المحاضرة رقم 06: العوامل المؤثرة في العاقات الدولية: المؤثرات المادية

تمهيـــــــــــد:

انطلقت الدراسات التقليدية، من تفسيرات فلسفية للعلاقات الدولية، تُفسر من خلالها التفاعلات الدولية، استناداً إلى عوامل مُسلّم بتأثيرها، على غرار الطبيعة الإنسانية، المصالح الوطنية...إلخ. غير أن الاتجاهات الحديثة، وبتأثير من الاستعانة بمخرجات ونتائج العلوم الأخرى، حولت إبراز أثر محتمل لعوامل موضوعية أخرى. ويتعلق الأمر بمجموعة من العوامل غير المادية (الأيديولوجيا، العوامل الشخصية، النظام الدولي...إلخ)، ومجموعة أخرى من العوامل المادية (العوامل الجغرافية، العوامل المادية، القوة العسكرية...إلخ). وهي العوامل التي يخضع تأثيرها للقياس، سواءً باستعمال ميكانيزمات القياس الكمي، أو مناهج قياس الأثر المعتمدة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

رغم الاتفاق النسبي حول وجود أثر للعوامل المادية، في رسم الصورة العامة للعلاقات الدولية، إلا أن الاختلاف سرعان ما ينشأ حول قياس درجة هذا التأثير. فحتى في حالة الاتفاق حول الدور الذي مارسته الجغرافيا -مثلاً-، إلا أن الجدل مازال يدور حول الدور الذي يُمكن أن يُمارسه هذا العامل، في ظل تأثيرات الثورة في الشؤون العسكرية، والثورات المتلاحقة في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات. وينطبق ذك بدرجات متفاوتة، على مختلف العوامل المادية، التي يُفترض فيها ممارسة دور ما في العلاقات الدولية. وسنحاول في هذا الصدد، الإجابة على تساؤل أساسي، يستند إلى محاولة قياس التأثير الفعلي الذي تُمارسه العوامل المادية، في تحديد شكل ومضمون العلاقات الدولية وتفاعلاتها. فهل يُمكن تُمارس العوامل المادية دوراً مُحدداً لطبيعة العلاقات الدولية، أم أنها مجرد متغير تابع للأثر الذي تُنتجه طبيعة الفواعل والعلاقة بين مصالحها الوطنية؟      

وسيتم ذلك، من خلال تحليل التأثير، الذي تُمارسه العوامل المادية المختلفة، والتي يُمكن حصرها في: العوامل الجغرافية، العوامل الديمغرافية، العوامل الاقتصادية والعوامل العسكرية.    

أولاً: العوامل/المحددات الجغرافية:

لعبت المحددات الجغرافية منذ ما قبل عهد الدولة القومية، دوراً اساسياً في تحديد طبيعة وأهداف السياسة الخارجية، كذلك في تحديد مركز الدولة، سواءً المستوى المحلي/الإقليمي أو الدولي. كما ركزّت جل الدراسات التي ظهرت في مرحلة ما بين الحربين وما بعد الحرب العالمية الثانية، على دور/أثر المتغيرات الجغرافية، في موازين القوى والسياسة الخارجية، في إطار ما عُرِف بالجغرافيا السياسية. فقد ارتبطت السياسات الدفاعية، الغزوات وحركات الهجرة البشرية، وخطوط التجارة الدولية عبر التاريخ، بقدرة الإنسان والدولة، على التعامل مع القيود والعوامل الجغرافية.

تُمارس الجغرافيا عبر التاريخ تأثيرها على العلاقات الدولية، من خلال التأثير على حركات الهجرة البشرية، وبشكل خاص التأثير على الخيارات المتاحة أمام الجماعات والأفراد. فدون إهمال دور عوامل أخرى، سواءً كانت مادية أو غير مادية، فإن القرب الجغرافي يُمارس دوراً حيوياً، في تحديد حركات الهجرة واتجاهاتها. وبعلاقة متعدية تُحدد الجغرافيا، حجم التحديات الأمنية التي تواجهها دول معينة، انطلاقاً من قربها أو بعدها عن الأقاليم، التي تُشكل منطقة انطلاق أو عبور اللاجئين. ويُمكن انطلاقاً من ذلك، ملاحظة الأعداد الهائلة للمهاجرين وبطرق مختلفة، من إفريقيا نحو جنوب أوروبا بشكل خاص، كمنطقة وصول أساسية. وفي المقابل يُمكن إهمال عدد المهاجرين الأفارقة، المتوجهين بطرق مختلفة، نحو القارة الآسيوية، أو أمريكا الجنوبية بسبب بعد المسافة، وما ينتج عنها من ارتفاع التكاليف وزيادة المخاطر، خاصةً فيما يتعلق بعمليات الهجرة غير الشرعية.

تُمارس الهجرة بشكل عام، والهجرة غير الشرعية بشكل خاص، تأثيرها نتيجة لذلك على الدول الأوروبية، أكثر من غيرها من الدول والأقاليم. فالقرب من مناطق الانطلاق (إفريقيا بشكل عام)، ومناطق العبور (شمال إفريقيا)، يجعلها تتبنى سياسات خاصة بالأمن الوطني، مراقبة الحدود، وحتى سياسات الهجرة في حد ذاتها. ولهذا يُمكن ملاحظة القيود التي وضعها الاتحاد الأوروبي، على فضاء التنقل الحر، المعروف بفضاء شنغن، نتيجة لاستغلاله من طرف المنظمات المتحكمة في نقل المهاجرين غير الشرعيين. فقد أعادة بعض الدول وضع نقاط المراقبة الحدودية، بعد أن كانت قد تمت إزالتها نهائياً، تماشياً مع ترتيبات إنشاء فضاء حرية التنقل (شنغن).

يمتد أثر الجغرافيا إلى أحد أهم المواضيع في العلاقات الدولية المعاصرة، ويتعلق الأمر بخطوط نقل وتدفق الإمدادات الطاقوية. فالكثير من خطوط النقل والإمداد، تتماشى بشكل متوازي مع انتشار مناطق النزاع، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط، منطقة القوقاز...إلخ. فقد كانت خطوط نقل الغاز الروسي نحو أوروبا، محل تجاذبات جيوبوليتيكية، وآلية فعّالة للتأثير في مواقف الدول الأخرى، أو إجبارها على تبني مواقف مغايرة. فقد حاولت روسيا التأثير على مواقف أوروبا من أكرانيا شتاء سنة 2005، بوقف تزويدها بالغاز الطبيعي، ما أجبرها على استهلاك جزء من الحصة الأوروبية. إضافةً إلى إنشاء أنبوب السيل الشمالي 1 و2، سنتي 2011 و2021، والذي يربط روسيا مباشرة بألمانيا، وهو ما أثار توتراً بين ألمانيا وبقية أعضاء الاتحاد الأوروبي. وجاءت قدرة روسيا على التأثير في العلاقات الروسية الأوروبية من جهة، والعلاقات الأوروبية-الأوروبية من جهة ثانية، بسبب عامل القرب الجغرافي بين روسيا وألمانيا، من جهة بحر البلطيق.

وينطبق نفس الوضع على التوتر حول التهديدات الإيرانية لخطوط النقل لبعض دول الخليج العربي، مثل الإمارات العربية المتحدة، قطر...إلخ، بسبب التهديدات المتكررة بإغلاق مضيق هرمز. وهو ما جعل هذه الدول تُفكر في حلول بديلة، توفرها الخصائص الجغرافية لمنطقة الجزيرة العربية، مثل الإمارات التي زادت من اعتمادها على خطوط الأنابيب، لنقل منتجاتها لبترولية والغازية عبر الأنابيب إلى ميناء الفجيرة، البعيد نسبياً عن المضيق. بينما تُحاول قطر بتأثير من التهديدات الإيرانية، المحافظة على علاقات بعيدة عن التوتر مع إيران، وعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، لضمان تقليص آثار تنفيذ إيران لتهديداتها.

   يظهر تأثير الجغرافيا كذلك في التفاعلات الإقليمية، بشكل خاص تلك المرتبطة بالتكامل والاندماج الإقليميين، حيث تزيد فرص إدراك الفرص والمنافع المشتركة، الناجمة عن التقارب الجغرافي. فهذا العامل يضمن فعالية ومردودية الترتيبات المحتملة، في مجالات السوق الداخلية المشتركة، تدابير حرية التنقل والمبادرة، إضافة إلى تقليص كلفة الاستثمار والتسويق. دون إغفال الفرص في مجال التنسيق الأمني والدفاعي، حيث سيكون من السهل استغلال البنية التحية، والقدرات العسكرية للدول الأعضاء، في مجال التدخل في الحالات الطارئة، سواءً تعلق الأمر بالاستجابة للعدوان الخارجي، أو في الحالات الطارئة مثل الكوارث الطبيعية، والحوادث الكبرى. فاستجابة فرق الطوارئ الجزائرية، للكوارث الطبيعية في كل من تونس سنة 2022، وليبيا سنة 2023، كانت أسرع مقارنة لاستجابتها للكارثة الطبيعية في سوريا وتركيا سنة 2023.

أخيراً تذهب بعض الآراء إلى أن دور المتغير الجغرافي في العلاقات الدولية، قد تراجع بشكل كبير بسبب الثورات المتلاحقة في المجالات التكنولوجية، خاصة التكنولوجيات العسكرية (الثورة في الشؤون العسكرية RAM). إلا أن هذه المتغيرات مازالت تلعب دوراً مهماً، كعامل مؤثر في العلاقات الدولية. حيث تميل الدول لزيادة التعاون مع الدول القريبة جغرافياً، أكثر من الدول البعيدة نسبياً، وهذا يعتمد كذلك على طبيعة الأهداف والإمكانات. لذلك فقد اتجهت الدول نحو التعاون الإقليمي، نظراً لما توفره عوامل القرب الجغرافي من ميزات، مقابل التعاون العالمي والذي يقترب إلى المثالية/الخطاب، أكثر من كونه توجهاً عملياً في السياسة الخارجية للدول، والعلاقات الدولية بشكل عام.      

ثانيًا: العوامل/المحددات السكانية والديمغرافية:

تظهر القوة السكانية والديمغرافية عادةً، في شكل إحصائيات سنوية النمو السكان الوطني والعالمي، وهو ما يُعطي بعض المؤشرات عن المستوى المعيشي، والعادات والمعتقدات الدينية والثقافية، التي من شأنها التأثير على عدد السكان. غير أن تأثير السكان في العلاقات الدولية، لا يتوقف فقط على البعد العددي، بل يمتد إلى الخصائص الهندسية، مثل مستويات التعليم السائدة، طبيعة الرعاية الصحية التي يتمتع بها السكان، وقدرة القوة البشرية على تلبية الحاجات العامة للدولة، في المجالات الاقتصادية والعسكرية...إلخ. وانطلاقاً من هذه الأبعاد، فإن تأثير العامل السكاني في التفاعلات الدولية، قد يأخذ مسارات متعددة، حيث يُمكن أن تُوفر للدولة إمكانيات القوة والتأثير. كما يُمكن أن تكون في حالات أخرى، عبئ على السياسات الاجتماعية والاقتصادية، على المستويين الوطني، الإقليمي والعالمي. مثلما يظهر في حالات سوء التغذية، وانتشار الأمراض، ومعضلة الجريمة والمخدرات، التي تُعاني منها بعض الدول، وتحتاج إلى دعم مالي من الدول والمنظمات الدولية.

تظهر تأثيرات العوامل الديمغرافية في العلاقات الدولية، من خلال الفرص التي توفرها للدولة، كأحد عناصر القوة، التي لطالما تم إهمالها من طرف الاتجاهات التقليدية. فرغم التطور التكنولوجي الكبير في الشؤون العسكرية، مازال بناء القوات المسلحة الوطنية، على الأقل في بعدها التقليدي، يعتمد على توفر الموارد البشرية الكافية. لذلك فإن قوة بعض الجيوش الوطنية في العلاقات الدولية الحالية، مستمد من عدد الأفراد العاملين والاحتياطيين، على غرار القوات المسلحة الصينية، المكونة من أكثر من 2 مليون جندي عامل، دون احتساب قوات الاحتياط. وقد لا تظهر أهمية عدد الأفراد في أوقات السلام، لكنها يُمكن أن تكون أحد عوائق تحقيق الأهداف السياسية والعسكرية، في حالة عجز الدولة عن تعويض خسائرها البشرية في الحرب. فروسيا خلال حربها مع أكرانيا منذ 2022، أصبحت تجد صعوبة في تجنيد مزيد من القوات، لذلك فقد لجأت إلى عمليات التعاقد مع قدماء المحاربين في الجيش الروسي (جنود وضباط متقاعدين)، إضافة إلى التعاقد مع الأجانب، وجعل الخدمة في الجيش الروسي أحد شروط الحصول على الجنسية الروسية. إضافةً إلى تبني هدف زيادة القوة البشرية، القادرة على تحمل أعباء الخدمة العسكرية، من خلال تشجيع الشباب في روسيا على الزواج والإنجاب.

تُشكل القوة البشرية كذلك قوة عمل، يعتمد عليها الاقتصاد، وبشكل خاص الصناعة، على المستويين الداخلي والخارجي. فبعض الدول تتميز بتعداد سكاني كبير، يسمح لها باستغلال تلك الأعداد في الأنشطة الاقتصادية على المستوى المحلي، أو تصديرها إلى الخارج، والاستفادة من عائدات التحويلات المالية. فانخفاض تكاليف العمل (أجور اليد العاملة)، يُعتبر من بين أهم أسباب ما يُعرف باسم "هجرة المناصب"، حيث تستقطب الصين استثمارات صناعية كبيرة، بسبب رغبة الشركات الكبرى في تخفيض تكاليف العمل. وقد تمكنت الصين، من ممارسة تأثير كبير على البيئة الداخلية في الولايات المتحدة، وبعض دول أوروبا الغربية، من رفض هذه الدول تقديم دعم مالي لشركاتها، مادامت قد حولت منطقة نشاطها إلى الصين. وعليه فإن سياسة الاستقطاب التي مارستها الصين، من خلال اليد العاملة منخفضة التكاليف، قد مارست تأثيرها الناعم، على الدول المنافسة لها سياسياً واقتصادياً، دون الحاجة إلى استعمال القبضة الحديدية.

لا يتوقف دور القوة الديمغرافية في الاقتصاد، عند حدود توفير اليد العاملة لمختلف الأنشطة الإنتاجية، بل يوفر كذلك القدرة على تشكيل الأسواق الداخلية. فدول مثل الصين والهند، يُمكنها تقليص آثار المنافسة جزئياً على المستوى الخارجي، من خلال التوجه نحو الأسواق الداخلية، كعامل مساعد للأسواق الخارجية. وبالتالي يُمكن تفادي مخاطر المنافسة الخارجية، والتي يُمكن أن تؤدي إلى الكساد، وبالتالي تكبد المنتجين لخسائر كبيرة، وهو ما يُمكن تخفيف آثاره بتحويل المنتجات جزئياً أو كلياً نحو المستهلك المحلي. ويشمل ذلك قدرة الدولة ليس فقط تقليص الخسائر الناجمة عن المنافسة، بل كذلك تقليص آثار العقوبات الاقتصادية، وحالات الحروب التجارية.

تجدر الإشارة إلى أن القوة السكانية للدولة، لا تُمارس تأثيرها بشكل آلي على قدرات الدولة، بل تحتاج إلى استراتيجية لتنمية وإدارة هذه الموارد. فالكثير من الدول في أوروبا الغربية، لم تأخذ بالاعتبار تطور حالة المجتمع، ونتيجةً لذلك فقد أصيبت بالشيخوخة، مع تحسن الحالة الصحية والاجتماعية، في مقابل عدم وجود مسار لتجديد القوة البشرية. فدولة مثل ألمانيا التي تجاوزت 90 مليون نسمة، تقل فيها نسبة الشباب عن الـ10%. لذلك فقد كانت ألمانيا من بين أكثر دول الاتحاد الأوروبي استقبالا للاجئين، وهو ما تسبب في توترات سياسية داخلية، سمحت بصعود شعبية اليمين المتطرف، ممثلاً في حزب البديل، الذي تبنى خطاب معادي للمهاجرين.

تتأثر العلاقات الدولية كذلك، بغياب سياسات سكانية رشيدة، تأخذ بالاعتبار خلق حالة انسجام، بين الموارد السكانية والموارد الاقتصادية المتاحة. فالعلاقات الدولية المعاصرة، تشهد تكريساً واضحاً للنظرية المالتوسية، حيث تعجز الكثير من الدول، عن توفير الحاجات الأساسية للسكان. حيث تنخفض مستويات ونوعية الرعية الصحية، تراجع مستوى النظام التعليمي، وكذلك عدم القدرة على توفير المؤونة المتوازنة، وفق النسب الموصى بها صحياً، وبالتالي انتشار سوء التغذية، وانتشار الأمراض المرتبطة بسوء النظام الغذائي. وينعكس ذلك على حالة الاستقرار السياسي الداخلي، كما تمتد آثاره لتشمل زيادة وتيرة الهجرة بمختلف أوجهها، وهو ما يُهدد بنقل المشكلات الداخلية مع جماعات المهاجرين.

وقد دفعت هذه الوضعية، إلى وضع العديد من البرامج، على المستوى الوطني، أو متعدد الأطراف والعالمي، على غرار برامج الأمم المتحدة. غير أن هذه المشكلات تتقاطع مع عدم وجود رغبة سياسية لدى الكثير من الدول، للانخراط في المساعي الدولية لتقديم مساعدات مادية. سواءً كان ذلك بسبب تراجع الأوضاع الاقتصادية في الكثير من الدول، أو تصاعد خطاب سياسي يعتبر أن الأولوية في الاهتمام بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، بدل الانخراط في المساعي الدولية.

يُمكن القول انطلاقاً من ذلك أن القوة الديمغرافية، توفر الكثير من فرص التأثير للدول، في إطار آليات تنفيذ سياساتها الخارجية، بشرط وجود استراتيجية وطنية واضحة، لتطوير القوة السكانية، سواءً من حيث التعداد، أو توفي الخصائص الضرورية للاستفادة من هذه الإمكانيات. فعدم وجود إدارة لهذه الموارد، إضافةً إلى الشعور بالتهميش وغياب العدالة في توزيع الأعباء والمكاسب، يجعل من القوة الديمغرافية تهديداً للأمن الوطني، أكثر من كونها مصدر قوة. أما على المستوى الدولي، فقد تحولت القوة السكانية، إلى أحد القضايا الأساسية في العلاقات الدولية، سواءً على مستوى السياسات العالمية، أو على مستوى الدراسات النظرية. لذلك عادةً ما تكون هذه المسألة حاضرة على مستوى الخطاب السياسي، والبرامج الاجتماعية على مستوى العلاقات الثنائية، متعددة الأطراف وعلى المستوى العالمي.  

ثالثًا: العوامل/المحددات الاقتصادية:

بدأ الاهتمام بتأثير العوامل الاقتصادية في العلاقات الدولية، خلال مرحلة الستينات من القرن الـ20، إثر بداية تشكيل كتلة العالم الثالث، وزيادة الاهتمام بقضايا التنمية الاقتصادية، وتأثيرات النمط الكولونيالي للاقتصادات الجديدة. إضافةً إلى زيادة تأثير الشركات الكبرى، والتي بدأ تأثيرها يظهر بشكل متزايد في مجال الصناعات النفطية، ثم توسع ليشمل جميع المجالات الاقتصادية. ثم انتقل الاهتمام إلى تأثير توزيع الموارد، والتنافس التجاري بين القوى الأساسية، إضافةً إلى تزايد أهمية الإجراءات والسياسات الاقتصادية، كجزء من آليات السياسات الخارجية الوطنية.

تُشكل الموارد الطبيعية بمختلف أشكالها، أحد أهم المؤثرات على التفاعلات الدولية، انطلاقاً من الدور الذي تمارسه خلال فترات السلام، التوتر والنزاع. فالدول تلجأ حسب الحاجة، إلى استعمال مواردها الطبيعية، خاصة تلك المتعلقة بمجال الطاقة، من أجل التأثير على السياسة الخارجية للدول الأخرى. وعادةً ما يتم ذلك من خلال التأثير السلبي أو الإيجابي، الذي تُمارسه على الأمن الطاقوي للمستهلكين، أي من خلال الضغط أو من خلال تقديم مزايا، أو ضمان تدفق الموارد الطبيعية والطاقوية بشكل منتظم، بحيث يتم ضمان استقرار الأسواق. فقد أدارت روسيا علاقاتها مع القارة الأوروبية، من خلال التحكم في تدفق الموارد الغازية إليها، وحتى عند تخلي أوروبا عن الغاز الروسي، فإنها تبذل جهوداً كبيرة وبتكاليف عالية، من أجل تعويض روسيا بموردين آخرين. حيث ترفض الجزائر زيادة حصتها من السوق الأوروبي، بينما يُعتبر الغز الصخري الأمريكي أكثر كلفة من الغاز الروسي، في حين تواجه خيارات التوجه نحو الطاقة النووية، معارضة داخلية على المستوى الأوروبي.

يُضاف إلى الموارد الطاقوية، العلاقات التجارية كأحد وسائل تنفيذ السياسة الخارجية للدول الكبرى، حيث تنشأ دورياً حالات الحروب التجارية، مثل حرب الموز، وحرب الحديد الصلب. وعادةً ما يكون ذلك بسبب عدم توازن الميزان التجاري، أو بسبب المنافسة التجارية الشرسة، بين الدول والقوى التجارية الرئيسية، على غرار الصين، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويكون ذلك من خلال الإجراءات المتبادلة، لحماية المنتجات المحلية، عن طريق فرض الرسوم الإضافية على سلع معينة، بهدف التأثير على سعرها وقدرتها على التنافس في الأسواق. وقد توجهت الولايات المتحدة، إلى فرض رسوم إضافية على المنتجات الصينية والأوروبية، ورداً على ذلك فقد توجه الاتحاد الأوروبي نحو المفاوضات، بينما توجهت الصين إلى انتهاج سياسة المعاملة بالمثل.

لا يتوقف تأثير الاقتصاد في العلاقات الدولية، على الضغط والحروب التجارية، بل يُمكن أن يكون أساساً للتعاون متعدد الأطراف، والذي يُمكن أن يتوسع من حيث الأطراف والمجالات، إلى كيان يُمكنه ممارسة التأثير في العلاقات الدولية. وتنطلق مسارات التعاون عادةً من قطاعات اقتصادية محددة، يُمكن أن تنشأ حولها هيئات تنظيمية، تتمتع بقدر من الصلاحيات. ويتعلق الأمر بأنشطة إنتاجية معينة، على غرار الفحم والحديد الصلب في حالة المجموعة الأوروبية، أو يأخذ شكل التنسيق في السياسات والقرارات الاقتصادية الكبرى على غرار مجموعة البريكس BRICS. ففي كل الحالات يُمكن للتعاون المؤسس على قواعد صحيحة، أن يُفضي إلى تنسيق متفاوت من حيث العمق، في المجالات السياسية العليا، مثل السياسات المالية والنقدية، وحتى المواقف الدولية، وصولاً إلى سياسة خارجية مشتركة. وقد يُفضي ذلك إلى التأثير على هيكل النظام الدولي، من خلال إدخال قدر أكبر من المرونة، على توزيع الأدوار القائم في فترة زمنية محددة.

وأخيراً فإن وفرة الموارد الاقتصادية، قد تكون قاعدة انطلاق صلبة للسياسات الخارجية الوطنية، من خلال ضمان قدرة الدولة على تمويل الإجراءات التي ترغب في اتخاذها دفاعاً عن مصالحها الوطنية. فعادةً ما تقع هذه الإجراءات ضمن ثنائية الوعد والوعيد، حيث يكون الأول مكلفاً عندما ينجح في تحقيق أهدافه، بينما يكون الثاني مكلفاً عندما يفشل في تحقيق أهدافه. وعليه فإن وفرة الموارد الاقتصادية، وتوفر الحرية النسبية للدولة في إدارتها، يُمكن أن يمنحها هامشاً واسعاً نسبياً للتحرك والمناورة على الساحة الدولية. فقدرة روسيا على تجاوز العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية، من خلال مجوعة من الإجراءات الاقتصادية المضادة، سمح لها باستمرار أعمالها العسكرية، والبحث عن موقع أفضل أثناء محاولات التسوية المحتملة. في حين تقلص هامش الحرية الذي يتمتع به الاتحاد الأوروبي، بسبب الأوضاع الاقتصادية للكثير من القوى الأوروبية الأساسية، جعلها غير قادرة على مواصلة فر تصوراتها على روسيا والولايات المتحدة، وبالتالي زادت تبعيتها للمواقف الأمريكية، وتضاءلت قدراتها على ضمان استمرارية دعم المواقف الأكرانية، سياسياً، اقتصادياً وعسكرياً.

رابعًا: العوامل/المحددات العسكرية:

تُعتبر القوة العسكرية، من أوضح وأقدم العوامل المؤثرة في العلاقات الدولية، حيث كانت الوسيلة المفضلة، التي لطالما لجأت إليها الدول من العصور القديمة لتحقيق أهدافها. كما ارتبطت مسارات تشكيل الإمبراطوريات الكبرى عبر التاريخ، بالاستعمال المستمر والشامل للقوة العسكرية، من أجل التوسع الإقليمي أولاً، ثم ضمان الازدهار التجاري والاجتماعي. وينطبق ذلك على الإمبراطوريات التي سيطرت على العالم القديم، مثل الإمبراطورية الفارسية، المقدونية والرومانية...إلخ.  كما ينطبق بنفس الدرجة على الإمبراطوريات التي ميّزت العصور الوسطى، مثل الإمبراطورية العثمانية، الإمبراطورية الرومانية المقدسة...إلخ. وكذلك إمبراطوريات العالم الحديث والمعاصر، مثل الإمبراطورية البريطانية، الفرنسية وأخيراً الولايات المتحدة الأمريكية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.       

يظهر تأثير القوة العسكرية في العلاقات الدولية، من خلال ما يُعرف باسم سياسات القوة، والتي تتجسد من خلال ثلاثة مظاهر أساسية. يتمحور الأول حول مساعي الدول لاكتساب القوة، ويكون ذلك من مصادرها الخاصة، أو باعتمادها على الموردين في السوق الدولية، وفق ترتيبات محددة، أو حتى من خلال المزج بين المصادر الذاتية والخارجية معاً. فالولايات المتحدة، روسيا وكذلك الصين، تتولى إنتاج وتطوير قدراتها العسكرية بشكل منفرد، دون الاعتماد بشكل كبير على المصادر الخارجية، في حين تعتمد دول منطقة الخليج العربي، على موردين خارجيين للأسلحة، وبشكل خاص على الولايات المتحدة الأمريكية. أما دول مثل تركيا، وبدرجة أقل نسبياً الجزائر، فقد اعتمدت لفترة زمنية طويلة على المصادر الخارجية، قبل بدأ عمليات متفاوتة التطور، لتصنيع بعض قدراتها العسكرية محلياً.

أما المظهر الثاني لسياسات القوة، فيتمثل بالتهديد باستعمال القوة العسكرية، لإدارة علاقات الدولة الخارجية، في مواجهة الدول أو الجماعات غير النظامية. وقد يأخذ هذا التهديد صوراً مختلفة، منها الإعلان عن إبقاء اللجوء إلى القوة العسكرية ضمن الخيارات المتاحة، مع اتخاذ إجراءات عسكرية تتناسب مع هذا الإعلان. ويدخل ضمن هذا الشكل التهديدات الأمريكية سنة 2025، باستخدام القوة ضد فينزويلا، مع إرسال سفن حربية إلى القرب من سواحلها. أو تهديد روسيا باستخدام القوة ضد كل دولة أوروبية تُهدد الأمن الروسي، باستخدام أسلحة غير تقليدية، مع وضع القوات النووية الروسية في حالة تأهب. كما يُمكن أن يأخذ التهديد باستعمال القوة، شكل المناورات العسكرية، أو التدريبات المشتركة، خاصةً تلك التي تُستعمل فيها الذخائر الحية. وذلك من أجل تقديم رسائل واضحة، عن مدى جاهزية القوات المسلحة الوطنية أو المشتركة، لصد أي عدون محتمل، أو من أجل القيام بأي أعمال عسكرية محتملة، بشكل وقائي أو استباقي. ويظهر ذلك من خلال المناورات التي يُجريها حلف شمال الأطلسي، بالقرب من الحدود الروسية، لإظهار النية والجدية في الدفاع عن أوروبا، خاصةً دول البلطيق وأوروبا الشرقية.

ويتمثل المظهر الثالث لسياسات القوة، في لجوء الدولة إلى الاستعمال الفعلي لقواتها العسكرية الوطنية، أو الانخراط في تحالفات وأعمال عسكرية مشتركة، موجهة ضد الدول أو الجماعات. مثل تدخل حلف شمال الأطلسي في حروب البلقان المختلفة، أو استعمال القوة ضد العراق من أجل تحرير الكويت سنة 1991، ثم الغزو النهائي للعراق من أجل إسقاط صدام حسين سنة 2003، وأخيراً الحرب الروسية الأكرانية ابتداءً من سنة 2022. غير أن استخدام القوة كملاذ أخير، يكون مرتبط بعقلانيته كخيار، أو بقدرة الدولة على تحمل تكاليفه البشرية، الاقتصادية وكذلك السياسية. ففي كثير من الحالات تلجأ الدول الكبرى إلى خيار القوة العسكرية، وتتورط نتيجةً لذلك في مواجهات عسكرية غير كلاسيكية، أو بتعبير آخر غير نظامية. وهو ما يجعلها تتحمل خسائر كبيرة، على المستويين البشري والاقتصادي، يُمكن أن تنتشر لتشكل المستوى السياسي داخلياً وخارجياً. ومن بين الأمثلة على ذلك التدخل الأمريكي في فييتنام سنة 1964، والسوفياتي في أفغانستان سنة 1978، ثم التدخل الأمريكي في أفغانستان سنة 2001، والعراق سنة 2003. فكل هذه الأمثلة على اختلاف سياقاتها السياسية والتاريخية، إلا أنها تشترك في حجم الخسائر البشرية والاقتصادية، إضافةً إلى التبعات السياسية المترتبة عنها.

تجدر الإشارة أخيراً، إلى أن تأثير القوة العسكرية في العلاقات الدولية، عرف مستويات أعلى، من خلال المزج بين نتائج الثورة التكنولوجية، وأساليب الإنتاج الصناعات العسكرية. حيث تسعى الثورة في الشؤون العسكرية، إلى تكريس الحرب عن بعد، من خلال إحلال التكنولوجيا محل الموارد البشرية، وزيادة فعالية وسائل النقل اللوجيستيكي. إضافةً إلى مساهمة التكنولوجيا في الانتقال إلى حروب الجيل الخامس، التي لا تلعب فيها القوة العسكرية الدور الأساسي، بل تكون الحرب متمحورة حول الهجمات الإلكترونية، التي قد تمس بشكل فادح المصالح الحيوية للدول المستهدفة. ورغم ذلك إلا أن القوة العسكرية التقليدية، مازالت لم تفقد بعد مكانتها في السياسات الأمنية والدفاعية، وبعلاقة متعدية مكانتها ضمن أهم العوامل المؤثرة في العلاقات الدولية.

خاتمــــــــــة:

تُفضي دراسة العوامل المادية، المؤثرة في العلاقات الدولية، إلى نفي المقاربات التقليدية، التي تجعل من هذا المجال خاضعاً فقط للطبيعة الإنسانية، والعلاقة المفترضة بين المصالح الوطنية. حيث تتدخل العوامل المشار إليها، في تشكيل حالة العلاقات الدولية، بشكل ودرجات تأثير تختلف حسب السياقات التاريخية والسياسية. غير أنه يجب أن يؤخذ بالاعتبار ما يلي:

-          أن العوامل المشار إليها أعلاه، لا تكون منفصلة عن بعضها، بل تتفاعل فيما بينها حسب الحالات وسياقاتها، وبالتالي فهي تُمارس تأثيرات متفاوتة من حيث العمق والأهمية.

-          تتوقف أهمية العوامل المؤثرة في العلاقات الدولية، على العناصر المشكلة للحالات والمواقف الدولية، حيث لا تكون درجة التأثير متطابقة في كل الحالات. ففي بعض الأحيان، يظهر تأثير العوامل الاقتصادية، بشكل أوضح من القوة العسكرية، حين تكون تكاليف استخدام القوة أكبر من قدرة الدولة على تحملها. في حين تلعب هذه الأخيرة الدور المحوري، مقارنة مع العناصر الأخرى، عندما تكون الدول في مواجهة حالة الحروب الصغيرة الرائعة، أي تلك التي تنخفض فيها التكاليف الاقتصادية، البشرية والسياسية.

-          إن دراسة الدور الذي تُمارسه العوامل المادية، في تأثيرها على العلاقات الدولية، يجب أن تأخذ بالاعتبار الدور الذي تُمارسه عوامل أخرى، تتميز بطبيعتها غير المادة، مثل الأيديولوجيا أو الثقافة السياسية للدولة، والتي تساهم في تحديد طريقة استخدام عناصر القوة المادية الأخرى.

Modifié le: mercredi 24 décembre 2025, 13:13