المحاضرة رقم 03: فواعل العلاقات الدولية: الجدل حول نموذج مركزية الدولة في العلاقات الدولية
تشير تسمية العلاقات الدولية، وغيرها من التسميات "المنافسة"، على غرار السياسات الدولية، أو السياسات العالمية...إلخ، إلى وجود مجموعة التفاعلات، صادرة عن لاعبين دوليين، سواءً تم ذلك على المستوى الدولي أو المحلي. ويعني ذلك قيامهم بمجموعة من الأفعال/ردود الأفعال، من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف الوطنية، على غرار الأمن، حماية المصالح السياسية والاقتصادية، وغيرها من الأفعال المندرجة ضمن المفهوم العام للمصلحة الوطنية. وذلك بغض النظر عن النقاش النظري حول هذا المفهوم، بين الاتجاهات النظرية والفلسفية المختلفة في هذا الحقل، بشكل خاص بين الاتجاهات التقليدية والحديثة.
يمتد النقاش كذلك إلى تحديد اللاعبين الدوليين، الذين تصدر عنهم شبكة متنوعة من التفاعلات، أو بتعبير آخر، الأفعال وردود الأفعال الدولية. ويرتبط هذا النقاش أيضاً، بدلالات التسمية المختارة لوصف أنماط السلوك الدولية. فاختيار الواقعيين لتسمية السياسة الدولية، يُفضي مباشرة، إلى اعتبار مختلف التفاعلات الدولية، المتضمنة في معنى هذا المفهوم، عبارة عن سياسات خارجية لدول ذات سيادة. في حين يُشير مفهوم السياسة العالمية، إلى كسر احتكار الدولة للتفاعلات الدولية، كما أن هذه الأخيرة لن تكون منحصرة، في السياسات الخارجية للدول ذات السيادة. وعليه فإن استعمال عبارة فواعل العلاقات الدولية، لا يعني بالضرورة، زمرة محددة ومتفق حولها من اللاعبين، بل نجد على الأصح مجموعة مختلفة، متنازع حول شرعية وصفها بالفاعلين أو اللاعبين الدوليين Actors. ويبقى ذلك خاضعاً بشكل أساسي، لاختلاف الانتماءات والتوجهات، الفكرية والنظرية للباحثين، المشتغلين في حقل العلاقات الدولية.
انطلاقاً من ذلك يفرض التساؤل حول قائمة اللاعبين الأساسيين والثانويين، في تفاعلات العلاقات الدولية، والأسس التي يجب الاستناد إليها، عند محاولة تحدد تيبولوجيا الفاعلين الدوليين. وقبل ذلك يجدر التساؤل، عن واقعية الافتراض القائل بقدرة الدولة، على مواصلة احتكارها لصفة الفاعل الوحيد المسيطر على تفاعلات العلاقات الدولية. أو بتعبير آخر هل يمكن القول بشرعية تحليل العلاقات الدولية من نموذج مركزية الدولة State-centric model؟
أولاً: مركزية الدولة في العلاقات الدولية: الموروث الواقعي:
واكب نموذج مركزية الدولة، في تحليل العلاقات الدولية، المراحل التأسيسية لهذا الحقل الأكاديمي، وبشكل خاص خلال مرحلة ما بين الحربين، ومع طرح الأفكار الأساسية الأولى للواقعية الكلاسيكية. غير أن تطور مسار البحث عن نظرية عامة General Theory لهذا لحقل المعرفي، أسس لحالة من الحوار النظري، بين التيارات -أو المنظورات- الأساسية، حول المبادئ الأساسية لهذا الحقل، ومنها تحديد الفواعل الأساسية، المشكلة للتفاعلات الدولية. يستند هذا النقاش إلى محاولة الإجابة على التساؤل المستمر، حول حقيقة هذه الفواعل، ودورها ومساهمتها، في تشكيل مختلف التفاعلات الدولية.
تبنى المنظور الواقعي في العلاقات الدولية، تحليلاً قائماً على نموذج مركزية الدولة، من خلال عدم الاعتراف بدور أي فاعلين آخرين خارج إطار الدولة، أي من غير الجندي والدبلوماسي. وفي هذا السياق النظري، اعتبرت الواقعية الكلاسيكية -في هذا السياق-، أن الدولة هي فاعل وحيد وموحد، لا يُمكن لمفهوم العلاقات الدولية في غيابها، أن يكتسب معناه الحقيقي. بينما تراجع إصرار الواقعية الكلاسيكية، مع اعتراف الواقعية البنيوية، بوجود فاعلين دوليين آخرين، من غير الدول، لكنهم مع ذلك يُمارسون دوراً ثانوياً في السياسة الدولية، وبالتالي يحتلون مكانة هامشية مقارنة بالدولة. فهذه الأخيرة حسب الواقعية البنيوية، تتميز بوجود ثابت ومستمر نسبياً، بفضل ما أطلق عليه كينيث والتز اسم معدل وفيات الدول The death rate among states، المتميز بالوتيرة جد المنخفضة، مقارنة مع بقية الفاعلين.
ومن هذا المنطلق، تبقى الدولة المحرك الأساسي للتفاعلات الدولية، مثل إعلان الحرب والسلام، التعاون الدولي والإقليمي، إنشاء قواعد القانون الدولي، تنظيم التجارة والعلاقات الاقتصادية الدولية...إلخ. وهو ما لا يتعارض مع اعتراف الواقعيين، بوجود فاعلين من غير الدول، تماشياً مع تطور التفاعلات الدولية، والقضايا المختلفة المطروحة على الساحة الدولية. ويُمكن اعتبار هذا الطرح، محاولة للتكيف، مع الانتقادات الموجهة للواقعية من جهة، والتغيرات المستمرة التي طرأت على النظام والعلاقات الدولية، مع عدم المساس بالمبادئ الجوهرية للمنور الواقعي، ومنها افتراض مركزية الدولة، في تفاعلات السياسة/العلاقات الدولية.
ثانياً: تفنيد مركزية الدولة في العلاقات الدولية: المنظورين التعدد والبنيوي:
يقترح المنظور اللبرالي التعددي -في مقابل ذلك-، تصوراً مغايراً للواقعية، يقوم على اعتبار أن الدولة فقدت موقعها المسيطر، كفاعل وحيد في العلاقات الدولية. وهو ما عبر عنه جوزيف ناي J. Nye Jr، وروبيرت كيوهان R. Keohane، بالقول أن "بيئة السياسة الدولية The environment of interstate politics، لا تشمل هذه القوى القوية والمعروفة فحسب. ذلك أن قدراً كبيراً من التفاعل بين المجتمعات، والذي يتمتع بأهمية سياسية كبيرة، يتم من دون سيطرة حكومية. فعلى سبيل المثال، فإن العلاقات بين الدول الغربية الكبرى، تشمل معظم التجارة Most trade والاتصالات الشخصية Personal contact, and communication. فضلاً عن ذلك فإن الدول ليست بأي حال من الأحوال الجهات الفاعلة الوحيدة في السياسة العالمية". فإذا كانت الواقعية البنيوية، اكتفت بفتح المجال أمام وجود فاعلين آخرين، فإن اللبرالية توجهت نحو الاعتراف بأهمية الدور، الذي تمارسه الفواعل غير الدولاتية، ضمن تفاعلات العلاقات الدولية.
وقد توجهت التصورات البنيوية، التي تعبر عنها الأفكار الماركسية والنيوماركسية، في نظرية العلاقات الدولية، إلى تبني تصور رافض لمركزية الدولة في العلاقات الدولية. فكون هذه الأخيرة قائمة في جزء كبير منها، على الأسس والمبادئ الاقتصادية، فإن الدولة في هذا الصدد، ليست الفاعل الوحيد، الذي يحتكر تشكيل التفاعلات الدولية. ويُشير الماركسيون الجدد على سبيل المثال، إلى فاعلين اقتصاديين من غير الدول، يُمكنهم حتى فرد إرادتهم على الدولة، وتوجيه سلوكها السياسي والاقتصادي. ويندرج ضمن هؤلاء بشكل خاص، المؤسسات المالية الدولية، المشكلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكذلك الشركات متعددة الجنسيات. وينعكس هذا التصور، من خلال تعريف إيمانويل والرشتاين للنظام الدولي/العالمي، والذي يعتبره على أنه "مجموعة متعددة من المؤسسات A collection of many institutions، يُفسر مزيجها عملياتها الأساسية المتشابكة فيما بينها. وتتمثل المؤسسات الأساسية في: السوقMarket أو بالأحرى الأسواقMarkets ، والشركات The firms، التي تتنافس ضمن هذه الأسواق، دول متعددةMultiple States ، ضمن نظام بين دولاتي Interstate System، العائلات The households، الطبقات Classes، والفئات الاجتماعية Status-groups، أو ما يُطلق عليه بتعبير فيبر اسم الهويات Identities".
وبذلك لن يقتصر التفاعلات الدولية/العالمية، على الدولة باعتبارها فاعل وحيد، رغم أنها تلعب دوراً أساسياً، بالنسبة لبقية الفواعل، حتى في إطار نظام اقتصادي عالمي رأسمالي. وعليه فإنه من منظور بنية النظام العالمي، ستحتل مختلف مكونات هذا النظام، دوراً أساسياً في تشكيل التفاعلات العالمية، والتي تدور في مجملها حول العلاقات والتفاعلات المرتبطة بالاقتصاد العالمي. ويتقاطع هذا التصور، مع تطور الاقتصاد العالمي منذ نهاية الحرب الباردة، وتصاعد حركية تحرير التجارة، ضمن ما يُعرف باسم "الاقتصاد المعولم".
شكلت التغيرات التي عرفتها طبيعة التفاعلات الدولية، منذ بداية القرن الـ20 على الأقل، حججاً إضافية لبعض الاتجاهات الفكرية، في حقل العلاقات الدولية، من أجل محاولة نفي الافتراضات الواقعية، القائلة بالدولة كفاعل وحيد. وعليه، لا يُمكن إلغاء دور الصيرورة، التي عرفها مجال العلاقات الدولية، على المستويين العملي والأكاديمي، على تشكيل شبكة الفواعل الدوليين. فخلال فترة زمنية طويلة، شكلت الدولة مصدراً وحيداً للأفعال وردود الأفعال، حيث لم يكن ممكناً تصور وجود أي نوع من السلوك الدولي، خارج إطار الدول ذات السيادة. وعلى هذا الأساس فقد تم تفضيل مفهوم السياسة الدولية، باعتبار السياسة الخارجية بمختلف صورها، شكلت الشكل الأبرز للسلوك الدولي. ومع زيادة تعقيد المصالح وحاجات الدول، بدأ مجال السياسة الدولية، ليعرف تدخل لاعبين جدد، بدأ مع المنظمات الدولية ذات الطابع التقني والوظيفي، التي جاءت كامتداد للدولة، في مجالات محددة مثل تنظيم الملاحة والنقل، الاتصالات، تنظيم العلاقات الجمركية...إلخ. ثم وصل مسار التطور إلى الاعتراف القانوني الصريح، من خلال قرار محكمة العدل الدولية، التي منحت المنظمات الدولية، حق التقاضي والمطالبة بالتعويض، عن الأضرار التي تلحقها، نتيجةً لأفعال الدول، وهو ما يعني إضفاء الشخصية القانونية الدولية على هذه المنظمات.
ويضاف إلى المنظمات الدولية -الحكومية وغير الحكومية-، مجموعة أخرى من الفاعلين المؤثرين، مثل الأفراد والجماعات بمختلف صورها. حيث مارست هذه الأخيرة، تأثيراً ملحوظاً في الكثير من القضايا الدولية، في مجالات حقوق الإنسان، ومختلف أنشطة حركات المجتمع المدني العالمي. أو حتى الأنشطة التي تُمارسها، مختلف الجماعات المسلحة، سواءً في إطار مشروعية مقاومة الاحتلال، أو في إطار الأنشطة الإرهابية، والتي تمارس تأثيراً كبيراً، على السياسات الوطنية والدولية. إضافةً إلى بعض المعاملات الاقتصادية والمالية، التي يُمارسها الأفراد على مستوى الأسواق المالية، والتي أدى بعضها إلى أزمات مالية واقتصادية، نتج عنها تغيرات سياسية جذرية. ويأتي على رأس الأمثلة في هذا المجال، انهيار الأسواق المالية المحلية، في دول جنوب شرق آسيا سنة 1997، نتيجةً لمضاربات ورهانات مالية، قام بها متعاملون اقتصاديون منهم جورج سوروس.
خــــــــــــاتمة:
انطلاقاً من حوار القائم بين الواقعيين من جهة، والتعدديين واللبراليين من جهة مقابلة، فإنه لا يُمكن حصر التفاعلات الدولية، في سياسات الدول ذات السيادة، رغم احتفاظها بعوامل القوة، والرؤية السياسية للعالم. كما أنه لا يمكن اقصاؤها كذلك -أي الدولة بشكل عام- من تفاعلات العلاقات الدولية، بغض النظر عن التطورات المختلفة، التي شهدتها العلاقات الدولية، منذ بداية القرن الـ20، مروراً بمختلف المحطات التاريخية الكبرى، وصولاً إلى بداية القرن الـ21. وبذلك سنكون أمام نتيجتين أساسيتين:
- أن العلاقات الدولية، خرجت نهائياً من هيمنة نموذج مركزية الدولة، كفاعل وحيد في التفاعلات الدولية.
- أن أهمية وترتيب الفواعل، لا يخضع لافتراضات مسبقة، حول الدور الذي يُمارسه كل فاعل، بل لسياق التفاعلات في حد ذاتها. فالدولة تلعب دوراً محورياً في المجالات السيادية، في حين تفسح المجال أمام لاعبين آخرين، مثل المنظمات الدولية، الشركات الكبرى بمختلف صورها...إلخ، لممارسة دور أهم، في المجالات التي يُمكن أن تخرج من سيطرة/احتكار الدولة.
ويُمكن انطلاقاً من ذلك، تجاوز الجدل الدائم حول الفاعلين الدوليين، والاكتفاء بتصنيف فواعل العلاقات الدولية، انطلاقاً من الخصائص المميزة لكل صنف. وبناءً على ذلك يُمكن الحديث عن مجموعتين مختلفتين من الفواعل، تضم الأولى الدولة وامتداداتها المباشرة، بينما تضم الثانية فواعل غير دولاتية Non-State Actors. مع ضرورة التنبيه، إلى أن الفصل بين هذه الفواعل ضمن مجموعتين متميزتين، لا يعني انسحاب هذا الانفصال على التفاعلات الواقعية. حيث يشهد واقع العلاقات الدولية، شبكة من التفاعلات، لا يُمكن معها في كثير من الأحيان، فصل سلوكات الفواعل عن بعضها البعض، بسبب التداخل في الأهداف والمصالح، وعلاقات الاعتماد والتأثير المتبادلين.