مدخل مفاهيمي للنظرية النقدية
تعريف النظرية النقدية :
يقصد بالنظرية النقدية تلك النظرية التي كان ينطلق منها رواد مدرسة فرانكفورت في انتقادهم للواقعية الساذجة المباشرة، فالنظرية النقدية تعني نقد النظام الهيجلي، و نقد الاقتصاد السياسي، و النقد الجدلي ، و تهدف إلى إقامة نظرية اجتماعية متعددة المصادر، و المنطلقات كالاستعانة بالماركسية ، و التحليل النفسي، و الاعتماد على البحوث التجريبية، فهي نقض للواقع، و نقد للمجتمع بطريقة سلبية ايجابية، و يعني هذا بشكل اخر أنّ نقد متناقضات المجتمع ليس فعلا سلبيا، بل هو فعل ايجابي في منظور مدرسة فرانكفورت .
جذور النظرية النقدية :
قامت النظرية النقدية على إرث فلسفي قديم يقوم على التشكيك في الواقع، و كان أبرز رواد هذا الإرث سقراط من خلال تشكيكه في المعتقدات السائدة، حيث أخضع اعتقادات راسخة لفترة طويلة للتدقيق العقلاني، و أعمل فكره في مسائل تتجاوز النظام القائم، و قد ظهر هذا الاتجاه الفلسفي الجديد في الفترة ما بين الحربين العالميتين، و قد شن ممثليها حربا على الاستغلال و القمع و الاغتراب التي تنطوي عليها الحضارة الغربية .
تتجاوز النظرية النقدية التفسير و الشرح، و هدفها صنع التغيير، أي أنها تفتح المجال واسع أمام البشر للتخلص من ظروف الهيمنة و القهر في مجتمعاتهم، حيث أنها تنقد المجتمع لأجل التغيير، و بما أنها تدرس الواقع بقصد تغييره، فإنّ أفكار كارل ماركس تعد الانطلاقة الأولى لهذه النظرية، إلا أنّ تأسيسها في إطار مدرسة فلسفية كان مع مدرسة فرانكفورت في ثلاثينيات القرن العشرين، و تعد النظرية إحدى الحركات الفلسفية لما بعد الحداثة كونها تدرس و تنقد المجتمع الحديث .
لقد نمت النظرية النقدية في البوتقة الفكرية الماركسية ، إلا أنّ ممثليها الرواد رفضوا منذ البداية الحتمية الاقتصادية، و النظرية المرحلية للتاريخ، و أي اعتقاد في الانتصار المحتوم الاشتراكية، و كانوا أقل اهتماما بما أطلق عليه ماركس القاعدة الاقتصادية منهم بالبنية الفوقية السياسية و الثقافية للمجتمع، لقد كانت ماركسيتهم مختلفة إلى حد ما، حيث ركزوا على منهجها النقدي أكثر مما ركزوا على ادعاءاتها التنظيمية، و على اهتماماتها بالاغتراب، و على علاقتها المعقدة بأفكار عصر التنوير، و على تشديدها على دور الإيديولوجيا، و على كل الأفكار الأخرى التي يقوم عليها الفكر الماركسي، حيث تشكل هذه المجموعة من المحاور جوهر النظرية النقدية حسبما استوعبها رائدا الماركسية الغربية كارل كورش و جورج لوكاتش، حيث قدم المفكران إطار عمل المشروع النقدي الذي بات يعرف لاحقا بمعهد البحث الاجتماعي أو مدرسة فرانكفورت .
أفكار النظرية النقدية :
ـــــ ترفض النظرية النقدية ربط الحرية بأي تنظيم مؤسسي أو منظومة فكرية محددة .
ليست هذه النظرية بحاجة إلى توظيف ما يعرف بالفلسفة الدائمة، إذ تصر على أنّ التفكير يجب أن يستجيب للمشكلات و الاحتمالات الجديدة للتحرر و التي تنبثق عن تغير الظروف التاريخية
تتسم النظرية النقدية بأنها متعددة التخصصات، و تجريبية في جوهرها على نحو فريد، و مشككة على نحو عميق في التقاليد و المزاعم المطلقة كافة
لا تهتم النظرية فقط بالكيفية التي هي عليها الأمور بالفعل، و إنما أيضا بالكيفية التي يمكن أن تكون الأمور عليها، أو يجب أن تكون عليها، و قد دفع هذا الالتزام الأخلاقي مفكريها الكبار لتطوير مجموعة من الموضوعات و المحاور، و منهج نقدي جديد غير طريقة فهمنا للمجتمع .
و لقد جسد كل من كانط و هيجل الافتراضات العامة للنظرية و المستمدة من عصر التنوير الأوروبي خلال القرنين السابع عشر و الثامن عشر، فقد اعتمدا على العقل لمحاربة الخرافة، و الانحيازو الاستبداد و الممارسات التعسفية من جانب السلطة المؤسسية، كما وضعا افتراضات بشأن الآمال الانسانية التي تعبر عنها الجماليات، و الرغبة في الخلاص التي تنطوي عليها الأديان، و طرق التفكير الحديثة حول العلاقة بين النظرية و التطبيق .
أهداف النظرية :
حسب هوركايمر تهدف النظرية النقدية إلى تحقيق ثلاث مهام :
1. الكشف في كل نظرية عن المصلحة الاجتماعية التي جاءت بها وحددتها، و هنا يتوجه هوركايمر كما فعل ماركس إلى تحقيق الانفصال عن المثالية الألمانية ، و مناقشتها في ضوء المصالح الاجتماعية التي أنتجتها .
2. و تتمثل المهمة الثانية للنظرية النقدية في أن تظل هذه النظرية على وعي يكونها لا تمثل مذهبا خارج التطور الاجتماعي التاريخي، فهي لا تطرح نفسها باعتبارها مبدأ إطلاقيا، أو أنها تعكس أي مبدأ إطلاقي خارج صيرورة الواقع، و المقاس الوحيد الذي تلتزم به هو كونها تعكس مصلحة الأغلبية الاجتماعية في تنظيم علاقات الانتاج بما يحقق تطابق العقل مع الواقع ، و تطابق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة .
3. بينما تتمثل المهمة الثالثة للنظرية في التصدي لمختلف الأشكال اللامعقولة التي حاولت المصالح الطبقية السائدة أن تلبسها للعقل، و أن تؤسس اليقين بها على اعتبار أنها هي التي تجسد العقل، في حين أنّ هذه الأشكال من العقلانية المزيفة ليست سوى أدوات لاستخدام العقل في تدعيم النظم الاجتماعية القائمة، و هو ما أطلق عليه هوركايمر بالعقل الأداتي .