الجيوبوليتيك الأمريكي 1 ألفريد ثاير ماهان /نظرية القوة لبحرية
المدرسة الأمريكية 01 (ماهان ونظرية القوة البحرية)
برز التفكير الجيوسياسي الأمريكي في ظروف تفوق إقليمي، رافقه تطلُّع نحو التوسع البحري، تمهيدا للخروج من العزلة إلى المنافسة الإقليمية والدولية، حيث:
- قامت بشراء ألاسكا من روسيا سنة 1867؛
- دعمت وشاركت في الثورة الكوبية سنة 1895؛
- بداية من 1898، تتبعت سياسة إمبريالية نشطة جدّاً تجاه (حرب اسبانيا بخصوص كوبا، الحصول على غوام Guam وبورتوريكو، ثم هاواي والفلبين، وتطبيق مبدأ مونرو للدفاع عن المصالح الموجودة في محيطها الجيوسياسي؛
- بناء قناة بنما الذي نجم عنه قيام دولة بنما (التي افتتحت القناة في 1914 وبقيت تحت السيطرة الأمريكية إلى غاية 1999)؛
- إنشاء اتحاد الجماعة الأمريكية 1910،
- وفضلا عن ذلك، كانت الو.م.أ مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، قوة صناعية عظمى تسيطر على البحار.
ألفريد ثاير ماهان (1840-1914) ونظرية القوة البحرية: كان ماهان ضابطا في البحرية الأمريكي (أميرال)، وضع بين عامي (1890-1910) تصورا لجملة من النظريات الاستراتيجية التي ضمّنها في مؤلفاته العديدة (مثل كتاب: القوى البحرية في التاريخ الذي يعتبر من النصوص الكلاسيكية في الاستراتيجيات العسكرية، كتاب: تأثير القوة البحرية على الثورة الفرنسية، كتاب: القوة البحرية وعلاقتها بالحرب، وغيرها). وقد اهتم بالقوة البحرية الأمريكية وضرورة تعزيزها حتى تتمكنن من لعب دور مهم بين القوى العظمى، وذلك بحكم موقعها المهم المطل على المحيط الهادي من جهة والمحيط الأطلسي من جهة أخرى، لذلك تكون سيطرتها على البحار والمحيطات مهمة على طريق السيطرة على القارات الأخرى. وكان ماهان من أكثر الذين أصغت قيادة بلدانهم لآرائهم واستوعبتها، خاصة الرئيس روزفلت.
تستند مفاهيم ماهان الاستراتيجية إلى الفكر الجيوسياسي البحري، والذي اعتبر مرجعا أساسيا للسياسة الخارجية الأمريكية الجديدة (التدخلية)، حيث كانت الرابطة البحرية التي يترأسها ماهان نفسه، دافعا قويا للإدارة الأمريكية نحو الابتعاد عن العزلة والتخلي عن عقيدة مونرو، لتشن سياستها التدخلية باسم حرية التجارة.
· نظرية القوة البحرية:
ينطلق ماهان في نظريته من رؤيته للحالة البريطانية، حيث استفادت إنجلترا من موقعها الجزري الهام لمركزيته بالنسبة للمحيط الأطلسي والبحار الأخرى، إذ سمح هذا الموقع بالقيام بعمليات ضد أي قوة معادية دون الابتعاد عن القواعد العسكرية، وهذا ما كان يعتبر مفتاح النجاح الدائم، إضافة إلى امتلاك بريطانيا لجبل طارق، مما يسمح لها بمراقبة حركة الملاحة بكل أنواعها. ومع مطلع القرن العشرين، رأى ماهان أن الدور التاريخي لبريطانيا قد وصل إلى نهايته، وقد حان الوقت لينتقل هذا الدور إلى الولايات المتحدة، لكن بفعالية أكبر وقدرة أفضل في التصدي للتحديات العالمية من أجل الهيمنة البحرية العالمية للقوة الأنجلوساكسونية.
يمكن عرض نظريــة ماهان حول القوة البحرية من خلال التركيز على ثلاث منطلقات مركزية:
01.التأكيد على تفوق القوة البحرية، انطلاقا من أن التعارض بين القوة البحرية والقوة البرية/القارية هو المحرك الأساسي للتاريخ. والمسلمة الثابتة المستخلصة من ملاحظة الأحداث التاريخية في أوروبا، وعلى نحو خاص الصراع الأنجلو-فرنسي على الهيمنة الأوروبية، هي أن بريطانيا تمكنت من منع الهيمنة الفرنسية بفضل مناعتها الاستراتيجية التي يوفرها موقعا الجزري. لذلك فإن الفرصة مناسبة لتستفيد الولايات المتحدة من ميزة قوتها البحرية وتعزيزها.
02.السيطرة على البحار، فمن خلال المقارنة بين الاستراتيجيات المتبعة من قبل الانجليز والفرنسيين، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ثم بداية القرن العشرين، انتهى إلى أن سيطرة البريطانيين كانت بفضل مركزة قواتها البحرية، والتي جعلت الأسطول البريطاني يكسب المعارك الحاسمة دائما (وهذه نقطة مهمة في نظرية ماهان البحرية)، لذلك أوصى بعدم تشتيت الأسطول الوطني بين مختلف البحار والمحيطات، ليبقى دائما قويا في المناطق الحساسة والحاسمة.
03.الدفاع عن الخطوط البحرية، وهنا يبرز دور الاتصالات تشكل أهم عنصر في الاستراتيجية السياسية والعسكرية، لذا من الضروري الدفاع عن الخطوط البحرية لتأمين ربط المركز بالأطراف. وفي كتابه: "المصلحة الأمريكية في القوة البحرية"، يوصي ماهان بــ:
-التعاون والمشاركة مع القوة البحرية البريطانية، للسيطرة على البحار، وقطع الطريق على القوى الأخرى خاصة الطموحات البحرية الألمانية، ومن ثَمّ احتواء ألمانيا في دورها القارّي.
-مراقبة التوسع الياباني في المحيط الهادي باعتباره مجالا حيويا للنفوذ الأمريكي.
-حماية الحظيرة الخلفية (الجنوبية) للو.م.أ باعتبارها مجال نفوذ أمريكي.
كما يعتقد ماهان بـأن الهيمنة العالمية للولايات المتحدة ستكون بفضل السيطرة على البحار، لذلك يؤكد على ضرورة ضمان وجود نقاط إسناد/ارتكاز تسمح ببلوغ التفوق والهيمنة البحرية، كالموانئ والقواعد العسكرية البحرية والموانع الطبيعية الحصينة، ويجب بوجه خاص امتلاك القوة البحرية القادرة على التنقل والوصول بالسرعة المطلوبة إلى النقاط الاستراتيجية، لضمان المصالح التجارية والأمنية ومواجهة القوى المعادية بالفعالية المطلوبة. وفي ضوء تركيزه على الأهمية والأولوية التي يجب أن تعطى للقوة البحرية، يؤكد على جملة من الشروط التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار ضمن متطلبات هذه القوة، وهي كالتالي:
01.الموقع الجغرافي للدولة: بالنسبة للبحار والمحيطات التي تُطلّ عليها الدولة، وميزة وصلاحية هذه البحار للنشاطات التجارية والعسكرية، ومدى اتصال هذه البحار مع بعضها البعض ومع أعالي المحيطات، وأخيرا مدى تحكم الدولة وسيطرتها على طرق الملاحة البحرية.
02.مورفولوجية الساحل: من حيث طبيعتها، شكلها، امتدادها وعمقها، حيث أن السواحل الغاطسة هي الأفضل للملاحة والقوة البحرية، لأنها تجعل الوديان البحرية بمثابة خُلجان بحرية عميقة، ويحوّل المرتفعات والقمم الجبلية إلى رؤوس، فيصبح الساحل مناسبا لقيام السواحل الطبيعية الجيدة، ويوفر الحماية للسفن في المياه الداخلية الهادئة، كما تزيد الخُلجان والرؤوس البحرية من عمق الدولة وامتدادها بحرياً، وبالتالي حرية حركة واتصال أكبر وملاحة وموارد بحرية أكثر.
03.صفات ظهيرة الساحل: أي خصائص أرض الدولة التي تقع خلف الشريط الساحلي، بحيث تكون عامل جذب للسكان نحو الداخل إذا كانت جيدة (توجه داخلي وليس بحري)، ومثال ذلك فرنسا التي تطل على ثلاث بحار ومع ذلك لم تكن قوة بحرية مثل بريطانيا. ويرى ماهان أن أفضل أنواع الظهير الساحلي ما كان فقيرا، حيث أبدى تخوفه من أن يكون ظهير الساحل الأمريكي الغني، عاملا لصرف الولايات المتحدة عن انشاء قوة بحرية عظمى تدافع بها عن سواحلها الطويلة.
04.مساحة الدولة وعدد سكانها: وهما عملان مهمان في بناء القوة البحرية وتطورها، حيث يساهم ذلك في تنوع الموارد الطبيعية والتضاريس الساحلية، والقدرات البشرية التي تعمل على بناء الأساطيل البحرية وصيانتها وتطويرها.
05.الشخصية القومية: المتعلقة بالخصائص والمميزات البحرية للمواطنين، واهتمامهم بالنشاطات البحرية الاقتصادية والعسكرية، كسبيل للقوة والنفوذ.
06.طبيعة السلطة السياسية للدولة: هو العامل الأهم والحاسم، إذ من خلاله يتم توجيه مقومات الدولة وخصائصها الطبيعية والبشرية، نحو بناء القوة البحرية والانتشار والتحكم التجاري والاستراتيجي في البحار والمحيطات.
ملاحظة مهمة: من المهم ملاحظة أن فكر ماهان سبق الفكر الجيوسياسي الألماني، رغم أن ماهان لم يذكر أيّاً من المصطلحات الجيوسياسية، وتنطلق أفكار ماهان من اعتقاده الخاص بأن الدول إمّا أن تتوسع أو تضمحل، وليس هناك دولة تستطيع أن تحافظ على مكانتها أو تقدمها إذا بقيت ساكنة، هذه الفكرة فتحت آفاقا جديد أمام صناع القرار الذين يؤيدون مبدأ "المصير المحتوم"، الذي يقضي بالتوسع الطبيعي للولايات المتحدة الأمريكية في قارّة أمريكا الشمالية بشكل سلمي. والملاحظ هنا هو التطابق الكبير بين الفكر الجيوسياسي الألماني المرتبط بالمجال الحيوي ورؤية ماهان (الجيوسياسية)، حتى أن هاوسهوفر أوصى بتدريس أفكار ماهان في ألمانيا.
يؤكد ماهان في الأخير أن الخطر على الدولة البحرية، يتمثل في الكتلة القارية الأوراسية (روسيا والصين) بالدرجة الأولى، وذلك قبل قيام النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي بعقدين، وفي الصين بنصف قرن، ثم ألمانيا بالدرجة الثانية، وقد كان لذلك أثره على صياغة الاستراتيجيات السياسية والعسكرية الأمريكية.