المحاضرة رقم 05:فواعل العلاقات الدولية: الفواعل اللادولاتية

تمهيـــــــــــد:

استمرت تفاعلات العلاقات الدولية منذ العصور القديمة، تتمحور حول الدولة بمختلف أشكالها، بدايةً بدولة المدينة القديمة، مروراً بالممالك والإمبراطوريات في العصور الوسطى، وصولاً إلى النموذج الحديث للدولة. ولم يشهد هذا الوضع، تغييراً ذو معنى، حتى مع ظهور المنظمات الدولية الحكومية، حيث بقيت الدولة المحرك الأساسي للتفاعلات الدولية، حتى ضمن المنظمات الدولية فوق الحكومية. ويُمكن إرجاع ذلك، إلى طبيعة وموضوع التفاعلات الدولية، التي بقيت إلى حد كبير، مرتبطة بالسياسات والمصالح الوطنية، وبالنشاط الدبلوماسي الرسمي، مثل قضايا الأمن الوطني، التنمية الاقتصادية...إلخ. وبالتالي فإن تنازل الدولة عن بعض صلاحياتها، أو على الأقل تفويضها للمنظمات الدولية، لم يصل إلى حد خروج العلاقات الدولية، من دائرة مركزية الدور، الذي مارسته في هذا المجال.

غير أن تحولاً جذرياً عرفته مواضيع العلاقات الدولية، بتوسعها لمواضيع جديدة، لم تكن ضمن دائرة الاختصاصات الحصرية للدولة، مثل قضايا حقوق الإنسان، أو الأنشطة الاقتصادية التجارية الخاصة، أو حتى قضايا التحرر من الاستعمار. وهو ما أنتج ظهور مجموعة من الأطراف، التي لا تُشكل أي امتداد للدولة، مثلما هو حال المنظمات الدولية الحكومية، فقد ظهرت منظمات دولية، تم تأسيسها من طرف أفراد أو جماعات، تُعرف باسم المنظمات الدولية غير الحكومية، أو حتى جماعات مسلحة غير نظامية، تهدف إلى تحقيق غايات وأهداف سياسية، إضافةً إلى شركات كبرى، ذات طابع اقتصادي (تجاري وصناعي)، تُعرف بالشركات متعددة الجنسيات. وقد فُتح المجال كذلك أمام الأفراد، للقيام بأدوار تؤثر بدرجات متفاوتة العمق، على تفاعلات العلاقات الدولية، رغم بقاء هذا الافتراض، من المواضيع المتنازع حولها، بين التيارات النظرية المختلفة، في حقل العلاقات الدولية.

وسنحاول في هذا الصدد، الإجابة على تساؤل أساسي، يستند إلى المفارقة القائمة، في اعتبار الدولة محركاً أساسياً للعلاقات الدولية، الممتدة بين حدي الحرب والسلام، وبين منح صفة الفاعل لمجموعة من اللاعبين، الذين لا يُمكنهم ممارسة نفس الدور. فهل يُمكن اعتبار الأطراف غير الدولاتيين، بمثابة فواعل في العلاقات الدولية، أم أنها مجرد متغير تابع للفاعل المحوري في هذا المجال أي الدولة؟      

وسيتم ذلك، من خلال تحليل الدور اذي تقوم به هذه الفواعل، بالمقارنة مع دور الدولة، من أجل اختبار الافتراض الذي يعتبر أنه بالرغم من الدور المتزايد الذي تُمارسه الفواعل غير الدولاتية، إلا أنه لا يصل إلى اعتبارها من الفواعل الأساسية. أو بتعبير آخر، أن الدور الذي تُمارسه هذه الفواعل هو التكيف مع العلاقات الدولية التي تُشكلها الدولة، وليس صنع التفاعلات والأحدث إلى جانب الدولة كفاعل أساسي.    

أولاً: التحول نحو نموذج السياسة العالمية:

نتيجةً لهيمنة الدولة، على تفاعلات العلاقات الدولية، بقيت هذه الأخيرة منحصرة -نظرياً على الأقل-، ضمن نطاق السياسة الدولية International Politics، والتي تعكس إلى حد كبير، تصورات، مصالح وسلوكات الدولة. في حين تبقى الأطراف الأخرى من غير الدول، إما غير معترف بها، كما يذهب إليه الواقعيون التقليديون، أو على الأقل قابلة للإهمال، كما يذهب إليه الواقعيون الجدد/البنيويون. إلا أن التحول في عدد، طبيعة ودو الفاعلين الدوليين International Actors، أثر في تردد Frequency، نطاق ومواضيع التفاعلات الدولية. بحيث أدى ذلك إلى إضعاف سيطرة الدولة على هذه التفاعلات، وفتح المجال أمام فاعلين جدد، ومواضيع جديدة، لتتحول إلى مضمون جديد للعلاقات الدولية، واتخذ ذلك تسمية السياسة العالمية World Polics.

تم انطلاقاً من ذلك، تجاوزت الفواعل غير الدولاتية Non-State Actors، العقبات التي شكلت في السابق -ومازالت-، حواجز أمام دور الدولة. فالمنظمات الدولية غير الحكومية، أو الشركات متعددة الجنسيات، وإن كانت أنشطتها تتأثر بدرجات متفاوتة، حسب الحالات والمواقف الدولية، إلا أنها بشكل ما، تجاوزت تأثيرات الحدود السياسية. فهذه الأخيرة مازالت تحد من حرية الدولة على الحركة، بسبب ارتباط حدود الدول، بمفهوم السيادة الوطنية، التي مازالت تُمارس تأثيرها، رغم التحولات التي شهدها المفهوم، وتراجع فكرة السيادة المطلقة، لصالح مفهوم السيادة المحدودة. وعليه فقد استحدثت الفواعل غير الدولاتية، بعداً جديداً في التفاعلات الدولية، يحول هذه الأخيرة من علاقات تتم في اتجاهات منتظمة، إلى نمط مختلف يُمكن وصفه بالشبكة. فإذا كانت الصورة النمطية التقليدية، تحصر التفاعلات الدولية، بين الدول وكذلك المنظمات الدولية، فإنه وقف نموذج السياسة العالمية، فإن الفاعلين الدوليين، بما في ذلك الدولة، تنخرط في علاقات متشعبة، تجمع بين فاعلين مختلفين، حول قضايا متنوعة ومتعددة.

وعليه، فإن مفهوم السياسة العالمية، يُشير إلى توسيع نطاق التفاعلات الدولية، بالشكل الذي يتجاوز الحدود التقليدية، التي نتجت عن تمحور العلاقات/السياسة الدولية، حول مواضيع الحرب، السلام، الأمن الوطني...إلخ. ويتجسد ذلك، اعتماداً على لتطور التدريجي، الذي شهده مؤشر الدور الذي مارسته هذه الفواعل، منذ نهاية فترة الستينات من القرن الـ20 على الأقل. حيث زادت وتيرة مساهمة المنظمات الدولية غير الحكومية، في معالجة مختلف القضايا الإنسانية، التي لم تكن لفترة زمنية طويلة، ضمن نطاق اختصاص الدولة. وينطبق ذلك كذلك على الشركات متعددة الجنسيات، التي وإن كانت مازالت تعتمد على الدولة، وتعمل ضمن قوانينها الوطنية، إلا أنها في المقابل، تلعب دوراً بشكل متزايد، فيما يُعرف باسم الاقتصاد السياسي الدولي International Political Economy.   

 وقد انطبق ذلك بشكل أكثر تأثيراً، على الجماعات شبه العسكرية، أو المنظمات المسلحة غير النظامية، والتي ظهرت بشكل أساسي، في منتصف القرن الـ20. فقد ظهرت بدايةً، في شكل جماعات التحرر الوطني، أو حركات مسلحة ثورية ذات توجهات يسارية، أو جماعات مضادة للأنظمة اليسارية، وهي الحالة التي عرفتها أمريكا الجنوبية، خلال السبعينات والثمانينات من القرن الـ20. ثم اتخذت أشكال مختلفة نسبياً على هذه الصورة، مع نهاية الحرب الباردة، وتزايد سعي الدول إلى تقليص التكاليف البشرية للحرب، وهو ما ساعد على ظهور منظمات شبه عسكرية، تمثلت في الميليشيات، وكذلك الشركات العسكرية الخاصة. وتنبع أهمية هذه المنظمات، في أنها أصبحت تنافس الدولة، في أحد أهم المجالات السيادية، وهو المجال الأمني والدفاعي، والذي بقي لفترة زمنية طويلة، أحد الاختصاصات الحصرية، التي تمتعت الدولة بشرعية احتكارها واستعمالها.

يُمكن القول انطلاقاً ممن ذلك، أنه بغض النظر عن المكانة الاحتياطية، التي يمنحها القانون الدولي العام، للفواعل من غير الدول، إلا أنه لا يُمكن الاعتماد على نفس المنظور، عند تحليل دورها من وجهة نظر العلاقات الدولية. فقد أخذت هذه الفواعل تدريجياً دوراً محورياً، في تشكيل التفاعلات الدولية، وفق وتيرة وكثافة لا يُمكن تهميشهما، في التحليلات النظرية لحقل العلاقات الدولية. ويتوجب التركيز انطلاقاً من ذلك، على مجموعة من اللاعبين غير الدولاتيين التقليديين، مع ضرورة الاهتمام بفاعلين آخرين، بدأ دورهم في التوسع، بسبب ارتباطهم بمفهوم الأمن السبراني، أو أمن خطوط التجارة الدولية...إلخ.    

ثانيًا: المنظمات الدولية غير الحكومية:

تميزت اعلاقات الدولية خلال مرحلة الستينات، بتزايد دور المنظمات الدولية غير الحكومية، بسبب الانتباه إلى جملة من القضايا الدولية، التي لم تكن موضوعاً أساسياً في سياسات الدول. فقد تمت إثارة قضايا العالم الثالث، مثل الفقر، التعليم وكذلك الصحة، إضافةً إلى إثارة النقاش حول المسائل التي تم تجاهلها خلال الحرب البارد’ مثل قضايا حقوق الإنسان، بشكل خاص خلال النزاعات المسلحة، أو في حالات عدم الاستقرار السياسي.. غير أن تحليل دور المنظمات الدولية غير الحكومية، يجب أن يستند إلى تحديد صارم، للمعايير التي تجعل منها متميزة عن بقية الفواعل، المنفصلة من حيث التأسيس أو التسيير، عن الدولة.

1.     المنظمات الدولية غير الحكومية: حدود التسمية:

لا يُوحي مفهوم المنظمات الدولية غير الحكومية، بأية درجة من درجات التعقيد والغموض، مما يتسبب في الجدل الكبير حوله بين التيارات الفكرية المختلفة، سواءً في مجال القانون الدوي، أو العلاقات الدوية. غير أنه على العكس من ذلك، تسبب -على بساطته- في إثارة الاختلاف، حتى ضمن الحقل المعرفي الواحد، حول ماهيته، وخصائصه التي تُميزه عن المنظمات الدولية الحكومية. فحتى خاصية عدم إنشائه من طرف الدول، لم تعد كافية لتعريف المنظمات الدولية غير الحكومية، حيث اعتبرت بعض محاولات التعريف، على أن ذلك يفتح المجال أمام فاعلين آخرين، لحمل نفس التسمية، على غرار الشركات متعددة الجنسيات.   

تُعرف المنظمات الدولية غير الحكومية، في معناها الشامل، على أنها "المنظمة المستقلة عن الحكومة، [أي] التي لم تؤسسها الدولة. وبهذا المعنى تُعد الشركات منظمات غير حكومية. غير أن هذا المصطلح، أصبح مستخدماً بشكل عام، للإشارة إلى المنظمات الخيرية". ويُمكن ملاحظة المعنى الواسع، الذي تميز به هذا التعريف، بحيث توسع نطاق مفهوم المنظمات الدولية، ليشمل حتى الشركات متعددة الجنسيات، وكذلك المنظمات الخيرية. رغم أن هذه الأخيرة قد تفتقد في حالات كثيرة، إلى الخصائص الأساسية للمنظمة غير الحكومية، فتجاوز بعض المؤسسات الخيرية لحدود الدولة، لا يجعل منها منظمة دولية غير حكومية. فمؤسسة أفرد نوبل Alfred Nobel Foundation مثلاً، هي مؤسسة خيرية غير حكومية، تهتم بدعم الإنجازات الفكرية والعلمية، غير أنها لم تُصنف بأي حال من الأحوال على أنها منظمة دولية غير حكومية.

ذهبت تصورات أخرى، في محاولة لتضييق نطاق التعريف، إلى اعتبار المنظمات الدولية غير الحكومية على أنها "جمعيات خاصة، لا يتم تكوينها باتفاق بين الحكومات، إنما بين أفراد وهيئات خاصة أو عامة، من دول وجنسيات مختلفة، تسعى للتأثير على مجرى العلاقات الدولية". والملاحظ أن هذا التصور، قد أضاف بعض العناصر الإضافية، حيث أن إنشاءها لا يكون بواسطة اتفاق دولي بين الحكومات، كما أنها تضم في عضويتها أطراف مختلفة من حيث الطبيعة، أو من حيث الجنسية، وأخيراً فهي تسعى للتأثير على التفاعلات الدولية. غير أن هذا الهدف، يُمكن أن يتم بصور متعددة، قد تجعل من مفهوم المنظمات الدولية غير الحكومية، يتسع ليشمل مجدداً أطرافاً أخرى، إلى جانب المنظمات غير الحكومية. ومن الأمثلة على ذلك، يُمكن ذكر الشركات متعددة الجنسيات في المقام الأول، وكذلك تجمع الأحزاب والجماعات السياسية، ذات التوجه الأيديولوجي المشترك (الأحزاب الشيوعية، الإخوان المسلمين...إلخ).    

وأخيراً، تعتب تصورات أخرى، وبشكل ضيق من حيث نطاق التعريف، أن المنظمات الدولية غير الحكومية، هي "جمع لأشخاص طبيعيين أو معنويين خواص [من غير الدول]، من جنسيات مختلفة، دولية بطابعها، بوظائفها وبنشاطها، ولا تهدف إلى تحقيق الربح، وتخضع للقانون الداخلي، للدولة التي يوجد فيها مقرها".  وقد تم بموجب العناصر الواردة في هذا التعريف، استبعاد المؤسسات الخيرية أو الثقافية غير الحكومية، والتي لا تتميز بتعددية الأعضاء المؤسسين من حيث الجنسية. إضافةً إلى استبعاد الشركات متعددة الجنسيات، على اعتبار أنها تسعى في المقام الأول، إلى جني أرباح مالية من وراء أنشطتها الاقتصادية العابرة للحدود. وأخيراً فقد أضاف هذا التصور، وجود تنظيم قانوني لأنشطة هذه المنظمة، متضمنة في اتفاقية المقر، أو المتضمنة في القوانين الوطنية المنظِّمة لأنشطة هذه الكيانات، التي تتواجد على إقليمها.

وعليه يُمكن القول من ناحية إجرائية، أن المنظمات الدولية غير الحكومية، هي كيانات يتم إنشاؤها من جهات غير حكومية، سواءً أكانت أشخاص طبيعيين أو معنويين، من أجل خدمة أهداف غير ربحية، يمتد نشاطها ليشمل دولاً وأقاليم مختلفة. ويؤدي ذلك إلى إحداث تأثيرات على سياسات الدول، وبعلاقة متعدية التأثير على مجريات العلاقات الدولية، ويتفاوت هذا التأثير، باختلاف حساسية النشاط الذي تتخصص فيه كل منظمة. 

2.     المنظمات الدولية غير الحكومية: حدود التأثير:

يُعتبر تأثير المنظمات الدوية غير الحكومية، مسلماً بحدوثه في أغلب الحالات، التي تتعلق بأحد أوجه التفاعل، ذو العلاقة المباشرة، أو حتى غير المباشرة، بنشاط المنظمة. حيث عادةً ما تؤدي الضغوط المكثفة، التي قد تأخذ شكل حملات دعائية مكثفة، سواءً عبر وسائل الإعلام الجماهيري التقليدية، ووسائل الإعلام البديلة، مثل الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، إلى إحداث تغييرات في سياسات ومواقف الدول. غير أن التأثير الذي تُمارسه هذه المنظمات، يتوقف من جهة أخرى، على مدى حساسية موضوع التأثير، من وجهة نظر الدول، وكذلك على مدى قدرة هذه الأخيرة، على استيعاب النشاط أو التأثير، الذي تُمارسه المنظمات غير الحكومية.

تمتد أوجه نشاط المنظمات الدولية غير الحكومية، بشكل متدرج من القضايا الإنسانية، المتعلقة بالجوانب الصحية، ومستويات المعيشة، إلى قضايا دولية ذات حساسية أعلى نسبياً. ويندرج ضمن الصنف الأخير، قضايا مثل التلوث والتنمية المستدامة، وكذلك انتشار الأسلحة والتجارب النووية، وبشكل خاص قضايا حقوق الإنسان...إلخ. وقد ساهمت هذه المنظمات بشكل فعال، في التأثير على سياسات الدول، وكذلك المنظمات الدولية، في مجالات تتعلق بمكافحة الأمراض المستعصية، وكذلك زيادة حجم المساعدات الإنسانية، لمساعدة الدول التي تشهد مستويات مرتفعة من الفقر وسوء التغذية. وقد ارتبطت هذه المسائل، ببذل جهود كبيرة، لكنها لم تصطدم بمصالح حيوية للدول، يجعل من الصعب اقناعها بتغيير سياساتها، أو ببذل جهود أكبر في هذه المجالات.

غير أن التأثير الذي يجدر الانتباه إليه، هو حالات التعارض، بين مجالات النشاط الخاص بالمنظمات الدولية، ومصالح الدول، ودرجة حساسية تلك المجالات من جهة مقابلة. فقدت شهدت العلاقات الدولية في فترات مختلفة، وبشكل خاص خلال فترات الثمانينات والتسعينات، صداماً بين توجهات بعض المنظمات الدولية غير الحكومية، التي تتعارض بشكل كبير، مع مصالح وسياسات الدول. ومن الأمثلة على ذلك، جهود منظمة السلام الأخضر، من أجل منع التجارب النووية، التي تجريها فرنسا في المحيط الهادي، والتي انتهت بقرار فرنسا التوقف نهائياً، عن إجراء تلك التجارب، بعد حادثة محارب الريمبو Rainbow Warrior.

غير أن النشاط الأبرز الذي تُمارسه المنظمات الدولية غير الإقليمية، يرتبط بشكل وثيق، بمسائل حقوق الإنسان، والتي أخذت حيزاً أوسع في العلاقات الدولية، خاصةً بعد نهاية الحرب الباردة. فقد شكل ذلك أداة ضغط على بعض الدول، التي شهدت مستويات مرتفعة، من حالات انتهاك حقوق الإنسان، خاصةً في الدول الإفريقية والآسيوية. فقد عرفت هذه الدول مواجهات كثيرو مع هذه المنظمات، من خلال التقارير الدورية، التي يتم رفعها إلى المنظمات الدولية، وعلى رأسها لجان حقوق الإنسان، على مستوى الأمم المتحدة. وقد يمتد الوضع، إلى إحالة بعض الملفات إلى النظر فيها، من طرف مجلس الأمن الدولي، وبالتالي إمكانية اتخاذ قرار بشأنها، تحت طائلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أو بتعبير آخر اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية ضد الدول المعنية.

توفر المنظمات الدولية غير الحكومية، في سياق متصل، الذريعة The pretext، التي تسمح بتجاوز مبدأ عدم التدخل، المنصوص عليه في ميثاق ومبادئ الأمم المتحدة. فالتركيز على المسائل المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، قد يكون له دور إيجابي، في تسليط الضوء على الحالات التي تعرفها بعض الدول، وقد ظهر ذلك بشكل واضح، قبل ظهور الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. غير أن ذلك أيضاً، قد يؤدي إلى تأويل الأحداث، بما يخدم الأجندة التدخلية لبعض القوى الأساسية، وبالتالي منح الشرعية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول. حيث تمت الإشارة إلى بعض الخصوصيات الثقافية والدينية، واعتبارها تتعارض مع حقوق الإنسان، مثل مسألة الحجاب، المثلية، وكذلك وضع الأقليات الدينية، وبعض التقاليد الاجتماعية، في المجتمعات المسلمة. وتحويل المواقف الاجتماعية والدينية، إلى مواقف اضطهاد اجتماعي وعرقي، يتطلب ضغط المجتمع الدولي.

وتجدر الإشارة، إلى أن هذا الدور، قد يفتح المجال واسعاً، أمام استعمال المنظمات الدولية غير الحكومية، كوسيلة للضغط على دول بعينها. وذلك من أجل تغيير سياساتها الخارجية، في مجالات وقضايا، قد لا ترتبط بمجال نشاط المنظمات غير الحكومية، حيث لا يكون المطلوب تغيير سياسات ومواقف الدول، في مجالات البيئة أو حقوق والإنسان، بل في مجالات ذات علاقة مباشرة بالدول التي تُمارس الضغط. فقد استغلت الولايات المتحدة الأمريكية، التقارير حول الرشادة وحقوق الإنسان، في بعض دول منطقة الخليج والشرق الأوسط، من أجل فرض إصلاحات سياسية سطحية، والاستفادة من فرص اقتصادية أكبر، على حساب قوى منافسة.  

ثالثًا: الشركات متعددة الجنسيات:

احتلت الشركات متعددة الجنسيات، مكانة أساسية في الاقتصاد الدولي، منذ فترات طويلة نسبياً، لكنها ارتبطت أكثر فأكثر بالعولمة، منذ تخلصها من الروابط الوثيقة التي ربطتها سابقاً بالدول. كما ساهمت طبيعة نشاط هذه الشركات، في ربطها بمسار العولمة منذ نهاية الحرب الباردة، حيث خرجت من دائرة التخصص في النشاط الاقتصادي. فإذا كانت سياسات التحرير الاقتصادي، إحدى السمات الأساسية للعولمة، فإنها في نفس الوقت، إحدى سياسات الشركات متعددة الجنسيات. فهذه الأخيرة، دائمة البحث عن "المناخات المشجعة على الاستثمار"، وتعظيم الربح وزيادة انتشارها، وهو ما يُشكل جوهر وجود هذه الكيانات الاقتصادية.

1.     الشركات متعددة الجنسيات: تعددية المراكز الاقتصادية:

لا تختلف الشركات متعددة الجنسيات، عن مختلف الكيانات الاقتصادية الأخرى، الساعية لإنشاء استثمارات، بهدف تحقيق الربح، في المجالات الصناعية، التجارية، المالية والخدماتية...إلخ. غير أنها في نفس الوقت، تتميز عن غيرها في خاصية الانتشار، وحجم رقم الأعمال، الذين يجعلان منها أحد أهم محركات العلاقات الاقتصادية الدولية، ومؤثر رئيسي على السياسات الاقتصادية والمالية على المستويين الدولي والوطني. وفي هذا السياق، تُعتبر الشركة متعددة الجنسيات، على أنها "تلك التي يُمكن لفروعها تحقيق حجم أعمال يُقدر بـ 20% في كل من مناطق المثلث الاقتصادي La triade économique (أمريكا، أوروبا، آسيا). وفي المقابل تحقق 50% من حجم النشاط في منطقة المقر". غير أن الأساس الكمي، لتعريف الشركة متعدد الجنسيات، قد يمزج بين هذه الأخيرة، والشركات الأخرى، التي تلك أنشطة اقتصادية خارجية. فالفرص الاقتصادية التي قد تمنحها بعض البيئات الاستثمارية، قد تجعل من الفروع والأنشطة الخارجية، تُحقق نتائج أكبر من النتائج المحققة على المستوى المركزي.

أما من منظور أكثر تبسيطاً، تُعرّف الشركات متعددة الجنسيات، من خلال توزيع الأدوار القيادية، داخل هذه الكيانات الاقتصادية، بين المركز والفروع. حيث يُعتبر أن "المؤسسات التي لها مركز القرار في دولة معينة، ومراكز النشاط في دول أخرى، تُعتبر شركة متعددة الجنسيات". وُشير هذا التصور إلى أن الشركة متعددة الجنسيات، هي كيان اقتصادي ذو نزعة مركزية، تحتكر فيها الوحدة المركزية (الشركة الأم)، كل صلاحيات القيادة والإدارة، للأنشطة الاقتصادية (الصناعية والتجارية)، المنتشرة في مختلف المناطق خارج دولة المقر. وبذلك لا يكون هناك فرق جوهري، بين هذا الصنف من الشركات، والشركات الوطنية التي تملك استثمارات مباشرة في الخارج.

أما بالنظر إلى توضيح الفرق الفعلي، بين العناصر الداخلية والخارجية، للشركات متعددة الجنسيات، فيُمكن توضيح العلاقة التي تجمع بين هذه العناصر، ومنه التوصل إلى معنى أكثر وضوحاً، لهذه الكيانات الاقتصادية. وانطلاقاً من ذلك، تُعتبر الشركات متعددة الجنسيات على أنها "التي تملك وتدير وحدات اقتصادية، في قطرين أو أكثر. وفي معظم الأحيان، فإن ذلك يستلزم استثماراً أجنبياً مباشراً، تقوم به شركة ما، وكذلك امتلاك وحدات اقتصادية (مثل خدمات، صناعات استخراجية أو تجهيزات صناعية) في عدة أقطار".

ويتماشى هذا التصور مع ما يُعرف باسم إحلال الواردات، حيث تتوجه الشركات إلى إنتاج السلع في مناطق أخرى، بدل من تصديرها، من أجل الاستفادة من المزايا الضريبية، أو التكيف مع القوانين والسياسات الاقتصادية الوطنية. لذلك كما هو متضمن في التعريف السابق، تتوجه الشركات متعددة الجنسيات، إلى تكوين فروع مستقلة لها في دول ومناطق أخرى، تكون بمثابة شركات وطنية، تخضع للقوانين الوطنية، وتنشط ضمن البيئة الاقتصادية المحلية. ويأخذ هذا التوجه كذلك صورة عمليات الاستحواذ، الدمج أو الشراء، لهياكل وشركات محلية، ثم القيام بتحويل أو تطوير نشاطها، ليتماشى مع سياسات الشركة الأم.  

انطلاقاً مما سبق، يُمكن القول أن الشركات متعددة الجنسيات، هي كيانات اقتصادية تُمارس أنشطة متعددة، صناعية، مالية وتجارية...إلخ، تستهدف تحقيق الربح وتعظيم المنافع الاقتصادية. تتميز بتعددية مراكز الإدارة وصنع القرار، بحيث يُمكن اعتبار الفروع، بمثابة الشركات الوطنية القائمة بذاتها، غير أنها تبقى خاضعة من حيث الاستراتيجية العامة، وتقرير المصير الخاص بها، خاضعة للشركة الأم.

2.     الشركات متعددة الجنسيات: التأثير لتعظيم الربح:

يجب التأكيد على الطابع الربحي، الذي تتميز به الشركات متعددة الجنسيات، كمحدد أساسي لدورها في العلاقات الدولية. لذلك فإن التأثير السياسي، الذي يُمكن ينتج عن أنشطة هذا الفاعل، يُعتبر من الآثار الجانبية لدور الشركات العالمية، التي تسعى إلى التأثير على سلوكات، وبشكل خاص السياسات الاقتصادية للدول المعنية. وهو ما قد يؤدي إلى تأثيرات مباشرة، ذلا علاقة بالمجالات الاقتصادية، إضافةً إلى تأثيرات سياسية واقتصادية، أخرى غير مباشرة، يُمكنها أن تعطي للدول القدرة، على ممارسة دور أكبر في العلاقات الدولية.

تتدخل الشركات متعددة الجنسيات، على مستوى الدول التي تُشكل حاضنة لنشاطها، من أجل ضمان أرضية مناسبة، لتحقيق الأهداف الاقتصادية، مع الإبقاء على الحد الأدنى من التكاليف. وعليه فإن الشركات متعددة الجنسيات، تندرج ضمن الفاعلين الدوليين، المطالبين بإنشاء هيكل اقتصادي، ذو أبعاد سياسية، إدارية وقانونية، تشجع على القيام بالأنشطة الاستثمارية، في ظل تقليص المخاطر، وكذلك العوائق غير الاقتصادية أمام حرية النشاط، وكذلك تنقل رؤوس الأموال والعمالة. وفي المحصلة النهائية، تستهدف الشركات متعددة الجنسيات، تقليص هيمنة الدولة على الحياة الاقتصادية، وفق مبادئ الاقتصاد الليبرالي، وإبقائها ضمن الحدود التنظيمية.

ينتج عن نشاط الشركات متعددة الجنسيات، تغييرات على مستوى الوضعية الاقتصادية، وبعلاقة متعدية الوضعية الاجتماعية، في الدول الحاضنة. فالأنشطة الصناعية والتجارية، تُساهم في خلق مناصب العمل، وكذلك تحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للأفراد، وزيادة الحركية الاقتصادية بشكل عام. إضافةً إلى التأثير الإيجابي، على المؤشرات العامة للدولة، مثل معدلات التضخم، الناتج الداخلي الخام، معدلات النمو، حالة الميزان التجاري...إلخ. وفي هذا السياق، يُمكن لبعض الدول، انطلاقاً من موقعها الجيوسياسي، أن تتحول إلى قطب صناعي أو تجاري، انطلاقاً من تخصصها في إنتاج بعض المواد. حيث تميل الشركات متعددة الجنسيات، إلى خلق أقطاب صناعية إقليمية، في الدول التي تتمتع بميزات معينة، لا سيما الموقع، بالنسبة للأسواق الإقليمية والعالمية. وبالنظر إلى التسهيلات الاقتصادية، الضريبية وحتى القانونية، التي تحصل عليها من بعض الدول الحاضنة، أو حتى الدول الأم.

غير أن صورة الشركات متعددة الجنسيات، التي تم تشكيلها لها، كفاعل في العلاقات الدولية، ارتبطت أولاً بعلاقتها بفرض القيم الاقتصادية الغربية، ابتداءً من مرحلة ما بعد الحرب الباردة. حيث بقيت لمدة زمنية طويلة، كإحدى محركات الاقتصاد الرأسمالي، بالإضافة إلى آليات أخرى مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي...إلخ. لذلك فقد احتلت هذه الشركات مكانة مهمة، في الخطاب الأكاديمي والسياسي، الذي صاحب مرحلة العولمة، والأفكار المؤيدة والمعارضة للاقتصاد المعولم. أما من جهة ثانية، فقد ارتبطت الشركات متعددة الجنسيات، بالنفوذ الذي مارسته من أجل إحداث تغييرات سياسية عميقة، في بعض الدول الحاضنة، بسبب تبني سياسات اقتصادية واجتماعية، تتعارض مع مفهومها للبيئة المناسبة للأعمال. فقد دفعت الشركات الناشطة في مجال المعادن، في دولة الشيلي إلى إسقاط الحكومة الاشتراكية، بقيادة الرئيس سالفادور أللينديSalvador Allende سنة 1972، نتيجة إقدامها على تأميم قطاع النحاس.

ويتأكد من خلال ذلك، الافتراض القائل أن الدور الذي تُمارسه الشركات متعددة الجنسيات، يرتبط بشكل أساسي بالسعي الدائم لزيادة الربح، مقابل تقليص التكاليف. لذلك فإن أية حواجز غير اقتصادية، يُمكنها التأثير سلباً على هذا الهدف، ستكون محل مجموعة من الأفعال وردود الأفعال، التي تنتج عن الشركات الكبرى. ويُمكن أن تتضمن الكثير من الآثار السياسية، بما في ذلك التأثير على سياسات الدول الخارجية، وتغيير نظامها السياسي، أو إحداث اضطرابات داخلية. غير أنه في كل الحالات، يبقى للشركات متعددة الجنسيات، تأثيرها في العلاقات الدولية، سواءً أكان ذلك بشكل ممنهج ومقصود، أو باعتباره تأثيراً جانبياً، لمساعيها من أجل تعظيم الربح.

خاتمة:

لم يعد تدخل الفاعلين اللادولاتيين، في تفاعلات العلاقات الدولية محل شك، حيث ظهر بشكل واضح مساهمة المنظمات غير الحكومية، أو الشركات متعددة الجنسيات، وكذلك الجماعات العسكرية غير النظامية، في التفاعلات الدولية. غير أن ذلك لا يجب أن يوحي، بانتهاء دور الدولة من جهة، أو آلية التأثير الذي تُمارسه هذه الفواعل، في مختلف الملفات والقضايا المطروحة على الساحة الدولية. فالدور الذي تمارسه الفواعل غير الدولاتية، يأتي كمؤثر على دور الدولة، التي تحتكر صنع القرار الدوي وتنفيذه، إضافةً إلى احتكار امتلاك وسائل العنف والقوة العسكرية. لهذا يُمكن القول أن دور هؤلاء الفاعلين، يأتي بالتكامل مع دور الدولة، والمنظمات الدولية، في قضايا ومسائل محددة، في مجالات أو قضايا محددة.

آخر تعديل: Sunday، 29 December 2024، 5:38 PM