النماذج البيداغوجية


1- مفهوم النموذج البيداغوجي:
بداية لابد من الإشارة إلى نوع من الالتباس الذي يلف مصطلح "نموذج بيداغوجي"، فهو كثير الاستعمال في الأدبيات التربوية الحالية، خصوصا البحوث في مجالات الديداكتيك والعلاقة التربوية، النظم المعرفية للمدرسة بوجه عام.
كما نصادفه بكثرة في المشاريع التربوية التي تعرض ذاتها كمشاريع مجددة تهم ادوار المتعلم والعلاقة بالمعرفة وأنسنة العلاقة بالسلطة التربوية التي يمثلها الفاعل التربوي أو المؤسسة المدرسية، أو بمشاريع متميزة تتعلق ببعض الفئات المستهدفة.
كما ترد عبارة نموذج تربوي في العروض والفضاءات التواصلية والإعلامية التي تعلن فيها مؤسسات التربية والتكوين العمومية او الخاصة عن مشروعها التربوي في التكوين والتأطير.
انتهت البحوث في مجال البيداغوجيا والديداكتيك إلى تحديد مصطلح "نموذج بيداغوجي" في العناصر التالية:
•    "تشكل النماذج البيداغوجية محاولات لتدقيق معنى مشاريع التعليم التي تنظم مختلف كيفيات الاستجابة لضرورتين متعارضتين في الظاهر: الأولى تهم انخراط التلاميذ في مشاريع شخصية لتعديل وتطوير معارفهم، والثانية تهم قيادتهم نحو التمكن من معارف جديدة عليهم، عبر وساطة النظام المدرسية وفاعليه".
•    " ليست النماذج البيداغوجية صورا نموذجية موجهة للمدرسين للاحتذاء بها، أو وصفات جاهزة للتعليم، بل هي أنماط ومرجعيات وصيغ تم السمو بها إلى مستوى النماذج الفكرية، ومبادئ تستعمل داخل الفعل البيداغوجي."
•    "النموذج البيداغوجي نسق من المكونات المترابطة بنيويا : الغيات والقيم المستهدفة داخل العملية التربوية، المعارف والخبرات، عمليات الاجرأة الديداكتيكية للمعارف والخبرات موضوع التعليم والتعلم، في علاقة بالمرجعيات العالمية والحقول الاجتماعية المرجعية لبروزها، الوضعيات البيداغوجية وما تتطلبه من علاقة بيداغوجية وطرق تعليمية وتعلمية ووسائل وأدوات، طرق وأساليب التقييم"
تتفق هذه العينة من التعريفات على أن النموذج البيداغوجي إطار عمل موجه لاجرأة العملية التربوية، في جانبها التعليمي والتعلمي. فهو ليس صورة مثالية موجهة للتقليد والمحاكاة، أو وصفات للتطبيق ، بل نسق من القيم والغايات والموارد المعرفية، والوضعيات، والعلاقات التربوية. وتحرص هذه المرجعيات على التمييز بين المرجعيات البيداغوجية والنظريات البيداغوجية التي تشكل تصورا علميا متماسكا عن التعلم والتعليم، يرتكز على البحوث في مجال السيكولوجيا والديداكتيك، وابستيمولوجيا المعارف، وغيرها.
   علاوة على ذلك ليس النموذج البيداغوجي نسقا مغلقا أو ثابتا، بل هو مفتوح على مبادرة الفاعلين واجتهاداتهم، على مستجدات البحث العلمي والتربوي.
ما يمنحه قيمة ثقافية هو تمفصله داخل مشروع تربوي أوسع من مجرد أهداف العملية التعليمية التعلمية. غير أن ما يعطيه فرص الاستمرار والنجاعة هو تماسكه والتكامل الوظيفي لعناصره. ولا يتعلق الأمر فقط بالتماسك النظري، بل بما يوفره من إمكانيات لتماسك سياسات المنهاج التربوي للمدرسة، نقصد بذلك كافة التدابير العمومية الخاصة بالتربية والتكوين. انه كبناء نظري، يمنح معنى وغائية عميقة لتنوع الممارسات التربوية، ويتسم بالقدرة على إدماجها.
   تقودنا الفكرة الأخيرة إلى تسجيل ملاحظتين:
•    الأولى تفيد أن النموذج البيداغوجي، بوصفه إطارا نظريا مدمجا للممارسات والأنشطة التعليمية التعلمية، جزء من نظرية المنهاج التربوي، والمنهاج كما هو معلوم في عمقه سياسة عمومية للنظم المعرفية للمدرسة، للتعلمات والتكوينات.
•    والثانية هي أن فكرة النموذج البيداغوجي تحمل في ذاتها توجهات ومقاصد التغيير والتجديد. ليس "النموذج" نسقا للمحافظة والثبات، بل هو إطار نظري مرجعي لممارسات وتدابير تستهدف تغيير أنماط التربية والتعليم السائدة، وتجديد الفعل التربوي للمدرسة.
   تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن البحوث الديداكتيكية المتأخرة هي التي أدرجت فكرة النموذج البيداغوجي (أو الديداكتيكي)، في مجال البحث التربوي. وقد كان هذا الولوج يخدم فكرة تجاوز النموذج التقليدي القائم على نقل المعارف إلى أجيال المتعلمين، والذي يطلق عليه اسم (modèle tansmissif)، أو "النموذج الموسوعي" (modèle encyclopédiste)، والذي يقابل النماذج التربوية الحديثة، من قبيل النموذج البيداغوجي المتمركز على التدريس والتكوين بواسطة الأهداف أو النموذج السلوكي (modèle béhavioriste)، ونموذج التعليم المبرمج والذي يتم بواسطة الحاسوب أو البرامج الرقمية فيما بعد (enseignement programmé)، ونموذج البرمجة العصبية اللسانية (modèle de programmation neuro-linguistique)، النموذج السوسيو- بنائي (modèle socioconstructiviste)، وغيرها من النماذج.
أولا- النموذج التقليدي (modèle tansmissif) أو النموذج الموسوعي (modèle encyclopédiste): نموذج يعتبر المعارف غاية في حد ذاته، والتدريس نشاطا لنقل الممعرفة وشحن ذهن المتعلم بها. لذلك كانت إستراتيجية الديداكتيكية قائمة على النقل ومراكمة المعارف والخبرات، واعتبار العلاقة بالمعرفة محاكاة للنماذج الثقافية والفكرية والأخلاقية للمجتمع.
ثانيا- النموذج السلوكي (modèle béhavioriste) أو النموذج المتمركز على التدريس بواسطة الأهداف: نموذج يعتبر المعرفة موضوعا للاشتغال والتدريب وتطبيق المهارات والخبرات العملية المتعلمة، ويقوم المتعلم بردود أفعال تجاه المنبهات ومثيرات الوضعية التعليمية، أما المدرس فهو مجرد مدرب يساعد المتعلم على بلوغ الأهداف المرسومة والمحددة بدقة للتعلم، استنادا إلى نوع التنظيم والوسائل التي يوفرها له، أما نشاط التعلم، فهو عبارة عن تدريبات يتم تقيمها مرحليا وعند نهاية أشواط العملية التعليمية التعلمية.
ثالثا- نموذج التعليم المبرمج (enseignement programmé): نموذج يعتبر التعليم خبرة عامة يشترك فيها الإنسان والحيوان، وانه يتحقق بنجاعة وفعالية عبر سلسلة من الأنشطة المنظمة زمنيا ونسقيا في حلقات مترابطة. وتقوم إستراتيجية التعلم على اعتبار المتعلم يغير سلوكه في تفاعله مع البيئة التي يوضع فيها، وهي هنا بيئة البرنامج الذي تعرضه آلة الحاسوب أو أي آلة مشابهة، وذلك عبر ملاحظة نتائج أفعاله. وكلما كانت هذه النتائج ايجابية، كلما حفزته على الانتقال إلى الحلقات الموالية بتعزيز الخبرات الايجابية. ويشكل التعزيز أو التقوية دورا أساسيا في ترسيخ التعلمات، عبر التكرار والتزكية والمكافأة، التي هي رديف للاشتراط في التعلم الحيواني. مقابل ذلك، ينتظر من المتعلم أن ينخرط في سلسلة التعلم وتكرارا ردود الأفعال والسلوكيات الناجحة، وتعديل ردود الأفعال والسلوكيات التي تبين فشلها داخل البرنامج.
رابعا- نموذج البرمجة العصبية اللسانية (modèle de programmation neuro-linguistique): نموذج برز وتطور مع الأبحاث العصبية والذهنية ذات الصلة بالإدراك والذاكرة واستعمال الرموز اللغوية والبصرية والتفاعل معها، ويسعى هذا النموذج إلى نمذجة أو بناء نماذج أو ترسيمات أو خطاطات دينامية (modélisation- chématisation) للكفايات المعرفية والعلائقية لدى الأفراد، خصوصا ذوو المواهب والتميز، بغية تعميمها ونقلها إلى لتعليم وتنمية كفايات باقي الأفراد الآخرين، فالفعاليات الذهنية التواصلية التي يتميز بها بعض المتعلمين المتميزين، يمكن تحليلها ونمذجتها وتحويلها إلى إطار بيداغوجي لتنمية قدرات وكفايات غيرهم، ومن بين أهم الاستراتيجيات المعرفية التي تم حصرها في هذا النموذج، نذكر: الفهم، الاختزان داخل الذاكرة، التفكير، التلفظ والتحويل.
خامسا- النموذج السوسيو- بنائي (modèle socioconstructiviste): نموذج يعتبر المعارف مجرد موارد يتم استعمالها واستثمارها لتنمية الخبرات والقدرات والكفايات الشخصية في علاقة بالحقل الاجتماعي للمتعلم، لذلك كان المتعلم فاعلا ينتظر منه توظيف الموارد التي توضع رهن إشارته، بما في ذلك مكونات البيئة المدرسية والوضعية التعليمية، تحت قيادة المدرس الذي يتولى تنظيم النشاط التعليمي التعلمي في شكل مهام داخل وضعيات مشكلة ومحفزة على النشاط واستعمال المهارات والقدرات، أما إستراتيجية التعلم، فهي إدماجية قائمة على تنمية حصيلة القدرات والكفايات بخبرات جديدة، لذا كان التعلم ينتظم في شكل مشاريع (قضايا، مشاكل، حالات واقعية أو مفترضة،...) تدفع المتعلم لاستعمال كافة الموارد الشخصية، أو التي توضع رهن إشارته لبلورة حلول ممكنة.



آخر تعديل: Monday، 1 June 2020، 10:53 AM