مقاربات تحليل الخطاب 2

مقاربات تحليل الخطاب 2 ( فان ديك Van Dijk):

 قدم اللساني فان ديك (Van Dijck) نظرية في النص الأدبي، متجاوزا الحد السكوني الذي تقف عنده الشعريات، و السرديات في مقاربة دينامية للنص محددا إياه بأنه كل ما تجاوز الجملة، وقد اعتبره إنتاجا لعملية إنتاجية، وأساسا لأفعال وعمليات تلق واستعمال داخل نظام التواصل والتفاعل، وهذه العملية التواصلية الأدبية تقع في عدة سياقات ؛ منها التداولية والمعرفية والسوسيوثقافية والتاريخية، و يوضح "فان ديك" في كتابه (النص والسياق) الفرق بين النص والخطاب، من خلال إقامة نحو عام للنص، يأخذ بعين الاعتبار كل الأبعاد البنيوية، والسياقية والثقافية، ومنطلقه في ذلك هو أن اللسانيين اعتبروا الجملة أعلى وحدة قابلة للوصف اللساني، وعلى أساس أن الملفوظات يعاد بناؤها في وحدة واحدة، هي (النص) الذي يعد وحدة مجردة، لا تتجسد إلا من خلال الخطاب، کفعالية تواصلية، وفي إطار هذه العلاقة، يتم الربط بين النص إعادة بناء نظري مجرد وبين سياقه التداولي (1).

ولما انطلق "فان ديك" لضبط خصائص النص من شرطي؛ النصية والتواصل ، فقد نظر إليه من حيث المفهوم انطلاقا من ثلاث زوايا هي: زاوية الحدس، وزاوية توالي الجمل، وزاوية أفعال الكلام؛ إذ يقوم مفهومه الحدسي على عد النص وحدة منسجم، سواء أكان مكتوبا أو شفويا وتحصره قواعد اللغة التي ينشأ فيها ومنها، ويفوقها إبداعا، فيما تكمن الزاوية الثانية في كون النص متوالية منتظمة من الجمل، يحكمها نحو النص والسببية (التعالق والانسجام) والبنيات الدلالية الكبرى والعليا، بينما تلوح الزاوية الثالثة من جهة أفعال الكلام، فالنص ذو قيمة تداولية ، تحققها متتالية من أفعال الطلب والإخبار، وتحقق الانسجام والترابط (2).

1-                     ينظر محمد عزام ، تحليل الخطاب في ضوء المناهج النقدية الحديثة، منشورات اتحاد الكتاب العرب ،2003 ، دمشق، ص 188.

2-     ينظر : محمد مداس: لسانیات النص (نحو منهج التحليل الخطاب الشعري)، جدار للكتاب العالمي، عمان الأردن، وعالم الكتب الحديث، إربد،، الأردن، ط1، 2007 ،ص 14.

ومنه يصبح النص ظاهرة ثقافية تستدل بسياقها الاجتماعي لسهل أثناء التحليل سبيل الفهم والإدراك (1).

ويقول فان ديك " ليست جميع المتواليات من الكلمات أو الجمل داخلة في مفهومنا الحدسي للنص ")، وعليه يرى نفسه ملزما على التفرقة بين الأقوال النصية، والأقوال غير النصية وفق مفهومه الحدسي للنص القائم على إعتبار النص متوالية من الجمل المنتظمة و المنسجمة.

يعتبر فان ديك النص الوحدة اللغوية الأساسية التي تتحقق باعتبارها خطابا في أقوال. وذلك إشارة إلى استقلال النص بالتمام والوحدة على أن النص يشكل الخطاب، والخطاب يحقق النص، واعتمادا على هذا التمييز اعتبر الهدف الرئيس من لسانیات النص هو وضع نظرية للخطاب وبناء نحوله(2). إذ يقول:" تخصص الأوصاف البنيوية الخطاب في مستويات متعددة من التحليل، بتول جملة من الوحدات المختلفة أو المقولات أو النماذج البيانية أو العلاقات "(4).

بل ذهب هذا الناقد إلى أبعد من ذلك في تمييزه بين المصطلحين، إذ "ينظر إلى النص بوصفه بنية عميقة، بينما يمثل الخطاب بنية سطحية (...)، فالنص مظهر تجريدي، بينما الخطاب يجسد وحدة لسانية أساسية تتجلى في أو تتحقق في ملفوظ لغوي "(3).

شهد الخطاب علما خاصا به هو علم النص الذي أسسه فان ديك والذي احتل محل البلاغة واعتبرها سابقة تاريخية له، وحدد في كتابه (علم النص) بنية النص من خلال ظاهرتي

 1-     محمد مداس: لسانیات النص (نحو منهج التحليل الخطاب الشعري)، ص 14.

2-     تون فان ديك : النص بناته ووظائفه - مدخل أولي إلى علم النص - تر: محمد العمري، إفريقيا الشرق، ط1، 1996، المغرب، ص 51.

3-     ينظر : بسمة عروس: الخطاب الأدبي والمفاهيم الأساسية في تحليل الخطاب عند باحثين، مقال ضمن كتاب: (مقالات في تحليل الخطاب تقديم : حمادي صمود، ص 101، 102.

4-     ينظر: ربيعة العربي: الحد بين النص والخطاب، مجلة علامات ، ص 35. ۔ فاضل ثامر : اللغة الثانية (في إشكالية المنهج و النظرية و المصطلح في الخطاب النقدي العربي) ، ص 75.

لاتساق والانسجام "فبدأ ببيان أوجه عدم كفاية نحو الجملة لوصف ظواهر تجاوز حدود الجملة، وعد النص وحدة أساسية لا تستوجب تحولا كميا في المعايير، ثم ميز هذا الإطار الموسع (النص) وخصه بمصطلح نحو النص أو نحو الخطاب، أو أجرومية النص " (1)

وقد دعا في كتابه جوانب من علم النص ( Aspects of text grammar ) عام 1972 إلى ضرورة اتباع طرق جديدة في تحليل المستويات الصوتية والتركيبية والدلالية للنص، وهو انتقال عمودي من دراسة البني الصغرى للنص إلى بني أكبر تمثل وحدة معنوية هي النص، فهو يرى أن" وصف الكلام عند الجملة الواحدة غير كاف، إذ لا بد من الانتقال إلى وحدة أكبر هي النص" (2)

ف" فان ديك" يؤسس هذا التلاحم (الاتساق و الانسجام) على نمطين من العلاقات هما: العلاقات الإحالية بين الوقائع في عالم ممكن يتحدد بسياقه السوسيوثقافي، والعلاقات بين المعاني المتضمنة في النص (الخطاب)، إذ لا يكون الخطاب متلاحما وهو مجرد ومعزول عن ظروف إنتاجه، كما أنه محكوم بالتعالقات الداخلية بين المعاني المعبر عنها.

ومن ثمة يتموقع "فان دياك" في موقفه من الخطاب بين النموذجين: البنيوي والوظيفي؛ وذلك عبر إعلائه من شأن خاصية التماسك والتمام البنيوي، واتجاهه - في الوقت نفسه - إلى ربط الخطاب بسياق استعماله.

يتعمق فان ديك في تصوره للنص متأثرا بمقولات النحو التوليدي التحويلي؛ مفترضا للنص تمثيلا دلاليا مجردا ينعكس على بنية النص، " فأصل النص بنية سطحية توجهها وتزها بنية عميقة دلالية. ويتصور فان ديك البنية العميقة للنص كما منظما من التتابعات، فهي تعرض البنية المنطقية المجردة للنص، وتعد البنية العميقة الدلالية للنص بالنسبة له أيضا نوعا من

 

1-  سعید حسن البحيري: علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات ، الشركة المصرية العالمية للنشر، مصر، ط1، 1997، ص 183.

2- إبراهيم محمود خليل : في اللسانيات ونحو النص، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1 ،-(دت )، ص 195

إعادة صياغة مجردة، تتحد في النواة (البنية الموضوع للنص) ويقوده فهم البنية العميقة الخاصة بموضوع النص أيضا إلى التحديد التالي : يمكن أن ينظر إلى البنية العميقة على أنها خطة نص ما، على نحو ما يبدو أنه يمكن أن يحدد سلوكنا من خلال خطة أساسية" (1).

يوضح هذا التعريف كيفية إنتاج النص انطلاقا من تشكله في الذهن عن طريق التأليف بين الدلالات والأفكار، ثم تحسده على سطح النص. وقد حاکی في هذا الوصف تفسير نعوم تشومسكي (A . Noam Chomsky) غير أنه تجاوزه؛ إذ تعمق في دلائلية النص وبنيته، وافترض له بنیات شاملة كبرى تتحدد بوحدتها لا بانفصالها عن بعضها بعض، لكن إنتاج النص لا يمثل إلا عنصرا من العناصر التي تحدد النص. كما أن النص ليس مجرد نظام يشكله المتكلم في ذهنه قبل أن يربه على لسانه أو يسجله على ورقته، فالنص أقرب إلى المنجز أو المستعمل منه إلى المفترض أو المجرد . وإذا كان النص سيستعير من اللغة نظامها ومن الكلام معناه وسياقه، وجب مراعاة ذلك في تعريفه.

تتمثل قيمة هذه المقاربة في بيان منهج واضح للترتيب بين موضوعات النص المختلفة، وإبراز الموضوع الأساسي لنص ما. إلا أن قيمته بالنسبة إلى تطوير نحو تولیدي للنص تبقى محدودة ، فاعتماده للوصف يبدو مناسبة أكثر من اعتماده کنموذج توليدي (2).

 1-    زتسیسلاف وارزنياك، مدخل إلى علم النص (مشکلات بناء النص)، تر: سعید حسن بحيري، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط1، 2003، ص56 2- كورنيليا فون راد صکوحي، لسانیات النص أو " لسانیات ما بعد الجملة وما قبل الخطاب" ضمن كتاب: كتاب:

2-    مقالات في تحليل الخطاب)، تقديم : حمادي صمود، منشورات كلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة (وحدة البحث في تحليل الخطاب)، تونس، 2008، ص 61.

 

تعددت التعريفات الخاصة بحقل تحليل الخطاب، وهو عند مانقینو "يرمي إلى دراسة الاستعمال الفعلي للغة، أما وحدة تحليل الخطاب فهو موضوع نقاش مستمر، إذ هو حقل فعال وجد مضطرب تتقاسمه عدة إشكاليات" (1).

يعرف "مانقینو D . MAINGUENEAU" الخطاب الأدبي، ويشير إلى تعدد دلالاته، فالخطاب عنده مرادف للكلام لدى دي سوسير، وهو المعنى الجاري في اللسانيات البنيوية، ولذلك يعتبره ملفوظا طويلا أو متتالية من الجمل تكون مجموعة منغلقة يمكن من خلالها معاينة بنية سلسلة العناصر بواسطة المنهجية التوزيعية.

لقد وضع مانقينو جملة من التحدیدات لمصطلح الحطاب، وهي في الحقيقة ليست من وضعه، إنما استنبطها من استعمال اللسانيين لهذا المصطلح بقيم مختلفة؛ و هي تتمثل فيما يلي:

1-    الخطاب مرادف للكلام : وهذا ما ورد عند دي سوسير في ثنائياته وبالتحديد ضمن ثنائية اللغة و الكلام.

2-    الخطاب وحدة أكبر من الجملة، و هي بذلك تساوي النص.

3-    إذا نظرنا إلى الخطاب من الجانب التلقظي أو التداولي، نجد أنه مصطلح يستعمل بدلا من مصطلح الملفوظ؛ لأنه يسمح لنا بالتركيز على الطابع الدينامي للتلقظ والعلاقة التي يؤسسها بين المشاركين في التبادل تسجيله في السياق، وهو بذلك يعني "المحادثة "أي التفاعل الشفوي الذي يعتبر بدوره نوعا من أنواع التلقظ الأساسي.

4-    يظهر الخطاب أيضا في التقابل بين ( اللسان الخطاب) لأنه يسمح لنا بالتمييز بين القيم التي تمتلكها الوحدة اللغوية وهي مجردة من السياق، وتكتسبها من خلال استعمالها الفعلي.

 

 

1-     ينظر : رشید عزي: إشكالية المصطلح في المؤلفات العربية - تحليل الخطاب نموذجا- ص 47.

2-    ينظر : المرجع نفسه، ص 39. نقله عن:

3-   Dominique MAINGUENEAU, l'analyse du discours, Hachette, Paris, 1991, p10

5-    لا ينظر إلى الخطاب في فرنسا - منذ الستينيات - إلا من خلال مقابلته بالملفوظ على الشكل الآتي: الملفوظ هو عبارة عن سلسلة من الجمل الواردة بين بياضين دلاليين أي بين توقفين للتواصل، أما الخطاب فهو الملفوظ منظورا إليه من حيث الآليات التي تتحكم فيه وهكذا فإن النظر في النص من حيث تبنينه في اللسان تجعل منه (ملفوظا.) أما دراسة ظروف إنتاج هذا النص فتجعل منه خطابا.

ويقيم "مانقينو" في النهاية معارضة بين اللسان والخطاب؛ فاللسان ينظر إليه ككل منته وثابت العناصر نسبيا، أما الخطاب فهو مفهوم باعتباره المال الذي تمارس فيه الإنتاجية، وهذا المال هو" الطابع السياقي" غير المتوقع الذي يحدد قيما جديدة لوحدات اللسان، فتعدد دلالات وحدة معجمية هو أثر للخطاب الذي يتحول باستمرار إلى أثر للسان يصبح الخطاب فيه خاصا بالاستعمال والمعنى مع زيادة مقام الواصل وخاصية الإنتاج والدلالية. (1)

نستخلص مما سبق أن تحدیدات الخطاب التي أشار إليها مانقينو يمكن تلخيصها في (2):

- البعد ما وراء الجمل (Transphrastique)

 - المكون التلفظي (Composante enonciative).

 - شروط الإنتاج و وضع اللغة في السياق (Contextualisation) ، وكذا النظر إلى الخطاب من جانبه التفاعلي، ونعني بذلك المحادثة .

 

 1-    ينظر : عبد القادر شرشار ، تحليل الخطاب الأدبي وقضايا النص، ص 35، 36.

2-    ينظر : رشید عزي: إشكالية المصطلح في المؤلفات العربية - تحليل الخطاب نموذجا ، ص 40.

يعد رولان بارت من النقاد الذين أعلنوا إفلاس المؤلف، فقد خاض صراعا ضد ريمون بیکار في كتابه ( النقد والحقيقة) ، مدافعا عن النقد الجديد الذي لا يؤمن بسلطة الكاتب، مادام التناص يتحكم في النصوص الإبداعية، ومادام البحث عن المؤلف بحثا عن الناقد وإغلاقا الكتابة، وإعطاء مدلول نهائي للنص. فالنص لا ينشأ عن" رصف كلمات تولد معنى وحيدا، معنی لاهوتيا إذا صح التعبير (هو رسالة" المؤلف الإله")، وإنما هو فضاء متعدد الأبعاد، تتمازج فيه كتابات متعددة وتتعارض، من غير أن يكون فيها ماهو أكثر من غيره أصالة: النص نسيج من الاقتباسات، تنحدر من منابع ثقافية متعددة. إن الكاتب لا يمكنه إلا أن يقلد فعلا هو دوما متقدم عليه، دون أن يكون ذلك الفعل أصليا على الإطلاق "(1).

يؤكد بارت أن الكتابة هي في واقعها نقض لكل صوت كما أنها نقض لكل نقطة بداية (أصل)، وبذا يدفع بارت المؤلف نحو الموت. بأن يقطع الصلة بين النص وبين صوت بدايته، ومن ذلك تبدأ الكتابة التي أصبح بارت يسميها بالنصوصية (Textualité ) بناء على مبدأ أن اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف. إذ لم يعد هو الصوت الذي خلف العمل أو المالك للغة أو مصدر الإنتاج، ووحدة النص لا تنبع من أصله ومصدره، ولكنها تأتي من مصيره ومستقبله، ولذا يعلن بارت بأننا نقف الآن على مشارف عصر القارئ، ولا غرابة أن نقول إن ولادة القارئ لا بد أن تكون على حساب موت المؤلف، وبذا يحسم بارت الصراع بين العاشقين المتنافسين على محبوب واحد فيقتل رولان بارت منافسه ليستأثر هو بحب معشوقه (النص)، وينتصر القارئ على المؤلف، ويخلو الجو للعاشق مع محبوبه الذي لا يشاركه فيه أحد (2).

  -    رولان بارت: النقد والحقيقة، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين ، الدار البيضاء، ط1 ، 1985، ص 85.

2-    عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط،19884، ص 71، 72.

ومن هنا، فالبحث عن المؤلف هو قتل للنص، واغتيال للذته، ومنع التعدد دلالاته، وتحنيط قسري لوظيفته الجمالية. فعندما يبتعد المؤلف ويحتجب، فإن الزعم بالتنقيب عن " أسرار النص يغدو أمرا غير ذي جدوى، ذلك بأن نسبة النص إلى مؤلف معناها إيقاف النص، وحصره، وإعطاؤه مدلولا نهائيا . إنها إغلاق الكتابة. وهذا التصور يلائم النقد أشد ملاءمة، إذ إن النقد يأخذ على عاتقه حينئذ الكشف عن المؤلف من وراء العمل الأدبي. وبالعثور على المؤلف، يكون النص قد وجد تفسيره، والناقد ضالته. فلا غرابة - إذا- أن تكون سيادة المؤلف من الناحية التاريخية هي سيادة الناقد. كما لا غرابة أن يصبح النقد اليوم، حتى ولو كان جديدا، موضع خلخلة، مثل المؤلف. فالكتابة المتعددة لاتتطلب إلا الفرز والتوضيح، وليس فيها تنقيب عن الأسرار (1). وفضلا عن ذلك، يقوم موت المؤلف عند رولان بارت بوظيفة ثلاثية؛ إذ يسمح بإدراك النص في تناصه، ويبتعد بالنقد عن النظر في الصدق والكذب، كما يفسح المجال لتموضع القارئ، فمولده يجب أن يكون ثمنه انسحاب المؤلف. ومن هنا يميز رولان بارت ( R . Barthes) بين النص القرائي والنص الكتابي، فالنص الأول "هو ما يسمح للقارىء فقط أن يفهم بشكل محدد سلفا. أما النص الثاني فهو ما يجعل القارىء منتجا للمعنى الذي يريد. ومن الواضح، أن بارت يفضل النوع الثاني، هذا النص المثالي هو عبارة عن مجرة من الدالات، وليس هیكلا من المدلولات. من الممكن للقارىء تطبيق عدد الاحصر له من التفسيرات لمثل هذا النص. وليس من الضرورة أن يحتاج أيا منها إلى أن يكون جزءا من وحدة شاملة. "(2)

إذا كانت البنيوية اللسانية قد أغفلت المؤلف والطبقة الاجتماعية والتاريخ، وكل ما يمت بصلة إلى المرجع، فإن البنيويين الجدد (التفكيكيون و الشكلانيون الجدد)، أمثال تودوروف وكرستيفا، ورولان بارت، قد أولوا أهمية بالغة للقارئ؛ لما له من دور في فهم النص وتفسيره

 

 1-    رولان بارت: النقد والحقيقة، ص:86. 2 - ديفيد كارتر: النظرية الأدبية، ترجمة: د. باسل المسالمه، دار التكوين، دمشق، سوريا، ط1، 2010، ص 112.

 

و تأويله. وقد ظهرت نظريات كبرى تركز على أهمية القارئ من مثل: النظريات الاجتماعية، ونظريات التخاطب، ونظريات الاتصال. فمن أساسيات النص التي استنبطها صلاح فضل من نظرية النص عند "رولان بارت" ما يأتي (1):

1- النص ليس مجرد شيء يمكن تمييزه خارجيا، وإنما هو إنتاج متقاطع يخترق عملا أو عدة أعمال أدبية.

2- النص قوة متحركة تتجاوز جميع الأجناس والمراتب، المتعارف عليها لتصبح واقعا نقيضا يقاوم الجهد، وقواعد المعقول والمفهوم.

3- النص يمارس التأجيل الدائم، واختلاف الدلالة، فهو تأخير دائب مبيت ، مثل اللغة لكنه ليس متمركزا ولا معلقا، إنه لا نهائي، لا يحيل إلى فكرة معصومة.

4- إن النص وهو يتكون من نقول متضمنة ، وإشارات وأصداء للغات أخرى، وثقافات عديدة، تكتمل فيه خارطة التعدد الدلالي، وهو لا يجيب عن الحقيقة وإنما يتبدد إزاءها.

5- إن وضع المؤلف يتمثل في مجرد الاحتكاك بالنص، فهو لا يحيل إلى مبدأ النص، ولا إلى نهايته، بل إلى غيبة الأب، مما يمسح مفهوم الانتماء.

6- النص مفتوح يتجه إلى القارئ، في عملية مشاركة، وليست عملية استهلاك، هذه المشاركة تتضمن قطيعة بين البنية والقراءة، وإنما تعني اندماجها، في عملية دلالية واحدة، لأن ممارسة القراءة إسهام في التأليف. |

7- يتصل النص بنوع من اللذة الشبقية، والمشاكلة للجنس، فهو إذا واقعة غزلية.

 8- النص وجود مبهم لا يتحقق إلا بالقارئ، ومصيره معلق عليه.

9- النص تولید سیاقي ينشأ عن عملیات اقتباس من المستودع اللغوي لتأسيس قوة خاصة بداخله ميژه .

ثم بين صلاح فضل أن هذه المبادئ تعد لونا من ألوان التطبيق المبكر لمفاهيم التفكيكية

 

1-    صلاح فضل ، مناهج النقد المعاصر، دار إفريقيا الشرق، 2002، المغرب - بيروت، ص 129.

وجماليات القراءة، وتفتح آفاقا حركية متجاوزة لفكرة النص، بالتركيز على ديناميته، ومن خلال ما تبين فالنص عند كل من بارث وجولیا کریستیفا J . KRISTEVA ، هو عملية تحسيد لنظام اللغة ولذلك فقد تركزت جهود البنيويين، في الكشف عن القواعد التنظيمية للبنية اللسانية للأدب، لاعتقادهم بأن اللغة تنتج المعنى، وليست حاملة له فقط. ومن هذه الزاوية جاء رولان بارث (Roland Barthes)، ليقدم لنا في تعريفه عناصر جديدة، ويطرح قضايا مهمة تسهم في نصية الرسالة اللغوية، وأكد على أن النص مفتوح، ينتجه القارئ في عملية مشتركة لا استهلاكية . هذه المشاركة لا تتضمن قطيعة بين البنية والقراءة، وإنما تعني اندماجها في عملية دلالية واحدة؛ فممارسة القراءة إسهام في التأليف (1).

ويتجلى دور القارئ في تأويل الرموز وربط بني النص وأحداثه التي تبدو متباعدة ظاهريا، فالنص وبخاصة الأدبي منه ينفرد ببعد الدلالة وعمق المعنى المقصود، وبجمالية الصورة وحداثتها، وتعدد القراءة وتحددها . إن المعنى ليس ملك صاحب النص أو حبيس البنية؛ بل يسهم القارئ في إنتاجه من خلال التأويل وملء الفراغات وتصور التوقعات، لهذا أولت مناهج ما بعد الحداثة وبخاصة نظريات القراءة وجماليات التلقي لدى "ياوس" و "ولفكانك إيزر" عناية فائقة بالقارئ، وجعلته محور التفاعل الأدبي.

إن التفاعل اللغوي سواء أكان أدبيا أم غير أدبي تحكمه أمور أخرى تسهم في العملية التواصلية اللغوية، مثل السياق الحقيقي والتخيلي للنص، والخلفيات المعرفية للمتكلم والمستمع، والتفاعل الإستراتيجي بين أفكار الناس وتوارد خواطرهم وتلاقحها في إنتاج النصوص.

نلحظ من التعريفات السابقة كيف بدأت تنسلخ من بوتقة الشكلانية وسلطة النظام إلى فضاء أرحب هو عالم النص، حيث المعنى الكلامي الحر وملابسات الاستعمال، وما يكتنفه من علاقات تتجاوز اللغة إلى التواصل، وما يؤثر في إنتاجه وتلقيه من نماذج غائبة وأخرى حاضرة، يتفاعل فيها الداخلي مع الخارجي واللغوي مع الفكري.

 

1-    ينظر : صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، 271، 272.

( فان ديك Van Dijk):

 

قدم اللساني فان ديك (Van Dijck) نظرية في النص الأدبي، متجاوزا الحد السكوني الذي تقف عنده الشعريات، و السرديات في مقاربة دينامية للنص محددا إياه بأنه كل ما تجاوز الجملة، وقد اعتبره إنتاجا لعملية إنتاجية، وأساسا لأفعال وعمليات تلق واستعمال داخل نظام التواصل والتفاعل، وهذه العملية التواصلية الأدبية تقع في عدة سياقات ؛ منها التداولية والمعرفية والسوسيوثقافية والتاريخية، و يوضح "فان ديك" في كتابه (النص والسياق) الفرق بين النص والخطاب، من خلال إقامة نحو عام للنص، يأخذ بعين الاعتبار كل الأبعاد البنيوية، والسياقية والثقافية، ومنطلقه في ذلك هو أن اللسانيين اعتبروا الجملة أعلى وحدة قابلة للوصف اللساني، وعلى أساس أن الملفوظات يعاد بناؤها في وحدة واحدة، هي (النص) الذي يعد وحدة مجردة، لا تتجسد إلا من خلال الخطاب، کفعالية تواصلية، وفي إطار هذه العلاقة، يتم الربط بين النص إعادة بناء نظري مجرد وبين سياقه التداولي (1).

ولما انطلق "فان ديك" لضبط خصائص النص من شرطي؛ النصية والتواصل ، فقد نظر إليه من حيث المفهوم انطلاقا من ثلاث زوايا هي: زاوية الحدس، وزاوية توالي الجمل، وزاوية أفعال الكلام؛ إذ يقوم مفهومه الحدسي على عد النص وحدة منسجم، سواء أكان مكتوبا أو شفويا وتحصره قواعد اللغة التي ينشأ فيها ومنها، ويفوقها إبداعا، فيما تكمن الزاوية الثانية في كون النص متوالية منتظمة من الجمل، يحكمها نحو النص والسببية (التعالق والانسجام) والبنيات الدلالية الكبرى والعليا، بينما تلوح الزاوية الثالثة من جهة أفعال الكلام، فالنص ذو قيمة تداولية ، تحققها متتالية من أفعال الطلب والإخبار، وتحقق الانسجام والترابط (2).

 1-     ينظر محمد عزام ، تحليل الخطاب في ضوء المناهج النقدية الحديثة، منشورات اتحاد الكتاب العرب ،2003 ، دمشق، ص 188.

2-     ينظر : محمد مداس: لسانیات النص (نحو منهج التحليل الخطاب الشعري)، جدار للكتاب العالمي، عمان الأردن، وعالم الكتب الحديث، إربد،، الأردن، ط1، 2007 ،ص 14.

ومنه يصبح النص ظاهرة ثقافية تستدل بسياقها الاجتماعي لسهل أثناء التحليل سبيل الفهم والإدراك (1).

ويقول فان ديك " ليست جميع المتواليات من الكلمات أو الجمل داخلة في مفهومنا الحدسي للنص ")، وعليه يرى نفسه ملزما على التفرقة بين الأقوال النصية، والأقوال غير النصية وفق مفهومه الحدسي للنص القائم على إعتبار النص متوالية من الجمل المنتظمة و المنسجمة.

يعتبر فان ديك النص الوحدة اللغوية الأساسية التي تتحقق باعتبارها خطابا في أقوال. وذلك إشارة إلى استقلال النص بالتمام والوحدة على أن النص يشكل الخطاب، والخطاب يحقق النص، واعتمادا على هذا التمييز اعتبر الهدف الرئيس من لسانیات النص هو وضع نظرية للخطاب وبناء نحوله(2). إذ يقول:" تخصص الأوصاف البنيوية الخطاب في مستويات متعددة من التحليل، بتول جملة من الوحدات المختلفة أو المقولات أو النماذج البيانية أو العلاقات "(4).

بل ذهب هذا الناقد إلى أبعد من ذلك في تمييزه بين المصطلحين، إذ "ينظر إلى النص بوصفه بنية عميقة، بينما يمثل الخطاب بنية سطحية (...)، فالنص مظهر تجريدي، بينما الخطاب يجسد وحدة لسانية أساسية تتجلى في أو تتحقق في ملفوظ لغوي "(3).

شهد الخطاب علما خاصا به هو علم النص الذي أسسه فان ديك والذي احتل محل البلاغة واعتبرها سابقة تاريخية له، وحدد في كتابه (علم النص) بنية النص من خلال ظاهرتي

 1-     محمد مداس: لسانیات النص (نحو منهج التحليل الخطاب الشعري)، ص 14.

2-     تون فان ديك : النص بناته ووظائفه - مدخل أولي إلى علم النص - تر: محمد العمري، إفريقيا الشرق، ط1، 1996، المغرب، ص 51.

3-     ينظر : بسمة عروس: الخطاب الأدبي والمفاهيم الأساسية في تحليل الخطاب عند باحثين، مقال ضمن كتاب: (مقالات في تحليل الخطاب تقديم : حمادي صمود، ص 101، 102.

4-     ينظر: ربيعة العربي: الحد بين النص والخطاب، مجلة علامات ، ص 35. ۔ فاضل ثامر : اللغة الثانية (في إشكالية المنهج و النظرية و المصطلح في الخطاب النقدي العربي) ، ص 75.

لاتساق والانسجام "فبدأ ببيان أوجه عدم كفاية نحو الجملة لوصف ظواهر تجاوز حدود الجملة، وعد النص وحدة أساسية لا تستوجب تحولا كميا في المعايير، ثم ميز هذا الإطار الموسع (النص) وخصه بمصطلح نحو النص أو نحو الخطاب، أو أجرومية النص " (1)

وقد دعا في كتابه جوانب من علم النص ( Aspects of text grammar ) عام 1972 إلى ضرورة اتباع طرق جديدة في تحليل المستويات الصوتية والتركيبية والدلالية للنص، وهو انتقال عمودي من دراسة البني الصغرى للنص إلى بني أكبر تمثل وحدة معنوية هي النص، فهو يرى أن" وصف الكلام عند الجملة الواحدة غير كاف، إذ لا بد من الانتقال إلى وحدة أكبر هي النص" (2)

ف" فان ديك" يؤسس هذا التلاحم (الاتساق و الانسجام) على نمطين من العلاقات هما: العلاقات الإحالية بين الوقائع في عالم ممكن يتحدد بسياقه السوسيوثقافي، والعلاقات بين المعاني المتضمنة في النص (الخطاب)، إذ لا يكون الخطاب متلاحما وهو مجرد ومعزول عن ظروف إنتاجه، كما أنه محكوم بالتعالقات الداخلية بين المعاني المعبر عنها.

ومن ثمة يتموقع "فان دياك" في موقفه من الخطاب بين النموذجين: البنيوي والوظيفي؛ وذلك عبر إعلائه من شأن خاصية التماسك والتمام البنيوي، واتجاهه - في الوقت نفسه - إلى ربط الخطاب بسياق استعماله.

يتعمق فان ديك في تصوره للنص متأثرا بمقولات النحو التوليدي التحويلي؛ مفترضا للنص تمثيلا دلاليا مجردا ينعكس على بنية النص، " فأصل النص بنية سطحية توجهها وتزها بنية عميقة دلالية. ويتصور فان ديك البنية العميقة للنص كما منظما من التتابعات، فهي تعرض البنية المنطقية المجردة للنص، وتعد البنية العميقة الدلالية للنص بالنسبة له أيضا نوعا من

 1-  سعید حسن البحيري: علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات ، الشركة المصرية العالمية للنشر، مصر، ط1، 1997، ص 183.

2- إبراهيم محمود خليل : في اللسانيات ونحو النص، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1 ،-(دت )، ص 195

إعادة صياغة مجردة، تتحد في النواة (البنية الموضوع للنص) ويقوده فهم البنية العميقة الخاصة بموضوع النص أيضا إلى التحديد التالي : يمكن أن ينظر إلى البنية العميقة على أنها خطة نص ما، على نحو ما يبدو أنه يمكن أن يحدد سلوكنا من خلال خطة أساسية" (1).

يوضح هذا التعريف كيفية إنتاج النص انطلاقا من تشكله في الذهن عن طريق التأليف بين الدلالات والأفكار، ثم تحسده على سطح النص. وقد حاکی في هذا الوصف تفسير نعوم تشومسكي (A . Noam Chomsky) غير أنه تجاوزه؛ إذ تعمق في دلائلية النص وبنيته، وافترض له بنیات شاملة كبرى تتحدد بوحدتها لا بانفصالها عن بعضها بعض، لكن إنتاج النص لا يمثل إلا عنصرا من العناصر التي تحدد النص. كما أن النص ليس مجرد نظام يشكله المتكلم في ذهنه قبل أن يربه على لسانه أو يسجله على ورقته، فالنص أقرب إلى المنجز أو المستعمل منه إلى المفترض أو المجرد . وإذا كان النص سيستعير من اللغة نظامها ومن الكلام معناه وسياقه، وجب مراعاة ذلك في تعريفه.

تتمثل قيمة هذه المقاربة في بيان منهج واضح للترتيب بين موضوعات النص المختلفة، وإبراز الموضوع الأساسي لنص ما. إلا أن قيمته بالنسبة إلى تطوير نحو تولیدي للنص تبقى محدودة ، فاعتماده للوصف يبدو مناسبة أكثر من اعتماده کنموذج توليدي (2).

 1-    زتسیسلاف وارزنياك، مدخل إلى علم النص (مشکلات بناء النص)، تر: سعید حسن بحيري، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط1، 2003، ص56 2- كورنيليا فون راد صکوحي، لسانیات النص أو " لسانیات ما بعد الجملة وما قبل الخطاب" ضمن كتاب: كتاب:

2-    مقالات في تحليل الخطاب)، تقديم : حمادي صمود، منشورات كلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة (وحدة البحث في تحليل الخطاب)، تونس، 2008، ص 61.

 تعددت التعريفات الخاصة بحقل تحليل الخطاب، وهو عند مانقینو "يرمي إلى دراسة الاستعمال الفعلي للغة، أما وحدة تحليل الخطاب فهو موضوع نقاش مستمر، إذ هو حقل فعال وجد مضطرب تتقاسمه عدة إشكاليات" (1).

يعرف "مانقینو D . MAINGUENEAU" الخطاب الأدبي، ويشير إلى تعدد دلالاته، فالخطاب عنده مرادف للكلام لدى دي سوسير، وهو المعنى الجاري في اللسانيات البنيوية، ولذلك يعتبره ملفوظا طويلا أو متتالية من الجمل تكون مجموعة منغلقة يمكن من خلالها معاينة بنية سلسلة العناصر بواسطة المنهجية التوزيعية.

لقد وضع مانقينو جملة من التحدیدات لمصطلح الحطاب، وهي في الحقيقة ليست من وضعه، إنما استنبطها من استعمال اللسانيين لهذا المصطلح بقيم مختلفة؛ و هي تتمثل فيما يلي:

1-    الخطاب مرادف للكلام : وهذا ما ورد عند دي سوسير في ثنائياته وبالتحديد ضمن ثنائية اللغة و الكلام.

2-    الخطاب وحدة أكبر من الجملة، و هي بذلك تساوي النص.

3-    إذا نظرنا إلى الخطاب من الجانب التلقظي أو التداولي، نجد أنه مصطلح يستعمل بدلا من مصطلح الملفوظ؛ لأنه يسمح لنا بالتركيز على الطابع الدينامي للتلقظ والعلاقة التي يؤسسها بين المشاركين في التبادل تسجيله في السياق، وهو بذلك يعني "المحادثة "أي التفاعل الشفوي الذي يعتبر بدوره نوعا من أنواع التلقظ الأساسي.

4-    يظهر الخطاب أيضا في التقابل بين ( اللسان الخطاب) لأنه يسمح لنا بالتمييز بين القيم التي تمتلكها الوحدة اللغوية وهي مجردة من السياق، وتكتسبها من خلال استعمالها الفعلي.

 

1-     ينظر : رشید عزي: إشكالية المصطلح في المؤلفات العربية - تحليل الخطاب نموذجا- ص 47.

2-    ينظر : المرجع نفسه، ص 39. نقله عن:

3-   Dominique MAINGUENEAU, l'analyse du discours, Hachette, Paris, 1991, p10

5-    لا ينظر إلى الخطاب في فرنسا - منذ الستينيات - إلا من خلال مقابلته بالملفوظ على الشكل الآتي: الملفوظ هو عبارة عن سلسلة من الجمل الواردة بين بياضين دلاليين أي بين توقفين للتواصل، أما الخطاب فهو الملفوظ منظورا إليه من حيث الآليات التي تتحكم فيه وهكذا فإن النظر في النص من حيث تبنينه في اللسان تجعل منه (ملفوظا.) أما دراسة ظروف إنتاج هذا النص فتجعل منه خطابا.

ويقيم "مانقينو" في النهاية معارضة بين اللسان والخطاب؛ فاللسان ينظر إليه ككل منته وثابت العناصر نسبيا، أما الخطاب فهو مفهوم باعتباره المال الذي تمارس فيه الإنتاجية، وهذا المال هو" الطابع السياقي" غير المتوقع الذي يحدد قيما جديدة لوحدات اللسان، فتعدد دلالات وحدة معجمية هو أثر للخطاب الذي يتحول باستمرار إلى أثر للسان يصبح الخطاب فيه خاصا بالاستعمال والمعنى مع زيادة مقام الواصل وخاصية الإنتاج والدلالية. (1)

نستخلص مما سبق أن تحدیدات الخطاب التي أشار إليها مانقينو يمكن تلخيصها في (2):

- البعد ما وراء الجمل (Transphrastique)

 - المكون التلفظي (Composante enonciative).

 - شروط الإنتاج و وضع اللغة في السياق (Contextualisation) ، وكذا النظر إلى الخطاب من جانبه التفاعلي، ونعني بذلك المحادثة .

 1-    ينظر : عبد القادر شرشار ، تحليل الخطاب الأدبي وقضايا النص، ص 35، 36.

2-    ينظر : رشید عزي: إشكالية المصطلح في المؤلفات العربية - تحليل الخطاب نموذجا ، ص 40.

يعد رولان بارت من النقاد الذين أعلنوا إفلاس المؤلف، فقد خاض صراعا ضد ريمون بیکار في كتابه ( النقد والحقيقة) ، مدافعا عن النقد الجديد الذي لا يؤمن بسلطة الكاتب، مادام التناص يتحكم في النصوص الإبداعية، ومادام البحث عن المؤلف بحثا عن الناقد وإغلاقا الكتابة، وإعطاء مدلول نهائي للنص. فالنص لا ينشأ عن" رصف كلمات تولد معنى وحيدا، معنی لاهوتيا إذا صح التعبير (هو رسالة" المؤلف الإله")، وإنما هو فضاء متعدد الأبعاد، تتمازج فيه كتابات متعددة وتتعارض، من غير أن يكون فيها ماهو أكثر من غيره أصالة: النص نسيج من الاقتباسات، تنحدر من منابع ثقافية متعددة. إن الكاتب لا يمكنه إلا أن يقلد فعلا هو دوما متقدم عليه، دون أن يكون ذلك الفعل أصليا على الإطلاق "(1).

يؤكد بارت أن الكتابة هي في واقعها نقض لكل صوت كما أنها نقض لكل نقطة بداية (أصل)، وبذا يدفع بارت المؤلف نحو الموت. بأن يقطع الصلة بين النص وبين صوت بدايته، ومن ذلك تبدأ الكتابة التي أصبح بارت يسميها بالنصوصية (Textualité ) بناء على مبدأ أن اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف. إذ لم يعد هو الصوت الذي خلف العمل أو المالك للغة أو مصدر الإنتاج، ووحدة النص لا تنبع من أصله ومصدره، ولكنها تأتي من مصيره ومستقبله، ولذا يعلن بارت بأننا نقف الآن على مشارف عصر القارئ، ولا غرابة أن نقول إن ولادة القارئ لا بد أن تكون على حساب موت المؤلف، وبذا يحسم بارت الصراع بين العاشقين المتنافسين على محبوب واحد فيقتل رولان بارت منافسه ليستأثر هو بحب معشوقه (النص)، وينتصر القارئ على المؤلف، ويخلو الجو للعاشق مع محبوبه الذي لا يشاركه فيه أحد (2).

 1-    رولان بارت: النقد والحقيقة، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين ، الدار البيضاء، ط1 ، 1985، ص 85.

2-    عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط،19884، ص 71، 72.

ومن هنا، فالبحث عن المؤلف هو قتل للنص، واغتيال للذته، ومنع التعدد دلالاته، وتحنيط قسري لوظيفته الجمالية. فعندما يبتعد المؤلف ويحتجب، فإن الزعم بالتنقيب عن " أسرار النص يغدو أمرا غير ذي جدوى، ذلك بأن نسبة النص إلى مؤلف معناها إيقاف النص، وحصره، وإعطاؤه مدلولا نهائيا . إنها إغلاق الكتابة. وهذا التصور يلائم النقد أشد ملاءمة، إذ إن النقد يأخذ على عاتقه حينئذ الكشف عن المؤلف من وراء العمل الأدبي. وبالعثور على المؤلف، يكون النص قد وجد تفسيره، والناقد ضالته. فلا غرابة - إذا- أن تكون سيادة المؤلف من الناحية التاريخية هي سيادة الناقد. كما لا غرابة أن يصبح النقد اليوم، حتى ولو كان جديدا، موضع خلخلة، مثل المؤلف. فالكتابة المتعددة لاتتطلب إلا الفرز والتوضيح، وليس فيها تنقيب عن الأسرار (1). وفضلا عن ذلك، يقوم موت المؤلف عند رولان بارت بوظيفة ثلاثية؛ إذ يسمح بإدراك النص في تناصه، ويبتعد بالنقد عن النظر في الصدق والكذب، كما يفسح المجال لتموضع القارئ، فمولده يجب أن يكون ثمنه انسحاب المؤلف. ومن هنا يميز رولان بارت ( R . Barthes) بين النص القرائي والنص الكتابي، فالنص الأول "هو ما يسمح للقارىء فقط أن يفهم بشكل محدد سلفا. أما النص الثاني فهو ما يجعل القارىء منتجا للمعنى الذي يريد. ومن الواضح، أن بارت يفضل النوع الثاني، هذا النص المثالي هو عبارة عن مجرة من الدالات، وليس هیكلا من المدلولات. من الممكن للقارىء تطبيق عدد الاحصر له من التفسيرات لمثل هذا النص. وليس من الضرورة أن يحتاج أيا منها إلى أن يكون جزءا من وحدة شاملة. "(2)

إذا كانت البنيوية اللسانية قد أغفلت المؤلف والطبقة الاجتماعية والتاريخ، وكل ما يمت بصلة إلى المرجع، فإن البنيويين الجدد (التفكيكيون و الشكلانيون الجدد)، أمثال تودوروف وكرستيفا، ورولان بارت، قد أولوا أهمية بالغة للقارئ؛ لما له من دور في فهم النص وتفسيره

 

1-    رولان بارت: النقد والحقيقة، ص:86. 2 - ديفيد كارتر: النظرية الأدبية، ترجمة: د. باسل المسالمه، دار التكوين، دمشق، سوريا، ط1، 2010، ص 112.

 و تأويله. وقد ظهرت نظريات كبرى تركز على أهمية القارئ من مثل: النظريات الاجتماعية، ونظريات التخاطب، ونظريات الاتصال. فمن أساسيات النص التي استنبطها صلاح فضل من نظرية النص عند "رولان بارت" ما يأتي (1):

1- النص ليس مجرد شيء يمكن تمييزه خارجيا، وإنما هو إنتاج متقاطع يخترق عملا أو عدة أعمال أدبية.

2- النص قوة متحركة تتجاوز جميع الأجناس والمراتب، المتعارف عليها لتصبح واقعا نقيضا يقاوم الجهد، وقواعد المعقول والمفهوم.

3- النص يمارس التأجيل الدائم، واختلاف الدلالة، فهو تأخير دائب مبيت ، مثل اللغة لكنه ليس متمركزا ولا معلقا، إنه لا نهائي، لا يحيل إلى فكرة معصومة.

4- إن النص وهو يتكون من نقول متضمنة ، وإشارات وأصداء للغات أخرى، وثقافات عديدة، تكتمل فيه خارطة التعدد الدلالي، وهو لا يجيب عن الحقيقة وإنما يتبدد إزاءها.

5- إن وضع المؤلف يتمثل في مجرد الاحتكاك بالنص، فهو لا يحيل إلى مبدأ النص، ولا إلى نهايته، بل إلى غيبة الأب، مما يمسح مفهوم الانتماء.

6- النص مفتوح يتجه إلى القارئ، في عملية مشاركة، وليست عملية استهلاك، هذه المشاركة تتضمن قطيعة بين البنية والقراءة، وإنما تعني اندماجها، في عملية دلالية واحدة، لأن ممارسة القراءة إسهام في التأليف. |

7- يتصل النص بنوع من اللذة الشبقية، والمشاكلة للجنس، فهو إذا واقعة غزلية.

 8- النص وجود مبهم لا يتحقق إلا بالقارئ، ومصيره معلق عليه.

9- النص تولید سیاقي ينشأ عن عملیات اقتباس من المستودع اللغوي لتأسيس قوة خاصة بداخله ميژه .

ثم بين صلاح فضل أن هذه المبادئ تعد لونا من ألوان التطبيق المبكر لمفاهيم التفكيكية

 

1-    صلاح فضل ، مناهج النقد المعاصر، دار إفريقيا الشرق، 2002، المغرب - بيروت، ص 129.

وجماليات القراءة، وتفتح آفاقا حركية متجاوزة لفكرة النص، بالتركيز على ديناميته، ومن خلال ما تبين فالنص عند كل من بارث وجولیا کریستیفا J . KRISTEVA ، هو عملية تحسيد لنظام اللغة ولذلك فقد تركزت جهود البنيويين، في الكشف عن القواعد التنظيمية للبنية اللسانية للأدب، لاعتقادهم بأن اللغة تنتج المعنى، وليست حاملة له فقط. ومن هذه الزاوية جاء رولان بارث (Roland Barthes)، ليقدم لنا في تعريفه عناصر جديدة، ويطرح قضايا مهمة تسهم في نصية الرسالة اللغوية، وأكد على أن النص مفتوح، ينتجه القارئ في عملية مشتركة لا استهلاكية . هذه المشاركة لا تتضمن قطيعة بين البنية والقراءة، وإنما تعني اندماجها في عملية دلالية واحدة؛ فممارسة القراءة إسهام في التأليف (1).

ويتجلى دور القارئ في تأويل الرموز وربط بني النص وأحداثه التي تبدو متباعدة ظاهريا، فالنص وبخاصة الأدبي منه ينفرد ببعد الدلالة وعمق المعنى المقصود، وبجمالية الصورة وحداثتها، وتعدد القراءة وتحددها . إن المعنى ليس ملك صاحب النص أو حبيس البنية؛ بل يسهم القارئ في إنتاجه من خلال التأويل وملء الفراغات وتصور التوقعات، لهذا أولت مناهج ما بعد الحداثة وبخاصة نظريات القراءة وجماليات التلقي لدى "ياوس" و "ولفكانك إيزر" عناية فائقة بالقارئ، وجعلته محور التفاعل الأدبي.

إن التفاعل اللغوي سواء أكان أدبيا أم غير أدبي تحكمه أمور أخرى تسهم في العملية التواصلية اللغوية، مثل السياق الحقيقي والتخيلي للنص، والخلفيات المعرفية للمتكلم والمستمع، والتفاعل الإستراتيجي بين أفكار الناس وتوارد خواطرهم وتلاقحها في إنتاج النصوص.

نلحظ من التعريفات السابقة كيف بدأت تنسلخ من بوتقة الشكلانية وسلطة النظام إلى فضاء أرحب هو عالم النص، حيث المعنى الكلامي الحر وملابسات الاستعمال، وما يكتنفه من علاقات تتجاوز اللغة إلى التواصل، وما يؤثر في إنتاجه وتلقيه من نماذج غائبة وأخرى حاضرة، يتفاعل فيها الداخلي مع الخارجي واللغوي مع الفكري.

 

                      

1-    ينظر : صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، 271، 272.

 


Cette leçon n'est pas encore prête.