مخطط الموضوع

  • عام

  • المحور الأول: إطار مفاهيمي تأريخي

    أولا: حول تفسير نشأة مصطلح الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك (كيف ظهرت تاريخيا؟)

    على الرغم من النشأة الحديثة للجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك (نهاية القرن 19 وبداية القرن 20)، إلا أنه من المعروف التأثير البارز للجغرافيا على السياسة عموما والعلاقات الدولية بشكل خاص، وذلك منذ العصور القديمة. فنجد التجمعات البشرية والانتظام السياسي للأمم والشعوب المختلفة، قد ارتبط بالفضاءات الجغرافية التي تتميز بالأمن ووفرة الغذاء وحركة النقل السلسة...، حيث ترتبط هذه الميزات بالعوامل الجغرافية المختلفة، كالجبال والأنهار والسهول، وخصائص المناخ، والقرب من الأنهار والبحار، وما توفره الأرض من موارد.

    هذا الوضع ينطبق على مختلف الحضارات والكيانات والقوى السياسية على مرّ العصور، وفي هذا السياق نجد الكثير من الكتابات والأفكار والتصورات وحتى النظريات، التي تعتمد على خلفية جغرافية بحتة لتفسير ظواهر وقضايا سياسية أو اجتماعية، أو حتى تلك التي ترتبط بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وهذا ما نجده موثّقاً في أعمال: هيرودوت، سترابو، أرسطو، أبن خلدون، مونتيسكيو، جان بودان، ... وغيرهم.

    لسنا هنا بصدد العودة إلى المضامين والدلالات الجيوسياسية المتضمنة في الفكر والفلسفة السياسية القديمة، ولكن نريد أن نتساءل:

    لماذا ظهرت الجغرافيا السياسية/الجيوبوليتيك بتلك الصورة، مع نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 وليس قبلها؟ وما هو السياق الذي ظهرت فيه؟

    حتى نجيب عن هذا السؤال، نعود بداية إلى تركيب المفردة في حدّ ذاتها؛ "الجيوبوليتيك" أو "الجيوسياسة"، فنجد أن "السياسة" كأحد قسمي هذا المصطلح، تنصرِف في أحد معانيها إلى الصراع من أجل السلطة والهيمنة والنفوذ في مواجهة الدول الأخرى، وهذه الدلالة لها علاقة أكبر بالعلاقات الدولية. أمّا الشطر الثاني "جيو" فتُعطى لها دلالتين:

    -       من الناحية الجغرافية، يشير إلى العوامل الجغرافية التي تحدد التنافس والسعي من أجل السلطة (أي العوامل الجغرافية التي تحدد العملية السياسية برمّتها).

    -       من ناحية أخرى، يرتبط هذا الشطر بمعنى الجغرافيا الكامنة (الأرض)، وبمعنى أكثر وضوحا، المكان الذي يحدث فيه الصراع من أجل السلطة، الهيمنة، النفوذ، القوة...، على الساحة المحلية أو الإقليمية أو الدولية.

    إن المعنى الذي اكتسبَه أو يمكن منحُه لمصطلح "الجيوبوليتيك" / "الجيوسياسة" تأسيسا على ما سبق، يمكننا أن نرى بوضوح أن ظهورَه وظهور مصطلح "الجغرافيا السياسية" قبله بسنوات، قد ارتبط ولم يكن منفصلا في الواقع عن حدثين مهمين:

    1.     عصر الاكتشافات الجغرافية التي وسّعت نظرة الأوروبيين للعالم، حيث وسّع قادة الدول الأوروبية التي قادت عمليات الكشوفات الجغرافية رؤيتهم خارج حدود دولهم، مما زاد في تنشيط سياساتهم الخارجية.

    2.     بالتوازي مع ذلك، سُجِّل صعود وزيادة الاهتمام بالجغرافيا كتخصص أكاديمي، نظرا لما يوفره من معارف ومعلومات عن المسرح الجغرافي العالمي، والبيئة الاجتماعية والطبيعية لمختلف الأماكن في العالم.

    هنا، نصل إلى هذه المعادلة أو الصيغة التركيبية لمعنى الجيوسياسة/الجيوبوليتيك/ Geopolitics:

    Geopolitics = Geo (earth) + how states politically identify themselves and act in a global world.

    أي:

    الجيوسياسةأو الجيوبوليتيك = التركيب الحاصل بين الأرض/المسرح الجغرافي + سلوك/صراع الدول، وتعريف مصالحاها من منطلق ارتباطها أو حاجتها لهذه الأرض أو المجال الجغرافي.

    إذن:

    هذين الحدثين المهمين، سمحا وساهما في بلورة التوجهات السياسية الخارجية لهذه الدول، على أساس المعارف الجغرافية والاكتشافات الجديدة، والتي تجسدت في الحركات الاستعمارية الحديثة، التي طالت جل مناطق المعمورة، من أجل الهيمنة عليها والسيطرة على مواردها.

    كما هو معلوم، قسّم الاستعمارُ العالمَ الحديثَ إلى طرفين: دول مستعمِرة ومسيطِرة، وأخرى خاضعة ومستعمَرة، ثم تطور إلى تقسيم عنصري على أساس التفوق العرقي للجنس الأوروبي الأبيض، بعد أن سيطرت على الدول والمجتمعات المستعمرة سياسيا.

    وباسم نظرية "داروين" أو ما يُعرف بالداروينية الاجتماعية (العنصرية)، التي تنص على أنّ أصلح الأنواع من يمكنه البقاء على قيد الحياة (البقاء للأصلح)، وقد اعتبر الأوروبيون أنفسهم من فئة الأنواع العليا الأحق بالبقاء، وبالتالي يحق لهم السيطرة على غيرهم وعلى مواردهم. بالإضافة إلى أن الاستعمار وغزو أقاليم جديدة، قد منح للأوروبيين فرصة التغلب على "الفخّ المالتوزي"، وتجنيبهم الحروب والصراعات الداخلية.

    في نهاية المطاف، كان ظهور الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك/الجيوسياسة، محدّداً سلفاً بالممارسات السياسية التي امتدت ما بين القرن 16 إلى نهاية القرن 19؛ فمن ناحية، بدأت المنافسة الجيوسياسية تشتد بين القوى الكبرى من الدول الأوروبية، من أجل الموارد والأقاليم الجغرافية، ومن ناحية أخرى، زاد الطلب على المعرفة الجغرافية مع عصر الاكتشافات، الذي جعل الجغرافيين أكثر أهمية وأكثر تأثيرا، في الأوساط السياسية ودوائر صنع القرار في الدول الأوروبية، الأمر الذي ساهم في جعل الجغرافيا تحدد سياسات الدول.

    ثانيا: لماذا جيوسياسية/جيوبوليتيك العلاقات الدولية؟ (الأهمية)

    تعتبر الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك، من المواضيع الحديثة التي وجدت مصادرها وجذورها في الفلسفة الوضعية لـ: أوغست كونت (التي تقول بأنّ الأحداث والوقائع والتغيّرات الاجتماعية، هي نتيجة عوامل طبيعية مرتبطة بالحتمية)، وبناء على ذلك، فإن الجغرافيا الطبيعية أو العوامل الجغرافية، قادرة على أن تضع شروطا على السياسات الخارجية للدول، كما يمكن أن تكون عاملا مهما في توجيه التطور التاريخي لمختلف الكيانات السياسية بما فيها الدول. ويعتبر هذا التصور جوهر "النزعة العلمية"، التي تهدف إلى تقديم حجج علمية للتوجهات السياسية، على غرار النزعة القومية الألمانية، والتي سعت إلى تقديم تبريرات علمية للتوسع المطلوب من الرايخ الثالث، مدفوعة بالفلسفة الداروينية الاجتماعية.

    إن الجيوبوليتيك باعتبارها تشير إلى سياسات الصراع/التنافس على المساحات والأراضي والأماكن والفضاءات الجغرافية، من أجل الهيمنة والسيطرة والقوة والنفوذ ...، تركز على القدرة على تحقيق أهداف معينة، في مواجهة المنافسة والمعارضة الدولية، مع الدول الأخرى على المسرح الجغرافي العالمي.

    في الممارسات الجيوسياسية التقليدية، كان يُنظر إلى القوة ببساطة على أنها "القوة النسبية للدول في الشؤون الخارجية، كما سيطر على تعريفات القوة التركيز على قدرة الدولة على شن حرب على دولة أخرى". مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عندما أصبحت الجيوسياسة/الجيوبوليتيك أكاديمية أكثر، استند الآباء المؤسسون لهذا الحقل إلى عوامل عديدة، منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير؛ كحجم الدولة، الطابع العرقي للسكان، القدرات الاقتصادية والعسكرية، المستوى التعليمي ...، كما يولي أبرز منظري الواقعية هانز مورغنثو أهمية كبيرة للعامل الجغرافي ضمن عوامل قوة الدولة، ويعتبر نيكولاس سبيكمان من جهته، أن الظروف الجغرافية والواقع المادي الذي تواجهه الدول، على أنها حاسمة للعلاقات الدولية، كما أن الموقع الجغرافي للدولة، وعلاقته بمراكز القوة العسكرية، هو الذي يحدد مشكلة الأمن فيها، كما أنه من الثابت على مر التاريخ، تأثير الجغرافيا على التوجه الجيوسياسي للدول في اتجاه القوة البرية أو القوة البحرية، بناء على طبيعة موقعا بالنسبة لليابس والماء.

    إن سرد هذه الحجج أو الفرضيات، حول أهمية العوامل الجغرافية في فهم وتفسير سياسات الدول الخارجية، ومواقفها أو علاقاتها مع غيرها من الدول، ومن ثمة مجمل التفاعلات الدولية، يأتي في سياق إقحام والدفع بالجيوبوليتيك/الجيوسياسة أو ما يمكن تسميته بالمقاربة الجيوبوليتيكية/الجيوسياسية، كمقاربة لدراسة العلاقات الدولية، والمساهمة في إضفاء الطابع العلمي على تحليل العلاقات الدولية من منظور جيوسياسي، وذلك انطلاقا من فرضيتين أساسيتين:

    1. أنّ دراسة العلاقات الدولية قاصرة، وأحيانا غير ممكنة، بدون فهم قوي للجغرافيا/العوامل الأرضية.

    2. أنّ تشكّل النظام الدولي منذ نشأته، مازال قائما على أُسس جيوسياسية، كما أن تشكّله مستقبلاً سيكون على أسس جيوسياسية أيضاً.

     

    ثالثا: إشكالية الدلالة/الفرق بين الجغرافيا السياسية والجيوسياسة/الجيوبوليتيك

    مثل العديد من المصطلحات والمفاهيم ذات الأصل اللاتيني، التي تثير عند تعريبها كثيرا من الالتباسات التي تعوق فهمها وإدراكها على نحو سليم، فإن مصطلح الجيوبوليتيك يعتبر من أبرز المصطلحات التي تجسد هذا الالتباس والغموض، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى تعريبها بصورة خاطئة. كم يلاحظ أن الجيوبوليتيك قد نُقلت إلى العربية ويتم تداولها بلفظها الأجنبي، مثل العديد من المصطلحات كالجغرافيا، الفيزياء، الكيمياء ...، مثلما نُقلت بعض الألفاظ العربية أيضا إلى الأجنبية بوسمها العربي مثل علم الجَبر Algèbre/Algebra.

    بالنسبة لدلالة المصطلح، هناك من يعتبر أنّ البادئة "جيو-Geo" في الجيوبوليتيك، ليست سوى اجتزاءً لمفردة الجغرافيا، وقد ألحقت بالبوليتيكPolitics- اختصارا لتعبير مركب من الجغرافيا والسياسة هو الجغرافيا السياسية؛ ومنه لا فرق من حيث الدلالة بين الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك. في حين أن هناك من يرى أن الجغرافيا السياسية تتعامل بشكل رئيسي مع العمليات والتفاعلات المحلية والداخلية للوحدة السياسية/الدولة، وتتناول كيفية تأثير العوامل الجغرافية على التطور السياسي لكيان سياسي معين، بينما الجيوبوليتيك أو الجيوسياسة فتنطوي على التخطيط العالمي أو النظرة العالمية بين مختلف الدول أو القوى والفواعل الدولية، وتبدو أكثر خارج الإطار الداخلي أو المحلي للدولة، وبالتالي هي تتناول وتناقش قضايا التنافس والصراع الدولي على الأراضي في المسرح الجغرافي العالمي.

    ومن هنا، فإن دلالة الجيوبوليتيك، تقوم على خلفية محددة قوامها الصراع السياسي على الأراضي، وذلك أن "الجيو" في الجيوبوليتيك تعني الأراضي كمساحة جغرافية يعتبرها الانسان الاجتماعي ملكا له، من حيث انتمائه إليها من جهة، ومساهمتها في تشكيل هويته المتميزة من جهة أخرى. أما "بوليتيك"، فهي للإشارة إلى كل ما تنطوي عليه لعبة السلطة السياسية على الأراضي المعنية بها.

    رغم أن هذا التمييز بين مفهومي الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك، يبدو معقولا إلى حدّ ما، إلّا أن العودة إلى نشأة المصطلح وتطبيقاته والممارسات التي ارتبطت به، إضافة إلى النقاشات التي أُثيرت حول هدا التخصص إجمالاً خاصة بعد نهاية الحرب الباردة، يحتّم علينا تقديم بعض المراجعات من أجل إزالة اللُّبس الذي ميّز هذا النوع من النقاشات وما أسفرت عنه.

    رابعاً: عودة إلى السياق التاريخي لظهور الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك

    لقد كان من المنطقي أن ينظر الجغرافيون إلى العوامل التي تحدد التطور السياسي لدولة معينة، خاصة تلك الدول التي ينتمون إليها. بالنسبة لفريديريك راتزل (1844-1904)، كان هناك نوعان من هذه العوامل المهمة في تطور قوة الدولة ووجودها؛ أولا المنطقة أو الفضاء الذي تحتله الدولة"Raum" وثانيا مكانة ووضع هذه الدولة، وقد جمع بين هذين العاملين لتشكيل القانون الأساسي (الحتمي) الذي وفقا له تتصرف جميع الدول، وهو "Lebensraum "، أي مكان للعيش، أو ما أصبح معروفا فيما بعد بالمجال الحيوي.

    إذا رجعنا للأدبيات التي قدّمها راتزل، نجد أنه من خلال الجغرافيا السياسية، قدّم مساهمة كبيرة للجيوبوليتيك، حيث نجد على سبيل المثال، من خلال قوانينه عن النمو الأرضي/المساحي للدولة، لا يكفي الدولة أن تعتمد على امكانياتها المحلية فقط إذا أرادت أن تنمو وتستمر في البقاء وتكون فاعلة على الساحة الدولية، إذ لابد أن تبحث خارج حدودها لتحسين ظروفها ودورها ومكانتها محليا ودوليا، لذلك كان التأثير الرئيسي لقوانين راتزل في اعتبار مساحة وأرض الدولة ليست فضاء محددا وثابتا، بسبب أنها مثل الكائن الحي الذي ينمو ويتطور باستمرار، فمثلا عندما يحدث نمو وزيادة في عدد السكان، فإنه يحق للدولة أن تتجاوز حدودها الخاصة من أجل المزيد من الأراضي والمزيد من الموارد، الأمر الذي يتسبب في حدوث الصراع والتنافس على الموارد والأراض ومناطق النفوذ.

    تشير هذه الأدبيات أنّ راتزل قد اقترب كثيرا من خلال تصوراته وأفكاره من اختراع مصطلح الجيوبوليتيك، إلا أن هذا المصطلح كان قد استخدم لأول مرة من طرف عالم السياسة السويدي رودولف كيلين عام 1899. وللمقارنة، كانت قوانين كيلين الطبيعية، أقل تركيزا على السّمات العضوية للتوسع الإقليمي والاستعمار، وأكثر تركيزا على موقع الدولية ووضعها. وخلاصة القول، أن الجيوبوليتيك كمقاربة لدراسة العلاقات الدولية، ظهرت مع نهاية القرن التاسع عشر، جنبا إلى جنب مع الجغرافيا السياسية، توالياً على يد راتزل وكيلين.

    لقد حاولت الجيوبوليتيك تفسير التفاوت في الظروف الطبيعية بين الدول، ومعرفة أيّ من هذه الظروف يمكن أن تسهم في قوة الدولة، ونظرا للأهمية العالية للدراسات الجيوسياسية، أصبح الحقل الجيوسياسي أكثر أهمية لاتخاذ القرارات في السياسة الخارجية، وذلك لأن الجيوبوليتيك تساعد رجال الدولة وصناع القرار في تحديد المصالح العليا لبلدانهم، وأن يصبح لديهم خلفية علمية ثرية للتخطيط السياسي العالمي.


  • المحور الثاني: الإطار التحليل (التحليل الجيوبوليتيكي للعلاقات الدولية)

    أولاًّ: في نفي الأحادية السببية في تفسير الظواهر، نحو إعادة الاعتبار للجيوبوليتيك (موسى الزعبي).

    في هذه النقطة، نذكر الاعتراض أو المراجعة التي سجّلها عالم الجغرافيا الفرنسي ايف لاكوست، في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، حيث كان مرجحا في الجامعات الفرنسية، بأن جميع المشاكل والأزمات بما فيها الصراعات والمنافسات السياسية هي نتيجة للمنافسات الاقتصادية. هنا، حاول لاكوست ردّ الاعتبار للجيوبوليتيك كأحد المداخل لفهم مختلف مظاهر التنافس الدولي. ومن جهته نادى قبله عالم التاريخ فرناند برودل باستدعاء الجغرافيا لفهم الاقتصاد.

    إن المقصود بنفي الأحادية السببية هنا، هو عدم القبول بنظام أحادي السببية في فهم الظواهر، وبالتالي عدم الدفاع عن تفوق مادة أو عِلم على غيرها في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومنه في حقل العلوم السياسية والعلاقات الدولية. وبالتالي، الدعوة إلى تبني فكرة "التعددية السببية في فهم الظواهر"، والمساهمة فيما يسميه برودل "الضرورة لجميع العلوم الاجتماعية بهدف تقريب الحقيقة عن طريق تقارب المعارف". وهذا بدوره ما يسمح برد الاعتبار للجغرافيا في تفسير الظواهر في مقابل الاعتبارات الأخرى.

    إذن، لا يوجد تفوق لعلم على العلوم الأخرى في مسعى الوصول إلى/التقارب مع الحقيقة، ويجب على بعض العلوم والتخصصات أن تكون مساعدة لبعض العلوم الأخرى بشكل مستمر، من منطلق أن العلوم كلها مسيطَرٌ عليها بأمر واحد البحث عن/الوصول إلى الحقيقة العلمية، وهذا بدوره ما يُؤسس للتكامل والاعتماد المعرفي المتبادل بين مختلف العلوم والتخصصات.

    بناء على ما سبق، فإنه في ظل وجود مداخل عديدة وطرق مختلفة لدراسة وتحليل العلاقات الدولية، فإن الجيوبوليتيك (الجيوسياسة) يُنظَر إليها كأحد هذه الطرق والمداخل التي لا يمكن تجاهلها أو الاستغناء عنها.

    ثانيا: مستويات التحليل الجيوبوليتيكي (أندريه سكريبا).

    قدّم كل من كينيث والتز ثم ديفيد سينغر مطلع ستينيات القرن الماضي، رؤيتهما النظرية لما أصبح يعرف في أدبيات العلاقات الدولية بـ: "مستويات التحليل"، كمفهوم نظري يسترشد به الدارسون والباحثون وحتى المنظرون في حقل العلاقات الدولية، حيث تحدد هذه المستويات (مستوى النظام الدولي، المستوى الوطني، مستوى الفرد) زوايا النظر التي يرتكز عليها أي تحليل لأي ظاهرة أو حدث أو سلوك دولي. وفي هذا الإطار، يُحاكي أنصار التحليل الجيوبوليتيكي هذا التصور، من خلال اقتراح إطار منهجي لإقحام الجيوبوليتيك في تحليل العلاقات الدولية، قائم هو الآخر على ثلاث مستويات.

    حسب آندريه سكريبا، فإنه من أجل استعمال المقاربة الجيوبوليتيكية كأداة لفهم (ماذا؟)، وتحليل (كيف؟)، وتفسير(لماذا؟) واقع للعلاقات الدولية، من الضروري أن يتم ذلك بالاعتماد على ثلاث مستويات هي: المستوى العالمي، المستوى الإقليمي، المستوى الوطني/مستوى الدولة. (ويبقى ذلك مرتبطا بضرورة البحث والدراسة، أي أن مستوى التحليل في بعض الأحيان تفرضه حالة الدراسة أوالبحث، إن كانت عالمية أو إقليمية أو وطنية).

    1.المستوى العالمي: نبدأ في هذا المستوى بعملية رصد الدول أو الفواعل ذات القدرات والامكانيات التي تؤهلها لعملية التخطيط الجيوبوليتيكي على المستوى العالمي، وغالبا ما تكون لها رؤية شاملة للعالم ككل. وفي هذا السياق، وبعد تحديد هذه الدول الفاعلة جيوبوليتيكيا على الصعيد العالمي، ينبغي النظر إلى التجارب والخلفيات التاريخية للقوى الأساسية/القيادية المعاصرة أو المناسبة للإطار الزماني للدراسة أو البحث. (هل كانت قوة عالمية؟، أو نافست وواجهت القوى الكبرى؟، ...)، ههنا يكون الجانب التاريخي مهم جدا كمرجع أو مخبر لفهم واقع هذه الفواعل وما يمكن أن تكون عليه في المستقبل.

    كما ينبغي التفكير أيضا أو النظر في قدرات هذه الدول، من أجل معرفة مدى امتلاكها لمكونات القوة اللازمة لتحقيق أهدافها الكونية وتنفيذ طموحاتها الجيوسياسية العالمية (العودة إلى تحليل عوامل القوة الجيوسياسيةالطبيعية والبشرية لهذه الدول). وهنا مثلا؛ نجد أن الجيوبوليتيك الكلاسيكية وحتى النيوكلاسيكية تدعو إلى أيضا، ضرورة التركيز على قضايا انعدام الأمن والقوة في العلاقات الدولية، وبالتالي يتجه البحث إلى رصد تأثير القوى الجيوسياسية في العالم بالنظر إلى قدراتها وإمكاناتها وقوتها، ومدى استطاعتها الوصول إلى نقاط معينة من خريطة العالم، مع البحث فيما إذا كان هناك أيّ حلفاء في أجزاء مختلفة في العالم، أو تحالفات بقيادة هذه القوى الجيوسياسية الكبرى. كما يجب أيضا في مستوى التحليل العالمي، كشف وتوضيح القضايا الجيوبوليتيكية المهمة والرئيسية التي تحدث حولها المنافسة الجيوسياسية محل الدراسة أو البحث.

     على سبيل المثال: يجب الأخذ في الاعتبار الدول المهمة بشكل عام في الأمن الخاص باللاعبين الأساسيين في التحليل الجيوبوليتيكي موضوع الدراسة، كما ينبغي التفكير أيضا في بعض الأماكن/المناطق الأخرى وقيمتها من حيث المنافسة العالمية (من حيث سياسة الاحتواء الجديدة بين القوى الكبرى، من حيث الموارد اللازمة التي تحتاجها القوى العظمى، المحاور الجيوبوليتيكية ومناطق المواجهة أو الارتطام الجيوسياسية بين هذه الدول، ...)، كما أنه في بيئة دولية تهيمن عليها مظاهر العولمة، لا يقتصر الأمر على عناصر القوة التقليدية الصلبة (العسكرية) فقط في عمليات التنافس الدولي، بل من الضروري النظر بعين الاعتبار إلى المكونات غير التقليدية للقوة، أو ما يعرف بالقوة اللينة وعلى رأسها القوة الاقتصادية والتقدم العلمي والتكنولوجي، وذلك من حيث وفرة الموارد الطبيعية خاصة تلك التي تدخل ضمن الموارد الاستراتيجية بالنسبة للدول المنافسة، إضافة إلى التطور الصناعي والتقني، وتطور البُنَى التحتية والسيطرة على التجارة الخارجية بما يمنحها القدرة على مواجهة تحديات المنافسة الجيوسياسية؛ فالبعد الاقتصادي للقوة في هذا السياق، أو ما يعرف بالجيو-اقتصاد، يرتبط بشكل وثيق بالرؤية الجيوبوليتيكية للدول، وتقييمها لقوتها وامكانياتها وقدراتها التنافسية على المسرح الجيوبوليتيكي العالمي.

    إذن، يساعد مستوى التحليل الجيوبوليتيكي العالمي أو الدولي، في تقديم رؤية عامة أو كلية وشاملة للتنافس الدولي العالمي بين الفاعلين الرئيسيين، أو الأكثر تأثيرا في التفاعلات الدولية التي تجسد التنافس الجيوبوليتيكي في الفضاء الجغرافي الكوني، ومن جهة أخرى؛ من المرجّح أن تؤثر التفاعلات على المستوى العالمي في المنافسات والتفاعلات التي تحصل على الصعيد الإقليمي، وحتى على الصعيد الوطني لبعض الدول.

    المستوى الإقليمي: المستوى الإقليمي للتحليل الجيوسياسي يتطلب هو الآخر تحديد القوى/الدول الفاعلة والرئيسية في المنطقة أو الإقليم، والتي يمكن أن تساهم وتشارك في بنية الجيوبوليتيك الإقليمية. ما يطلق عليها بالقوى الإقليمية في منطقة معينة أو الأقطاب الإقليمية، هي أقوى الدول في تلك المنطقة أو الإقليم، إضافة إلى الدول أو القوى الصاعدة، التي تحاول مراجعة النظام القائم في تلك المنطقة أو الإقليم. وهنا، ينبغي التركيز على دراسة واقع الجيوبوليتيك الإقليمية من ناحية، ومن ناحية أخرى، يجب عدم إغفال أهمية ودَور الجيوبوليتيك العالمية، لأن هذه الأخيرة يمكن أن تؤثر على الأحداث والترتيبات وحتى البُنى الإقليمية، وذلك من منطلق أن المستوى الإقليمي يمثل مستوىً فرعياً للمستوى الدولي أو العالمي.

    المستوى الوطني (مستوى الدولة): عند النظر إلى الأسباب والعوامل المحلية التي تؤثر في السياسة الخارجية لدولة معينة، يمكننا أن نستعين بنموذج (SWOT)[1]، والذي يساعد على تحديد مَواطن القوة والضعف الجيوسياسيَيْن للدولة، والفرص والتهديدات الجيوسياسية التي تواجهها. فعند الحديث عن مَواطن القوة والضعف؛ فمن الواضح أنه يمكن الحديث عن عوامل جغرافية مختلفة مثل: الحجم والمساحة والشكل والتضاريس والموقع النسبي، حدود الدولة وجيرانها، مدى وصولها إلى طرق التجارة، قوتها التي تنشأ من جغرافيتها أو مواردها الطبيعية، وغير ذلك. وعندما نتحدث عن الفرص والتهديدات؛ يمكن التركيز على ما يحدث أو يمكن أن يحدث على المستوى المحلي أو الإقليمي أو العالمي، وما الذي على الدولة أن تقوم به لتعزيز نفسها وبقائها إلى جانب الحفاظ على مكانتها الإقليمية أو الدولية، وزيادة قوتها وتأثيرها من حيث وجود مصالحها في أجزاء مختلفة من العالم؛ سواء من حيث قدرتها على جذب دول مختلفة كحلفاء لها، أو أن تكون قادرة على نشر وتوسيع نفوذها لتصبح أكثر قوة. وبقدر ما تحاول توسيع قدراتها في مواجهة منافسيها الجيوسياسيين، فإنها تقلل من حجم التهديدات الناشئة عن وضعها المحلي والإقليمي والدولي.



    [1]  مصطلح"SWOT"، اختصار لأربع كلمات (القوة Strengths ، الضعف Weaknesses ، والفرص Opportunities ، والتهديداتThreats)، وهو أحد أدوات  التحليل الاستراتيجي الذي يستخدم لتحديد نقاط القوة والضعف وتحديد الفرص والتهديدات، سواء على مستوى المنظمات والمؤسسات وحتى الدول، أو في أي مجال من المجالات التي تستدعي تقييم وضع معين ورفع حال أو إعداد تقرير بشأنه، من أجل التعامل معه بالكفاءة والفعالية اللازمة.



    • المحور الثالث: الجيوبوليتيك الكلاسيكي

      تمهيد

      ترتبط الجيوبوليتيك الكلاسيكية بالإسهامات والنصوص التأسيسية الأولى للآباء المؤسسين (أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين)، وإلى غاية نهاية الحرب العالمية الثانية، ويعتبر الفرع الكلاسيكي من الجيوبوليتيك بمثابة مقاربة لدراسة العلاقات الدولية والسياسة الخارجية للدولة، وقد اعتمدت هذه المقاربة بالأساس منذ نشأتها، على التركيز على الأُسس الجغرافية في محاولة فهمها للسلوك الخارجي للدولة، وذلك اعتمادا على مستويات التحليل المذكورة سابقا؛ حيث يمثل المستويان العالمي والإقليمي مستوى واحدا يدل على كل ما تمثله مكونات البيئة الخارجية، بينما مستوى الدولة يعبر عن العوامل الجغرافية الداخلية التي تحدد سلفاً سياستها الخارجية. ومن منظور الجغرافيا السياسية؛ تحدد الجغرافيا التطور السياسي للدولة على المستوى الداخلي وسياستها الداخلية، وإذا افترضنا أن السياسة الخارجية للدولة هي استمرار لسياستها الداخلية، فإن الجيوبوليتيك هي استمرار للجغرافيا السياسية.

      من جهة أخرى، ارتبطت الجيوبوليتيك الكلاسيكية أو التقليدية ارتباطا وثيقا بالمقاربات والمناهج الأخرى التي حدّدت سَلفاً ظهور الجيوبوليتيك في حدّ ذاتها، على غرار المادية والإمبريالية والنزعة الداروينية الاجتماعية والحتمية الجغرافية، وقد تم التركيز في هذ الإطار على دراسة الشروط والظروف الجيوسياسية للصراعات الدولية، إلى جانب المحددات الأخرى للسياسة الخارجية  للدول، وعلى هذا الأساس ظهرت وتطورت النسخة الكلاسيكية للجيوبوليتيك مع كل من راتزل، ماهان، كيلين، ثم ماكيندر وهاوسهوفر، هؤلاء الذين قدّموا المساهمات الأساسية؛ ليس للجيوبوليتيك كعلم فقط، ولكن أيضا كممارسة في السياسة الخارجية لبلدانهم الأصلية، ثم واصل علماء الجيوبوليتيك أعمالهم التي ارتبطت بالنهج الواقعي في حقل العلاقات الدولية على غرار سبيكمان الذي قام بمراجعته لنظرية ماكيندر، وهانز مورغنثو وغيرهم.

      ملاحظة: جزء مهم من هذا المحور تم تناوله في السنة الثانية ضمن مادة "الجغرافيا السياسية"، وقد تم تبرير ذلك. مع الإضافات الضرورية.