Généralités
اللغة العربية المشتركة، وعلاقتها بلهجات العرب
أوّلا: تعريف اللغة:
1 ـ لغة:
اللغة أصلها لغْوَةٌ من لغا: إذا تكلم، واللغو في الأيْمان مالا يـعْقَدُ عليه القلب، مثل قولك: لا واﷲ وبلى واﷲ.
2 ـ اصطلاحا:
اللغة نظام من الرموز التوفيقية تستخدمه مجموعة بشرية للتواصل فيما بينها، وعندما نقول: إنّ شخصا يتقن لغتين مثلا، فإننا نعني أنه يعرف نظامين مستقلين من الرموز التوفيقية، وبالتالي يستطيع أن يتواصل مع أفراد ينتمون إلى مجموعتين بشريتين لكلّ منهما نظامها اللغ وي الخاص.
وهناك تعريفات أخرى للغة منها:
أنّ اللغة: هي تلك الأصوات التي يصدرها جهاز النطق الإنساني، وتصل إلى الأذن، فيتمّ إدراك وفهم دلالتها، وإصدار الاستجابة المناسبة لها، أي بمعنى أنّ الجهاز النطقي هو المسؤول عن إصداره لتلك الأصوات فتدركها الأذن.
ثانيا: تعريف اللغة العربية الفصحى:
1 ـ الفصحى لغة:
الفصْحُ : خلوص الشيء مما يشوبه وأصله في اللبن، يقال أفصَحَ اللبن: ذهبت رغوته. ويقال: ف َّ صحَ اللبن وأفصح فهو فصيح ومفصح، إذا تعرّى من الرغوة.
يقول الشاعر: وتحت الرغوة اللبن الفصيح ومنه أخذ فصْحُ الرجل وأفصح: تكلّم بالعربية.
الفصاحة في اللغة هو الظهور والبيان، إذ يقال أفصح فلان عمّا في جعبته: إذا أظهره.
والفصاحة سمة تتميز ا اللغة، وت وصف ا اللفظة المفردة والكلام والمتكلم، فيقال: لفظة فصيحة، وكلام فصيح ورجل فصيح.
فالفصاحة إذن هي البيان والوضوح، وقد عرفها "أبو هلال العسكري" بأّا: "الإبانة عمّا في نفس الإنسان، وأّا مقصورة على اللفظ".
2 ـ الفصحى اصطلاحا:
تعدّ اللغة العربية الفصحى أوّل لغة استعملها العرب في حيا م، وهي اللغة التي نزل ا القرآن الكريم، ووسِعت كلّ أحكامه وقوانينه وعلومه، فكلّ ما أنزل عزّ وجلّ من القرآن الكريم أنزل بلغة العرب لقوله تعالى: ﴿إنَّ ا جَعَلْناهُ قـرآناعَربيا﴾ [سورة الزخرف، الآية:03]، وقوله أيضا: ﴿بلسَانٍ عَرَ ٍّ بي مُبِينٍ ﴾ [سورة الشعراء، الآية:195]، إّا لغة العقيدة والدين الإسلامي، وهي كذلك لغة التراث العربي، إذ فرضت وجودها في جميع ا الات العلمية، فهي وسيلة للتواصل الفكري والثقافي، لأّا لغة العلم والعلماء والتعليم ولغة الكتابة، و ا تدوّن كلّ الإبداعات الأدبية واللفظية، بحيث تكتب ا الكتب والصحف والسجلات والمقالات...الخ، وما زادها تثبيتا هو تلقينها بالمدارس في كلّ مراحل التعليم والمعاهد والجامعات، واللغة العربية الفصحى هي لغة القرآن الكريم والتراث العربي جملة، والتي تستخدم اليوم في المعاملات الرسمية ،وفي تدوين الشعر والنثر والإنتاج الفكري عامة.
فالفصحى إذن تمثل المستوى الأعلى في اللغة، والذي يسعى كلّ فرد أن يحقّقه ويـبْـلغهُ في لغته المنطوقة والمكتوبة على حدّ سواء، ويتمثل هذا المستوى في عرف العربية، الذي يتفق عليه كلّ العرب في جميع مستويا ا الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية والمعجمية، والتي تمثل لغة القرآن الكريم والإنتاج العربي القديم شعرا ونثرا.
3 ـ خصائص اللغة:
ـ اللغة نظام: والنظام لابدّ أن يكون محكوما بقواعد، وهذا يعني أنّ اللغة قواعد تحكمها، ولكلّ لغة نظام خاص ا.
ـ اللغة صوتية: أي أنّ للغة طبيعة صوتية، وإنّ هذه الطبيعة تعدّ أساسية في اللغة؛ فالصوت يسبق الشكل أو الرمز المكتوب في الوجود والاستعمال الإنساني.
ـ اللغة اجتماعية: بمعنى أّا متعارف عليها اجتماعيا، والعرف هو الذي يحكم اللغة وليس المنطق العقلي.
ـ اللغة متطورة نامية بمعنى أنّ اللغة ليست جامدة، بل هي متطورة من خلال تقبلها ألفاظا جديدة، وذلك لتغطية ما يستجدّ من حاجة إلى المفردات في الحياة.
4 ـ ظروف تكوّن اللغة العربية:
لقد وصلت إلينا اللغة العربية في صورة أدبية حينا، وصورة شعبية حينا آخر، أمّا الصورة الأولى: فإّا تتمثل فيما نسمّيه الأدب الجاهلي، أو الآثار الأدبية الجاهلية، من الأشعار والخطب والأمثال والحكم، وهو ما نسمّيه باللغة العربية الفصحى، أمّا الصورة الثانية فلم تصل إلينا منها أعمال متكاملة، وإنّما نلحظها فيما روي لنا في بطون اللغة والنحو والأدب، متناثرا عن لهجات القبائل العربية الخاصّة ا.
وحينما ندرس نصوص الصورة الأولى، نجدها تمثل ـ إلى حدّ كبير ـ لغة موحّدة منسجمة، لا تكاد تتضمّن شيئاعن تلك
الروايات المنسوبة إلى لهجات العرب، هذه اللغة التي اصطنعها الشاعر والأديب، هي بمثابة اللغة المشتركة التي انتظمت جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، فقد كان يتخذها الشاعر وسيلة للتعبير عمّا يجول في خاطره، كما كان يتخذها الخطيب للتأثير في سامعيه، سواء أكان الشاعر أم الخطيب من قريش أم تميم أم غيرها من قبائل العرب، فإنّ خاصية اللغة المشتركة الأساسية، أّا لغة وسطى، تقوم بين لغات أولئك الذين يتكلمو ا جميعا.
وقد نشأت هذه اللغة المشتركة ونمت وازدهرت قبل مجيء الإسلام، ويرى "إبراهيم أنيس" أنّ أقدم ما نستطيع تصوره في شبه الجزيرة العربية، هو أن نتخيلها وقد انتظمتها لهجات محلية كثيرة، انعزل بعضها عن بعض، واستقلّ كلّ منها بصفات خاصّة، ثمّ كانت تلك الظروف التي هيأت لبيئة معينة في شبه الجزيرة، فرصة ظهور لهجتها ثمّ ازدهارها والتغلب على اللهجات الأخرى، وهذا يعني أّا قد وجدت عوامل مختلفة، حملت أهل هذه اللهجات على التقارب والاختلاط، فأدّى ذلك إلى نشأة اللغة المشتركة التي يتفاهم ا الناس جميعا، وإن انتموا إلى بائل مختلفة.
5 ـ نشأة اللغة العربية المشتركة (الفصحى):
لا تختلف اللغة العربية في أسباب تكوينها عن تلك الأسباب العامة في نشأة اللغات، ومن الطبيعي إذا كنا نحاول التعرّف على ظروف تكوين اللغة العربية المشتركة أن نمهّد لذلك بالإجابة عن السؤال التالي: كيف تنشأ اللغات المشتركة؟
تميل اللغات في حيا ا إلى اتّجاهين متضادين:
ـ الأوّل: يأخذ ا إلى الانقسام، كما حدث للغة الجرمانية التي انبثقت عنها: الإنجليزية والألمانية والهولندية.
ـ والثاني: وهو اتّجاه يسير باللغات نحو التوحيد، أي أنه يؤدّي إلى تكوين اللغات المشتركة، وذلك عندما تتهيأ الظروف لإحدى اللهجات، فتتغلب على أخوا ا في بيئة لغوية معينة، وهذا هو ما حدث للهجة باريس، التي تغلّبت على معظم أخوا ا، إلى أن أصبحت لغة الآداب والكتابة في فرنسا، وكذلك ما حدث للهجة لندن التي قدّر لها أن تتفوّق على أشهر لهجات إنجلترا مكوّنة اللغة الإنجليزية المشتركة، ويكون التوحيد اللغوي في العادة تلبية لحاجات اجتماعية عندما يتجة الأفراد إلى تعزيز التفاهم وتوثيق الروابط فيما بينهم، الأمر الذي ينتج عنه تقارب في صور الكلام، ولولا مقاومة ا تمع للتفكّك اللغوي لأصبح العالم أمام حشد من صور التكلم التي لا تزيدها الأيام إلاّ تفرقا.
ومما يلحظه اللغويون أنّ نشأة اللغة المشتركة عملية تدريجية لا تتمّ في جيل أو جيلين، وإنّما تتطلب زمنا طويلا وظروفا اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية ،وهي تعتمد دائما على الاتصال والاختلاط وللاشتراك في الحياة، وقد ينشأ ذلك كله عن حرب تؤدّي إلى اختلاط أناس من لهجات مختلفة، أو قد يكون ناتجا عن عقد الأسواق العامة التي يتجه إليها الناس في بيئات لغوية مختلفة لقضاء حاجا م ومصالحهم، أو قد يكون ناتجا عن إقامة مناسبات دينية يجتمع فيها سكان ينتمون إلى أماكن مختلفة، فيكون ثمرة هذه اللقاءات المتكررة مع الزمن إذابة الفروق اللهجية بطريقة لا شعورية من المتكلمين، والإسهام بدور فعّال في توحيد اللغة.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن ننبه إلى أنّ دراسة اللغات المشتركة في العصور التاريخية، تبيّن أنه ليس من السّهلالتعرف على أيّ العوامل كان أقوى أثرا في تكوينها، كما لا يعني بالضرورة أنّ هذه العوامل لابدّ من توفرها مجتمعة في كلّحالة.
وتتصف اللغة المشتركة بمعالم خاصّة تميزها عن شقيقا ا اللهجات الأخرى، التي سبق وأن اتصلت ا وتفاعلت معها في تكوين هذا المزيج المنسجم، ويتفق المحدثون على أنّ أهمّ تلك الخصائص المميزة للغة المشتركة يمكن حصرها في صنفين:
الأوّل: أّا مستوى لغوي أرقى من لهجات الخطاب في غالب الأحوال، أي أّا فوق مستوى العامة، فلا يصطنعو ا في شؤون حيا م اليومية، وهم يتّخذو ا مقياسا لحسن القول وإجادة الكلام، فإذا سمعوا متكلما ا رفعوه فوق مستوى ثقافتهم.
الثاني: أنّ اللغة المشتركة وإن تأسّست في بدء نشأ ا على لهجة معينة، والتمست بعض صفات اللهجات الأخرى وهضمتها، إلاّ أّا فقدت مع الزمن كلّ المنابع التي استمدّت منها عناصرها، وأصبح لها كيان مستقلّ، فلم تعد تنتسب إلى بيئة محلية تعينها، بل يشعر كلّ من السامع والمتكلم أّا أصبحت ملك الجميع لا يدّعيها قوم لأنفسهم، وهي لذلك تكتسب الاحترام من الناس جميعا.
ونعود لما بدأنا الحديث عنه فنتساءل: كيف نشأت اللغة العربية المشتركة؟ أمن كلّ اللهجات العربية أم من لهجة واحدة تحقّقت لها السيادة على غيرها من اللهجات؟ وإن كانت هناك لهجة تغلبت على أخواتها، فما هي هذه اللهجة؟
اختلفت آراء علماء العربية (قدامى ومحدثين) في نظر م إلى العربية المشتركة ولهجا ت العربية :
فقد ذهب القدامى إلى أنّ اللغة العربية المشتركة هي لهجة قريش؛ ذلك أنّ قريشا في نظرهم أفصح العرب وأصفاهم لغة ،لأّم كانوا يسكنون جوار البيت العتيق، فمنحهم هذا الجوار سلطة روحية وأدبية، وكانت الوفود تأتيهم من مختلف القبائل العربية، فيختارون من ألسنتها ما وافق طباعهم، وما أحسّوا أنّه صورة راقية من صور الفصحى، فجاءت لغتهم خالصة من الشوائب اللهجية، يقول "أبو الحسين أحمد بن فارس" (941ه): »أجمع علماؤنا بكلام العرب والروّاة لأشعارهم والعلماء بلغا م وأيامهم ومحالهم أنّ قريشا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة ، وذلك أنّ اﷲ جلّ ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبيّ الرحمة محمّد صلى اﷲ عليه وسلم، فجعل قريشا قطان حرمه، وجيران بيته الحرام وولاته... وكانت قريش مع فصاحتها وحن لغتها ورقة ألسنتها إذا أتـتْـهُمْ الوفود من العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغا م وأصفى كلامهم، فاجتمع ا تخيّروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب«.
ونقل "جلال الدّين السيوطي" (ت911ه) عن "أبي نصر الفا رابي" قوله: »كانت قريش أجود العرب انتقاءللأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق ،وأحسنها مسموعا وأبينها إبانة عمّا في النفس«، كما نقل عن "الفراء" (ت822ه) قوله في هذا الشأن: »كانت العرب تحضر الموسم في كلّ عام وتحجّ البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون كلام العرب، فما استحسنوا من لغاته تكلموا به فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ«.
تلك جملة من أقوال القدماء تُجمع على فصاحة قريش وعلوّ المنزلة التي رفعت إليها لهجتهم، بفضل ما تجمّع لديها من رقة اللسان، والبعد عن الألفاظ الموحشة، وبفضل ما اختارته من لهجات القبائل.
أمّا تأثر لهجة قريش بغيرها من لهجات القبائل نتيجة هذا الاتصال المستمرّ، فأمر مسلم به في الدراسات اللغوية الحديثة، حيث إنّ احتكاك اللهجات بعضها ببعض يقرب الشقّة فيما بينها، ويذيب الفوارق اللهجية، ويؤدّي في النهاية إلى أن تتغلب إحدى هذه اللهجات على شقيقا ا متى أتيحت لها الظروف، لكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نوافق القدماء على اندفاعهم في كلمتهم بأنّ لغة قريش أفصح اللهجات العربية؛ إذ أنّ المفاضلة بين اللهجات لا تتفق مع وجهة النظر اللغوية الحديثة.
هذا وقد تبع فريق من المحدثين علماء العربية القدامى في جهم، فوضعوا لهجة قريش في المنزلة العالية، وجعلوا لها السيادة على غيرها من اللهجات العربية، بفضل ما أتيح لأهلها من ثقافة وجاه وسلطان، وما انتقل إليها من عناصر لغوية زاد ا ثراء، فهي عندهم اللغة الفصحى التي نظم ا الشعر وألقيت الخطب في المحافل واتمعات، وهي عندهم لغة القرآن والحديث والآثار الدينية والأدبية والعلمية.
وممن سار في هذا الاتّجاه الدكتور "على عبد الواحد وافي"، إذ يقول في معرض كلامه عن تغلب لهجة قريش في اتصالها مع اللهجات العربية: »هذا إلى أنّ لهجة قريش كانت أوسع اللهجات العربية ثروة وأغزرها مادّة وأرقها أسلوبا، وأدناها إلى الكمال وأقدرها على التعبير في مختلف فنون القول، وقد تمّ لها ذلك بفضل ما أتيح لأهلها من وسائل الثقافة والنهوض، وما أتيح لها من فرص كثيرة للاحتاك بمختلف اللهجات العربية، وما انتقل إليها من هذه اللهجات من عناصر زاد ا ثروة وسدّت ما كان يعوزها في بعض مناحي التعبير«. إلى أن يقول: »وهذا هو ما حدث للغة قريش فقد ترتب عن تغلبها على بقية اللهجات العربية أن أصبحت لغة الآداب عند جميع قبائل العرب، فبها كان ينظم الشعر وتلقى الخطب، وترسل الحكم والأمثال، وتدّون الرسائل، وتتفاوض الوفود، ويتبارى الأدباء وتجري المناقشة في النوادي والمؤتمرات في مختلف بلاد العرب ومختلف قبائلهم، وقد تمّ لها ذلك قبل بعثة الرسول صلى اﷲ عليه وسلم بزمن غير قصير«.
ويسلك الدكتور "حسن عون" طريقا مماثلا فيقول: »ومنذضت قريش في أرض الحجاز وبدأت تسود غيرها منالقبائل وتتزعّمها في الدّين والسياسة والاقتصاد، أخذت لهجتها تسود اللهجات الأخرى وتتغلب عليها (...)، وهي التيأورثتنا هذه الآثار الدينية والأدبية والعلمية، وهي أيضا لغة القرآن والحديث والأدب العربي«.
ونحن لا نستطيع أن نركن إلى مثل هذه الأقوال التي تجعل لهجة قريش وحدها لغة القرآن والحديث والآداب، فقد سبق أن ألمحنا قبل سطور في حديثنا عن نشأة اللغات المشتركة بأنّ هذه اللغات وإن قامت في بدء نشأ ا على أساس لهجة سادت غيرها لأسباب اجتماعية واقتصادية وثقافية، إلاّ أّا تصبح مع الزمن ملكا للجميع، وينسى الناس جذورها الأولى، ولا تعود تذكّرنا عند سماعها بمنطقة معينة أو بيئة محلية واحدة، ذلك أّا عندما يتاح لها أن تنتشر بين الجماعات اللغوية الأخرى تأخذ العناصر المشتركة التي تدخل في تكوينها في الازدياد، وكلما ازدادت انتشارا كثرت الصفات التي تستعيرها من صور اللهجات المحلية.
وهكذا فإنّ اللغة العربية المش تركة وإن قامت في بدايتها على أساس لهجة قريش، إلاّ أّا أخذت على مرّ السنين خصائص لغوية من قبائل عربية مختلفة، نتيجة اتصال قريش ذه القبائل في مناسبات عديدة، فلم تعد اللغة المشتركة لهجة قريش وحدها، بل هي مزيج منسجم من اللهجات العربية، ولنضرب في هذا المقام مثالا توضيحيا فنقول: من الحقائق المعروفة في دراسة اللهجات العربية القديمة أنّ ظاهرة النبر – أي تحقيق الهمز- من الخصائص البدوية التي اشتهرت ا قبائل وسط الجزيرة وشرقيها (تميم وما جاورها)، وأنّ عدم النبر أي تسهيل الهمز أو تخفيفه، صفة حضرية امتازت ا لهجة القبائل في شمال الجزيرة وغربيها (قريش وما جاورها من القبائل الحجازية)، وقد أكّد ذلك "ابن منظور" في الرواية التي أوردها فقال: "قال أبو زيد: أهل الحجاز وهذيل، وأهل مكّة والمدينة لا ينبرون، وقف علينا عيسى بن عمر فقال: ما أخذ من قول تميم إلاّ بالنبر وهم أصحاب النبر، وأهل الحجاز إذا اضطروا نبروا".
يفهم من العبارة السابقة أنّ لهجة تميم تحقّق الهمز ولهجة قريش تسهّلها، وقد أخذت العربية المشتركة تحقيق الهمز من تميم، وأصبحت الخاصّة من العرب مهما اختلفت قبائلهم يلتزمون تحقيق الهمز في الأسلوب الجدّي من القول ، كالشعر أو الخطابة أو النثر، حتى القبائل الحجازية ، فهي وإن كانت في لهجات الخطاب تسهّل الهمز، إلاّ أّا التزمت تحقيقه في الأساليب الأدبية، وهذا هو ما أشارت إليه الرواية، وقولها: "وأهل الحجاز إذا اضطروا نبروا"، وقد عقّب الدكتور "إبراهيم أنيس" على هذه الرواية بقوله: »فليس لهذا الاضطرار من معنى سوى أّم كانوا يهمزون حين يلجأون إلى اللغة النموذجية وفي ا ال الجدّي من القول«.
وخلاصة ما تقدّم أنّ الذين ذهبوا من المحدثين إلى أنّ لهجة قريش هي اللغة العربية المشتركة، قد جانبهم الصواب فيما ذهبوا إليه، فقد اتضح أنّ هذه اللغة ليست لهجة قريش وحدها، ومن أدلة ذلك وجود الهمز في الفصحى، وقريش لامز.
وبناء عليه فإننا نعتقد أنّ الفريق الآخر من المحدثين أكثر توفيقا وأقرب إلى وجهة النظر اللغوية، فقد ذهب هؤلاءإلى أنّ العربية المشتركة مزيج من اللهجات العربية، وهي وإن قامت في مرحلة تكوينها على أساس لهجة قريش، إلاّ أّااستمدّت كثيرا من خصائصها من اللهجات العربية المختلفة، واستمرت على هذا الوجه تنمو وتزدهر إلى أن تكََّ ونَ إطارها العام وأصبح لها كيان مستقلّ، يعيش إلى جانب اللهجات المختلفة، ويصطنع في ا ال الجدّي، بينما نصطنع اللهجات في شؤون الحياة العامة.
وممن اتّجه هذا الاتّجاه الدكتور "إبراهيم أنيس" الذي تناول في حديثه نشأة اللغة العربية المشتركة في مكّة، عندما هيأت لها الظروف والأسباب، حيث يقول: »فكان أن نشأت ا لغة مشتركة أسّست في كثير من صفا ا على لهجة مكّة، ولكنها استمدّت أيضا كثير من صفات اللهجات التي كانت تفد إليها، ثمّ نمت هذه اللغة مع الزمن وتبلورت مسائلها وأصبح لها كيان مستقلّ عن كلّ اللهجات، ثمّ انتشرت مع القبائل والوفود، حتّى انتظمت جميع أنحاء به الجزيرة، وأصبحت اللغة التي ينظم ا الشعراء، ويخطب ا الخطباء، والتي تصطنع في كلّ مجال جدّي من مجالات القول، فهي اللغة الأدبية النموذجية التي كانت محلّ الإعجاب والتقدير من العرب جميعا«.
وعلى هذا الأساس فاللغة المشتركة عنده مزيج منسجم من القواعد والأصول، أخذت مع الزمن هذا الشكل العام، فلا تدّعيها لنفسها قبيلة من القبائل، ولا يقتصر شأ ا على بيئة بعينها من بيئات العرب القدماء.
وقد تمّ تكوينها قبل الإسلام وأصبحت لغة العرب جميعا، وأنزل القرآن الكريم ا ليفهمه جميع الناس في شتّى القبائل العربية، فلا يمثل القرآن لغة قريش وحدها كما يتردّد أحيانا في بعض الكتب والروايات، وإنّما يمثل اللغة المشتركة بين العرب جميعا لغة الأدب من شعر وخطابة وكتابة.
ويستقرئ الدكتور "داود عبده" نصوص العربية الفصحى، فيلاحظ عدم اطّراد قواعدها في بعض الأحيان ،ويسوق الأمثلة على ذلك، ويتّخذ منها دليلا على أنّ الفصحى ليست إلاّ مزيجا من لهجات متعدّدة، فلو كانت لهجة واحدة كما ذهب بعض العلماء لجاءت قواعدها مطردة، يقول الدكتور "داود عبده": »إنّ استقراء النصوص في الفصحى يشير إلى وجود مثل هذه القواعد المتناقضة، وكثير غيرها مما لا يدع مجالا للشكّ في أنّ العربية الفصحى ليست لهجة واحدة، بل مزيجا من اللهجات«.
ويتخذ الدكتور "عبده الراجحي" موقفا يتفق في بعض جوانبه مع ما تقدّم، ويختلف عنه في جوانب أخرى.
فهو حين يستعرض أقوال القدماء، يلاحظ أّ م يجعلون لهجة قريش وحدها هي اللغة العربية المشتركة، وعندما يبحث عن أسباب هذا الحكم، يجد أّا نابعة من تمجيدهم للهجة قريش التي اكتسبت ذلك لكون النبيّ صلى اﷲ عليه وسلم قرشيا، ثمّ ينتقل لمناقشة آراء المحدثين فيرى أّم ساروا في الطريق ذا ا التي سلكها القدماء، ويستشهد بأقوال كثير منهم، فيلاحظ أّا ترديد لأقوال القدماء ولا تستند إلى دليل لغوي.
ويخلص الدكتور "الراجحي" بعد ذلك إلى تقديم رأيه الذي يعتقد فيه أنّ اللغة العربية المشتركة مزيج من اللهجاتالعربية، وفي ذلك يتفق مع بعض المحدثين كما أشرنا، لكنه يختلف عنهم عندما يذهب إلى أنّ هذه اللغة المشتركة لاتنتسب إلى قبيلة بذا ا، لكنها تنتسب إلى العرب جميعا، مادامت النصوص الشعرية والنثرية لا تكاد تختلف فيما بينها ،وهذه النصوص كما يفهم ليست قرشية أو تميمية أو هذلية فقط، بل هي من قبائل مختلفة...، ومع وجود هذه اللغة المشتركة احتفظت اللهجات المختلفة ببعض خصائصها اللهجية، ومع دخول بعض هذه الخصائص إلى اللغة الفصحى نقول: إنّ خصائص لهجة قريش ليست هي الغالبة على غيرها.
وبعد: فمن خلال هذا التجوال في مواقف علماء العربية قديما وحديثا يتضح تباين وجهات نظرهم في تكوين اللغة العربية المشتركة، والرأي الذي يطمئن إليه القلب هو أن اللغة المشتركة مزيج من اللهجات العربية لكننا لا نستطيع الإقرار بأنّ لهجة قريش هي الغالبة في هذا المزيج، فحتّى لو سلمنا بأنّ العربية المشتركة قامت على أساس من لهجة قريش بعد امتزاجها بعناصر من اللهجات الأخرى، فإنه لم يغب عن بالنا بأنّ هذا المزيج بعد تكوّنه، لا ينتسب إلى بيئة لغوية معينة، أضف إلى ذلك أنّ انتشار هذا المزيج يؤدي مع الزمن إلى زيادة الصفات التي يستعيرها من صور اللهجات المحلية، على مرّ الأيام وهذا لا يساعد على غلبة لهجة قريش.
إنّ الحكم الذي ينصّ على أنّ لهجة قريش هي الغالبة في هذا المزيج حكم ترجيحي يعتمد على أقوال الرواة، ولا يستند إلى دليل علمي، ذلك أنه لم تتوفر لدينا نصوص لغوية من لهجة قريش، أو من غيرها من اللهجات العربية قبل تكوين العربية المشتركة، كي نستطيع من خلالها، أن نتبين القدر الذي ساهمت فيه كلّ لهجة من هذه اللهجات في اللغة العربية المشتركة، وطالما أن الأمر على هذا الوجه فإنّ القول بغلبة لهجة قريش يبقى ضربا من الحدس والتخمين.
أمّا القول بأنّ العربية الفصحى مزيج من اللهجات فأمر تشهد به النصوص اللغوية، وهذا هو الجانب الأهمّ من هذه القضية لأنه جانب حيّ وعمليّ .