النقد التاريخي

النقد التاريخي

نشأ هذا المنهج في الأوساط الجامعية، في محاولة رصد عدد من بيانات العصور السابقة، والتوثيق للأعمال الأدبية المتصلة بها، في عملية ربط وثيق بين الحياة والأدب بالاستفادة من المعطيات التاريخية، إذ لا يتأتى فهم العمل الأدبي، إلا من خلال الإلمام بسياقه الاجتماعي والثقافي والفكري، وتفسير نشأة الأثر الأدبي، وعلاقته بزمانه ومكانه وشخصياته، حرصا على اثبات البعد التاريخي للظاهرة الأدبية.

 يقترن هذا المنهج في كثير من طرائقه "بالدراسات التي تهتم بتاريخ الأدب، إذا لم نقل أن تاريخ الأدب مرحلة أولى من مراحل تجسيد المنهج التاريخي في الخطاب النقدي الحديث"([1])، فالتاريخ ابتدع الأدب وكل أشكال الفنون، واتخذ من أحداث التاريخ السياسي والاجتماعي وسيلة لتفسيره، وتعليل ظواهره.

 ارتبط بهذه الدراسات اسمان نقديان هما: هيبولت تين وغوستاف لانسون، إذ رد الأول نشوء الأدب لثلاثة عوامل: البيئة، الجنس والوسط، أما الثاني؛ فأستعار المنهج التاريخي اسمه (اللانسونية) من جهوده، حين حدد في كتابه "منهج البحث في الأدب" أهم الأساسيات المتعلقة بدراسة الأدب وفقا لأطر علمية صارمة.

 يعتمد المنهج التاريخي على أسس من أهمها:

1ـ يشرح الأثر بالعودة إلى التاريخ، وكأن الأثر يفصح عن زمان تأليفه وأحوال عصره، فيكشف وقائعه وعاداته وأخلاقه، لذلك يعتمد الناقد في استخلاص هذه الظواهر على وقائع الظاهرة الأدبية، إيمانا منه أن الظاهرة الأدبية تحتوي مضمون زمانها في كل أبعاده الحضارية والإنسانية.

2ـ يتناول الظاهرة الأدبية وكأنها حدث تاريخي، فيبحث عن الأسباب التي حملت المبدع على الإبداع، كما يتحرى تطابق الروايات والأخبار الواردة في الظاهرة والواقع التاريخي، وبذلك يجعل من النقد باتجاهه هذا وعاء للتاريخ، وكأن الأعمال الإبداعية كتبت لتدعيم الواقع التاريخي لا العكس.

3ـ يعالج الظاهرة الأدبية على أنها نتاج محدد في الزمان والمكان، ولتفسير العمل الإبداعي فإنه يتحرى السبب، فيعلله بالزمان، وبذلك يتحول العمل الإبداعي إلى شاهد حضاري، ليدرجه في خط تاريخي معين.

4ـ يوثق الناقد التاريخي الظاهرة الأدبية معتمدا على أسس راسخة ومتينة، ويحرص على صنع الروايات والأخبار، ويعمل من أجل تحقيقها، والتشكيك في كل ما يرى فيها من أوجه الريبة والظن، فينفي عن نفسه الاحتمال ويضع نصب عينيه، أما الصدق في الخبر وإما الشك فيه ثم نفيه"([2]).

       وقد عرف النقد في الجزائر دراسات استعانت بالمنهج التاريخي، وكان في طليعة  المهتمين؛ الناقد عبد الله ركيبي في تتبعه لمسيرة تطور النثر الجزائري، الذي كان "شاهدا على العصر الذي كان فيه"([3])، والإشارة إلى أثر المراحل التي مر بها المجتمع والصراعات المختلفة التي ظهرت في البيئة الجزائرية، والتي حدد إطارها الزمني من سنة 1830 إلى 1974، حيث خصص القسم الأول من دراسته للأشكال النثرية القديمة من(خطب، رسائل، أدب الرحلة، المقامات، المناظرات، القصة القصيرة)، أما القسم الثاني فأفرده للأشكال النثرية الحديثة (المقال الأدبي، القصة القصيرة الفنية، الرواية، المسرحية، النقد الأدبي)، ووفقا لما يقتضيه المنهج التاريخي بين الناقد العوامل التي أسهمت في ظهور هذه الفنون النثرية، ومن أهمها: الصحافة والحراك الثقافي لجمعية العلماء المسلمين، والتأثر بالتغيرات في المشرق، والظروف التي كان يعيشها الشعب الجزائري السياسية والاجتماعية، كما ارتبطت القصة في نشوئها بأدب الرحلات، وبالفكر الإصلاحي خاصة حين تناولت مواضيع تنبع من صميم أفكارهم وتوجهاتهم الفكرية.

 إن الحديث عن القصة القصيرة الجزائرية، هو "حديث بالضرورة عن ظروف الجزائر السياسية والاجتماعية والفكرية، عبر فترة طويلة من الفترات الصعبة التي مرت بها، و[يعني] منذ نهاية الحرب العالمية الأولى على وجه التقريب حتى قيام الثورة"([4])، كما أن تأخرها يعود بالضرورة للظروف التاريخية التي عاشتها الجزائر.

        خضعت القصة في نشوئها –حسب الناقد ركيبي - إلى ثلاث مراحل: اتسمت الأولى منها وهي مرحلة النشأة بخصائص بدايات النهضة، شملت القصة التي كانت بدائية شكلا وأسلوبا؛ لاتصالها بالفكر الإصلاحي، حيث ظهرت في شكليين هما: المقال القصصي والصورة القصصية، حيث تميزا "بالفهم الساذج للقصة وتأثرهما بالتراث القصصي سواء في اللغة والأسلوب، وبدت الشخصية دون سمات ولا ملامح"([5])، حددت في اتجاهين: شخصية طيبة تنتمي إلى الطائفة الإصلاحية، وشخصية شريرة من طائفة رجال الطرق(الزوايا)، فانحسرت بذلك القصة وتبددت معالمها، في خضم "الصراع بين المصلحين وخصومهم من الجامدين، سواء كانوا من رجال الدين أو من رجال السياسة"([6]).

       من أهم رواد هذا الاتجاه نجد محمد بن العابد الجيلالي، السعيد الزاهري، الحفناوي هالي، أحمد رضا حوحو وغيرهم.

 وتمتد المرحلة الثانية  إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى بدايات الثورة، حيث كان لهذه الأخيرة أثرها الفكري والسياسي والثقافي، في اتساع الأدب ليشمل القصة القصيرة بعد سيطرة الشعر على الساحة الأدبية في الجزائر، وبدا التغير جليا من حيث الأشكال والمضامين، فخضعت اللغة للإيحاء والتضمين، و"برز إلى جانب أحمد رضا حوحو كتاب آخرون، مثل أحمد بن عاشور، عبد الحميد الشافعي، زهور ونيسي، وسعدي حكار"([7]).

     المرحلة الأخيرة التي حددها الناقد، تشمل أهم ما كتب بعد الاستقلال إلى فترة كتابة هذه الدراسة التي قدمها، وهي الفترة التي عرفت فيها القصة نوعا من الركود، بسبب ضعف الدوافع لكتابة القصة، "بالقياس إلى عهد الثورة التي فجرت العواطف (...)، وبعد الاستقلال خفت حدة التوتر بعد الانتصار"([8])، ومع بداية السبعينات ظهر جيل جديد شاب، تميز بكتابته التجديدية، ونظرته التجريبية العقلية، ومجانبته للصيغ السردية التقليدية، من بينهم: أحمد منور، مصطفى فاسي، حرز الله محمد الصالح، عمار بلحسن، وغيرهم.

      سار على النهج نفسه، الناقد عبد الملك مرتاض في كتابه "نهضة الأدب الجزائري"، الذي حددها بالفترة بين 1925 إلى 1945، وهذه الفترة حسب الناقد هي البداية الفعلية للنهضة الأدبية، حيث في "سنة خمس وعشرين من هذا القرن [الماضي]، أسس ابن باديس جريدة المنتقد (...)، أما إنهاء هذه الفترة من نهضتنا الأدبية سنة أربع وخمسين، (...) لأن ثورتنا العظيمة أذابت كل العبقريات والاتجاهات (...)، وجعلت منه مصدرا واحد منه الكفاح من أجل الحرية(...)، فكانت هذه السنة تحولا عظيما"([9])، وكان للظروف التاريخية التي عرفتها الجزائر، الأثر الواضح في توجيه الكتابات الأدبية وجهة نضالية ثورية.

ويؤرخ أيضا للنثر في الجزائر في كتابه " فنون النثر الأدبي في الجزائر" من 1931-1954، حيث يشير إلى أول محاولة قصصية نثرية جزائرية وهي " القصة المثيرة التي نشرت في جريدة "الجزائر" تحت عنوان "فرانسوا والرشيد" لمحمد السعيد الزاهري"([10])، التي أثارت حولها صخبا أدبيا بالنظر إلى طبيعة الموضوع الذي طرحته؛ وهو قضية المساواة السياسية بين الفرنسيين والجزائريين، ليليها حكايات محمد العابد الجلالي التي ينفى عنها الناقد صفة القصة، لأسباب عديدة منها: الضعف الفني وشحوب الشخصيات.

       كان تأثير الحرب العالمية الثانية باديا في كيفية تناول القصاصين للمواضيع على اختلافها، إذ نحى بعضها منحى عاطفي عند أحمد رضا حوحو مع "صاحبة الوحي" و"فتاة أحلامي"، حين اهتمت بعرض المشاكل العاطفية، وقصة " تضحية " لأحمد بن عاشور، هذه المواضع كانت تمهيدا وخلفية لاستقبال النفس البشرية بتعقيداتها، لتشق بعدها القصة الجزائرية طريقهـا نحو تلمس " قضايا اجتماعية قد تكون أهم من الحب نفسه، في بعض الأحوال"([11])، حين تنشر القيم الأخلاقية كما في قصة "زوليخة والعفة تتذمران من الحمامات البحرية الماجنة" المنشورة في مجلة "صوت المسجد"، وتتجلى الأبعاد الوطنية في قصص محمد الصالح رمضان المتشبعة بالقيم الإصلاحية التي نشرها في مجلة البصائر كقصة "القافلة" ذات الأبعاد الرمزية، و[لعل الذي حمله على] هذا المذهب الرمزي ما كان الأدباء يضطربون فيه من خوف الاستعمار، وبطشه الشديد"([12]).

يظهر المنهج التاريخي في تتبع مسيرة النثر، وفيما توصل إليه الناقد، من أن الكتاب الجزائريين حاولوا أن يعالجوا كل موضوع كان يتصل بتجاربهم وحياتهم، "فأحمد رضا حوحو تناول موضوعات كثيرة من صميم المجتمع الحجازي (...)، في حين نجد محمد السعيد الزاهري يحاول الكتابة في موضوعات وطنية وإصلاحية، وذلك نابع من طبيعة حياته من حيث أنه كان صحافيا، ثم مصلحا، أما محمد العابد الجلالي فقد ألفيناه يعالج موضوعات تتصل ببيئته في الشرق الجزائري، بينما نجد أحمد بن عاشور يحاول أن يصور، هو أيضا بعض ما كان يجري في مدينة البليدة (...) ألفينا محمد الصالح رمضان يعالج موضوعا كان قد هضم أفكاره، واستوعب جزئياته (...)، هو الإصلاح أو الإيقاظ الوطني الذي استطاع ابن باديس أن ينجح فيه بالقياس إلى الشعب الجزائري"([13]).

إذن، فقد حاول كتاب القصة القصيرة في الجزائر -حسب الناقد- خلال هذه الفترة أن يعرضوا أغلب المواضيع المرتبطة بحياة شعبهم ومصيره السياسي، الذين اعتبروا بموجبه هذا النتاج القصصي على فتوته، "مرآة المجتمع الجزائري خلال هذه الفترة،  وترجمانا أمينا لما كان يعتلج في خواطر الكتاب والأدباء على ذلك العهد"([14]).

يخط الناقد عبد الملك مرتاض في دراسته " القصة الجزائرية المعاصرة " المسار الذي مرت به القصة في الجزائر مع أول محاولة قصصية  في تاريخ القصة الجزائرية الحديثة وهي: "فرانسوا والرشيد"، حيث تشترك أعمال الجيل الأول المؤسس لفن القصة في تباين "الرؤية الخيالية، والمعالجة الفنية"([15])، وينضوي في هذه المرحلة اتجاهين:

 الاتجاه الأول من 1925 إلى 1942 هذا الأخير هو العام الذي ظهرت فيه قصة "غادة أم القرى"، أما الثاني فمن1947 إلى 1955 يبدأ مع قصة "سعفة خضراء"،  و"نماذج بشرية" لأحمد رضا حوحو، أين كان للثورة حضور وتأثير واضح على كتاب القصة الجزائرية من أمثال: أبو العيد دودو، عبد الحميد بن هدوقة، وعبد الله ركيبي والطاهر وطار وعثمان سعدي"([16])، والحال نفسه شهدته مرحلة الاستقلال، حين أسهمت بدورها في نقلة نوعية على مستوى طريقة الكتابة، والاهتمام بهموم المجتمع، وكانت الظروف التاريخية سببا مباشرا دفع بعض الكتاب الجزائريين لأن يكتبوا باللغة الفرنسية، وبزوالها "أصبح الجو اللغوي ملائما لجميع الجزائريين لكي يعبروا في أغلبيتهم، بلغتهم الوطنية"([17]).

       حدد الناقد واسيني الأعرج الفترة ما بين 1945 و 1954 وصولا إلى 1962، من بين أهم المراحل التي عرفت تحولا جذريا في التاريخ النضالي للجزائر، "وأخضب فترة في المجال الأدبي على الإطلاق (قبل الاستقلال)، فهي التي شهدت اكتمال فن القصة والرواية"([18])، وتنوعت بذلك الموضوعات التي اهتم بها الأدباء "كقضية المرأة التي غادرت البيت، ووقفت بجانب الرجل مناضلة وثورية من أجل التحرير والديمقراطية"([19])، على الرغم من قلتها، لتظل المرأة حبيسة التقاليد والأعراف في كتابات رضا حوحو وعبد المجيد الشافعي، غير أن التدارك والتحول حصل في روايات الطاهر وطار وبن هدوقة وعبد الملك مرتاض وغيرهم .

       يصنف الناقد تاريخيا مسيرة الأدب الجزائري في مجموعة من التيارات هي:

1ـ التيار التقليدي: يحدد من بداية القرن الماضي وصول باندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث امتازت كتاباتها الابداعية بالبساطة، واتباع الأساليب التقليدية، نزوعا إلى محاكاة التراث العربي، وهدفت كلها إلى إصلاح المجتمع، بتوظيف لغة منمقة، يمثل هذا الاتجاه مجموعة من الكتاب أمثال: أحمد كاتب الغزالي، عاشور الحنفي، المولود بن موهوب"([20]).

2ـ التيار الرومانتيكي: ظهر هذا التيار بعد الحرب العالمية الأولى، في وضع سياسي سعى فيه المستعمر إلى طمس معالم المجتمع الجزائري، مثله مجموعة من الأسماء منها: عبد الكريم عقون والأخضر السائحي، الطاهر بوشوشي، حيث تأثروا بالاتجاه الأدبي العربي والغربي خاصة مدرسة المهجر وأبلو.

3ـ التيار الواقعي: نتج عن انتفاضة 1945 ظروف ومتغيرات، دفعت الأدباء لتغير رؤيتهم للحياة، وكان هذا الحدث "إيذانا بظهور تيار يحمل في داخله قوة اندفاعية، وإمكانات  تعبيرية كبيرة وعظيمة، وأكثر تأثيرا وإقناعا للقارئ الذي هو بدوره يعيش شراسة الواقع اليومي"([21])، وفي هذه المرحلة برزت الرواية كفن جديد في ساحة الأدب الجزائري المكتوب باللغة العربية، مع الأديب أحمد رضا حوحو، إذ ساعد الظرف التاريخي الفن القصصي على الاكتمال، ليصبح فنا له خصائصه وميزاته، ويتطور بشكل أعمق مع اندلاع الثورة "متجاوزا المرحلة الانتقالية إلى التبشير بالاستقلال والمجتمع العدالة والاشتراكية"([22]) خاصة في كتابات محمد ديب.

       يخلص الناقد إلى نتيجة، ترى أن الحياة الثقافية والسياسية التي كانت تعيشها الجزائر، كان لها الدور الأساسي في إثراء الأدب الجزائري، ومسايرته لتناقضات الحركة الوطنية، ومواكبة الأدب المكتوب بالعربية في تتبع هذه التغيرات الحاصلة، لنظيره المكتوب بالفرنسية بحكم أسبقية هذا الأخير.

       لقد أدرك النقاد وقبلهم الأدباء الجزائريون، أثر التاريخ في تحديد معالم الأدب، ويستدل الناقد في ذلك بثلاثية محمد ديب، التي اعتبرها نبوة صادقة عن الثورة، حتى قبل اندلاعها على الرغم من أن صاحبها كتبها بغير اللغة العربية، وبذلك تحمل كتاب الرواية باللغة الفرنسية مسؤولية توثيق القضية الوطنية، وخضعوا في سير تطورهم إلى ثلاث مراحل هي:

المرحلة الأولى: تمتد من 1945 إلى 1953، سادت في هذه "الحقبة التاريخية الرواية الأثنوغرافية* التي لا تزيد على وصف ما تراه العين يوميا، تصف ولا تحاول أن تغور في اللوحة الخلفية لافتقادها الرؤية البعيدة إلى حد ما"([23])، حيث ينتقي كتابها الأحداث باحثا عن الجوهر في العالم الذي تصوره متجنبة السطحي منه، وأهم كتابه: مولود فرعون، مولود معمري، محمد ديب.

المرحلة الثانية: تستوعبها الفترة التاريخية من 1945 إلى 1958 في منحنى أكثر واقعية، وأصدق تعبيرا عن الثورة بأبسط الأساليب التي يحتضنها الجمهور، "فقدمت في هذه الفترة أعمال فنية جادة كانت بمثابة لوحة عظيمة للشعب الجزائري وهو في أوج نضاله"([24])، جسدها كل من محمد ديب وكاتب ياسين.

المرحلة الثالثة: شهدتها الفترة بين 1958 إلى 1962 حيث أصبح فيها أدب المقاومة أكثر شمولية، و"صاحب هذه الفترة على مستوى اجتماعي تصاعد في النضال، وشراسة استعمارية متوحشة"([25])، مثلها كل من محمد ديب، مراد بوريون، مالك حداد، مولود فرعون.

ويتساءل الناقد عن سبب غياب الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية، في الفترة من 1967 إلى بداية السبعينيات، ويرجح أن تكون وراءه أسباب تاريخية في مقدمتها؛ ما خلفه المستعمر من اضطراب اقتصادي واجتماعي، وكذا العمل على إعادة تشكيل معالم ولبنات المجتمع، "فالفن القصصي الذي ورث رصيدا ثوريا جادا ومشرفا، كان عليه أن يحقق قفزة كمية ونوعية، الشيء الذي لم يتم في ظل الظروف المشار إليها"([26])، في هذه الحقبة التاريخية لم تظهر أعمال جديدة، إنما اقتصر الأمر على استعادة الماضي بأساليب مختلفة؛ بسبب مفارقات الظرف التاريخي، زيادة على "ثقافة الأديب نفسه وظروفه الخاصة والموضوعية لم تكن لتساعد، ولا لتسهم في ظهور الرواية، لكنها خلقت التربة الأولى، التي يبنى عليها أعمال أدبية جادة، خصوصا مع التحولات الديمقراطية في بداية السبعينيات"([27])، لتعود وبقوة على وقع التغييرات الاجتماعية والتحولات السياسية، التي عرفتها الجزائر في تلك الفترة.

تجلى التاريخ في تقسيم الرواية الجزائرية، بدءًا بتأثير الفكر الإصلاحي، باعتباره أول الاتجاهات التي لازمت ظهوره "للظروف الحرجة، التي تكون فيها الوحدة حلا من الحلول التاريخية المطروحة، كالثورات الوطنية"([28])، باقتراح بعض الحلول السطحية للمشاكل الاجتماعية، وظهر التأثير جليا في بعض المحاولات التي مهدت لظهور الرواية بشكلها المكتمل كما في "غادة أم القرى" لرضا حوحو، "الطالب المنكوب" عبد المجيد الشافعي، "صوت الفراخ" لمحمد المنيع، " نار ونور" لعبد الملك مرتاض.

في خضم حمى التيارات الفكرية والفلسفات المثالية، التي لم تكن الساحة الفكرية الجزائرية بمنأى عن عدواها، مع نوع من التلقي المنغلق والسلبي لمبادئها، التي "لم تستطع الحركة الرومانتيكية في الأدب الجزائري فهمها كما يجب، وفهم البنى والمرتكزات الجديدة، وطبيعة المشاكل التي خلفتها هذه التغييرات الاجتماعية التي تحمل كل التناقضات المبررة تاريخيا من وجهة نظر علمية جدلية"([29])، وتنوعت المواضيع الرومانتيكية التي عالجت مختلف القضايا الاجتماعية كالمرأة والتفاوت الطبقي.

      من النماذج التي تمثل هذا الاتجاه "ما لا تذروه الرياح" محمد عرعار، "نهاية الأمس" عبد الحميد بن هدوقة، "دماء ودموع" عبد الملك مرتاض.

    لقد ساهمت الثورات في تقبل الاتجاهات الواقعية، لكنها في الجزائر- حسب الناقد- لم تستطع تلبية مطالب الجماهير، يعود ذلك للظروف الخاصة التي مرت بها أثناء الاحتلال، مع "أن الزخم الثوري الموروث، إضافة إلى انجازات السبعينيات السياسية والاجتماعية والثقافية كلها أسهمت في وقاية الرواية الجزائرية الحديثة من السقوط في السوداوية التي استهلكت الرواية الجديدة (الغربية)، كما استطاعت أن تدفع الاتجاه الواقعي في الأدب الجزائري أكثر ليصحح من مفاهيمه السابقة عن الواقعية"([30])، من بين هذه الروايات "الحريق" لنور الدين بوجدرة، "ريح الجنوب" لبن هدوقة، "طيور في الظهيرة" لمرزاق بقطاش.

   هذا عن الواقعية الانتقادية، لكن كيف الحال مع اتجاه الواقعية الاشتراكية في الرواية الجزائرية؟ يطالعنا الناقد واسيني الأعرج عن وضعيتها عند روائيين حرصوا على دراسة وتصوير العلاقات بين الشخصية والمجتمع، إلا أن ما يؤخذ عليهم تعاملهم الظاهري والمتسرع في تصوير الظاهرة الاجتماعية، من بين نماذجها: روايات "اللاز"، "عرس بغل"، "الحوات والقصر" للطاهر وطار.

من خلال التصنيفات السابقة، نخلص إلا أن "كافة الأشكال الروائية المطروحة، سواء على صعيد المضامين، أو الجمالية الروائية، قد تجد مبرراتها التاريخية في تاريخ الجزائر الثقافي والسياسي ذاته"([31])، وتمكن ضمن مجال ما يعيشه من ظروف تاريخية، من أن تضيف الكثير إلى الساحة الأدبية في الجزائر.

يسير الناقد أحمد طالب على الخطى المنهجية نفسها التي اعتمدها الناقد واسيني الأعرج، حين يستند على التحقيب التاريخي في ضبط مراحل نشوء القصة القصيرة في الجزائر، يحددها في ثلاث مراحل هي:

1ـ مرحلة الإصلاح الاجتماعي(1931-1956): حيث بادر كتاب جمعية العلماء المسلمين إلى عرض أعمالهم القصصية الإصلاحية في مجلات الجمعية، والتي كانت تهدف إلى توعية الشعب بخطورة الاندماج، وترسيخ الثقافة الإسلامية العربية، صيانة لثوابت الشخصية الجزائرية.

2ـ مرحلة قضايا النضال (1956-1962): كانت للثورة في هذه المرحلة صدى في الأوساط الأدبية التي كان روادها خارج الوطن، "فظهرت القصة وهي تحمل في طياتها ملامح التعاطف القوي مع الثورة، بالدعوة إلى الجهاد والحث على الالتحاق بالجبل"([32])، امتازت بالتطور الفني على يد قصاصين من أمثال الطاهر وطار، عبد الحميد بن هدوقة، عبد الله ركيبي.

3ـ مرحلة قضايا الاستقلال (1962-1976): شجع الدمار الذي خلفه المستعمر الكتاب على الاهتمام بعرض هذه الأحداث، واستمرت الكتابة عن الثورة فيما كتب من قصص.

وعليه، أخذ الروائيون الجزائريون على عاتقهم تتبع المسيرة النضالية، التي مرت بها الجزائر في مختلف مراحل تطورها التاريخي، بدءًا بالتأريخ للثورة التحريرية انتهاءً بثورة البناء والتشييد، "ويبقى على هذا التاريخ وحده أن يحدد إلى أي حد كانت تنبؤاته صائبة أو غير صائبة"([33])، لأن التاريخ في ظل هذه التحولات هو "الكفيل وحده بإعطاء النهايات، والإفصاح عن ثمرة هذا الصراع"([34]) .

 



[1] - بلوحي، محمد. الخطاب النقدي المعاصر من السياق إلى النسق، دار الغرب، وهران، 2002، ص: 11.

[2] - المرجع السابق، ص: 16.

[3] - ركيبي، عبد الله. تطور النثر الجزائري الحديث، المنظمة العربية للتربية والثقافة، القاهرة، 1976، ص: 260.

[4] - ركيبي، عبد الله. الأوراس في الشعر ودراسات أخرى، ص: 143.

[5] - المرجع نفسه، ص: 156.

[6] - المرجع نفسه، ص: 157.

[7] - المرجع نفسه، ص: 159.

[8] - المرجع السابق، ص: 162.

[9] - مرتاض، عبد الملك. نهضة الأدب الجزائري المعاصر. الشركة الوطنية للنشر، الجزائر، 1983، ص: 09.

[10] - مرتاض، عبد الملك. فنون النثر الأدبي في الجزائر(1931-1954 ). ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1983، ص:161.

[11] - المرجع السابق، ص: 188.

[12] - المرجع نفسه، ص: 189.

[13] - المرجع نفسه، ص: ن.

[14] - المرجع السابق، ص: 190.

[15] - مرتاض، عبد الملك. القصة الجزائرية الحديثة. دار الغرب، وهران،2008، ص: 07.

[16] - المرجع نفسه، ص: 90.

[17] - المرجع نفسه، ص: 11.

[18] - الأعرج، واسيني. اتجاهات الرواية العربية في الجزائر. المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر،1986، ص: 64.

[19] - المرجع السابق، ص: 64.

[20] - أنظر: المرجع نفسه، ص: 66.

[21] - المرجع نفسه، ص: 67.

[22] - المرجع نفسه، ص: 67.

[23] - الأعرج، واسيني. اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، ص: 75.

* الاثنوغرافية: منهجية بحث اجتماعي تتميز بالانخراط العميق في حياة الناس لفترة من الزمن، حيث يراقب الباحث ما يحدث، ويسمع ما يُقال، يطرح الأسئلة، ويجمع ما يمكن من بيانات، بهدف تسليط الضوء على قضايا محورية في البحث.

[24] - المرجع نفسه، ص: 76.

[25] - المرجع السابق، ص: 76.

[26] - المرجع نفسه، ص: 84.

[27] - المرجع نفسه، ص: 85.

[28] - المرجع نفسه، ص: 118.

[29] - المرجع السابق، ص: 277.

[30] - المرجع نفسه، ص: 368.

[31] - المرجع السابق، ص: 599.

[32] - طالب، أحمد. الالتزام في القصة الجزائرية المعاصرة. ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1989، ص: 25.

[33] - الأعرج، واسيني. اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، ص: 535.

[34] - المرجع نفسه، ص: 490.


Modifié le: lundi 11 janvier 2021, 14:30