النقد الأسلوبي

النقد الأسلوبي:

يرى الناقد نور الدين السد أن حجم الدراسات التي اهتمت بتحليل أسلوبية الخطاب السردي محدود النماذج، وما هو متوفر من دراسات يوضح "مستويات متباينة في استخدام التحليل الأسلوبي للسرد"([1])، تقارب الخطوات التي ظهرت في الغرب، ولا يعني أنها "صورة طبق الأصل عنها، بل أعيد إنتاجها من جديد بأساليب مختلفة"([2]).

تهدف الأسلوبية المتعلقة بالرواية إلى "تحديد المميزات اللسانية والأسلوبية، وذلك بدراسة وحداته الخارجية المشكلة لعلاميتها من العنوان إلى أخر فقرة في الخطاب، مرورا بدراسة نسيجه اللغوي والأسلوبي وتحديد البنى الزمانية والمكانية فيه"([3])، فأسلوب الرواية هو تكثيف وتجميع لمختلف الأساليب، وما لغتها إلا نسق من اللغات.

أـ اللغـة:

لاقت الكتابة الروائية عند الحبيب السايح اهتمام الكثير من النقاد، نظرا للغتها الاستثنائية، حيث درس الناقد بوطاجين اللغة المسرودة في "ذاك الحنين"، واعتبر لغتها "عدولا مزدوجا الوعي: الوعي الاجتماعي والفني، في وقت كانت فيه الرواية الجزائرية تتخذ من "اللغة وسيلة لتمرير أفكار ورؤى ومواقف وقناعات ظرفية"([4]).        

ذاك الحنين

                              الواقع                           اللغة

                         مادة السرد                 أداة ناقلة          أداة منقولة

                                                                            فعل إبلاغي          هدف السرد

 

يظهر اهتمام الروائي باللغة على حساب الموضوعات المحتملة المستدعاة من المرجعية الواقعية، في وقت خضعت فيه اللغة لقيود الايديولوجيا، التي كان لها أثر في تماهي اللغة الشاعرية، وأصبح مرجعية لإنتاج الألفاظ والمعاني، ما يعتبره الناقد جوهر مشكلة الكتابة في الجزائر، ولتفادي مثل هذه الإشكالات اعتمد الروائي "حفريات اللغة بوصفه البحث الدقيق في الأصول والامتداد وإمكانات استغلال المعجم"([5]).

يتجلى التجديد الأسلوبي والاهتمام باللغة، على مستوى البنية السردية، والأسلوبية والإيقاعية، و"تشغيل الأفعال النادرة والكلمات غير المستهلكة أدبيا تشغيلها سياقيا ووظيفيا، والانتقال من الجذور إلى الفروع أو العكس"([6])، بغرض التجرد من سطوة الكلمة دون تعبيرها عن الواقع، كل هذا يتيحه الانفتاح على مصادر مختلفة (القرآن الكريم، الكتاب المقدس، الشعر العربي)، لتصبح اللغة في خضمه حدث الرواية.

يتمحور الحديث عن اللغة في "تمساخت" - الروائي نفسه- عن "طبيعة التوظيفات السياقية والبلاغية للفظ والجملة، مؤسسا في ذلك على النقطة والفاصلة والتقديم والتأخير، وقلب الصورة والتقليل من حروف الربط وخاصة الواو الذي تم استبداه بالفاء"([7]).

استثارت لغة رواية "التفكك" لرشيد بوجذرة الناقد محمد ساري، بالنظر إلى "ثرائها المستمد من الكلمات القاموسية القديمة، مما جعل الرواية وأسلوبها الملولب المتداخل الذي ينقل من مصف موقف إلى موقف مختلف تماما، دون توقف أو استهلال أو إشارة صعبة القراءة، وموجهة إلى القارئ المتمرس"([8])، ويبدي الناقد حسين خمري إعجابه ببعض كلمات رواية "ليليات امرأة أرق" للروائي رشيد بوجذرة، إذ "يبحث في أصول ومترادفات الكلمة محاولا البحث عن طفولتها الأولى وعن ظلالها الأسطورية"([9]) .

تميز اللغة بأنظمتها بين ما هو لغوي وإخباري، ولغة السرد بهذا التصور فعالية لتثبيت المعنى، وجهاز تمارس به الحكاية سلطتها، تعلو بها سلطة الكلمة عن أي سلطة أخرى ، وإذا كانت "وظيفة اللغة في القص هي اللغة بحد ذاتها؛ أي التركيز على اللغة بصفتها مولدة لعالم شعري"([10])، والتي تختلف عنها في التاريخ؛ وظيفة وتركيزا على الحدث، في حين تغلب على الخطاب القصصي الوظيفة الوجدانية والتأثرية والشعرية.

ركزت اللغة في "صوت الكهف" – حسب الناقد محمد تحريشي- على الحدث،  وهيمنت على المكونات الأخرى، من خلال طابعها الشعري المنتج، الذي استدعى نصوص غائبة (القرآن، النص الشعبي والخرافي)، وتخفف الحوار من الفصحى ليسمح "لبنية لغوية أخرى من مد النص بطاقة تعبيرية"([11])، وتداعيات تشعر القارئ بالمتعة، نظرا لما تحمله من تنويعات لغوية، تدعو القارئ لمشاركة فعالة في إنتاج النص، متجاوزا بذلك نمطية الكتابة في السبعينات التي ركزت على المضامين.

 تحاور اللغة في النص؛ "اللغة باللغة من أجل اللغة التي تحقق أدبية النص، وترتقي به إلى مستوى من الجمال والفن، والإضافة الجديدة التي قدمها الروائي حسب الناقد الاحتفال باللغة تجريبا وممارسة وإبداعا"([12]).

 

ب ـ الحوارية والمناجاتية:

يتخذ كل خطاب ايديولوجي من اللغة مادة وشكلا له، ينتج بالمقابل انفتاحا للرواية على "سائر اللغات واحتواءها مختلف الملفوظات والمواقف والأصوات، والخطابات"([13])؛ بمعنى أن الرواية مرادف للتنوع الاجتماعي للغات، والأصوات الفردية ببعدها الأدبي المنظم، تتمازج فيه لغة السارد بلغات شخصياته، أو لغة النوع الروائي عامة بلغة أنواع أدبية أخرى، علما بأن خصائص كل لغة هي "تجليات وعي فكر وايديولوجية قبل أن تكون مجرد تنويعات صنفية على اللغة ذاتها"([14])، وتمتاز الرواية حسب  ميخائيل باختين بتعدد اللغات والأصوات، وتفاعل الكلام والخطابات والنصوص، ضمن سياقات المجتمعات الحديثة القائمة على أنقاض قطائع اجتماعية وإبستمولوجية مع مجتمعات القرون الوسطى"([15])، يعني ذلك أن الرواية خطاب متشعب المرجعيات، متعدد الصوت والأسلوب، لغته تجمع لغات مختلفة، وتمزج بين بنيات لسانية متنوعة لها وحداتها الأسلوبية المتعددة.

إن الرواية في نظر باختين، هي أولا وقبل كل شيء مصب لمجموعة مختلفة، ومتعددة من الأساليب والألسن والأصوات، ولغتها لغة مركبة؛ أي خطاب متنوع وثنائي الصوت، يضم مختلف الأجناس التعبيرية، ورموز لمنظورات منظمة وفق نسق معين، وتسهم في تكوين صورة اللغة ثلاثة أصناف([16]) هي:

1 ـ الحوار الخالص الصريح 2  ـ التهجين 3 ـ تعالق اللغات والملفوظات.

والتي يتفرع منها: التنويع والأسلبة، والبارودية.

تعد الحوارية عند باختين من المفاهيم التي أثرت تأثيرا قويا في مناهج دراسة الرواية المعاصرة، واسهمت في تغيير ملامح الشكل الروائي؛ لأنها "تنطلق من رفض النظرة الأحادية في الإبداع والنقد بالنظر إلى النص الأدبي، والاعتراف بالأصوات والأفكار التي "يجري وضع بعضها في مواجهة البعض الآخر"([17]).

حاول الناقد عبد الملك مرتاض "أن يؤسس الحوارية بنفس الآليات التي تحدث عنها باختين، وذلك في إطار لغة عربية فصيحة توحي بالانسجام، والوحدة في الوقت الذي تقوم فيه على التعدد"([18])، في حين اعتبر باختين الرواية فضاء للتنوع الاجتماعي للغات، وتعدد وتنوع الأصوات والملفوظات والمواقف المتصارعة، ومن ثمة لم تعد اللغة هي النسق الثابت، والتي لا تعكس قصدية المؤلف بقدر ما تكشف عن أنماط العلاقات بين الشخصيات.

 وعليه، فالرواية جنس مفتوح يستوعب خطابات الآخرين، اعتمادا على طرائق مختلفة؛ كالتعدد اللغوي المشخص لتعدد الملفوظات، والمستحضر لخطاب الآخر، والذي يفيد في استقطاب تعبير الكتاب عن نواياهم، ويجعلها تعبيرا غير مباشر، ويحول الرواية إلى خطاب ثنائي يتجسد من خلال توظيف خطابات الغير توظيفا مغايرا، كالمحاكاة الساخرة والتناص والتهجين، والأسلبة .

اقتربت الناقدة آمنة بلعلى في رواية "ذاك الحنين" من التشكيل اللغوي المتنوع ليس بالنسبة لمؤلفها، الذي كتب "زمن النمرود" التي مثلت بها لطبيعة المتخيل في رواية السبعينات وبداية الثمانينات، ولكن بالنسبة للرواية الجزائرية التي اتخذت الحوارية في هذه الرواية بعدا انطولوجيا، فالرواية القائمة على الحوارية والتنوع، تمنح المؤلف حرية التعامل مع شخصياته، وهو ما لا تتيحه الرواية المونولوجية، باعتبار أن الشخصيات داخل الرواية تتجادل فيما بينها من منطلق تعدد الأصوات، التي يمكن بها رصد مظاهر التعدد اللغوي، حيث تصلنا الرواية في إطارها العام بصوت سارد من الدرجة الأولى (خارج حكائي).

       تبدو رواية "ذاك الحنين"- حسب الناقدة - متخفية بصورة تهجينية، ويقصد بالتهجين "مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد، وهو أيضا التقاء وعيين لغويين مفصولين بحقبة زمنية، وبفارق اجتماعي، أو بهما معا، داخل ساحة ذلك الملفوظ ولابد أن يكون قصديا"([19])، إذ "يقدم شخصية بوحباكة وعيه، من خلال تلك المقالة التي كتبها في قهوة الزلط، ليصبح الحديث عن الديباجة في كل مرة إشارة واضحة إلى طبيعة التركيب الهجين" ([20])، وتلاحظ الناقدة وعيين في هذا التركيب الهجين؛ الأول: "وعي الناس الذين أشاعوا عن بوحباكة، ووعيه هو نفسه (...)، يساهم في إشاعة جو الخارقة من جهة، ومن جهة أخرى يساهم في بناء البطاقة الدلالية لهذا الرجل وتميز وعيه"([21])، ويتضح أيضا في شخصية حمو القط المتفسخة أخلاقيا.

أما رواية " نهاية الأمس" للروائي عبد الحميد بن هدوقة، فهي حسب الناقد عمرو عيلان، رواية مونولوجية تسعى لتأكيد وعي واحد، يعتقد امتلاكه الحقيقة المطلقة، ولا يعترف إلا بصوت واحد هو صوته، "فالفكرة إما أن تؤكد وإما أن ترفض"([22])، ومن هنا، فإننا نجد بمقابل تأكيد فكرة البطل رفضا للأفكار الأخرى.

 يتمظهر هذا الرفض في أشكال مختلفة منها: الرفض الجدالي حيث تطرح الأفكار الأخرى، وتواجه ببعضها في "سياق حوار يقيمه بين المتكلمين الحاملين للأفكار، وضمن هذا المنظور نجد جملة من المواقف الكلامية الحوارية التي تقابلت فيها أيديولوجية الرفض مع الأيديولوجية النفعية"([23])، لتزيد من قدرة التأثير في المتلقي الذي يواجه وعيين مختلفين، يسعى كل منهما للتأثير فيه، وبذلك فإن "موقفا كلاميا تنطق به الشخصيات يحيل إلى خلفية أيديولوجية وخلفية اجتماعية"([24])، تظهر في الرواية  بين "البشير وابن الصخري حول أفكار البشير لفتح المدرسة وجلب الماء لها، ويتعدى إلى قضايا ملكية الأرض والإصلاح الزراعي، فيعبر كل طرف عن قناعاته وأفكاره وتصوراته المنطلقة من موقفه الأيديولوجي"([25])؛ فالبشير واجه فكرة الأيديولوجية النفعية، ولم يقبل بإغراءاتها وقاومها، ما دفع الصخري إلى اتخاذ موقف متطرف منه.

 إن الخطاب الخاص باللغات المتحاورة في الرواية، يجسد الصراع الأيديولوجي وتصارع القيم في الواقع الاجتماعي؛ لأن وعي الفرد لا يمكنه أن يكون منفصلا عن الوعي الاجتماعي، وهدف استحضار أيديولوجية الرفض "إظهار سذاجته وبساطته وعدم قدرته على استيعاب العناصر الفعلية لحركة الفعل الاجتماعي"([26])، مع أن الرواية تحيلنا على بعض المواقف الحوارية كما يظهر بين البشير، وابن الصخري، والبشير وبوغرارة، والبشير وإمام المسجد.

 

 

 



[1] - السد، نور الدين. تحليل الخطاب السردي، مجلة آمال، ع63، وزارة الثقافة، الجزائر، 1995، ص:73.

[2] - المرجع نفسه، ص: ن.

[3] - المرجع نفسه، ص: 74.

[4] - بوطاجين، السعيد. السرد ووهم المرجع، ص:43.

[5] - المرجع السابق، ص:46.

[6] - المرجع نفسه، ص:49.

[7] - أنظر: المرجع نفسه، ص: 62.

[8] - ساري، محمد. الأدب والمجتمع، ص:92.

[9] - خمري، حسين. فضاء المتخيل، ص:32.

[10] - المرجع السابق، ص:83.

[11] - المرجع نفسه، ص:30.

[12] - المرجع نفسه، ص:23.

[13] - قصوري إدريس. أسلوبية الرواية. ط1. علم الكتاب الحديث، إربد، الأردن، 2008 ، ص:290.

[14] - المرجع نفسه، ص:361.

[15] - باختين، ميخائيل. الخطاب الروائي. ط2. تر/ محمد برادة. دار الأمان، الرباط، 1987،(مقدمة)، ص:03.                                        

[16] - أنظر: المرجع نفسه، ص:13.

[17] - باختين، ميخائيل. شعرية دوستوفسكي، ص:59.

[18] - بلعلى، آمنة. المتخيل في الرواية الجزائرية، ص:88.

[19] - باختين، ميخائيل. الخطاب الروائي، ص:24.

[20] - بلعلى، آمنة. المتخيل في الرواية الجزائرية، ص:96.

[21] - المرجع نفسه، ص:97 .

[22] - باختين، ميخائيل. شعرية دوستوفسكي، ص: 113 .

[23] - عيلان، عمرو. الايديولوجيا وبنية الخطاب الروائي. جامعة منتوري، قسنطينة، 2001، ص:174.

[24] - المرجع نفسه، ص:175.

[25] - المرجع نفسه، ص: ن.

[26] - المرجع نفسه، ص:176.



Modifié le: lundi 11 janvier 2021, 15:12