المدرسة الألمانية/الجيوبوليتيك الألمانية
كما نعلم جميعا، تعود نشأة الجغرافيا السياسية حصريا للألماني فريديريك راتزل، من خلال كتابه "الجغرافيا السياسية" 1897. ولكي نفهم أكثر مضمون ودلالة الجغرافيا السياسية التي أسَّسها، لابد من ربطها بالسياق التاريخي العام الذي ظهرت فيه؛ فتاريخ ألمانيا منذ حرب الثلاثين عام (الحروب الدينية 1618-1648)، إلى الحرب البروسية الفرنسية (1870-1871)، يذكرنا بحالة الضعف والانقسام الذي ميز القومية الألمانية، لذلك كانت أولوية القيادة بعد الوحدة 1871، هي رد الاعتبار للأمة الألمانية، ورفض المظالم التي تعرضت لها لأكثر من قرنين ونصف من الزمن؛ فبعد عملية الوحدة التي قادها بسمارك، تعززت النزعة القومية الألمانية وبشكل تدريجي أصبحت ذات صبغة انتقامية خاصة بعد الحرب العالمية الأولى وتحميل ألمانية المسؤولية عن دمار تلك الحرب. بالنظر إلى الأراضي التي تم اقتطاعها من ألمانيا لصالح الحلفاء (فرنسا خاصةً)، كانت مسألة استرجاع الأراضي التي تمثل مكونا حيويا للأمة الألمانية أمراً مصيريا، وتركز جل اهتمام المجتمع الألماني حول مسألة هذه الأراضي، حيث كان النقاش متمحورا حول ثلاثة اتجاهات أو خيارات: 1. الدعوة إلى المواجهة المسلحة ورفض الاستسلام لمخرجات مؤتمر فرساي. غير أن ذلك لم يكن ممكنا من الناحية الواقعية بالنظر لتداعيات الحرب على القوة العسكرية الألمانية وسيطرة الحلفاء على واقع العلاقات الدولية الأوروبية. 2. المقايضة على ضفقة تؤدي إلى الاحتفاظ بالأراضي التي ينبغي التشبث بها، وهذا معناه القبول بالإملاءات التي وقعت على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، مما قد يجعلها غير قادة على المطالبة بها مستقبلا بما أنها وافقت على التنازل عنها. 3. الانخراط بقوة في النقاشات المتعلقة بالمسألة القومية لألمانيا، وارتباطها بالأراضي الألمانية ومساحتها وحدودها. ولما كانت هذه النقاشات في الأخير جيوسياسية، استقطبت مختلف الاتجاهات السياسية والأيديولوجية وعموم المواطنين...، وتبعا لذلك اتجهوا جميعا نحو تحضير الأمة الألمانية لإعادة بنائها تدريجيا، واستغلال كل ما هو متاح سياسا وعسكريا واجتماعيا وثقافيا وفكريا. في سياق النقاشات الجارية آنذاك، والعمل على صياغة أجوبة عن الأسئلة المتعلقة بالأراضي الألمانية المطموع بها والمتنازع عليها، عمد الجغرافيون والمؤرخون دراسين وباحثين وأساتذة، وعلى نطاق واسع، وفي مقدمتهم كارل هاوسهوفر، إلى بلورة وعي جغرافي وطني لنشره بين عموم المجتمع الألماني انطلاقا من المؤسسات التعليمية وصولا إلى القادة وصناع القرار، وتمت العودة إلى ما كتبه راتزل في الجغرافيا السياسية1897 ورودولف كيلين في الجيوبوليتيك1899، وتكييفه مع متطلبات الدولة والمجتمع الألماني، بحيث كانت (في البداية)، السياسة التي اتبعتها إدارة الحزب الوطني الاشتراكي، تتوافق مع النظريات والتفسيرات الجيوسياسية لهاوسهوفر. كان قد نص برنامج الحزب الوطني الاشتراكي (النازي) في برنامجه 1920، في أول ثلاث نقاط له على: - اجتماع الألمان على قاعدة حق الشعوب في تقرير مصيرها في ألمانيا الكبرى عام 1920. - المساواة في حق الشعب الألماني إزاء الشعوب الأخرى وإلغاء معاهدة فرساي وسان جرمان. - الأرض وما عليها ملك للشعب الألماني، إضافة إلى تمكين فائض السكان من الحياة الكريمة. إذن، كانت هناك بنية وخلفية سياسية واجتماعية وثقافية وفكرية، بمثابة الأرضية التي ساهمت في انتعاش الجيوبوليتيك الألمانية، لتصبح أكثر عملية وواقعية.
أولا: فريديريك راتزل
سنلاحظ أن وصول الثورة الصناعية إلى ألمانيا أواخر القرن التاسع عشر (فيما يُعرف بالموجة الثانية للثورة الصناعية، بعد الموجة الأولى 1789)، ساهم في صعود ألمانيا كقوة أوروبية وعالمية مهمة، وأصبحت نتيجة لذلك رافضة للتفوق التجاري البريطاني، وقد أصبحت المواجهة/الحرب الأنجلو-جرمانية حتمية بنظر المؤرخين والمثقفين الألمان، حسب ما يذهب إليه الكاتب الألماني هينريتش فون تريتشكه. الذي كان يعتقد بحتمية الصراع على الهيمنة في هذه المرحلة.
من جهته؛ كان راتزل متأثراً بالفكرة السابقة، كما أنه كان متشبعاً بالنزعة الهيجلية والداروينية، إضافة إلى تأثره بالإقامة في الولايات المتحدة واكتشاف فضاءاتها الواسعة، الأمر الذي قاده إلى اعتبار(اكتشاف) الفضاء (المكان) بوصفه محركا للتاريخ، وفي الصراع من أجل الهيمنة يصبح المكان قوة حاسمة، لذلك يقول: "إن تاريخ أي بلد هو تاريخ التطور المضطرد لظروفه الجغرافية". وفي كتابه الأهم "الجغرافيا السياسية"، أظهر راتزل نزعته الحتمية في العلاقة بين الأرض والدولة، وأثر البيئة في الدولة وسياستها، حيث:
- تتلخص رؤيته للدولة في كونها مثل الكائن الحي، يحتل مساحة من الأرض ينمو ويتمدد فيها أو يضمحل ويموت.
- الدولة ليست واقعا ماديا وحسب، بل هي تكتل عضوي يتمثل في اتحاد وارتباط الشعب/الأمة بالأرض.
إلى جانب راتزل، برزت كتابات السويدي رودولف كيلين (1864-1922)، الذي ابتكر مصطلح الجيوبوليتيك، قبل أن تتبناه المدرسة الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وينظر كيلين إلى الدولة بوصفها شكلا من أشكال الحياة، تستمد أصولها من الحقائق التاريخية والواقعية بكونها مثل الكائن العضوي/الحي، وقد حاول كيلين أن ينقل الأفكار التي طرحها راتزل من المجال النظري إلى المجال التطبيقي، وهو المسعى الذي استمر مع رائد الجيوبوليتيك الألماني كارل هاوسهوفر (1969-1946). لذلك، دائما نكرر بأن جيوبوليتيك كيلين وهاوسهوفر نقلت الفكر الراتزلي إلى حيز التطبيق الفعلي.
القوانين السبعة للنمو الأرضي/المساحي للدولة (راتزل):
1.تَكبُر قامة الدولة بكبر ثقافتها، وذلك بفضل التجانس الثقافي وديناميكية الثقافة الوطنية اللذان يساعدان في تلاحم الدولة، والعكس صحيح. والمجال الثقافي للدولة يمتد بمقدار ما يزدهر المجال الممتد سياسيا، والعكس صحيح. فعندما يحدث تراجع في تمدد الدولة أو تنهار سياسيا، يجر ذلك معه ثقافة هذه الدولة أو الأمة أو الشعب. ليُترك المجال لثقافة أخرى أو عملية تثقيف جديدة.
2. نمو الدولة يتبع تجليات أخرى للشعوب، والتي ينبغي أن تسبق حتما توسع الدولة. فنمو الدول، يأتي لاحقا ونتيجة للتطور الفكري والثقافي والأخلاقي للشعوب التي تشكّلها، والتقدم في ميادين التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، والمواصلات على وجه الخصوص، على اعتبار أن التجارة والاتصالات تسبق أو ترافق التوحيد السياسي. فالأرض ليست سوى الدال المادي على سيرورة بناء الدولة وتطورها. وبالتالي، نمو الدولة عملية لاحقة لمختلف المظاهر الخاصة بنمو السكان، ذلك النمو الذي يجب أن يتم قبل أن تبدأ الدولة بالتوسع (الثورة الصناعية).
3.نمو الدولة يكون ناتجا عن ضم وحدات أو عناصر صغيرة إلى المجموع العام، والملاحظ أن الرابط بين السكان والأرض غالبا ما يضعف عندما لا يكون الضم متبوعا بدمج حقيقي وصهر في المجموع العام، وقد بين التاريخ منذ القديم أن الدول والامبراطوريات الكبرى التي نمت على حساب دول أخرى أصغر منها بالضمّ أو بالاستيعاب، لم تكن قابلة للحياة ولم تدُم طويلا.
4.الحدّ هو العضو الطرفي في الدولة والشاهد على نموها بمقدار ما هو شاهد على رسوخها، بمعنى أن حدود أي دولة هي العضو الحي/المتحرك المغلف لها والذي يحميها، فالحدود لا ترتبط بسلامة الدولة فحسب، بل توضح مراحل نموها أيضًا. يرى راتزل بأن الحدّ ظاهرة ظرفية فقط للنمو أو الانكماش المكاني، فيتقدم أو يتراجع قياسا مع قوة المجتمع المحيط به، وليست تغيراته سوى انعكاس لتوسع الدولة أو تراجعها الذي يعكس قوتها.
5.تسعى الدولة في نموها إلى امتصاص وضم الأقاليم والمواقع ذات القيمة (السياسية، الاقتصادية، العسكرية...)، بمعنى أن هذه الأقاليم إما أن تكون سهولًا أو مناطق ساحلية أو مناطق تعدينية أو طرق وممرات تجارية،... أي أماكن ذات قيمة جغرافية ثابتة وحيوية.
6.الدافع/الحافز/المحرض الأساسي للنمو والتوسع يأتي للدولة من الخارج، معنى هذا أن الدولة الكبرى ذات النمو الحضاري، تحمل أفكارها إلى الجماعات البدائية التي تدفعها زيادة عدد السكان إلى الشعور بالحاجة إلى التوسع.
7.أن الميل العام للتوسع والضم ينتقل من دولة إلى أخرى ثم يتزايد ويشتد، فتاريخ التوسع يدل على أن الشهية للتوسع تزداد حتى تصل المواجهة والصدام نتيجة التنافس على مناطق النفوذ. وتؤول بذلك فكرة المجال الحيوي (lebensraum) من الصراع من أجل البقاء إلى الصراع من أجل المكان.
ثانيا: كارل هاوسهوفر (1869-1946):
كان من بين الأوائل الذين بدأوا استخدام مصطلح "الجيوبوليتيك" الذي ابتكره رودولف كيلين، حيث أن هزيمة الحرب العالمية الأولى، واقتطاعات الأراضي التي فرضتها معاهدة فرساي، أدت إلى سخط الجغرافيين الألمان وجعلتهم يقومون بمراجعات دقيقة للخرائط الجيوسياسية الجديدة، ويرفضون عمليات التفكيك التي طالتهم وطالت الشعوب المنهزمة في أوروبا وروسيا والامبراطورية العثمانية، وأعاد ذلك إلى الأذهان التقسيمات التي حدثت بموجب صلح ويسفاليا بعد حرب الثلاثين سنة.
قبل التطرق للقضايا الأساسية المتعلقة بالأفكار والتوجهات الجيوسياسية التي جاء بها هاوسهوفر، لابد من التذكير بأن كتابات البريطاني هالفورد ماكيندر (صاحب نظرية قلب الأرض التي سنعود لها لاحقاً)، والتي لم تلقَ الاهتمام الكافي في بريطانيا، كانت محلّ اهتمام بالغ من طرف الألمان وعلى رأسهم هاوسهوفر، والذين استفادوا منها أكثر من غيرهم ، أين كانت المعارف الجيوسياسية تقوم مقام العلم الرسمي (علم الدولة). ويوضح جيرار ديسوا، أن العقل الألماني كان أكثر فضولا في مجال الجغرافيا والاستراتيجية، وبالتالي أكثر استيعابا للمفاهيم الماكيندرية، وأكبر قدرة على استخلاص النتائج المتعلقة ببلده[1]، خاصة وأن الظروف التي وجدت ألمانيا نفسها فيها (انتزع منها دورها بوصفها قوة عظمى، والإملاءات التي فُرضت عليها بموجب تسويات 1919)، جددت عقدة العُزلة القديمة، والمخاوف التي تعود إلى بداية تاريخ بروسيا (دولة بدون حدود طبيعية واضحة محاطة بجيران أقوياء).
كل ذلك، عزّز لدى هاوسهوفر قناعته بأن القوة البحرية الأنجلوساكسونية الطامحة للهيمنة العالمية، ستمنع نهوض ألمانيا (وبكل الوسائل)، كإجراء لمنع توحيد الكتلة الأوراسية[2] (خوفا منها)، أو قيام قوة برية عظمى تهدد هيمنة القوة البحرية، (وقد عبّر فعلاً سياسيون ودبلوماسيون عن خشيتهم من اليوم الذي يمكن أن تتحالف فيه ألمانيا وروسيا واليابان)، لذلك كان هاوسهوفر من الداعمين للحلف الجرماني السوفياتي والداعين إليه.
كان الملح والضروري بالنسبة لهاوسهوفر ورفاقه تعيين الأراضي التي يعتبرها الشعب الألماني مِلكا له وتشكل هويته القومية، خاصة الأجزاء الحيوية منها، وكان التوجه بهذا التصور نحو الشعب أكثر منه نحو السلطة التي كانت ضعيفة في البداية (الأولوية للأمة الألمانية قبل السلطة السياسية).
ويُلاحظ في بداية الأمر وجود معارضة من قِبل بعض الجغرافيين الذين كانوا مع هاوسهوفر لهذا العلم الجديد (الجيوبوليتيك)، لاختلافه في المطلقات والمضامين التي جاء بها راتزل، لكن اتضّح لاحقا أنه كان يتكِئُ في العديد من تصوراته على الجغرافيا السياسية الراتزلية وقوانينها، ومع ذلك يمكن ذكر الجديد الذي جاء به فيما يلي:
- الجيوبوليتيك التي قدّمها تتوجه نحو المواطنين/الأمة الألمانية، من أجل تعميق الوعي بالهوية القومية الأرضانية، (حيث الأرض التي ينتمون إليها تُشكل هويتهم القومية).
- استخدمت الجيوبوليتيك المعارف التاريخية لتُظهِر الشروط المثلى للدولة القومية، وتبين الحق التاريخي لهذا الشعب أو ذاك، في الأراضي التي ينتمي إليها والتي تقوم عليها دولته المعبرة عن إرادته وعن طموحاته.
- تتناول الجيوبوليتيك الأراضي المطموع فيها والمنتزعة من مستحقيها، وبالتالي فهي أداة لردّ هذه المظالم، وتحدي القوى الأوروبية والأمريكية المعتدية، في حين كانت الجغرافيا السياسية لراتزل أداة ودليلا للسلطات الألمانية المنتصرة على أراضي الآخرين قبل الحرب الع. الأولى.
ملاحظة: عندما دفع هاوسهوفر بالعلم الجديد (الجيوبوليتيك) مطلعَ العشرينيات من القرن الماضي، لم يكن الحزب النازي بارزا في الحياة السياسية، غير أنه أبدى اهتماما شديدا بالجيوبوليتيك، وكانت الطموحات النازية بحاجة إلى تعميق الوعي الأرضاني لدى الألمان، خاصة وأنها كانت قد نجحت في إيصال الفكر القومي الملتزم باستعادة الأراضي الألمانية، بفضل الخرائط التي كانت تستهدفها المقاربات الجيوسياسية، مع العلم أن الحزب النازي لم يتبنَّ مجلة الجيوبوليتيك التي كان يديرها هاوسهوفر، وانحرف عن توجيهاته نحو الطمع في الأراضي غير الألمانية. (الجيوبوليتيك في منشأها ليست نازية، والحديث الذي جرى لاحقا عن التطابق بينها والنازية غير دقيق).
شهِدت ثلاثينيات القرن العشرين إغراق جيوبوليتيك هاوسهوفر بالجيوبوليتيك النازية، بعد قيام الرايخ الثالث (1933-1945)، كما أن السلطة النازية قد أوكلت لهاوسهوفر العديد من العديد من المهام الدبلوماسية التي كان يضطلع بها على أكمل وجه، وبدأت الخلافات بين الطرفين مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، عندما ذهب هتلر بعيدا في مطامعه التوسعية في الأراضي غير الألمانية، الأمر الذي عارضه هاوسهوفر ورفاقه، حتى من كان منهم عضوا في الحزب النازي أمثال رودولف هس R. Hess، خاصة الهجوم على الاتحاد السوفييتي.
يمكن القول أن مطلع الأربعينات قد شهد مواجهة بين جيوبوليتيك دفاعية يتزعمها هاوسهوفر، ملتزمة باستعادة الأراضي التي خسرتها ألمانيا عقب الحرب العالمية الأولى، وإحلال شروط يتوفر معا المجال الحيوي للأمة الألمانية ودولتها، وجيوبوليتيك هجومية عدوانية يقودها الرايخ الثالث-هتلر تتعدى ذلك إلى التوسع على حساب أراضي الدول الأخرى، وقد تم تبني ذلك رسميا في المدارس والجامعات بجعل الأراضي المستهدفة على الخرائط أكثر مما هي عليه الحقائق التاريخية والوقائع الجغرافية على الأرض.
يلاحظ من كل ما سبق، أن الجيوبوليتيك (الجيوسياسة) التي بلورها هاوسهوفر، وقبل أن يتم تحريفها من قِبَل الرايخ الثالث، كانت تعبّر عن حالة النزاع والصراع بين الوحدات السياسية على مساحات معينة من الأراضي من منطلق أحقيتها بها، غير أن تطوير وتطويع الجيوبوليتيك لأغراض استراتيجية توسعية أفقدها معناها الأصلي. بمعنى آخر، تحمِل الجيوبوليتيك في الأصل (من حيث منهجها الذي تُقارب به النزاعات المذكورة) اتجاهات مغايرة للاتجاهات التوسعية، وتتجه نحو مبدأ أنّ "على كل أمة أن تتولى شؤونها الأرضية".
ثالثا: كارل شميدت (1889-1985):
يعتبر كارل شميدت واحدا من الذين عاصروا هاوسهوفر وعايشوا ما مرت به ألمانيا حتى السنوات الأخيرة من الحرب الباردة وقبل انهيار جدار برلين. اهتم بدراسة تاريخ الصراع بين القوى السياسية على مستوى الكرة الأرضية ككل، وكان من أشهر مؤلفاته كتاب الأرض والبحر (1942). كان مقربا ن الحركة النازية وقيادة الرايخ الثالث، إلا أن مواقفه لم تكن متناغمة مع السياسات النازية، مما أدى إلى عداء السلطات له. بعد الحرب العالمية الثانية كان شخصية غير مرغوبة أكاديميا، غير أن ذلك لم يمنعه من مواصلة كتاباته، وأصدو مؤلفه "التوتر الكوني بين الشرق والغرب"، والذي طور فيه نظريته التي طرحها في كتابه السابق "الأرض والبحر".
تكمن أهمية أفكار شميدت في قراءته للتاريخ السياسي، من خلال تركيزه على المواجهة بين قوى البر وقوى البحر (من دول وامبراطوريات وحضارات)، واعتبار تلك المواجهة ثابتا تاريخيا منذ نشوء الكيانات السياسية القديمة، وقراءة الأحداث على أنها نتاج لحالات المواجهة بين البر والبحر، تدعو إلى أن نستنتج بأن المواجهة الكبرى بين البر والبحر، هدفها السيطرة المتفردة على الكل البري والكل البحري معاً، وهذا ما كان قد جرى بين الاسكندر الأكبر والمدن الفينيقية، أو بين الاسكندر الأكبر والفرس، وكذلك بين روما وقرطاجة، وكذلك الأمر بالنسبة لمحاولة نابوليون للسيطرة على أوروبا وتطبيق سياسة الحصار القاري ضد بريطانيا وغزوه لروسيا، وصولا إلى السلوك الألماني خلال الحرب العالمية الثانية.
لقد قسم شميدت الشعوب والقوى والحضارات إلى قسمين: برية وبحرية، وكان يرى أن البحار تمثل الفوضى والحراك، بينما تمثل اليابسة والبر الثبات والجمود، وتكون الأولى أكثر تحررا ودينامية مقارنة بشعوب البر التي تميل إلى النظام والمحافظة.
تاريخياً، عندما كانت الإنسانية محدودة الاتساع، كان الاهتمام باليابسة هو الطاغي، لكن الاكتشافات الجغرافية لاحقا أظهرت أن المحيطات هي التي تمثل الأفاق الأوسع للإنسانية، وصار البحر أكثر أهمية.
من هنا يرى شميدت، أن الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى في معاهدة فرساي، قد ألحقوا الأذى الشديد بألمانيا عندما سدّوا منافذها البحرية، وحاصروها في القارة الأوروبية، بعد أن اقتطعوا أجزاء حيوية من أراضيها.
لذا كان شميدت يلحّ على أن تتوجه ألمانيا نحو فكّ الحصار المضروب عليها من جهة الغرب، ثم تعزيز قواها البحرية لتحقق مجالها الحيوي الكبير، بعد أن تستعيد ما سلخه الحلفاء من أراضيها. كما طبّق شميدت نظريته حول قوى البر وقوى البحر على الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، حيث استنتج أن دولة الاتحاد السوفييتي الذي كان يمثل القوة البرية، ومع النظام السياسي القائم، كانت تميل إلى الجمود والمحافظة وعدم القدرة على التغيير والتكيّف، بينما على العكس من ذلك، كانت الولايات المتحدة بنظامها الديمقراطي القوة البحرية المتحركة عبر البحار والمحيطات التي تحيط باليابسة.
[1] ديسوا، ص98.
[2] الكتلة الأوراسية أو "أوراسيا"، مصطلح أطلقه هالفورد ماكيندر، الكتلة اليابسة القارية المشتركة لأوروبا وآسيا، وتمثل الداخل الآسيوي الأوروبي، والذي نعرفه اليوم بالكتلة البرية الممتدة من بحر الصين حتى المحيط الأطلسي.