النقد الانطباعي

النقد الانطباعي:

        يقوم النقد الانطباعي في تقييمه للعمل الفني، على اللحظة التأثرية الأولى التي تجمعنا بالنص، يخضع في ذلك لمستويات ثقافية ومعرفية ولحس جمالي، تجسيدا وشرحا لمختلف الانطباعات التي يتلقاها الطرف الناقد من الإنتاج الأدبي، وتبدأ في المرحلة الأولى للعملية النقدية، إذ يكون تأثره بمجموعة من العناصر، قد تكون موضوعا أو لغة، أو حتى شخصية الكاتب.

       وقد عرفت الساحة النقدية في الجزائر هذه الممارسات التي أطلق عليها اسم "نقد ما قبل الاستقلال"، التي حدد مخلوف عامر مجالها الزمني، بالنصف الأول من القرن الماضي، نظرا "للتأثر بالثقافة في المشرق العربي أكثر من تأثرها بالثقافة الغربية، والأغلبية من الذين تأثروا بالثقافة العربية المشرقية طغى عليهم لسوء الحظ الجانب السلبي في معالجة الأمور"([1])، ويستندون في ذلك إلى الثقافة الكلاسيكية أكثر من غيرها، حيث يظهر في كثير من الأحيان "عدم التمييز بين الموضوع والمضمون، كما أن دراسة الشكل تحكمها المعايير القديمة، فلا تدرس البنية الداخلية للعمل الأدبي، ولا ينظر للعمل الأدبي في علاقة الجدلية بالواقع"([2]) .

يساوي الناقد الانطباعي بين الموضوع كإطار شامل، والمضمون كرديف للشكل والبناء، إذ يدرس شكليا النص، وفقا لإجراءات تستثني الدراسة المحايثة، وتتجنب ربط علاقة بالواقع الذي أنتجه، وتحدد أبعاد النص وفقا للمقاييس المتعارف عليها تقليديا، فأحمد منور على سبيل المثال في دراسته "قراءات في القصة الجزائرية" يصنف القصص على أساس وحدة الموضوع الذي تناوله وهو "موضوع القصة، و[يركز] بشكل خاص على القصص أو الروايات التي تناولت موضوع الأرض والفلاح عقب الشروع في تطبيق الثورة الزراعية"([3])، ويخضع في ذلك "للاختيار الحر، والصدفة أحيانا"([4])، كما أنه أهمل قصصا أخرى اتخذت نفس النهج، مع أنه يقر بأن هذه الكتابات لا تعدو كونها مقالات لا تدخل في باب النقد، ولا ما يشبه النقد، وإنما هي "قراءة حرة لم [يلتزم] فيها بمنهج معين، ولا بنظرية نقدية محددة، [إنما يعتبرها] مجرد وجهة نظر، ومشاركة في الحوار الدائر على مستوى الساحة الأدبية"([5])، ويلح على ضرورة تأسيس نقد أدبي بالمعنى المنهجي، "ليواكب هذا الأدب، ويعطيه ما هو جدير به من الدراسة والتحليل والتقييم، وليرسم مساره العام، واتجاهاته الفرعية"([6]).

ومهما تفاوتت مثل هذه الدراسات في مقاربتها للنصوص، إلا أنها تنتهي إلى نتيجة واحدة؛ وهي كيف يجب أن يكون عليه الإبداع، انطلاقا من مجموع  القيم المتوارثة والأحكام المسبقة، فتتحول الدراسة الأدبية وفقها إلى مجرد أحكام نثرية، إذ كثيرا ما ينحاز الناقد الانطباعي إلى الاهتمام بالجوانب الأسلوبية من "شرح المفردات والإغراق في اللغويات والمعايير الفنية القديمة، وإغفال الأساليب الفنية المبتكرة"([7])، وبالرغم من محاولة النقد الانطباعي الإلمام بشتى مناحي العمل الأدبي، إلا أنه بإتباع هذه الطرق يفشل في الوصول إلى مكونات النص، وعناصر الجمال فيه، وتنبع هذه الميزات من اعتبار النقد في تلك الفترة بالذات، "عنصرا مساعدا وفعالا لحركة الإصلاح العامة الإصلاح الثقافي والاجتماعي خاصة"([8]).

على الرغم من التواجد الطبيعي لهذه الممارسة في الساحة النقدية الجزائرية، والذي تبنته الصحافة، حين "أسهمت كلها في نشر الفنون الأدبية بما فيها النقد، ومن أهمها قبل الاستقلال المنتقد، والشهاب، والبصائر، التي خدمت الأدب والنقد والثقافة(...)، وبعد الاستقلال ظهرت الشعب، والمجاهد الثقافي، والأصالة والثقافة"([9])، وقبل النقد تبنت نشر أهم الأعمال الأدبية (شعرا، قصة، رواية)، إلا أن ما يؤخذ على ذلك النقد عزوفه عن تناول الأعمال الأدبية الجديدة، باستثناء محاولات محمد مصايف في الفترة الأخيرة من حياته.

يستعين الناقد الانطباعي بالأحكام القيمية في تحليله للنصوص الأدبية، والتي عرف بها نقاد العصر الجاهلي؛ من قبيل: أنت أشعر الشعراء، من دون تقديم تبرير مقنع ينبع من النص، ومن ذلك حكم الناقد منور على لغة إسماعيل غموقات في قصته "الشمس تشرق على الجميع"، إذ لا يتردد في إصدار أحكام قيمة من قبيل قوله: "يمتلك إمكانيات رائعة في كتابة الرواية (...)، ولغة الكاتب على العموم جيدة، وسليمة، وهي ظاهرة صحية كثيرا ما افتقدناها عند أدبائنا"([10])، أو على قصة "حين يبرعم الرفض" لإدريس بوذيبة، فيرى أن "اللغة التي كتب بها إدريس قصته لغة جميلة وشاعرية لكنها لم تسلم من بعض العبارات القلقة وبعض الضعف في استعمال حروف الجر، وما إلى ذلك مما يؤثر على أسلوبها الفني الجميل"([11])، من جانب أخر نجد الناقد نفسه يفاضل بين القصاصين في توفيقهم ما بين الشكل والمضمون، فيرى "أن قصص مرزاق بقطاش وحرز الله مثلا، أكثر انسجاما من قصص الأدرع الشريف وعبد العزيز بوشفيرات، في الوقت الذي يميل فيه جيلالي خلاص والعيد بن عروس في بعض أعمالهما الأخيرة إلى نوع من الشكلية اللغوية، بينما نجد الأعرج واسيني مغرما بالصورة الشعرية والتداعيات النفسية والانفعال الحاد، إلى حد مفرط"([12]).

 يقوم المنهج الانطباعي أساسا على المفاهيم النقدية القديمة، ويرتبط بأسس الاتجاه التقليدي في المشرق العربي بداية نهضته الحديثة،" فالنقد بالمفهوم المتداول اليوم كان منعدما، أو على الأقل نادرا"([13])، بفعل  تداخل المؤثرات الأدبية والنقدية، ذلك أن نقاد هذا الاتجاه كانوا "نقادا وأدباء في آن واحد، بل كانوا أدباء أكثر منهم نقادا، حتى أن مواقفهم النقدية لا تعد شيئا إذا قيست بإنتاجهم"([14])، هذا ما كان له انعكاس على السمات الأساسية التي ميزت النقد أواخر الستينات - في نظر الناقد عبد الله ركيبي-  حين وردت الآراء متسمة بالسطحية في عرضها للأفكار، مجزئة النص إلى عناصر لا تخدم الواحدة منها التالية، لتصل إلى أحكام نابع من مدى تأثر الناقد بالنص، وانفعاله به.

من بين الأسس التي يرتكز عليها الناقد الانطباعي -علاوة على العاطفة والخيال ورسم الشخصية، والتصوير واللغة- الاحتكام إلى معيار الذوق، فهو يستعمل ذوقه في تمييز الأعمال جيدها ورديئها، هذا المعيار - في نظر ركيبي- مما "لا يستغني عنه الناقد في ممارسته النقدية، لأن الأصول أو القواعد اللغوية والفنية تساعده على إدراك طبيعة العمل الأدبي إدراكا علميا موضوعيا(...)، فكلاهما (التأثري والواقعي) لا يستغنى عن إحساسه في الاتصال بروح الأديب ونفسه وعواطفه"([15])، ذلك أن الذوق حسب الناقد دائما، إذا ما استعان ببعض الأصول السليمة، تمكن من أن يصل إلى أحكام، إن لم تكن صحيحة تماما، فإنها قد تدنو من الصحة بمستويات متقاربة.

إن الاتجاه الانطباعي بوقوفه ضد الأساليب التقليدية في النقد، متمثلة في "بساطة اللغة والتركيب، والدعوة إلى الأدب الجديد والحرية الفنية"([16])، تتبع مراحل هامة ومنطقية تأسس لبداية اتجاه واقعي، حين "نقل وظيفة الأدب من الطابع الأخلاقي إلى الطابع الروحي للإنسان"([17]).

 



[1] -  عامر، مخلوف. متابعات في الثقافة والأدب، ص: 209.

[2] - المرجع نفسه، ص: 213.

[3] - منور، أحمد. قراءات في الأدب الجزائري، مكتبة الشعب، الجزائر، 1981، ص:03.

[4] - المرجع نفسه، ص: ن.

[5] - المرجع السابق، ص:04.

[6] - المرجع نفسه، ص:10.

[7] - عامر، مخلوف. متابعات في الثقافة والأدب، ص:231.

[8] -  ساري، محمد. "نقد القصة القصيرة عند محمد مصايف"، آمال، ع64، وزارة الثقافة، 1996، ص:15.

[9] - مصايف، محمد. النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط 2، 1984، ص:05.

[10] - منور، أحمد. قراءات في الأدب الجزائري، ص: 64

[11] - المرجع نفسه، ص: 83

[12] -المرجع نفسه، ص: 12.

[13] - مصايف، محمد. النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي، ص: 18.

[14] - المرجع نفسه، ص:18.

[15] - ركيبي، عبد الله. الأوراس في الشعر ودراسات أخرى، الشركة الوطنية للكتاب، 1982، ص:406.

[16] - أنظر: مصايف، محمد. النقد الأدبي الحديث في المغرب العربي، ص:212-213.

[17] - المرجع نفسه، ص:232.


Modifié le: lundi 11 janvier 2021, 14:43