. غير أن ذلك أيضاً، قد يؤدي إلى تأويل الأحداث، بما يخدم الأجندة التدخلية لبعض القوى الأساسية، وبالتالي منح الشرعية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول. حيث تمت الإشارة إلى بعض الخصوصيات الثقافية والدينية، واعتبارها تتعارض مع حقوق الإنسان، مثل مسألة الحجاب، المثلية، وكذلك وضع الأقليات الدينية، وبعض التقاليد الاجتماعية، في المجتمعات المسلمة. وتحويل المواقف الاجتماعية والدينية، إلى مواقف اضطهاد اجتماعي وعرقي، يتطلب ضغط المجتمع الدولي.

وتجدر الإشارة، إلى أن هذا الدور، قد يفتح المجال واسعاً، أمام استعمال المنظمات الدولية غير الحكومية، كوسيلة للضغط على دول بعينها. وذلك من أجل تغيير سياساتها الخارجية، في مجالات وقضايا، قد لا ترتبط بمجال نشاط المنظمات غير الحكومية، حيث لا يكون المطلوب تغيير سياسات ومواقف الدول، في مجالات البيئة أو حقوق والإنسان، بل في مجالات ذات علاقة مباشرة بالدول التي تُمارس الضغط. فقد استغلت الولايات المتحدة الأمريكية، التقارير حول الرشادة وحقوق الإنسان، في بعض دول منطقة الخليج والشرق الأوسط، من أجل فرض إصلاحات سياسية سطحية، والاستفادة من فرص اقتصادية أكبر، على حساب قوى منافسة.  

ثالثًا: الشركات متعددة الجنسيات:

احتلت الشركات متعددة الجنسيات، مكانة أساسية في الاقتصاد الدولي، منذ فترات طويلة نسبياً، لكنها ارتبطت أكثر فأكثر بالعولمة، منذ تخلصها من الروابط الوثيقة التي ربطتها سابقاً بالدول. كما ساهمت طبيعة نشاط هذه الشركات، في ربطها بمسار العولمة منذ نهاية الحرب الباردة، حيث خرجت من دائرة التخصص في النشاط الاقتصادي. فإذا كانت سياسات التحرير الاقتصادي، إحدى السمات الأساسية للعولمة، فإنها في نفس الوقت، إحدى سياسات الشركات متعددة الجنسيات. فهذه الأخيرة، دائمة البحث عن "المناخات المشجعة على الاستثمار"، وتعظيم الربح وزيادة انتشارها، وهو ما يُشكل جوهر وجود هذه الكيانات الاقتصادية.

1.     الشركات متعددة الجنسيات: تعددية المراكز الاقتصادية:

لا تختلف الشركات متعددة الجنسيات، عن مختلف الكيانات الاقتصادية الأخرى، الساعية لإنشاء استثمارات، بهدف تحقيق الربح، في المجالات الصناعية، التجارية، المالية والخدماتية...إلخ. غير أنها في نفس الوقت، تتميز عن غيرها في خاصية الانتشار، وحجم رقم الأعمال، الذين يجعلان منها أحد أهم محركات العلاقات الاقتصادية الدولية، ومؤثر رئيسي على السياسات الاقتصادية والمالية على المستويين الدولي والوطني. وفي هذا السياق، تُعتبر الشركة متعددة الجنسيات، على أنها "تلك التي يُمكن لفروعها تحقيق حجم أعمال يُقدر بـ 20% في كل من مناطق المثلث الاقتصادي La triade économique (أمريكا، أوروبا، آسيا). وفي المقابل تحقق 50% من حجم النشاط في منطقة المقر". غير أن الأساس الكمي، لتعريف الشركة متعدد الجنسيات، قد يمزج بين هذه الأخيرة، والشركات الأخرى، التي تلك أنشطة اقتصادية خارجية. فالفرص الاقتصادية التي قد تمنحها بعض البيئات الاستثمارية، قد تجعل من الفروع والأنشطة الخارجية، تُحقق نتائج أكبر من النتائج المحققة على المستوى المركزي.

أما من منظور أكثر تبسيطاً، تُعرّف الشركات متعددة الجنسيات، من خلال توزيع الأدوار القيادية، داخل هذه الكيانات الاقتصادية، بين المركز والفروع. حيث يُعتبر أن "المؤسسات التي لها مركز القرار في دولة معينة، ومراكز النشاط في دول أخرى، تُعتبر شركة متعددة الجنسيات". وُشير هذا التصور إلى أن الشركة متعددة الجنسيات، هي كيان اقتصادي ذو نزعة مركزية، تحتكر فيها الوحدة المركزية (الشركة الأم)، كل صلاحيات القيادة والإدارة، للأنشطة الاقتصادية (الصناعية والتجارية)، المنتشرة في مختلف المناطق خارج دولة المقر. وبذلك لا يكون هناك فرق جوهري، بين هذا الصنف من الشركات، والشركات الوطنية التي تملك استثمارات مباشرة في الخارج.

أما بالنظر إلى توضيح الفرق الفعلي، بين العناصر الداخلية والخارجية، للشركات متعددة الجنسيات، فيُمكن توضيح العلاقة التي تجمع بين هذه العناصر، ومنه التوصل إلى معنى أكثر وضوحاً، لهذه الكيانات الاقتصادية. وانطلاقاً من ذلك، تُعتبر الشركات متعددة الجنسيات على أنها "التي تملك وتدير وحدات اقتصادية، في قطرين أو أكثر. وفي معظم الأحيان، فإن ذلك يستلزم استثماراً أجنبياً مباشراً، تقوم به شركة ما، وكذلك امتلاك وحدات اقتصادية (مثل خدمات، صناعات استخراجية أو تجهيزات صناعية) في عدة أقطار".

ويتماشى هذا التصور مع ما يُعرف باسم إحلال الواردات، حيث تتوجه الشركات إلى إنتاج السلع في مناطق أخرى، بدل من تصديرها، من أجل الاستفادة من المزايا الضريبية، أو التكيف مع القوانين والسياسات الاقتصادية الوطنية. لذلك كما هو متضمن في التعريف السابق، تتوجه الشركات متعددة الجنسيات، إلى تكوين فروع مستقلة لها في دول ومناطق أخرى، تكون بمثابة شركات وطنية، تخضع للقوانين الوطنية، وتنشط ضمن البيئة الاقتصادية المحلية. ويأخذ هذا التوجه كذلك صورة عمليات الاستحواذ، الدمج أو الشراء، لهياكل وشركات محلية، ثم القيام بتحويل أو تطوير نشاطها، ليتماشى مع سياسات الشركة الأم. 

انطلاقاً مما سبق، يُمكن القول أن الشركات متعددة الجنسيات، هي كيانات اقتصادية تُمارس أنشطة متعددة، صناعية، مالية وتجارية...إلخ، تستهدف تحقيق الربح وتعظيم المنافع الاقتصادية. تتميز بتعددية مراكز الإدارة وصنع القرار، بحيث يُمكن اعتبار الفروع، بمثابة الشركات الوطنية القائمة بذاتها، غير أنها تبقى خاضعة من حيث الاستراتيجية العامة، وتقرير المصير الخاص بها، خاضعة للشركة الأم.

2.     الشركات متعددة الجنسيات: التأثير لتعظيم الربح:

يجب التأكيد على الطابع الربحي، الذي تتميز به الشركات متعددة الجنسيات، كمحدد أساسي لدورها في العلاقات الدولية. لذلك فإن التأثير السياسي، الذي يُمكن ينتج عن أنشطة هذا الفاعل، يُعتبر من الآثار الجانبية لدور الشركات العالمية، التي تسعى إلى التأثير على سلوكات، وبشكل خاص السياسات الاقتصادية للدول المعنية. وهو ما قد يؤدي إلى تأثيرات مباشرة، ذلا علاقة بالمجالات الاقتصادية، إضافةً إلى تأثيرات سياسية واقتصادية، أخرى غير مباشرة، يُمكنها أن تعطي للدول القدرة على ممارسة دور أكبر في العلاقات الدولية.

تتدخل الشركات متعددة الجنسيات، على مستوى الدول التي تُشكل حاضنة لنشاطها، من أجل ضمان أرضية مناسبة، لتحقيق الأهداف الاقتصادية، مع الإبقاء على الحد الأدنى من التكاليف. وعليه فإن الشركات متعددة الجنسيات، تندرج ضمن الفاعلين الدوليين، المطالبين بإنشاء هيكل اقتصادي، ذو أبعاد سياسية، إدارية وقانونية، تشجع على القيام بالأنشطة الاستثمارية، في ظل تقليص المخاطر، وكذلك العوائق غير الاقتصادية أمام حرية النشاط، وكذلك تنقل رؤوس الأموال والعمالة. وفي المحصلة النهائية، تستهدف الشركات متعددة الجنسيات، تقليص هيمنة الدولة على الحياة الاقتصادية، وفق مبادئ الاقتصاد الليبرالي. ومن هذا المنطلق فإن الشركات متعددة الجنسيات، تُعتبر أحد أهم الفواعل فيما يُعرف بالعلاقات الاقتصادية الدولية، واستمراراً لذلك فهي تشكل موضوعاً أساسياً، في دراسات الاقتصاد السياسي الدولي.

يظهر تأثير الشركات متعددة الجنسيات أولاً بشكل مباشر، من خلال تدخلها على مستوى الدول، من أجل ضمان توفير الأرضية المناسبة لتوطين نشاطاتها الاقتصادية العالمية. وفي هذا الصدد فهي عادة ما تُحاول قبل بدء نشاطها، الحصول على ضمانات تخص أمن أنشطتها، إضافةً إلى المعاملة التفضيلية، فيما يخص السياسات النقدية، الضريبية والامتيازات الخاصة بهامش الحرية الذي يُمكن أن تتمتع به، في مجال إعادة الاستثمار والتصرف في الأرباح. وهي في هذا الصدد، تحاول على مستوى علاقاتها المباشرة مع الدول، خلق ما يُعرف بـ"جنة الاستثمارات"، حيث تكون القيود القانونية والاقتصادية، منحصرة في أضيق الحدود الممكنة.

كما تُمارس الشركات متعددة الجنسيات تأثيراً غير مباشر، من خلال الحصول على الحماية من طرف الدول، التي ينتمي إليها المقر الرئيسي، أو بتعبير آخر صاحبة الجنسية الأصلية للشركة. فالولايات المتحدة في كثير من الأحيان، الغطاء السياسي للشركات الأمريكية، من أجل حمايتها من التغيرات السياسية، التي تحدث في الدول التي تُمارس فيها هذه الشركات أنشطتها. فخلال الحرب الباردة تدخلت الولايات المتحدة، بالدفع نحو انقلابات عسكرية دموية، من أجل حماية مصالح الشركات الكبرى، العاملة في بعض دول أمريكا اللاتينية، على غرار الانقلاب العسكري في الشيلي سنة 1972، الذي سرّعه قرار الرئيس اليساري سالفادور أليندي، بتأميم الثروة المنجمية الوطنية.

أما على صعيد العلاقات بين الدول، فقد كانت الشركات متعددة الجنسيات، موضوعاً حتى للعلاقات السياسية بين القوى الأساسية في النظام الدولي. فعلى سبيل المثال تدخلت فرنسا، من أجل حماية شركاتها من العقوبات الأمريكية، التي قررت الولايات المتحدة سنة 1996، توقيعها على الشركات التي لها أنشطة في إيران، خاصةً تلك التي تعمل في مجال الصناعات النفطية، أو تتعامل بشكل مباشر مع الحكومة الإيرانية. ففي هذا السياق ردت الحكومة الفرنسية بالتهديد، باللجوء إلى مبدأ المعاملة بالمثل، وبالتالي توقيع عقوبات مماثلة، على الشركات الأمريكية، وهو ما دفع بالولايات المتحدة إلى التراجع عن تهديداتها. وينطبق نفس المبدأ على الشركات الروسية، التي تحظى بالحماية الرسمية للدولة، في مواجهة العقوبات الأوروبية والأمريكية، على خلفية الحرب في أكرانيا منذ 2022. وعليه فإن تداخل أنشطة الشركات متعددة الجنسيات، مع المصالح الاقتصادية الحيوية للدولة، أو مع خطاب القومية أو الكرامة الوطنية، يجعل منها تتمتع بالحماية المباشرة للدولة، سواءً على مستوى السياسات الاقتصادية، أو على مستوى العلاقات الثنائية/متعددة الأطراف.

غير أن هذا الوضع لا يجعل من الشركات متعددة الجنسيات، منخرطة -بشكل رسمي على الأقل- في السياسة الخارجية للدولة، حيث عادةً ما تُبقي نفسها بعيدة نسبياً عن المواقف الرسمية للدولة. فالهدف المعلن لهذه الشركات، أي تحقيق وتعظيم الأرباح، قد يجعلها في كثير من الأحيان تتبنى خطاباً محايداً، حول القضايا التي تطرأ في العلاقات بين دولة المقر ودولة النشاط. رغم ذلك فإنها عادةً ما تكون كبش فداء لتغير طبيعة العلاقات بين الدول، حيث تدفع جزءً من الفاتورة الاقتصادية لهذا التحول، من خلال العقوبات، أو الإجراءات القانونية العقابية...إلخ. لهذا تلجأ الكثير من الشركات إلى اعتبار فروعها المحلية، جزءً من النسيج الاقتصادي الوطني، أو بتعبير آخر فهي تُعتبر من طرف الشركة الأم شركة اقتصادية وطنية. حيث تحاول بذلك إقناع الدول، بالامتناع عن معاقبة شركاتها الوطنية، بسبب التوتر الذي قد يصيب طبيعة العلاقات مع الدول التي تنتمي إليها الشركة الأم.

كما يؤدي السعي لتعظيم الربح في بعض الأحيان، إلى تشجيع الشركات على الاندماج في الفساد الذي قد يسود في بعض الدول، خاصة تلك التي تنتمي إلى العالم الثالث. ويكون ذلك محاولة منها للتأقلم مع الأوضاع القائمة، سياسياً، اقتصادياً وإدارياً، لاستغلال الأوضاع القائمة لتحقيق أهدافها الاقتصادية من جهة، وتفادي الدخول في صراع، مع مكونات البيئة الداخلية، التي تتحكم في النشاط الاقتصادي في تلك الدول، خاصة إذا تعلق الأمر بالصناعات النفطية، والخدمات المالية...إلخ. حيث أظهرت التقارير الدولية حول الفساد، تورط شركات كبرى في تقديم رشاوي، من أجل الحصول على عقود إنجاز البنية التحتية في بعض الدول، والحصول على عقود دفاعية ومبيعات أسلحة في حالات أخرى.

يُمكن القول انطلاقاً من ذلك، أن الشركات متعددة الجنسيات، وإن لم تكن فاعل سياسي بالأساس، على غرار الدول والمنظمات الدولية، الحكومية منها وغير الحكومية، إلا أنها تبقى فاعلاً يُمكنه ممارسة تأثير سياسي، يتجاوز في كثير من الحالات الدور الذي تُمارسه الدول. فبعض الشركات تُحقق رقم أعمال وميزانيات، تتجاوز بكثير ما تحققه الدول سنوياً، وهو ما يُساعدها على ممارسة الضغوط السياسية، الضرورية من أجل تحقيق هدفها الأساسي وهو تحقيق وتعظيم الأرباح.    

رابعاً: الجماعات المسلحة غير النظامية:

تمتعت الدولة خلال فترة زمنية طويلة، بامتياز احتكار الامتلاك الشرعي للقوة العسكرية، باعتبارها أداة لتحقيق الأهداف الوطنية، وعلى رأسها الدفاع والأمن الوطنيين. غير أن نهاية الحرب العالمية الثانية، وتصاعد المد التحرري الوطني، والرغبة في فك الارتباط مع القوى الاستعمارية التقليدية، كسرت نسبياً الاحتكار الذي مارسته الدولة، على ملكية القوة أو القدرات العسكرية. وقد أدى الجدل بين المواقف السياسية حول هذا التحول، بين أوصاف الإرهاب، التحرر والمقاومة المشروعة، عرفت العلاقات الدولية اللجوء إلى اصطلاح حيادي، وهو مصطلح الجماعات المسلحة غير النظامية، للإشارة إلى عدم وجود ارتباط تنظيمي أو مؤسساتي، قد يجمع هذه الجماعات والدولة، رغم عدم نفي إمكانية وجود تقاطع، بين مصالح وأنشطة هذه الجماعات، مع السياسات الأمنية والدفاعية للدولة.   

1.     الجماعات المسلحة غير النظامية بين المقاومة والإرهاب:

يُنظر إلى الجماعات المسلحة غير النظامية، على أنها تلك التي تُمارس العمل المسلح لتحقيق إايات سياسية، أو تلك التي تُمارس تأثيراً سياسياً مباشراً على الدولة. وتُعرّف من هذا المنطلق على أنها "الجماعات المسلحة...التي يُهدد تمردها أو مقاومتها سلطة الدولة بشكل صريح، وليس جميع الجماعات المسلحة غير الحكومية (التي تشمل المنظمات الإجرامية والعصابات، بالإضافة إلى القوات شبه العسكرية المرتبطة بالدولة). تعتبر الجماعات المسلحة العمل العنيف مبرراً، باعتباره دفاعاً عن النفس ضد انتهاكات حقوقها". 

ويُمكن الاستناد إلى هذا التصور، لوضع الأساس الذي يُساعد على تركيز الاهتمام على الجماعات المسلحة غير النظامية، حيث يُمكن استثناء جماعات الجريمة المنظمة، أو إدخالها ضمن دائرة الاهتمام، بقدر التأثير الذي تُمارسه على النظام السياسي. بالرغم من أن التعريف يوحي بأن استبعاد جماعات الجريمة المنظمة، جاء لأن التأثير الذي قد تُمارسه على السلطة السياسية، لا يعتبر جزءً من أهدافها الأساسية. كما أن لجوؤها إلى العنف والقوة العسكرية، لا ينتج عن طبيعة العلاقة التي تربطها مع السلطة السياسية، أو بانتهاك لحقوق مشروعة، بل هو آلية العمل المعتمدة على مستوى هذه الجماعات.

تتميز الجماعات المسلحة غير النظامية، بالتنوع من حيث الخصائص التنظيمية، وقدراتها العسكرية، والتأثير السياسي والعسكري الذي تُمارسه ميدانياً. لذلك فقد بقيت بعض الجماعات ضمن دائرة الجماعات الإرهابية، دون أن تتمكن من دخول في مسارات للتسوية السياسية، سواءً لرفض الدول، أو لوجود موانع أيديولوجية على مستوى الجماعات. ويندرج ضمن هذا الصنف الجماعات الإرهابية ذات الطابع الديني، مثل الفروع المختلفة لتنظيم القاعدة، تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام...إلخ. والملاحظ أن هناك إجماع رسمي وغير رسمي، حول مدى اعتبار هذه الجماعات المسلحة على أنها تنظيمات إرهابية، تندرج ضمن الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب.

ونجد في المقابل جماعات مسلحة أخرى، تتميز بنوع من المرونة الأيديولوجية، بحيث تسمح غاياتها السياسية، بوضع إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية ضمن الخيارات المتاحة. حيث يُمكن أن تنخرط في تسويات سياسية، تُمكنها من الحصول على شرعية النشاط السياسي، مع التخلي عن العمل العسكري. ومن بين أبرز الأمثلة على ذلك منظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي I.R.A، التي انخرطت في مسار مفاوضات تُوج باتفاق الجمعة العظيم سنة 1998، الذي تضمن مسار التسوية السياسية. يُضاف إلى ذلك، مسار السلام في كولومبيا، الذي انخرطت فيه حركة القوات المسلحة الثورية الكولومبية FARC، الذي انتهى إلى اتفاق سنة 2016. أي إمكانية التحول من العمل الإرهابي أو المسلح، إلى تبني العمل السياسي كآلية لتحقيق الأهداف السياسية، خاصةً مع عدم جدوى استخدام القوة العسكرية للأهداف، التي استعملت من أجلها لفترة زمنية طويلة.

وأخيراً فإن حركات غير نظامية أخرى، حظيت بإجماع كبير في فترات تاريخية سابقة، على اعتبارها حركات مقاومة، أو حركات تحرر وطني، خاصة خلال الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى نهاية الحرب الباردة. فقد تميزت هذه المرحلة بالاستقطاب السياسي والإيديولوجي، حيث سمح ذلك بحصول هذه الجماعات على التأييد من طرف القوى المتنافسة. رغم وجود خطاب سياسي مضاد، يعتبر هذه الجماعات بمثابة الجماعات الإرهابية، يتركز على مستوى الدول الاستعمارية وحلفائها. ويندرج ضمن هذا السياق جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومختلف حركات المقاومة المسلحة الفلسطينية واللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

رغم ذلك فقد تزايدت النزعة، خاصةً على المستوى الرسمي في أوروبا والولايات المتحدة، نحو تصنيف الحركات المقاومة المسلحة الفلسطينية، على أنها جماعات إرهابية. على اعتبار أنها لا تعترف بمسار التسوية الفلسطيني الإسرائيلي، المتفق عليه إثر اتفاقية أوسلو 1994، إضافةً إلى اعتبار أن السلطة الوطنية الفلسطينية، هي بمثابة الممثل الوحيد الشرعي للشعب الفلسطيني. واستعمال القوة غير المبرر ضد المدنيين، كما حدث في عملية طوفان الأقصى سنة 2023، دون ذِكر للممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، والتي ترقى لأن تكون جرائم ضد الإنسانية.

2.     الجماعات المسلحة غير النظامية: كسر احتكار الدولة للقوة والتأثير:

لطالما كانت الدولة هي المحتكر الشرعي للقوة العسكرية، دون غيرها من الفاعلين في العلاقات الدولية، رغم وجود بعض الاستثناءات التي ميزت القرنين الـ18 والـ19، إلا أن هذه الاستثناءات لم تكن بالانتشار الكافي، الذي يُمكن من خلاله كسر القاعدة. وباحتكارها للقوة العسكرية، فقد احترت الدولة لحجم كبير من التأثير في العلاقات الدولية، حيث كان من الممكن التعامل بنفس الأسلوب مع الدول الأخرى، أو حتى مع الجماعات. فقد استعملت النمسا القوة العسكرية ضد صربيا سنة 1914، بسبب اغتيال ولي اعهد النمساوي، من طرف جماعة أشخاص من صرب البوسنة يدينون بالولاء لمملكة صربيا.

غير أن هذا الاحتكار الذي تمتعت به الدولة، خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، قد تم كسره في مناسبات عديدة من التاريخ المعاصر للعلاقات الدولية. فقد كان ذلك أولاً من خلال حركات التحرر الوطني، التي انتشرت في إفريقيا وآسيا خلال الخمسينات والستينات من القرن الـ20. ثم من خلال الحركات الثورية وحركات الثورة المضادة، التي عرفتها أمريكا الجنوبية، خلال مرحلة السبعينات والثمانينات (نيكاراغوا، الهندوراس، السالفادور...إلخ). وأخيراً من خلال الجماعات المتطرفة والإرهابية، ذات البعد الديني بتأثير من نهاية الاستقطاب الأيديولوجي بعد نهاية الحرب الباردة، خاصةً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد جعل من الدولة ذاتها، تخضع لتأثيرات الأنشطة التي تُمارسها هذه الحركات، بغض النظر عن تصنيفها القانوني والسياسي، كحركات مقاومة، حركات ثورية أو جماعات إرهابية.

مارست هذه الجماعات تأثيراتها أولاً على مستوى الدول، حيث حاولت بعضها استنزاف قدرات الدولة الاقتصادية والعسكرية، عن طريقها في حرب استنزاف طويلة الأمد. وقد أدى ذلك إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية، السياسية وحتى الاجتماعية في الدولة، وهو ما وضع السلطة أمام حتمية التفاوض، والبحث عن التسوية السياسية. فقد وافقت الحكومة البريطانية على التفاوض مع المنظمات المسلحة في أيرلندا الشمالية، والتوصل إلى اتفاق سياسي يُبقي الإقليم ضمن السيادة البريطانية، مع إباء الباب مفتوحاً أمام تغيير الوضع السياسي لأيرلندا الشمالية، وضمها إلى جمهورية أيرلندا. غير أن هذه الحالة لم تكن ضمن الترتيبات التي تبنتها دول أخرى مثل الجزائر، التي فضلت الإبقاء على الخيار الأمني/العسكري، مع فتج المجال لتسليم الجماعات الإرهابية للسلاح، مقابل الاستفادة من تدابير وأحكام قضائية مخففة، ضمن مبادرة الرحمة، ثم قانون الوئام المدني. وقد تمكنت الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة الجزائرية، من السيطرة على المعاقل الأساسية في شمال البلاد، وحرمان الجماعات المسلحة من أريحية العمل الإرهابي، وبذلك انتقلت إلى منطقة الساحل الإفريقي.

تمكنت هذه الجماعات في حالات أخرى، من الاستيلاء على السلطة، وتأسيس نظام سياسي جديد، والتحول من جماعة إرهابية إلى حالة السلطة المعترف بها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، حركة الطالبان في أفغانستان سنة 1996، ثم سنة 2021 بعد إلحاقها الهزيمة بالقوات الحكومية، وانسحاب القوات الأمريكية. وكذلك هيئة تحرير الشام، التي اعتبرت خلال الحرب الأهلية السورية جماعةً إرهابية، ثم تحولت إلى السلطة القائمة والمعترف بها، في سوريا منذ نهاية 2024. علماً أن كلتا الحالتين السابقتين (أفغانستان وسوريا)، تشتركان في العلاقات الوثيقة التي جمعت كل من حركة طالبان، وهيئة تحرير الشام بتنظيم القاعدة. وبالتالي فإن هذه الحالات قد فتحت المجال، أمام هذه الجماعات غير النظامية، لاكتساب الشرعية والاعتراف الدوليين، بموجب أحكام الأمر الواقع، الذي تفرضه تغيرات توازن القوى في الميدان.  

يُمكن أن تكون هذه الجماعات على العيد الدولي، موضوعاً لسياسات دولية مشتركة، عادةً ما تحمل تسمية الحملة/المساعي الدولية لمكافحة الإرهاب. حيث يتم التنسيق بين الأجهزة الحكومية السياسية، والمؤسسات العسكرية، إضافةً إلى المنظمات الدولية، ومختلف الجهات المانحة للتمويل، على المستويين الوطني والدولي. ويكون الهدف الرئيسي القيام بإجراءات متعددة الأطراف والأبعاد (سياسية، اقتصادية وعسكرية)، بغض القضاء على التنظيمات الإرهابية بشكل عام، أو على الأقل التنظيمات الإرهابية، التي تُمارس التأثير الأبرز في العلاقات الدولية، على المستويين العالمي، الإقليمي والوطني. ومن هذه الحملات، تلك التي شنها تحالف دولي في الشرق الأوسط، ضد تنظيم القاعدة، ثم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. وقد شمل ذلك القيام بعمليات عسكرية، ومنها عمليات لتصفية القادة البارزين، عمليات تجميد لأرصدة وأصول مالية، مودعة في البنوك على المستوى الدولي، أضافةً إلى أنشطة قانونية وسيبرانية، تستهدف مكافحة الخطاب الراديكالي، على مستوى الشبكة العالمية.

وعليه يُمكن القول أن هذه الحالة، ساهمت في زيادة التعاون الأمني، الاستخباراتي والعسكري، على المستويين الدولي والإقليمي. كما رفعت القدرة على تنسيق الأنشطة ذات الأبعاد المختلفة، الاقتصادية، العسكرية، الثقافية والاجتماعية، ضمن حملات دولية طويلة الأمد. كما استطاعت بعض الدول، بعد مرافعات على المستويين الإقليمي والدولي، من تبني قوانين دولية لتجفيف المنابع الاقتصادية للإرهاب. حيث كُللت الجهود الجزائرية، على مستوى مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي، من استصدرا قرارات لتجريم تسليم الفدية للجماعات الإرهابية. والذي جاء بعد تسليم فرنسا ودول أوروبية أخرى، لفديات للجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، من أجل تحرير رعايا فرنسيين تم اختطافهم في المنطقة.

يُمكن القول أخيراً، أن الجماعات غير النظامية المختلفة، لا تشترك فقط في طابعها التنظيمي، وأسلوب القيادة، وعدم ارتباطها -الرسمي على الأقل- بالدول. بل تشترك كذلك في الاختلاف حول تصنيفها في نفس الوقت، بين حركات مقاومة مشروعة، وجماعات إرهابية وإجرامية، تستعمل القوة العسكرية، بشكل غير شرعي وغير مشروع. ويستند ذلك إلى عدالة القضية التي تتبناها وتدافع عنها هذه الجماعات، ومدى التزامها بالقانون الدولي، ومبادئ القانون الدولي الإنساني. فبعض حركات المقاومة وفقاً للمعايير الجزائرية، تُصنف وفق معايير أمريكية وأوروبية، على أنها تنظيمات إرهابية، مثل حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، حركة الجهاد الإسلامي...إلخ. وهو ما يعني أن الفاعلين الأساسيين في العلاقات الدولية، خاصة على مستوى المنظمات الدولية الحكومية، لم يتمكنوا بعد من وضع معايير مشتركة ومتفق عليها، لتحديد الجماعات الإرهابية وجماعات المقاومة المشروعة. وهو ما يعكسه فشل المنظومة الدولية في إصدار تعريف شامل ومتفق عليه للإرهاب منذ أكثر من عقدين من الزمن.

خاتمــــــــــة:

تفضي هذه القائمة من الفاعلين غير الدولاتيين، إلى الافتراض بتحول العلاقات الدولية، من نموذج السياسات الدولية، القائم على هيمنة الدولة، إلى نموذج المجتمع العالمي، القائم على الحدود المفتوحة أمام مشاركة فاعلين متعددي من غير الدول، تفتح المجال أمام الجماعات الصغيرة، لممارسة دور ما في التفاعلات الدولية. غير أن فتح مجال التفاعل الدولي/العالمي، أمام هذا الصنف من الفاعلين غير الدولاتيين، لا يجب أن يُفهم منه مساواة دورها، مع الدور الذي تُمارسه الدول وبدرجة أقل المنظمات الدولية الحكومية. فقد يشمل دور الفاعلين الدولاتيين نفس الوقت، مجموعة متنوعة من المجالات، المتعلقة بالاقتصاد، المجتمع والثقافة، الشؤون السياسية الدولية، الأمن والدفاع...إلخ. بينما عادةً ما يكون نشاط الفاعلين غير الدولاتيين، محصوراً في مجال معين دون غيره، وساءً تعلق الأمر بالتحرر الوطني، القضايا الإنسانية المختلفة (التنمية، حقوق الإنسان)، أو المصالح الاقتصادية...إلخ. وبذلك تتقاطع مسارات هؤلاء الفاعلين في كثير من الأحيان، مع الدولة والمنظمات الحكومية الدولية، سواء أكان هذا التقاطع يأخذ طابعاً تعاونياً أو صدامياً. ومن الأمثلة على ذلك استضافة منظمات غير حكومية، من ظرف منظمة دولية حكومية، لتقييم مواقف وسياسات الدول، في مجال حقوق الإنسان. وهو ما يتم على مستوى إحدى وكالات الأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان.    


Modifié le: lundi 22 décembre 2025, 18:11