المحاضرة رقم 4: مدخل إلى الفكر السياسي الإسلامي

يندرج الفكر السياسي الإسلامي ضمن الإطار العام للفكر العربي الإسلامي، والذي يُنظر إليه على أنه "حصيلة القيم العربية الإسلامية [التي] هي مقاييس الحياة من وجهة نظر الفكر والحضارة العربية الإسلامية، التي تنظر من خلالها إلى ذاتها وإلى العالم في وقت واحد...فالسياسة بنظر الفكر والحضارة العربية الإسلامية لا يُمكن أن تعيش وتحيا وتنجح إلا بقيامها على مستوى خلقي معين، ومتى ما خرجت السياسة في سلوكها عن خطها الخلقي، أصبحت سياسة فاشلة ومصيرها إلى الهلاك والموت". بمعنى الاحتكام إلى المبادئ الأخلاقية، عند محاولة تكوين الصور الذهنية عن الظاهرة السياسية، حيث يعتبر هذا الاتجاه أنه من غير الممكن، الفصل بين الفكر السياسي والمبادئ والقيم الأخلاقية والمجتمعية.

ينبع كل فكر سياسي من البيئة الاجتماعية والسياسية السائدة، بما في ذلك القواعد الأخلاقية والدينية، بحيث توفر هذه الأخيرة مرجعية أساسية للأفكار السياسية والاجتماعية. غير أنه لا يُمكن تأكيد الافتراض بحتمية الارتباط، بين الفكر السياسي والقيم الأخلاقية السائدة في المجتمع، وهو ما تعكسه حتى تجارب المجتمعات، التي يُشكل فيها الدين مصدراً أساسياً للقيم الأخلاقية والاجتماعية، كحالة الفكر السياسي المسيحي، أو حتى الفكر السياسي الإسلامي.   

يشترط اتجاه آخر انطلاقاً من ذلك، كبديل للارتباط بين الفكر والقيم الأخلاقية، تمتع الأفكار السياسية بخاصية التنظيم، أي الخضوع لنفس المناهج المتبعة في علم السياسة بشكل عام. إضافة إلى اشتراط خاصية الأصالة، أي الإبداع في استخلاص الأفكار كبديل للاقتباس والتقليد، والنقل عن الحضارات والمجتمعات السابقة. وبدون الخضوع لمناهج علم السياسة، ستفقد الأفكار السياسية طابع التنظيم، وبالتالي لا يُمكن إدراجها ضمن المفهوم العام للفكر السياسي. غير أنه في المقابل، فإن اشتراط خاصية الأصالة كما طرحها هذا الافتراض، فيُمكن إخضاعها للجدل باعتبارها شرطاً مبالغاً فيه، ولا يُمكن إثبات توفره في مختلف مراحل تطور الفكر السياسي، وعلم السياسة بشكل عام. فحتى المدارس الفكرية التي ساهمت بقدر كبير في تطور الفكر السياسي، قد اقتبست بدرجات متفاوتة من المدارس السابقة لها، وينطبق ذلك على التراث اليوناني الذي استلهم الكثير من الأفكار من الحضارات السابقة.  

أولاً: السلطة كأساس لنشأة الفكر السياسي الإسلامي:  

لم تعرف البيئة الاجتماعية والسياسية الإسلامية، فكراً سياسياً بمفهومه المعروف خلال حياة الرسول محمد(s)، رغم أن هذه المرحلة عرفت الانتقال نحو الأبعاد السياسية، من خلال تشكيل الدولة الإسلامية بعد الهجرة من مكة إلى المدينة. فبيعة العقبة الأولى والثانية، وتأسيس ما يُشبه السلطة السياسية، لم يًصاحبهما طرح الإشكاليات السياسية التقليدية، المرتبطة بالسلطة السياسية، وتوزيع الأدوار داخل البيئة الاجتماعية والسياسية. وقد استمر هذا الوضع إلى غاية وفاة الرسول(s)، وبداية عصر الخلافة الراشدة، وهي الفترة التي ظهرت فيها التصورات المتضاربة، حول شرعية الخلافة استناداً إلى أسس مختلفة.    

يُمكن القول انطلاقاً أن السلطة السياسية، والإشكاليات المنبثقة عن مسألة خلافة الرسول(s)، كانت أساس نشأة الفكر السياسي الإسلامي. على اعتبار أن النصوص الإسلامية (القرآن والسنة النبوية)، لم تتضمن الكيفيات التي يتم وفقها تنظيم المجتمع الإسلامي سياسياً، رغم وجود تلك المتعلقة بالأبعاد الاجتماعية والأخلاقية. وهو ما جعل الظواهر السياسية المختلفة محلاً للاجتهاد، على اعتبار أنها ليست من أصول الدين. حيث أدت وفاة الرسول(s) إلى غياب الجهة، التي يُمكنها الفصل في النقاش حول تلك الظواهر، كما جرت عليه العادة خلال الحروب (الغزوات)، أو اتفاقيات السلام (صلح الحديبية مثلا). وقد شمل الاجتهاد في مراحل أولى، تأويل النصوص الدينية والقياس عليها، كنتيجةً حتمية لانقطاع الوحي والأحاديث النبوية، في مقابل مواجهة ظواهر اجتماعية وسياسية، لم يتم النص عليها بشكل مباشر وصريح، في القرآن والسنة النبوية.

توسع الاجتهاد الفلسفي في المجالات السياسية، إلى الاقتباس من المدارس الفكرية والفلسفية غير الإسلامية (اليونانية والفارسية بشكل خاص). فقد شكلت هذه الأخيرة مصدراً للفكر السياسي الإسلامي، انطلاقاً من كون الحضارات السابقة، قد تعاملت مع الإشكاليات المرتبطة بالدولة، السلطة السياسية، وغيرها من الظواهر السياسية التي لم تكن معروفة لدى المسلمين في فجر الإسلام. وقد كان ذلك بشكل خاص مع تطور الدولة الأموية، والتي عرفت توسعاً جغرافياً كبيراً نتيجة للفتوحات الإسلامية، وبالتالي فقد ظهرت الحاجة إلى زيادة درجة تنظيم أجهزة الدولة. وكما ظهرت الحاجة إلى إيجاد أسس للتنظيم الاجتماعي، وضبط المجتمع المتعدد لغوياً وعرقياً بسبب الفتوحات، حيث واجهت السلطة إشكالية اختلاف الأصول، العادات والتقاليد، وكذلك أشكال التنظيم السياسي السائد قبل الدولة الإسلامية.

لا يجب أن يُفهم من الافتراض السابق، تهميش مصادر الفكر السياسي الإسلامي، ولا المواضيع الأساسية لهذا الفكر، غير أن المقصود على وجه التحديد، أن السلطة السياسية أضفت طابعاً من التعقيد على العمليات السياسية التقليدية. فقد ألغى الإسلام الكثير من المظاهر والسلوكات الجاهلية، ومنها ما يتعلق بالتنظيم الاجتماعي، وأسس توزيع الأدوار داخل البيئة الاجتماعية. حيث لم يعد الأمر متعلقاً بالانتماء العائلي، أو التراتبية الاجتماعية كما كان عليه الوضع سابقاً، بل حلت المعايير الأخلاقية، وكذلك الكفاءة والأهلية لممارسة السلطة. لذلك فإنه في غياب نص قرآني، أو قرار مباشر من الرسول(s)، يُحدد من الأحق بتولي السلطة السياسية (الخلافة/الإمامة)، وفي ظل التخلي عن المعايير والكيفيات الجاهلية. فقد كان من الضروري الاجتهاد من أجل وضع معايير وكيفيات لإسناد السلطة، تمخضت عن أهل الحل والعقد (الشورى)، قبل التحول إلى الوراثة ابتداءً من المرحلة الأموية.

يأتي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، على رأس مصادر الفكر السياسي الإسلامي، غير أنهما في الوقت ذاته يتكاملان مع مصادر أخرى ذات طابع عقلي، تتمثل في اجتهادات الفقهاء والفلاسفة. القرآن والسنة قد تضمنت العديد من المبادئ العامة، التي يُمكن الاستناد إليها لتنظيم وتسيير المجتمع الإسلامي، اخلاقياً، سياسياً، أو حتى على نطاق العلاقات الاجتماعية الثنائية والجماعية. وتستند هذه العلاقة التكاملية إلى طبيعة النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، والتي تتسم بطابع العمومية باعتبارها مصدرا للتشريع الإسلامي. وبالتالي فهي فيما يخص القضايا السياسية، والعلاقات الاجتماعية بشكل عام، تتضمن المبادئ العامة أكثر من الأحكام التفصيلية. فهذين المصدرين لم يتطرقا إلى طبيعة نظام الحكم، وكيفيات إسناد السلطة، أو تفصيل شكل العلاقة بين الحاكم والمحكومين. وفي المقابل فقد أقر المصدران مجموعة من المبادئ، التي تنص على الشورى، وإسداء النصح للحكام، أو حتى فيما يخص كيفية تعامل من يتولى السلطة مع من يخضع لسلطته.

ومن جهة أخرى فإن هذه المبادئ العامة، قد فتحت باب الاجتهاد فيما يخص التأويل، حيث أنه وعلى سبيل المثال فإن النص القرآني اكتفى بالنص على ضرورة التوجه نحو الشورى، لكنه لم يُحدد الكيفيات التي يتم بها ذلك. وعلى هذا الأساس فقد أخذت الشورى عبر التاريخ الإسلامي، أشكالاً وكيفيات متعددة، بدأت بالمشاورات حول القضايا العامة، والتي كانت تجري في المسجد النبوي في عهد النبي (s)، وتجمع مختلف الشرائح الاجتماعية، ثم تقتصر على أهل الحل والعقد خلال الخلافة الراشدة، ثم ضاق نطاقها لتنحصر في حاشية الخليفة ابتداءً من العهد الأموي. لذلك فقد استند جزءٌ كبيرٌ من الفكر السياسي الإسلامي، على تأويل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وشكلت عمومية هذه النصوص هامشاً واسعاً، يسمح بالتكيف مع الظواهر السياسية والاجتماعية الجديدة، حيث يبقى الباب مفتوحاً أمام إعادة القراءة بما يتماشى مع تغير الظروف، والأوضاع الاجتماعية السياسية في المجتمع.

لم يتوقف أثر القرآن الكريم والسنة النبوية، عند اعتبارهما مصدراً أساسياً للفكر السياسي الإسلامي، بل شكلا في نفس الوقت مرجعية لهذا الفكر وحدوداً له. فرغم تطور الحياة الفكرية والثقافية في المجتمع الإسلامي، وظهور تأثير المدارس الفكرية والفلسفية اليونانية والفارسية (بتأثير من الفتوحات الإسلامية)، إلا الفكر السياسي الإسلامي بقي مرتبطاً بثنائية العلاقة بين النقل (النصوص الدينية) والعقل. حيث لم يكن ممكنا إبقاء الاجتهادات العقلية بدون ضوابط نقلية، تمنع من الانحراف عن العقيدة الإسلامية، خاصةً في المراحل الأولى لتشكيل "الإمبراطورية الإسلامية". ولا يتوقف ذلك على عملية التفكير في حد ذاتها، بل تشمل حتى عمليات الترجمة، التي عرفها التراث السياسي الفارسي واليوناني بشكل خاص. فرغم قيام المسلمين بالترجمة الحرفية للكتب العلمية والتقنية (الطب مثلا)، إلا أنهم لم يعتمدوا نفس الأسلوب في ترجمة الأعمال الفلسفية والفكرية، نظراً لاحتوائها على ما يُخالف العقيدة الإسلامية. لذلك فقدت تمت ترجمة المبادئ العامة لهذا التراث، مع تجريده من طابعه الديني الوثني، وهو ما يظهر مع الترجمة الإسلامية لأفكار أفلاطون وأرسطو، والتي جعلتها متاحة للاستعمال والدراسة حتى في العالم المسيحي في مراحل لاحقة.  

ثانياً: المواضيع الأساسية للفكر السياسي الإسلامي:

تضمن الفكر السياسي الإسلامي، دراسة لمجموعة من المواضيع الاجتماعية والسياسية، قد لا تختلف عن تلك الظواهر المندرجة ضمن مختلف مدارس الفكر السياسي الأخرى، سواءً خلال مرحلة العصور الوسطى، أو حتى في المرحلتين اليونانية والرومانية. غير أن المواضيع الأساسية للفكر السياسي الإسلامي، قد اتخذت تسميات وضوابط مختلفة، باختلاف مناهج التفكير السياسي. ويُمكن تحديد المواضيع الأساسية للفكر السياسي الإسلامي في:

-    الخلافة والسلطة السياسية: كانت الخلافة وإسناد وانتقالها بمثابة الموضوع المنشئ للفكر السياسي الإسلامي، حيث تم تخصيص مساحة واسعة، لإضفاء الشرعية السياسية على تعيين الخليفة الأول، وكذلك للسجال السني الشيعي حول أحقية تولي السلطة السياسية أو الإمامة. وقد انتقل الفكر السياسي الإسلامي مع التطور الاجتماعي والسياسي، إلى البحث ليس في أحقية وشرعية ممارسة السلطة، بل البحث في شروط ممارستها وكيفية انتقالها وإسنادها ضمن الأسر الحاكمة (ابتداءً من العصر الأموي).

-    نظام الحكم والعلاقة بين الحاكم والرعية: يرتبط هذا المحور بالبعد الثاني للخلافة، أي الممارسة الفعلية للسلطة السياسية، وكذلك المبادئ العامة التي يقوم عليها النظام السياسي في الدولة الإسلامية، كالعدالة، الشورى...إلخ. إضافةً إلى العلاقة التي تربط النظام السياسي والحاكم من جهة، بالرعية من جهة ثانية، من خلال الاهتمام بدراسة وجوب الطاعة وأحكامها، والنقاش حول مسألة الخروج عن الحاكم في حالة مخالفته للعقد الاجتماعي والسياسي.

-    الدولة ومسار تطورها: اهتم الفكر السياسي الإسلامي في مراحله الأولى، بدراسة مسألة السلطة السياسية والخلافة، على اعتبار أنها تشكل الموضوع الأساسي للاستقطاب السياسي داخل المجتمع الإسلامي. غير أن استقرار السلطة بدايةً من العهد الأموي، وتأسيس الدولة الإسلامية وفق نمط مشابه للأنماط السائدة خلال تلك المرحلة (الإمبراطوريات). دفع المفكرين السياسيين المسلمين إلى التوجه نحو موضوع الدولة في حد ذاته، على اعتبار أنها البديل القائم لأنماط الاجتماع السياسي التقليدية (القبيلة/المدينة). وبذلك فقد تحولت الدولة إلى موضوع أساسي للتفكير السياسي والاجتماعي، سواءً أكانت نتاج ما سيُعرف لاحقا في الفكر الغربي باسم العقد الاجتماعي، أو القوة والهيمنة التي عرفها ابن خلدون على أنها العصبية...إلخ.

شكلت هذه المحاور المواضيع الأساسية للفكر السياسي الإسلامي، مع ذلك فقد شمل هذا الأخير مواضيع جزئية أخرى، ظهرت مع التطور الاجتماعي والسياسي للمجتمع الإسلامي. فمع توسع الرقعة الإسلامية من خلال الفتوحات، ظهرت أفكار تُجادل في حصرية الخلافة في العرق العربي (القرشي)، وهو المبدأ الذي تم إقراره منذ عهد الأمويين. وقد أدى ذلك إلى فتح النقاش حول العلاقة بين العرب وغيرهم من الشعوب، وهو ما عُرف في التاريخ الإسلامي باسم الشعوبية، والتي أدت إلى الكثير من الاضطرابات السياسية داخل الدولة الإسلامية، أخذت في بعض الأحيان طابع الحرب الأهلية.

ثالثاً: اتجاهات الفكر السياسي الإسلامي:

ينتج عن الدراسة السطحية لتطور الفكر السياسي الإسلامي، خلال مرحلة العصور الوسطى، ملاحظة وجود تراكم من الأفكار والفلسفات السياسية، التي تدور حول مواضيع متعددة ومختلفة، واعتماداً على منهجيات متعددة. ورغم أنها تبدوا متشابهة استناداً إلى الملاحظة السطحية، إلا أنها متباينة إلى حد بعيد استناداً إلى الأسلوب، أو حتى الهدف الذي سعى المفكرون السياسيون المسلمون إلى تحقيق، والمرتبط في جزء كبير منه بالخلاف حول السلطة/الإمامة. ويُمكن تصنيف اتجاهات الأفكار السياسية الإسلامية، من خلال ثلاثة اتجاهات أساسية هي: اتجاه علم الكلام، الفلسفة السياسية، الفقه السياسي. وبما يتماشى مع هذا التصنيف، فإنه من خلال هذه الدراسة سنعتمد إجرائياً الاتجاهات التالية: الاتجاه الفقهي، الاتجاه الفلسفي، والاتجاه الاجتماعي.

-    الاتجاه الفقهي في الفكر السياسي الإسلامي: يُمثل هذا الاتجاه كل أبو الحسن الماوردي (972م-1058م) وكذلك أحمد بن تيمية (1263م-1328م). وقد درج هذا الاتجاه على دراسة الظواهر السياسية، من منظورات فقهية دينية، أي بالاستناد إلى مصادر التشريع الإسلامي الأساسية. حيث تم الاستناد إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، إضافةً إلى اجتهادات الصحابة والتابعين، رغم عدم اعتبار الظاهرة السياسية ظاهرةً دينية أو تعبدية. ومن أهم الأمثلة أفكار ابن تيمية حول السياسة الشرعية، وكذلك أفكار الماوردي حول ظاهرة السلطة في مؤلفه الأحكام السلطانية.

-    الاتجاه الفلسفي في الفكر السياسي الإسلامي: يندرج ضمن هذا الاتجاه الكثير من المفكرين، المتأثرين عموماً بالفلسفة اليونانية، أو حتى الفارسية القديمة التي ظهر تأثيرها خلال العصر العباسي. ومن رواد الاتجاه الفلسفي نجد يعقوب بن إسحاق الكندي (805م-873م)، أبو النصر الفارابي (874م-950م)، وكذلك الفيلسوف الأندلسي محمد بن رشد (1126م-1198م). وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتجاه لم يكن مكرساً للفكر السياسي، بل أن الظاهرة السياسية أخذت حيزاً من التفكير الفلسفي، إلى جانب ظواهر دينية أو عقائدية، إضافةً إلى الظواهر الاجتماعية المختلفة.

-    الاتجاه الاجتماعي في الفكر السياسي الإسلامي: اندرج هذا الاتجاه ضمن عصر الانحطاط، المتميز بتراجع الصبغة الدينية عن الدولة والسلطة السياسية. وبالتالي توجه المفكرين نحو إبراز دور العوامل الاجتماعية، المجردة من الطابع الديني، وبذلك تكون الظواهر السياسية المختلفة في نهاية المطاف، ظواهر ناشئة عن التفاعل الاجتماعي بين مختلف قوى المجتمع. ومن أبرز رواده عبد الرحمن بن خلدون (1332م-1406م)، الذي ارتبطت أعماله بمسار تأسيس علم الاجتماع Sociology\Sociologie.

تطورت هذه الاتجاهات بشكل عام من خلال مرحلتين أساسيتين، تتمثل الأولى في المرحلة السابقة لعصر التدوين، أما المرحلة الثانية فيُطلق عليها اسم عصر التدوين. فقد تميزت المرحلة الأولى بالطابع الشفهي للتفكير السياسي، حيث لم يعمد المفكرون السياسيون بشكل عام، إلى تدوين منتوجهم الفكري في كتب أو مصنفات، لهذا فهذه المرحلة التي تضم عصر الخلافة الراشدة، وبداية الدولة الأموية، لم تُخلف إنتاجاً كبيراً في مسار تطور الفكر السياسي الإسلامي. أما المرحلة الثانية فقد تميزت بتوجه المفكرين السياسيين، إلى تدوين أفكارهم في كتب ومصنفات، ما دفع بالمؤرخين لتطور الفكر السياسي الإسلامي إلى التركيز على هذه المرحلة، نظراً لإمكانية إجراء دراسات تحليل المضمون، والقراءة النقدية لمختلف مؤلفات الفكر السياسي الإسلامي. وتبدأ هذه المرحلة من نهاية المرحلة الأموية، بينما عرفت عصرها الذهبي خلال العصر العباسي، وهو ما سيدفعنا إلى التركيز على نماذج من الأفكار السياسية، التي جاءت ضمن عصر التدوين.  


آخر تعديل: Monday، 28 April 2025، 5:27 PM