النقد الاجتماعي

النقد الاجتماعي:

يسعى المنهج الاجتماعي إلى إبراز المضامين الاجتماعية في الأثر الأدبي، وذلك بالعودة إلى سياقات النص التاريخية والاجتماعية، بالبحث عن مصادره التي نشأ فيها، وتفحص المدى الذي اتبعه المبدع في عرض الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية التي عاشها المجتمع بعامة، والمبدع بخاصة، ويبحث في تأثيرات الواقع الاجتماعي، وانعكاسها في أعمال المبدع، والمواقف التي كانت موجهة لمساره، بالنظر إلى جملة القضايا الاجتماعية التي عايشها.

     استطاع المنهج الاجتماعي أن يتغلغل في أركان النقد في الجزائر، ويستقطب اهتمام الدارسين والنقاد على حد سواء، إذ كان موضوع إصلاح المجتمع وإعادة تركيب تنظيماته حديث كل أفراد المجتمع؛ بدءً بالعامل البسيط وصولا إلى المثقف والأكاديمي، فكل يرى من منظوره أن من واجبه الإسهام ضمن المنحى الأيديولوجي الاشتراكي، في ترسيخ القيم والأهداف التي جاء بها.

 وتعد هذه المرحلة التي مر بها مسار النقد الجزائري حسب الناقد مخلوف عامر من أرقى المراحل النقدية؛ إذ يحول فيها الناقد أطراف المبدع الجوانية والبرانية معا، والتي يضع لها جملة من الشروط من أهمها:

1- امتلاك وعي نظري يسمح بفهم طبيعة الإنتاج الأدبي ضمن أيديولوجيا معينة.

2- امتلاك ثقافة أدبية ولغوية يسهل عملية الغوص في أعماق الإبداع الفني.

3-لايكتفي الناقد بالتذوق الخالص، ينسلخ عن العمل الأدبي ويعلو عليه، لا ليأخذه كظاهرة توجد في الوعي فقط"([1]).

      عرف الأدب الجزائري خلال هذين العقديين، تطورا ملحوظا تبعا للتطور الهائل والتحول الجذري الذي حدث في المجتمع، باعتبار أن "الأدب شكل من أشكال النشاط الاجتماعي، والوعي الثقافي والسياسي، ويتمثل هذا التطور في انفعال الأديب وتفاعله بمحيطه الذي يعيش فيه ومحاولته الدؤوبة في فهمه والتعبير عنه"([2])، وقد اتضحت معالم المنهج الواقعي في النقد الجزائري من خلال كتابات الناقد محمد مصايف الذي كانت له إسهامات عديدة تناول فيها بالدراسة والتحليل والمقاربة، مجموعة من الروايات، وسبر أهم سمات الواقعية فيها، دون اللجوء إلى الحياة الاجتماعية لكتابها، غير أنه يربط المواقف المعبر عنها في النصوص بحقيقة الواقع الذي يعيشه الفرد الجزائري، ومدى التزام كل أديب بالقضية الوطنية سواء في الكفاح ضد الاستعمار أو في مرحلة البناء والتعمير، فرواية "اللاز" على سبيل المثال، تبين "الخط الأيديولوجي الذي كان يؤمن به بعض المناضلين الجزائريين"([3])، وتلتقي مع رواية "الزلزال" في جانب هذه "الإيديولوجيا التي يلح عليها الطاهر وطار في معظم كتاباته الأخيرة، وتفترق معها في المحور العام الذي يدور حوله كل منهما، فبينما خصصت "اللاز" لتصوير أحداث معينة من ثورة فاتح نوفمبر، اهتمت "الزلزال" بتصوير الآثار الاجتماعية السيئة التي نجمت عن هذه الأحداث"([4])، هذا ما يدل على أن وطار يكتب بدافع فكري محض.

     انصبت دراسات الناقد محمد مصايف على الأعمال التي اتخذت القضايا الوطنية والقومية شعارا لها، وتقصى بها درجة تفاعل الأديب خدمة للوطن والمجتمع، ومدى امتلاكه الجرأة وحرية التعبير في الطرح والالتزام الصادق، الذي لا يقصد به الناقد الأمانة في نقل أحداث المجتمع وهمومه، بل "يتعدى ذلك إلى تشخيص ما يضطرب في نفسية الجماهير، وتحديد الخط الذي تسير فيه هذه الجماهير نحو مستقبل أفضل مما يضطر الأديب إلى الإلحاح بصفة خاصة على [تصوير] الصراع الطبقي وإلى التركيز على القوى الحية في هذا الصراع"([5]).

من واجب الأديب بوصفه فردا في المجتمع، أن يمتلك دون غيره من الأفراد جملة من المواصفات من بينها؛ امتلاك "عقل قادر على الدرس، ونفس كبيرة تستوعب كل هذه الجوانب من الحياة، ولذلك إذا كان على الأديب أن يعيش مع الجماهير، وأن يستقي منها ومن بيئتها موضوعاته وخواطره، فإن عليه كذلك أن يعتمد على تجربته الخاصة، وموهبته واستعداده للإبداع الفني"([6])، وأن يكون تأثره بهذا الكل جليا في كتاباته، وبالمقابل فهذا الكل يلمس مطالبه وحاجاته في الأدب، لأن الأديب مطالب أكثر من غيره بتفعيل الحراك الاجتماعي، والانخراط في الصراع الذي يخوضه أفراده.

يرى  الناقد عبد الله ركيبي أن التزام الأديب بقضايا مجتمعه وهموم شعبه، لا ينبغي أن يقوده إلى "ضرب من الإقليمية قد تكون شرا من الذاتية الرومانسية، لأن هذه الأخيرة إن كتبت لا تفيد المجتمع من وجهة النظر الواقعية، فإنها لا تشكل خطرا على مستقبله أو على الأقل لا تلحق ضررا مباشرا"([7])، وحتى يتسنى للأديب الواقعي أن يقوم بهذه الرسالة الإنسانية الاجتماعية على أكمل وجه، وجب عليه التخلي عن كثير من التقاليد والاكتفاء بمعالجة الموضوعات والقضايا من الخارج، كما يقال لأن عدم الاندماج في الشعب لا يؤدي إلا إلى إنتاج سطحي شكلي"([8]).

       امتازت القصة القصيرة في الجزائر حسب الناقد مصايف برسوخها المتين على أرضية اجتماعية ووطنية وقومية، كان لها الفضل في خلق أديب "مناضل ملتزم بقضايا الجماهير بالدرجة الأولى"([9])، يكتب من نبع قناعاته المستلهمة من الايديولوجيا الاشتراكية، حيث يكون فيها التزامه شبيها بالتزام العامل المناضل، يلعب فيه هو الآخر "دور نضالي يخدم القضايا الوطنية والقومية والإنسانية، ويحتاج صاحبه إلى قدر كبير من الجرأة وحرية التعبير"([10])، غير أن غياب الاندماج بين الأديب والمجتمع، يؤدي إلى قطيعة بين ما يكتب، وبين النهج الاشتراكي السائد، والمحدد للتوجه الأيديولوجي العام.

       دفعت الثورة التحريرية بالقصة خطوات إلى الأمام، وارتقت بها كفن؛ بأن جعلتها تتجه إلى الواقع، تستمد منه مضامينها وموضوعاتها، ولتغير محور الارتكاز النابع من التقاليد والحب والمرأة، إلى التعبير عن الإنسان والنضال والمجتمع، ووفقه التزمت القصة "بواقع الثورة وتبنت قضية الشعب وصورت كفاحه العادل (...)، وأصبح الجبل بطلا رئيسيا في قصص الثورة ينطق وينفعل لا مجرد حجارة"([11])، ووفرت للقصاصين، "فرصة للتجريب في الأسلوب أو في المضمون، وإذا بالواقع فرض نفسه على أقلام كتاب القصة وطرائقهم في التعبير(...)، متخطية دروب الوعظ والخطابة والذاتية المنغلقة على نفسها [لتقدم]، مرحلة الواقعية بمفهومها الحديث(...)، التي تعتني بالإنسان أولا وأخيرا بلا طنطنة ولا صراخ ولا افتعال، الواقعية التي لا تنقل نقلا آليا"([12])، إنما تستقي منه مواضيعها ليصوغه القصاصون فيما بعد، ويرتقوا عنه بتصويره تصويرا فنيا في أشكال جديدة، تهدف جميعها على دعم الثورة.

 تم تقديم الثورة وفق ثلاثة ملامح هي: الشعبية في الحركة والشمولية في النظرة، والاستمرارية في العمل الثوري، أما الملمح الثالث فنلمسه في الموقف الثابت إزاء القضايا العربية والدفاع عنها فنيا؛ ويذكرنا الطاهر وطار "بلعبة الأطفال الجزائريين، لعبة الحرب التي تندلع بينهم على أساس أن بعضهم يمثل الفرنسيين وبعضهم يمثل العرب"([13]).

كما نقل القصاصون الثورة بأشكال مختلفة؛ رغم أنها "واحدة في الواقع، فإن من الجميل حقا أن يفرق وطار بين الثورتين، وأن يلح في الوقت ذاته على الثورة الاجتماعية بالقياس إلى الثورة المسلحة"([14])، إذ يقدمها عبد الحميد بن هدوقة وفق ثنائية الهدم وقت الحرب، والبناء أيام السلم، وتعبر عنها زهور ونيسي "تعبيرا عميقا، وتنطلق القاصة من نظرية أن الثورة الجزائرية لم تكن عملا مسلحا فحسب، بل كانت بالإضافة إلى هذا أفكار أو مواقف وأحلاما ونظريات"([15])، أما جيلالي خلاص فيمنحها بعدا نفسيا وشعوريا؛ "شعور يتمثل في اقتناع المناضل المؤمن بالقضية التي يكافح من أجلها"([16]).

كانت الثورة بأبعادها المختلفة، القاعدة الأساسية التي بنى عليه معظم كتاب ما بعد الاستقلال أعمالهم، والمرجعية الثابتة التي كانت تجنب الأدب الجزائري من "التساقط في الشكلانية والسوداوية التي لا مبرر لها"([17])، غير أن بعض النقاد يرون عكس ذلك؛ فالثورة عندهم "لا تفرز أدبا نضاليا قويا، إلا بعد فترة زمنية معينة، فهو إما يسبق الثورة كما حدث في الثورة الفرنسية والثورة الروسية وإما أن يأتي فيما بعد، وهو الشيء السائد أما ما يواكبها فهو لا يرقى عادة إلى مستواها باستثناء بعض الحالات، ومنها الأدب الفلسطيني"([18])، وبالتالي، فإن أدب الثورة الحقيقي مازال يحتفظ لنفسه بمدى طويل من الوجود.

       عرض الناقد عبد الملك مرتاض وفق دراسة إحصائية، استقصى فيها طبيعة المضامين التي اهتمت بها القصة الجزائرية، والتي لم تبتعد عن تجسيد محورين أساسيين هما: المضمون الاجتماعي والوطني، ومن خلال الملاحظة التي خرج بها الناقد من قراءته "لزهاء سبعين قصة [بدى له] أن القصاصين الجزائريين أحرص على المضمون الاجتماعي أكثر من أي مضمون أخر"([19])، وكانت عينات الدراسة؛ قصص "الكاتب وقصص أخرى" و"الأشعة السبعة" لعبد الحميد بن هدوقة، "القرار" و"الصعود نحو الأسفل" لحبيب السايح، "الأضواء والفئران" لمصطفى فاسي، "الصراع" لأحمد منور. وهذا المحور[الاجتماعي] يشكل في مجموع امتداده نسبة ما يقترب من 52% "([20]).

أجملت هذه الاحصاءات في الجدول الآتي:

عنوان المجموعة

النسبة

المعدل

الموضوع

العدد الاجمالي

الكاتب وقصص أخرى

81%

09 قصص

اجتماعي

11 قصة

الأشعة السبعة

34%

04 قصص

//

11 قصة

القرار والصعود

70%

07 قصص

//

10 قصة

الأضواء والفئران

72%

08 قصص

//

 11 قصة

الصراع

81%

 09 قصص

//

11 قصة

تتضح ملامح التوجه الواقعي- حسب الناقد - في التطرق إلى مواضيع الفقر والهجرة والأرض، إذ أن معظم مواضيع القصة الجزائرية بعد الاستقلال، تدور في فلك التعبير عن الثورة، وما يتصل بها من حديث عن الهجرة خارج الوطن، وما خلفه الاستعمار من آثار، كما هو عليه في مجموعة زهور ونيسي "الرصيف النائم"، وأبو العيد دودو في "بحيرة الزيتون"، ووطار في "الطعنات"، حتى وإن لم تنضج فنيا، ذلك أنها امتازت بصدق التعبير، ودقة الوصف.

       كانت نشأة القصة في خضم تنامي الحركة الإصلاحية التي قادها ابن باديس، من خلال انتاج أدب نابع من تأثير التيارات الأدبية الحديثة، ولكن "ظروف الثورة لم تكن لتسمح لهم بالمضي إلى أخر الشوط مع حركة التجديد الأدبية على حساب القضية الأساسية التي هي الثورة فساد ذلك الطابع المباشر الذي أشرنا إليه في إنتاجهم"([21])، وأمدتهم الثورة بموضوعات جديدة، جانبت الموضوعات التقليدية التي تدور حول موضوع الحجاب والسفور، وخطر الزواج بالأجنبيات وأضرار الخمر.

        يعود بنا الناقد واسيني الأعرج إلى أصول الواقعية عند أشهر أعلامها الغربيين، من أمثال بلزاك الذي تمكن بحاسة الفنان، أن يكشف أسباب اندلاع الثورات، باعتبارها رد فعل عن ثبات الرأسمالية، و"تحطيم عاجل للمجتمع الرأسمالي البرجوازي، القائم على الاستغلال والربح، ففي رواية "الفلاحون" وبعد جهد طويل ومعاناة صادقة، استطاع أن يصور وللمرة الأولى الآثار الفعلية التي حدثت للطبقات الاجتماعية في الريف"([22])، ويتحول بنا إلى علم أخر من أعلام الواقعية، وهو تولستوي الذي اكتفى بكونه كاتبا، وليس "مجرد مراقب ومشاهد للعملية الاجتماعية في تطورها التاريخي، وكانت أعماله جزء من صراعه الاجتماعي وانعكاسه يشكل يبعد عن الميكانيكية"([23]).

       تغلغل هذا الاتجاه في الرواية الجزائرية، وكانت البداية مع كتابها باللغة الفرنسية، "وقبلها بقليل عند المتجزئرين*، فكان ذلك إيذانا بتبلور اتجاه أدبي واقعي يحمل نسقا جديدا، واستمر ذلك مع جملة من الكتاب حتى اندلاع الثورة التحريرية، ثم بعد الاستقلال على يد قافلة من الكتاب هم محمد ديب، كاتب ياسين، مولود فرعون، آسيا جبار، مالك حداد، عبد الحميد بن هدوقة"([24])، وتكاد تكون رؤيتهم للمجتمع "مشتركة إلى حد ما من حيث أن الواقع مركز حي ومتحرك"([25]).

        وعليه، يحدد الناقد مجموعة من الاتجاهات التي سلكتها الرواية الجزائرية، بداية مع الاتجاه الإصلاحي، الذي افتقرت فيه الكتابة الابداعية إلى رؤية علمية، نظرا لسيطرة النزعة الأخلاقية الدينية، واتجاه رومانتيكي اهتم بعرض الرؤية البرجوازية الصغيرة، وأخيرا الاتجاه الواقعي، الذي بموجبه صنفت الرواية الجزائرية إلى اتجاهين هما:

1ـ الاتجاه الواقعي النقدي: امتاز هذا الاتجاه بتعامله المباشر مع الواقع، وبحثه عن الجوهر في المجتمع رافضا المصادفة، والإغراق في الخيال، في سعيه إلى تغيير البنى الثقافية الموجودة، إذ تترافق التطورات والرؤى الواقعية مع كل ثورة، مع أن هذا الوضع لم ينعكس على "الأدب المطلوب جماهيريا، على الصعيد الاجتماعي، وربما كان ذلك راجعا إلى ظروف خاصة مرت بها الجزائر فترة الاستعمار الفرنسي"([26])، وعلى الرغم من ضعف النتاج الأدبي، إلى أن الأدب الجزائري توجه نحو مصيره الثوري.

       ويفند الناقد المزاعم التي تتحدث عن غياب العناصر الكفيلة بتشكيل أسس واقعية نقدية في الأدب الجزائري، رغم اقراره بأن الساحة الأدبية لا تؤكد تبنيها في تلك الفترة "واقعية بلزاك التي تتمثل الواقع الموضوعي وتطرحه ضمن منهج راقي، ولا واقعية ليون تولستوي"([27])، ذلك أن كل حملة استعمارية شرسة، تجد بالمقابل ثورة شعبية تؤدي إلى تقوقع مجموعة من الأدباء حول أنفسهم، في حين تظهر فئة "ترتكز على عناصر وتصورات اجتماعية وجمالية جديدة"([28])، وأصبحت الرواية الواقعية بفضل عدد من الكتاب تعكس صورة حية لتناقضات المجتمع الاستعماري، بعد سيطرة لفئة من المتجزئرين، المعروفين بعدائهم للأمة، لكن الاستثناء صنعه محمد ديب، بوعيه الوطني، الذي قدم روحا جديدة للمجتمع الجزائري.

كما شهدت فترة ما بعد السبعينات، مرحلة نشوء الأعمال الواقعية الانتقادية، التي "تجاوزت إلى حد كبير رواية نور الدين بوجذرة "الحريق" التي تعتبر العمل الوحيد الذي ظهر يحمل بذورا واقعية أكثر تقدما سنة 1957"([29])، إلا أن ما يأخذه الناقد عنها؛ احتذائها للنموذج الواقعي الغربي والعربي، وبالتالي غياب الخصوصية الجزائرية، وبُعدها عن واقع الثورة.

        من بين النماذج التي عرضها الناقد، رواية "ريح الجنوب" التي طرح فيها كاتبها "قضية التفاوت الطبقي (...)، والاقتراب من مشاكل ما بعد الاستقلال، سواء التي خلفها الاستعمار، أم التي فرضتها طبيعة مرحلة البناء والتحولات الديمقراطية"([30])، من خلال شخصية الراعي، التي كانت صوتا معبرا عن انشغالات الطبقة المسحوقة، التي لم تمسها مكاسب الاستقلال، لهذا فالرواية تحمل بعدا استشرافيا تنبوئيا، حين "كتبت قبل صدور ميثاق الثورة الزراعية، ومع ذلك، فقد كانت تحمل روح هذا الميثاق"([31]).

      تفرض الثورة حضورها الأدبي "عن طريق معايشة حياتية وفنية مباشرة أو غير مباشرة، اعتمادا على مخزون الذاكرة مثلما هو الحال بالنسبة لمحمد عرعار، ومرزاق بقطاش وغيرهما"([32])، وهؤلاء كانوا أكثر الكتاب تجسيدا لاتجاه الواقعية النقدية، التي "حاولت أن تجسد هموم الشعب الجزائري في مرحلة السيطرة البرجوازية الاستعمارية، كما صور الممارسات النضالية للجندي الجزائري وسخائه الذاتي، وقدرته على التضحية"([33]).

2ـ الاتجاه الواقعي الاشتراكي: يهدف هذا الاتجاه إلى بناء مستقبل أفضل للجماهير العريضة، والأدباء في طليعة المجتمع ملتزمون بتقديم رؤية متفائلة لمستقبل أفضل، هذا التصور أفرز أدبا جزائريا تجاوز حدود القصة القصيرة، "لعدم قدرتها على استيعاب الحراك الاجتماعي على العكس من الرواية التي بإمكانها أن تجسد عالما كاملا بكل شروطه التاريخية"([34]).

       وقد استطاع الطاهر وطار في رواية "اللاز"، أن "يعالج موضوعا شائكا وربما يحدث هذا لأول مرة في الرواية الجزائرية، [حين عرض] الإشكاليات المعقدة التي صاحبت الثورة الوطنية بكل خلفياتها التاريخية"([35])، ويمثل شخصية اللاز نموذجها المثالي في ترسيخ مبادئ الثورة الزراعية، كما تحاول روايته "العشق والموت في الزمن الحراشي"، والتي تمثل الجزء الثاني من "اللاز"، أن تنتبه إلى الصراعات الجوهرية السائدة في المجتمع الجزائري، وبالتحديد في "المرحلة الوطنية الديمقراطية بكل ما تحمل هذه الصراعات من ايجابيات وسلبيات، والتي تتزاحم في رحم الانجازات الديمقراطية والثورة الزراعية على رأسها"([36])، كما تسعى رواية "الزلزال" لعرض التغيرات الزراعية في الجزائر، بعيدا عن التصوير المباشر، بتجنيد كل الامكانات الفنية والتعبيرية التي تتيحها الواقعية الاشتراكية.

      ويواصل الطاهر وطار تشريحه للواقع الاجتماعي في رواية "عرس بغل"، في خضم التغيرات الديمقراطية، التي ترمي بظلالها على حقيقة الواقع الاجتماعي، في حين يربط "الحوات والقصر"، بمشاغل الجماهير المناضلة لتحسين أوضاعها المادية، حيث توظف الأسطورة في الرواية، لتصر على تصوير التناقضات الاجتماعية، وقد مكن امتلاك وطار لمرجعية تراثية متنوعة، إلى إنتاج شخصيات شعبية، تتصرف انطلاقا من قناعاتها، واحتكاما لما يفرضه واقعها المعاش.

       كان وعي الكتاب الواقعيين بمدى أهمية اللغة جليا، بالنظر إلى أنها "عنصر أساسي في التعبير الفني، ووسيلة ضرورية من وسائل الفنون الأدبية المختلفة، ولذلك نراهم يثورون ضد الأسلوب الذي لا يؤدي دوره في الفن"([37])، وعلى سبيل المثال، يرى الناقد واسيني الأعرج في لغة وطار البعد الأسطوري بكل تجلياته، مع أنها "مقنعة لأنها مستوحاة من روح هذا الشعب(...)، لغة بسيطة مختارة من كلام الناس العادي"([38])، رغم تميز كل شخصية بلغة تخالف الشخصية الأخرى، بالنظر إلى طبيعة التشكيل والبساطة، واعتماد لغة شعبية تراعي مستوى الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها.

يربط الناقد عبد الله ركيبي الرمز في أسلوب عبد الحميد بن هدوقة بالأدب الشعبي، حين وظف الخرافة الشعبية، بالنظر لتأثيرها المباشر في سلوك المجتمعات، كما في قصته "زيتونة الحب"، مما ساعد على المزج بين الإنسان والطبيعة، واستلهام الرموز من الواقع المعاش.

       نشير في الأخير، إلى ما للأديب من أثر في إحداث تسارع في ميدان الكتابة الابداعية، خاصة في التعبير عن صيرورة الواقع، لينبثق من صلبه أبعاد ثورية، تغير وعي الناس ونظرتهم لواقعهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] - عامر، مخلوف. متابعات في الثقافة والأدب، ص: 240-241.

[2] - منور، أحمد. قراءات في القصة الجزائرية، ص: 07.

[3] - مصايف، محمد. الرواية الجزائرية بين الواقعية والالتزام. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1983، ص:27.

[4] - المرجع نفسه، ص: 54 – 55.

[5] - مصايف، محمد. النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي. ط2. المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1984، ص: 239 - 240.

[6] - المرجع السابق، ص: 297.

[7] - المرجع نفسه، ص: 281.

[8] - مصايف، محمد. النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي، ص: 239 .240.

[9] - مصايف، محمد. القصة القصيرة العربية الجزائرية في عهد الاستقلال. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1982، ص: 11.

[10] - المرجع السابق، ص: 13.

[11] - ركيبي، عبد الله. الأوراس في الشعر العربي ودراسات أخرى، ص: 148.

[12] - دودو، أبو العيد. بحيرة الزيتون. ط2. المؤسسة الوطنية للكتاب، 1992،(تقديم عبد الله ركيبي)، ص: 16.

[13] - مصايف، محمد. القصة القصيرة العربية الجزائرية في عهد الاستقلال، ص: 25.

[14] - المرجع نفسه، ص: 17.

[15] - المرجع السابق، ص: 19.

[16] - المرجع نفسه، ص: 16.

[17] -  الأعرج، واسيني. اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، ص: 367.

[18] - منور، أحمد. قراءات في القصة الجزائرية، ص:17.

[19] - مرتاض، عبد الملك. القصة الجزائرية المعاصرة. دار الغرب، 2004، ص:18.

[20] - المرجع نفسه، ص:24.

[21] - المرجع السابق، ص: 29.

[22] - الأعرج، واسيني. النزوع الواقعي الانتقادي في الرواية الجزائرية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق،1985، ص:06.

* المتجزئرون: صفة أطلقها روبير راندو عام 1911 في كتابه "الجنس الجديد"، على الكتاب الفرنسيين الذين ولدوا في الجزائر بعد الاحتلال، ونصبوا أنفسهم كجزائريين جدد، متنكرين حق الجزائريين الأصلين.

[23] - المرجع نفسه، ص: 15.

[24] - المرجع نفسه، ص: 28.

[25] - المرجع نفسه، ص:35.

[26] - الأعرج، واسيني. اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، ص:358.

[27] - المرجع السابق، ص: 360.

[28] - المرجع نفسه، ص:361.

[29] - المرجع نفسه، ص:367.

[30] - المرجع نفسه، ص:368.

[31] - المرجع نفسه، ص:369.

[32] - المرجع السابق، ص:381.

[33] - المرجع نفسه، ص: 373.

[34] - المرجع نفسه، ص:361.

[35] - المرجع نفسه، ص: 494.

[36] - المرجع نفسه، ص: 518.

[37] - مصايف، محمد. النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي، ص:379.

[38] - الأعرج، واسيني. اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، ص:591.


Modifié le: lundi 11 janvier 2021, 14:38