نظرية القوة البرية هالفورد ماكيندر

        المدرسة البريطانية (ماكيندر ونظرية قلب الأرض/القوة البرية).

يعتبر الجغرافي البريطاني والسياسي الليبرالي هالفورد ماكيندر (1861-1947)، أحد الشخصيات البارزة في الجغرافيا البريطانية الجديدة في مطلع القرن. وهو الذي لم يستخدم مصطلح Geopolitics أبدًا لوصف تفكيره، ولكنه كان ينوي ببساطة استخدام علم الجغرافيا باعتباره "وسيلة مساعدة في فن الحكم". وقد سبق وأشرنا من قبل أن ماكيندر من الشخصيات الرئيسية في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك. حيث كانت مفاهيمه الخاصة بــ: "قلب الأرض"، "الجزيرة العالمية"، "أوراسيا"، من أكثر المفاهيم عرضة للنقاش، ومساهمة في تطور وإثراء التصورات التي عرفها حقل الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك وحتى العلاقات الدولية خلال القرن العشرين. ومن أهم أعماله مقال "المحور الجغرافي للتاريخ (1904)"، وكتاب "الـمُثُل الديمقراطية والواقع(1942)".

يُلخص أغلب الكتّاب نظرية ماكيندر حول القوة البرية/ قلب الأرض (Theory  Heartlandفي مقولته الشهيرة "من يسيطر على أوروبا الشرقية يسيطر على قلب الأرض، ومن يسيطر على قلب الأرض يسيطر على الجزيرة العالمية، ومن يسيطر على الجزيرة العالمية يحكم العالم".

يعرض ماكيندر في "المحور الجغرافي للتاريخ"، نظريته المبنية على رؤية خاصة لتطور العالم من الناحية السياسية، حيث أن هذا التطور قد صنعته وتصنعه المواجهات العسكرية عبر التاريخ، أما مسار تلك المواجهات فتتحكم فيه المواقع الجغرافية لتلك الدول بالنسبة للقارات والمحيطات، ويذهب إلى أن الصراع الدائر بين الدول الكبرى (في الحقب التاريخية التي عاشها)، محسوم لصالح الدولة التي تتحكم في الأماكن الاستراتيجية المركزية من الكرة الأرضية، وتحقيق السيطرة العالمية يأتي عبر تحقيق السيطرة على هذه الأماكن.

من هذا المنطلق، يرى أن القارات الثلاث المتلاصقة (آسيا، أوروبا وإفريقيا) تشكّل ثلاثة أرباع اليابسة، ويعيش عليها غالبية سكان العالم، وتمثل في ترابطها الجزيرة العالمية بالنظر إلى أن المحيطات تلفها من جميع الجهات، بينما تمثل القارة الأمريكية (الجديدة) موقعا هامشياً بالنسبة للتفاعلات الأساسية الحاصلة آنذاك، والصراع البشري الحاصل من أجل السيطرة على المساحات الجغرافية. ومن خلال ذلك يصل إلى أن مساحة اليابسة التي تجمع أوروبا مع آسيا، هي المساحة المفصلية في عملية السيطرة العالمية (الجزء الغربي من آسيا والجزء الشرقي من أوروبا)، واللذان يشكلان مركز/قلب الجزيرة العالمية، في حين تبقى إفريقيا في معزل عن المواجهات الكبرى باستثناء الجزء الشمالي منها.

لذلك، كانت أكبر مخاوف ماكيندر، أن يحدث تحالف روسي-ألماني؛ يجمع الفاعلية التكنولوجية والاقتصادية الألمانية مع الموارد الطبيعية والبشرية للإمبراطورية الروسية، ويتم إحكام السيطرة على الجزيرة العالمية، وبذلك يتم وضع حد للهيمنة التقليدية لبريطانيا، ومن هنا تأتي مهمة بريطانيا للعمل على منع حدوث هذا التحالف الخطير.

لقد كان ماكيندر يريد أن يجعل من الجغرافيا علما تصوُّرياً؛ يقدم رُؤىً تحقق الدمج بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، في إطار التربية الوطنية (السياسة التعليمية لبلده)، لترسيخ الفكر الأمبريالي في الأجيال الجديدة، وقد كان هذا الأمر ضروريا بالنسبة لمن كان يقوم باستكشاف واستقصاء الأراضي واحتلالها، لتوسيع سلطة بريطانيا الاستعمارية.

ومثلُه مثلَ راتزل، كان مقتنعا بأن، المستقبل ملك الدول الكبرى، كما لم يعد ممكنا في وقته الراهن أن تميل كفة الميزان لصالح القوة البحرية، لا سيما إلى جانب بريطانيا العظمى التي أهملت تصوراته وتوجيهاته الجيوسياسية، في الوقت الذي استفاد منها الألمان والروس الأمريكيين، وقد تحققت مخاوف ماكيندر لاحقا بالتراجع الفعلي للسيطرة البريطانية على البحار، ولم تستطع الحفاظ على تماسكها مع انتهاء ارتباطها مع استراليا وكندا ونيوزيلاندا وإيرلندا الحرة، وذلك بين عامي (1926-1931)، كما كان يخشى من القوى الجديدة كالولايات المتحدة التي أخذت تسيطر على البحار، أو التحالف الألماني الروسي الذي أوصى به بسمارك وأكد عليه هاوسهوفر لاحقاً. ولعله من الجدير بالذكر أن ماكيندر كان من المشاركين في الإعداد لمؤتمر فرساي الذي بوجبه تم اقتطاع أجزاء مهمة من ألمانيا لمنعها من التطلع نحو الشرق واستعادة مكانتها في أوربا.

وجدد تحذيره في مؤلفه "المثل الديمقراطية والواقع"، من أن انتصار المثل العليا للديمقراطية قد يكون قصير الأجل، ما لم تؤخذ "الحقائق الجغرافية التي لها تأثير دائم على السياسة العالمية" بعين الاعتبار بالكامل؛ فالقوة التي من شأنها السيطرة على كل من أوروبا الشرقية والقلب ستكون قادرة على السيطرة على جزيرة العالم (أوروبا، أفريقيا وآسيا) ، وبالتالي على العالم كله. ووِفقًا لذلك، أوصى بإنشاء "طبقة وسطى" من سبع دول دائمة ومستقلة بين روسيا وألمانيا.

لقد رسمت نظرية قلب الأرض خريطة التنافس والصراع الدولي بعد الحرب العالمية الأولى، وخلال الحرب العالمية الثانية، وأثناء الحرب الباردة وحتى بعد نهاية الحرب الباردة. وقد أيّد زبيغنيو بريجينسكي (مستشار الرئيس الأمريكي جيمي كارتر 1977-1981)، بعد 93 عاما من طرح ماكيندر لنظريته، أي في سن 1997 عندما نشر يريجينسكي كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى"، أيّد أطروحة قلب الأرض والجزيرة العالمية، عندما ذكر:

"...، إن أوراسيا تشكّل محور العالم (...)، وهي تؤلف رقعة الشطرنج للجغرافيا السياسية الحاسمة، ولا تكفي رؤية سياسية لأوروبا وأخرى لآسيا [منفصلتان]، ولتطور توازنات القوة على الساحة الأوراسية الشاسعة تأثير حاسم على التفوق الشامل لأمريكا".


Last modified: Saturday, 2 November 2024, 9:59 AM