النقد النفسي

النقد النفسي:

يركز المنهج النفسي في تمظهره النقدي والأدبي على الثوابت النفسية، والمرتكزات الدلالية اللاشعورية المتخفية في ثنايا العمل الأدبي، الذي يتأثر بالمظاهر الباطنية عند الأديب أكثر من تجلياته الظاهرة، تأكيدا على أن الناقد كلما تمكن من معرفة جيدة بحياة الأديب، امتلك معرفة أعمق بفكره وتوجهه، "فأوضح أسباب وجود العمل الفني وجود صانعه المؤلف، لذلك كان إيضاح العمل من خلال شخصية الكاتب وحياته من أقدم مناهج الدراسة الأدبية"([1])، في حين أخذ على "عاتقه تفسير نتاجات الفكر من ملاحم وتراجيديات وأساطير وحكايات شعبية ولوحات فنية ومنحوتات وروايات"([2]).

تتنوع مجالات التحليل النفسي للنص الأدبي؛ وتتمحور إما على الحياة الخاصة لصاحب النص، أو اكتفت بما يتمتع به النص ذاته من مؤشرات، يتم تحليلها بمعزل عن مُنشئه، ولكن الهدف كان دائما محاولة الكشف عن علاقة النص بصاحبه، حتى غدا هدفا في حد ذاته وأهمل الوجه الأخر؛ وهو النص.

اتضحت معالم هذا المنهج في دراسات سيجموند فرويد، التي كانت المنطلق الأول لظهور اتجاهات أخرى أكثر تنوعا في مجال النقد، ويكمن التقاطع بينها في استخدام النص الأدبي؛ كوثيقة تخضع في تحليلها لتحديد المناطق اللاشعورية في شخصية الأديب، بالإضافة إلى ما يزخر به النص من رموز، واستعارات ملحة، ودلالات متكررة، تستخلص بتحليل عدة أعمال، وانطلاقا - من وجهة فرويد - يمكن أن تحلل هذه الإشارات منهجيا، للوصول إلى استخلاص مجموع هذه الدلالات الخفية، باعتبار أن العمل الأدبي تعبير مباشر عن شخصية مبدعه، وبالتالي، فالنص هو المنطلق الأول للكشف عن هذه الشخصية، ومن ثم الاهتمام بالذات المبدعة، وبالإنسان الذي يتوارى داخل الأعمال الفنية التي يحكمها اللاشعور، فأصبح ينظر إلى الأدب من حيث "ارتباطه بالأساطير، والإستيهامات، والرموز في ضوء نظرية التحليل النفسي في الوهم والعصاب الذي يدعونا إلى قراءة النص بوصفه لغة الرغبة"([3])؛ فالمنطلق الأول هو النص وصولا إلى النص ذاته، ليتم بعدها التفكير في الكاتب وحياته.

إلا أن هذا التوجه على جزئيته، لا ينفي أن النص صورة لشخصية مبدعه، وتعبيرا مباشرا، يشي بجملة العقد النفسية (عقدة أوديب، عقدة ألكترا، عقدة النقص والتعويض)، التي أثرت في ابداعه، لهذا نجد دراسات أخرى استثمرت المبادئ اللغوية خاصة عند دي سوسير، كما هي دراسات جاك لاكان، الذي أخذ على الاتجاه الفرويدي تجاهله لوظائف اللغة والكلام في تحليله النفسي، فالنص بذاته كفيل بتحقيق عوامل التواصل، دون حاجة لوجود طرفي العملية (المرسل – المرسل إليه)، في إشارة إلى أهمية "عنصر جديد هو المظهر اللغوي للاشعور"([4])، أما الناقد الفرنسي شارل مورون الذي يعود له فضل تأسيس منهج النقد النفسي، فيرى "أن القضية الهامة التي تواجه الناقد الأدبي، هي تفكيك الشفرات الموجهة والمتحكمة في العمل الابداعي للمؤلف، واكتشاف الرؤية المهيمنة سواء كانت فردية أم خاضعة لتصور جماعي منعكس في ثنايا النص"([5])، ويؤكد على "أن دراسة العمل الفني تنمي معارفنا وذكائنا حين نكشف من خلالها تلك العلاقات الخفية الموجودة في النص والتي لم يلاحظها المحللون، أو أن المحللين لاحظوها ولكنهم لم يتعمقوا فيها ومنها شخصية المبدع اللاواعية"([6]).

يعتمد النقد النفسي "تقنية تبحث في تداعيات الأفكار غير الإرادية تحت البنية المقصودة في النص، وهذه التقنية تهمل البنية الظاهرة، وتغوص في البنية الخفية من خلال أربع عمليات:

1-  عملية تنضيد النصوص.

2-  عملية البحث في نتاج المؤلف عن شبكة من الاستعارات الملحة، وترددها التي ترسم بتجمعاتها حالات درامية.

3-  البحث في حياة المؤلف عن كيفية تردد الشبكات، وتجمعات الصور المختلفة التي ترسم حالات درامية، وهذه المواقف الدرامية ترسم ما يسمى الأسطورة الشخصية وتحولاتها.

4-  البحث في حياة المؤلف عن صدق النتائج المحصول عليها من خلال دراسة نتاجه"([7]).

عكست قلة الدراسات النقدية التي تعاملت مع النصوص السردية، بإجراءات المنهج النفسي، حالة الحذر والتردد الذي  تعامل به النقد الجزائري مع هذا الاتجاه، ومن بين العينات القليلة، دراسة قدمها الناقد صالح مفقودة قارب من خلالها رواية "ذاكرة الجسد"، والتي سبق له أن قاربها بعدة مناهج، اجمعت على تأكيد العلاقة السلبية القائمة بين شخصيتي خالد وحياة، هذا ما شجعه من جديد على اختراق عالم الرواية بمقاربة نفسية، تعيد منحها تأويلات جديدة، تخترق بها زوايا خفية عن القارئ.

 توقف الناقد في هذه الدراسة عند سمة اهتمت الرواية بإبرازها؛ وهي عقدة النقص والحرمان وهي "عقدة نفسية أي عملية لا شعورية ناجمة عن نقص عضوي أو نفسي أو اقتصادي أو مكانة اجتماعية، وتدفع الفرد لا شعوريا إلى أن يعوض ذلك النقص من صراع بين الحاجة الى التقدير الاجتماعي(وهو دافع ايجابي)، والخوف من الأذى الناجم عن الإحباط (أي حالة التوتر النفسي التي قد تنشأ عن إعاقة جهود الفرد لإرضاء دوافعه وفشله في بلوغ أهدافه)، وخاصة إذا تكرر حدوث هذا في مواقف سابقة مماثلة فينتج عن ذلك لا شعوريا سلوك دفاعي وغالبا عدواني"([8])، وهو شكل من أشكال الصور الرمزية للتعبير عن المشاعر والميول المكبوتة، تنشأ عن صراع كامن في اللاشعور، مرده إحساس الإنسان بنقص في أعضائه الجسمانية أو مظهره الشخصي أو إحساسه بتدني مكانته الاجتماعية، وإخفاقه في بلوغ ما كان يصبو إليه من آمال في الحياة، ويقابل حالة الشعور بالنقص، رد فعل يسعى به الفرد لتعويض عجزه، ويدفعه الى انجاز شيء من أجل تعويض خسارته، بالبحث عن التميز أو الاشباع في مجالات أخرى، ويتجلى مفهوم التعويض كميكانيزم دفاعي لتغطية الشعور بالنقص وتحقيق التفوق.

 وتعد هذه العقدة من بين العقد التي أشار إليها ألفرد أدلر في تحليلاته، والتي جعلها في ثلاثة أبعاد؛ جسدية ونفسية واجتماعية، حيث أتفق مع أستاذه فرويد في فكرة وغريزة حب الظهور والتعويض عن النقص، مع اختلاف في المحتوى والمضمون، فالنقص عند المبدع، ومحاولة تعويضه عند أدلر غير مرتبط بفكرة الدافع الغريزي للإبداع كما هي عند فرويد، وفتح هذا الطرح المجال واسعا للنقاد، للنظر مليا في عاهات المبدعين، وعقدهم ونواقصهم والربط فيما بينها.

يتجلى في الرواية حاجة الشخصيات في تعويض عاطفة الأمومة والأبوة المفقودين، ويتضح ذلك في فقدان خالد حنان الأم، وفقدان حياة حنان الأب.

خالد وفقدان حنان الأم: ظهر هذا الشعور عند خالد؛ حين توفيت والدته في صغره، وتثير هذه الحالة صورتين هما:

الصورة الأولى: جثمان والدته خارجا من البيت.

الصورة الثانية: موكب عروس صغيرة بعد أسبوع.

تولد الصورة الثانية لدى خالد صورة أخرى تعكس أبا لا مباليا بشعور ابنه، هذه اللامبالاة، تتكرر في رواية "عابر سرير"، حين يحدثنا خالد عن الأب المجاهد الذي حول جزءا من البيت إلى مكان مشبوه يرتاده مجاهدون في زي نساء، كل هذه الصور مجتمعة تعمل على بلورت شعورين؛ أولهما الحنان والعطف والشفقة تجاه الأم، والثاني: الإهمال المطلق للأب، ويفسر هذا نفسيا بميل الطفل منذ الصغر نحو أمه، ويكون الأب في هذه الحالة الخصم والمنافس الذي يتوجب قتله معنويا، وعليه فالعلاقة التي تجمعه بالأب علاقة صراع منذ البدء، "الأم تفقد والطفل يحرم من تحقيق رغباته، ويتحول حب الطفل من حب الأم إلى حب أكبر حب الوطن، الذي سيكون أمه"([9])، وفي المقابل يتحول سي الطاهر والد حياة إلى صورة مقابلة للأب المتنكر لزوجته، رغم الصورة الايجابية التي كونها خالد عنه، إلا أن تعويضه عن نقصه، يستوجب أن لا يبقي هذا المنافس، ولذلك "يختار لوالده صورة الإهمال المطلق، إذ لا يظهر أي حديث عن الأب وقبره خلافا للأم"([10])، وتتحقق "أسطورة أوديب" التي تحكم بموت الأب، واتصال الابن بالأم بعد قتله غير المقصود، إلا أن الرواية لا تكرر نفس الخطيئة بل "تصور حنان الأم والرغبة فيها، ولكنها لتفادي غشيان المحارم فإنها تقرر موت الأم بالنسبة لخالد"([11]).

أحلام وفقدان حنان الأب: تبدو حياة في مظهر مشابه لصورة خالد؛ حين تعايش مشاعر النقص نفسها، فبدورها تعاني فقدان حنان الأب، حيث لا يكاد يرد ذكر أمها إلا نموذجا للمرأة النمطية المحرومة، ولتعويض ذلك تلجأ إلى الارتباط بخالد، كونها ابنة رمز مجاهد لا رجل عادي، وعليه، تظهر صورتان تكمل إحداهما الأخرى؛ حيث يعيش خالد حالة انجذاب الفتى إلى أمه، أما أحلام فتنجذب إلى نموذج والدها، بهدف التعويض عن شعورهما بالنقص والحرمان، غير أن السؤال الذي يطرحه الناقد هو:

 كيف ستكون العلاقة بين الاثنين؟ تجيب الرواية على ذلك حين ترجع العلاقة بينهما إلى اللاشعور ومظاهر الكبت، وبالتالي يمثل كل من خالد وأحلام نموذجين بشريين، يعبران عن أعماق النفس من الداخل، بطريقة فنية رمزية يتداخل فيها جسر قسنطينة بولادة أحلام ولوحة حنين.              

جسر قسنطينة          لوحة حنين       ولادة أحلام

مدلول                   دال              الأم، البنت، الوطن، الأنثى

                        دال                     مدلول

كان من المفترض أن تسد أحلام مظاهر الحرمان التي يعانيها خالد، إلا أن ارتباطه الخاص بها، أزم حالته وذكره بنقصه الجسدي(ذراعه المبتورة)، وبطفولته وكهولته، لتؤول العلاقة بينهما إلى الفشل.

تعيش أحلام بدورها حالتين هما:

أحلام البنت: تجسد الرواية أحلام في صورة ابنة لخالد، هذه الصورة فرضها المجتمع ورسخها في لاوعيه الجمعي، مع أنها في الأصل ابنة سي الطاهر رفيق كفاحه.

أحلام الأم: يثير السوار الذي ارتدته أحلام ذكريات عن أمها، فتقدمها "البديل عن الأم التي توفيت، هي البديل عن الأم التي هجرتها الجزائر"([12]).

يشير الناقد إلى ظاهرة توظيف شخصيات أجنبية، وهو اتجاه شائع في الكتابات الروائية الجزائرية، نجده في "اللاز"*عند الطاهر وطار، وفي رواية "فاجعة الليلة السابعة بعد الألف"** لواسيني الأعرج ، وفي الرواية المرأة الفرنسية كاترين التي يألفها خالد، وهي في الواقع حركة ارتدادية نحو الخارج، كما تصوره "أسطورة أورست"، ويتأتى وجه الشبه بين أورست وخالد في "توجه حبهما نحو الخارج وكلاهما ماتت أمه غير أن خالد لم يقتل أمه"([13])، فظهور الأم يعود بخالد إلى رغبة مكبوتة لا تتحقق، وتكون أحلام في نظره الحب الخارجي، أما خالد فهو ممثلا عن والدها، وفي الوقت نفسه أكثر من رجل، في هذه الحالة يشحن الرمزان خالد وأحلام بمجموعة من المدلولات تختصر فيما يأتي:

خالد  ( دال )                              ممثل الأب، الغريم (مدلول)

أحلام ( دال )                              البنت، الأم (مدلول)

قدم الناقد في دراسته لرواية "ذاكرة الجسد"، رؤية عن التحول الذي انتهجته الدراسات النفسية التي جاءت بعد فرويد، إذ انطلقت من النص الروائي، ومن الحياة النفسية لشخصياته، دون أن يتخلى كليا عن الأفكار التي قدمها فرويد وتلاميذه حين وظف مجموعة العقد النفسية التي عاشتها الشخصيات، كما تبنى فكرة "جاك لاكان [التي تدعو] إلى ضرورة الفهم الجيد للفكر الفرويدي، مع إعادة النظر في مقاييس التحليل النفسي، لكثافة الدراسات اللسانية واللغوية التي نبهته إلى ما كان غير معروف، وللنتائج النسبية والتسامي على النص كلغة"([14])

اهتم الناقد أحمد حيدوش بالمنهج النفسي من عدة مجالات؛ المجال الأول: نقد النقد في كتابه "الاتجاه النفسي في النقد العربي الحديث"، حين عرض أهم الأسماء النقدية العربية التي ارتبطت بالتحليل النفسي للنصوص الأدبية، وفي كتابه "شعرية المرأة وأنوثة القصيدة"، مارس آليات المنهج الموضوعاتي على شعر نزار قباني، إذ اهتم برصد العنصر المتكرر في قصائده، وهو موضوع المرأة.

أما في كتابه "إغراءات المنهج وتمنع الخطاب"، فيخصص الناقد الفصل الرابع منه، لاستعراض دراسة تهتم بالسيرة الذاتية في جنس الرواية، حيث يكون الناقد في وضعية اثبات الترابط بين النص الروائي وصاحبه، مستعينا في ذلك بنظرية فليب لوجون التي اسماها "العقد البيوغرافي"، ليقف بنا مع مصطلح السيرة باعتبارها "نصا يبدو مؤلفه يعبر عن حياته أو إحساسه مهما كانت طبيعة العقد المقترح من قبل المؤلف"([15]).

                    السيرة الذاتية عند لوجون([16])

 

 


     اللغة           الموضوع            وضعية المؤلف                       وضعية السارد

     حكي          حياة فرد            تطابق بين المؤلف والسارد        تطابق السارد والشخصية

     نثر      تاريخ شخصية معينة                                                الرئيسية.

يعرض الناقد مجموعة من الفروق بين السيرة الذاتية ورواية السيرة الذاتية، لتفادي أي تماه قد يحصل نظرا لنقاط الاشتراك الكثيرة، ففي حين يخضع كل من المؤلف والسارد والشخصية إلى تطابق تام في السيرة الذاتية، تكون الشخصية في رواية السيرة الذاتية كالآتي:

-       اسم مختلف عن اسم المؤلف.

-       ليس لها اسم.

-       لها اسم المؤلف.

-       أما الميثاق فقد يرد روائيا أو غير معلن أو سيرة ذاتية.

أتاح اعتبار رواية السيرة الذاتية جنسا أدبيا معترف به ضمن باقي الأجناس الأدبية، امتلاكه لخصوصيات تجعله يختلف عن التخييل، ويعبر عنها توماس كليرك في المعادلة الأتية([17]):    سيرة ذاتية + تخييل= تخييل ذاتي.

ومن بين السمات التي تميز الرواية السير الذاتية عن الرواية([18]) هي:

-       تتم الإحالة في السيرة الذاتية على ضمير ملموس لا على شخصية متخيلة.

-        تستقي السيرة الذاتية خصوصيتها المرجعية من حياة المؤلف.

-       يكون الاسم العلم للمؤلف مطابقا لاسم الشخصية الرئيسية.

يكون المؤلف في السيرة الذاتية ذات وموضوع النص في آن واحد، ورغبة في قول الحقيقة عن الذات وتستنتج حقائق واقعية مقتنعة بها.

لكن ماذا عن حال رواية السيرة الذاتية في فضاء الرواية الجزائرية؟

يعتقد الناقد أن هذا النوع من الروايات وجد تربة خصبة عند كتاب الرواية إبان الحقبة الاستعمارية، والذين لم يجدوا حرجا في تجسيد حياتهم الخاصة، وعرضها في أعمالهم الابداعية، ومن النماذج على ذلك تجسيد مولود فرعون لتضحيات والده من أجل تعليمه، ونضاله من أجل تحقيق طموحه في روايته "نجل الفقير"، واستلهام ثلاثية محمد ديب أحداثها من حياته الخاصة، لكن الوضع يختلف تماما مع روائي ما بعد الاستقلال، حين عمدوا إلى إخفاء تمثيلهم لسيرهم، كما هو حال الروائي رشيد بوجذرة " بطل رواياته وإن غير ملابسه في كل رواية"([19])، فتتكرر مجموعة من الذكريات التي استقاها الروائي من طفولته، ومن حياته الذاتية في رواياته "التطليق"، "الإنكار"، "معركة الزقاق"، حيث يلمس القارئ أنه "أمام أم واحدة، بعد الغياب المعنوي للأب الأكثر حضورا في الرواية قياسا إلى غيابه المادي"([20])،  والأمر ذاته  نجده متجسدا عند الروائي جيلالي خلاص، الذي ولج عالم السيرة الذاتية في روايته "بحر بلا نوارس" و"رائحة الكلب".

يرى الناقد أن المكان بدوره يحمل بصمة خاصة  تثير الروائي، وتستفزه ليسترجع شريط حياته وذكرياته الخاصة، خاصة ما تعلق منها بفترة الطفولة، مع أنه يبدو للوهلة الأولى أن لا اتصال منطقي بينهما، إلا أنه يجد مبرره في رواية "جبال الظهرة" للروائي محمد ساري، حين "تحضر صورة الجد وذكريات الطفولة التي ارتبطت بالمكان الذي تدور فيه الأحداث"([21])، كما تجوب بنا نصوص الطاهر وطار عوالم السيرة الذاتية، لتصل داخل النص بخارجه.

اسم الكاتب        تماهي           العنوان

الطاهر وطار                   الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي.

                                الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء.

وقد يضع الروائي اسمه اسما لإحدى شخصياته الروائية التخيلية:

اسم الكاتب                        اسم الشخصية الروائية

رشيد بوجذرة                      رشيد (الإنكار)

يقدم لنا الناقد ثلاث احتمالات وضعها لوجون([22]) لتفادي وقوع  القارئ في لبس؛ في حالة حصول أي نوع من التطابق بين اسم المؤلف واسم إحدى شخصياته الروائية، تدعيما للطرح الذي يرى أن كل ما يحدث في العالم التخيلي للرواية، لا يكاد ينفصل عن الحياة الشخصية لمؤلفها، وهذه الاحتمالات هي:

1- طريقة المقارنة: وتتم عادة بالعودة إلى نصوص أخرى للكاتب، وتتبع ما يجمع بينها من عناصر وأحداث مشتركة.

2- الاستناد إلى معلومات خارجية: وفيها يتم تسريب بعض المعلومات أو تقديمها مباشرة من قبل المؤلف، سواء كانت حوارات أو شهادات.

3- قراءة الرواية: ويتضح من خلال هذه العملية مظهر التخييل المصطنع  من طرف المؤلف.

      ينتقي الناقد روايتين للروائي مرزاق بقطاش "طيور في الظهيرة" و"البزاة "، ليتخذهما نموذجا ينطلق منه لتأكيد صحة المبدأ الذي وضعه لوجون، ويقر فيه بعدم جدوى "التحليل الداخلي للنص الذي لا يمكن أن يبرز أية خصائص مميزة للسيرة الذاتية تفصلها بشكل واضح عن الأنواع القريبة منها"([23])، وفي مقاربته ينطلق من منظور رمزي تقتحم فيه الرواية عالم المدينة أثناء الثورة، في وقت كانت فيه أعمال الروائيين الجزائريين تؤرخ للريف وتشيد به، ويجد الناقد مبررا في تأسيس الرواية على مجموعة من الازدواجيات والثنائيات؛ ازدواجية العواطف إزاء المكان وإزاء الصفاء والصحو، وثنائية الأعلى/الأسفل، واندماج المكانيين وتحولهما إلى مكان واحد؛ تتحول فيه المدن إلى جبال، إلى أن الرواية "تروي أحداثا حقيقية مخزونة في ذاكرة الكاتب وفي وعيه، ولونها خياله الطفولي وخياله ككاتب"([24]).

تجسد أحداث القصة يوميات طفل من أطفال أحد أحياء العاصمة، يحركه المكان ويوجه فعله، وينمي وعيه وإدراكه بواقعه، ولما يدور من أحداث تطبع محيطه، غير أن الناقد يقر بصعوبة القول أن شخصية الطفل في الرواية هي شخص مرزاق بقطاش الكاتب، والتي اعتمد في تشكيل حبكتها على شكل السيرة الذاتية، غير أن القرائن تمنح نوعا من التأكيد، ومن هذه العلامات ما يأتي:

-       الاسم: (م) راد / (م) رزاق

-       العمر: 12 سنة في فترة 1957 مراد / مرزاق*.

-       الأنموذج: تميزهما (مراد / مرزاق) بين زملائهما دراسيا.

كما أن الأعمال الأخرى للروائي مرزاق بقطاش**،"تقودنا إلى الشبكة التي تختفي عبر ضوابطها وجوه أخرى للسيرة الذاتية في الرواية"([25]).

 يشير الناقد في الأخير إلى أهمية القراءة السيرذاتية للرواية الجزائرية، بهدف رسم تصور جديد، وإدراك أفضل للظروف الاجتماعية والنفسية والثقافية والتاريخية، والكشف عن حضور المؤلف وراء نتاجات ليس لها الطابع المباشر للسيرة الذاتية؛ كالرموز سواء كانت ضمنية أو صريحة.

الرموز

                       ضمنية                                صريحة

                  الرموز، الثنائيات                     الاسم، القرائن المباشر

        قدم لنا الناقد في هذه الدراسة، قراءة تستوجب على متبعها معرفة شاملة بالجوانب الخاصة بشخص المؤلف؛ لأن مؤلف الرواية كيان إنساني حقيقى، يملك وجود طبيعي ملموس يتمحور "على تجسيده الحياتي الكامل،[وعليه] يجب أن تكون هناك وحدة عضوية عميقة تربط بين شخصية البطل وبين محور حياته، (...) [وأن] البطل وعالمه الموضوعي يجب أن يكونا قطعة واحدة"([26])، ففهم حياة الروائي، يؤدي إلى إدراك بخصوصيات هذا النوع من الروايات التي تخضع في نشأتها إلى سيرة كاتبها، أو حتى أشخاص يرتبط بهم، ما يدل على "أن الروائي يبني أشخاصه شاء أم أبى، علم ذلك أو جهله انطلاقا من عناصر مأخوذة من حياته الخاصة، وأن أبطاله ما هم إلا أقنعة يروي من ورائها قصته"([27]).

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] - وليك، رينيه. نظرية الأدب، ص: 77.

[2] - حيدوش، أحمد. إغراءات المنهج وتمنع الخطاب، ص: 22.

[3] - المرجع السابق، ص: 55.

[4] - عيلان، عمرو. في مناهج تحليل الخطاب السردي. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2008، ص: 195.

[5] - المرجع نفسه، ص: 174.

[6] - حيدوش، أحمد. إغراءات المنهج وتمنع الخطاب، ص: 24.

[7] - المرجع السابق، ص: 25.

[8] - المليجي، حلمي. علم النفس المعاصر. ط8، دار النهضة العربية، بيروت، 2000، ص: 133.

 

[9]- مفقودة، صالح. "رواية ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي في ضوء التحليل النفسي"، مجموع محاضرات الملتقى الدولي العاشر للرواية، مديرية الثقافة لولاية برج بوعريريج، 2008، ص: 159.

[10]-  المرجع السابق، ص: 160.

[11]- المرجع نفسه، ص: ن.

[12] - المرجع السابق، ص: 165.

[13] - المرجع نفسه، ص: 167.

[14] -  دراوش، مصطفى. "النقد النفسي والقراءة المفارقة"، فعاليات الملتقى الدولي الثالث حول الخطاب النقدي العربي المعاصر، منشورات المركز الجامعي خنشلة، 2009، ص: 225.

*يجسدها شخصية الضابط الفرنسي.  **تجسدها شخصية ماريوشا الغرناطية.

[15] - حيدوش، أحمد. إغراءات المنهج وتمنع الخطاب، ص: 234.

[16]- المرجع نفسه، ص: 102- 103.

[17] - صدقي، الزوهرة. حول حدود التخييل الذاتي، الموقع الالكتروني:www.dorob.org.

[18] - أنظر: كليرك، توماس. الكتابات الذاتية. ط1. تر/ محمود عبد الغني، دار أزمنة للنشر والتوزيع، المغرب، 2005، ص: 105.

[19] - المرجع نفسه، ص: 111.

[20] - المرجع السابق، ص: 111.

[21] -المرجع نفسه، ص: ن.

[22]- المرجع نفسه، ص: 113.

[23]- المرجع السابق، ص: 106.

[24]- المرجع نفسه، ص: 127.

* الروائي من مواليد 13 جوان 1945 بالجزائر العاصمة.

 

[25]- المرجع السابق، ص: 127.

**من مؤلفاته: دار الزليج (مجموعة قصصية)، دم الغزال (رواية)، بقايا قرصان (قصص)، خويا دحمان (رواية)، عزوز الكابران (رواية).

[26] - باختين، ميخائيل. شعرية دوستويفسكي. تر/ جميل نصيف التكريتي. ط1. دار توبقال، المغرب، 1986، ص:147. 

[27] - بوتور، ميشال. بحوث في الرواية الجديدة، ص: 64. 


Last modified: Monday, 11 January 2021, 2:48 PM