التطور التاريخي لفكرة حقوق الإنسان

·       التطور التاريخي لحقوق الإنسان:

لقد ساهمت السلوكات البشرية والصراعات الأزلية بين الحكام والمحكومين في توضيح الكثير من المفاهيم ذات الصلة بهذا الموضوع كالحرية والديمقراطية والسلطة وغيرها، وعرف التاريخ الإنساني خلال هذا الصراع عددا من الحضارات والأفكار والمذاهب والنظريات التي ساهمت في بناء مفهوم للحقوق الإنسانية، وعليه فإن البحث في نطور حقوق الإنسان يقتضي الاطلاع على هذه المحطات الأساسية في تاريخ البشرية القديم والمتوسط والحديث.

·       حقوق الإنسان في العصور القديمة:

سنستعرض في هذه الحقبة النموذجين الشرقي والغربي اللذان يشتركان في خصائص أساسية كسيطرة الدين الكلية والسلطة المطلقة وتقسيم المجتمع إلى طبقات، بالإضافة إلى اشتراكهما في تطبيق أقسى العقوبات الجسدية والنفسية على الجرائم.

1ـ حضارات الشرق القديم (مصر وبلاد الرافدين):

اتسمت الحضارات القديمة في الشرق باتحاد السلطة السياسية مع السلطة الدينية وانبثاقها عنها، فإما أن يكون الملك هو الإله كما كان الحال في مصر أيام الفراعنة وإما أن يكون الكاهن الأكبر كما في الحضارات السامية القديمة، وقد كانت الشرائع المدنية في تلك الحقبة تختلط بالشرائع الروحية وعلى المواطنين أن يخضعوا لكليهما لتتضاءل حقوقهم وتقيد حرياتهم وفقا لهذه الشرائع والتعاليم.

ومع ذلك فإن بعض الملوك قد تحدثوا منذ القدم عن الحق والحرية، ففي الألف الثالثة قبل الميلاد أعلن الملك السومري (أورو كاجينا) عن منحه " الحرية لشعبه" وأصدر المراسيم التي تحرم استغلال الأغنياء للفقراء واستغلال الكهنة للناس، وفي الألف الثانية قبل الميلاد برزت شريعة حمورابي التي ورغم اتسامها بقسوة العقوبات وتمييزها بين المواطنين والأجانب والأحرار والعبيد  إلا أنها اعترفت بحقوق الإنسان سواء على صعيد الأسرة أو التجارة أو الملكية وغيرها من المجالات.

2ـ حضارات الغرب القديم (اليونان وروما)

افتقدت هذه الحضارات إلى أهم عنصر في الحرية وهو المساواة، ففي المدن اليونانية لم يكن يتمتع بالحرية إلا الذكور من طبقة الأحرار، وعرفت الحضارة اليونانية بالعداوة والقسوة مع بقية الشعوب، ومع ذلك فقد برزت فكرة حقوق الإنسان في بعض التشريعات والمدارس الفلسفية  اليونانية، فقانون صولون (Lois de Solon) الصادر عام 594 قبل الميلاد منح العديد من الحقوق للمواطن كالحق في المشاركة في السلطة التشريعية وحق انتخاب القضاة ومنع استرقاق المدين، وعرفت فترة حكم بريكليس (Périclés) امتيازات أخرى منها حق المساواة أمام القانون وحرية الكلام، وفي المدارس الفلسفية اليونانية برزت أفكار أرسطو وأفلاطون اللذان اهتما بدراسة العلاقة بين الفرد والدولة وتوصلوا إلى ضرورة وجود تنظيم لحياة الأفراد في جو من العدل والمساواة.

أما الحضارة الرومانية ورغم أنها الأكثر ازدهارا من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية، إلا أنها الأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان وإنكارا لفكرتي الحرية والمساواة خصوصا مع التقسيم الطبقي للمجتمع الروماني، وسلب المرأة والرقيق كافة حقوقهم بما فيها الحق في الحياة، وهذا رغم إيمان الفقهاء الرومان الرواقيين والمتأثرين بالفكر الفلسفي اليوناني أمثال شيشرون بوجود قانون طبيعي يتصف بالعمومية ويستمد أحكامه من الطبيعة التي تكفل الحرية والمساواة لجميع البشر.

·       حقوق الإنسان في العصور الوسطى:

تميزت هذه الحقبة الزمنية بظهور الديانات السماوية وانتشار تأثيرها في الشعوب والمجتمعات ولعبت الفلسفة خلال هذه الفترة دور تقديم الدليل العقلي لما سلمت به النفوس بالإيمان وأصبحت الفلسفة تابعة للعقيدة وانحصر الفكر الفلسفي في رجال الدين الكنسيين، كما سجل ظهور الدين الإسلامي منعطفا هاما في موضوع حقوق الإنسان لما جاء به من مبادئ العدل والمساواة والحرية واحترام الكرامة الإنسانية التي لم تكن معروفة من قبل.

1ـ حقوق الإنسان في أوروبا:

تأثرت فكرة حقوق الإنسان في العصور الوسطى بعهدين، الأول هو عهد آباء الكنيسة ومن أهم رواده القديس ( أوريليوس أوغسطين)، والعهد المدرسي الذي برزت فيه أفكار القديس (توما إلاكويني)، حيث سخر هذا الأخير نفسه لنشر المسيحية والدفاع عنها وألف كتابه الشهير (مدينة الله The City of God) الذي خلط فيه بين الدين والدولة كسبيل وحيد لتجاوز العجز عن إقامة العدالة وكفالة الحقوق والحريات للإنسان ككائن اجتماعي يحتاج إلى حياة طيبة كريمة من خلال تكافله وتضامنه مع غيره من الأفراد داخل المجتمع الذي يعيش فيه.

وما لبث هذا المفهوم أن تغير فيما بعد عندما تعالت الأصوات بضرورة التفرقة بين السلطتين الروحية للكنيسة والزمنية للدولة، وقد عانت الشعوب الأوروبية في هذه الحقبة من الطغيان والاستبداد سواء من طرف الحكام أو الكنيسة، حيث لم يكن بوسع الشعوب المطالبة بحقوقها وحرياتها في ظل السلطة المطلقة للحكام سواء في مرحلة سيطرة الكنيسة أو سيطرة السلطة الزمنية.

 

2ـ حقوق الإنسان في الإسلام:

جاء الإسلام بنظام شامل وكامل للحياة، إذ فصلت أحكامه في كافة مظاهر السلوك الإنساني الفردي والجماعي، إذ لم يقتصر فقط كما يزعم البعض على الجانب الروحاني الذي يحكم علاقة الفرد بخالقه، بل اهتم أيضا بعلاقة الفرد مع غيره من الأفراد وعلاقته مع الدولة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد أقرت الديانة الإسلامية بالمساواة كمبدأ أساسي يحكم جميع البشر، وأقام نظاما يتساوى فيه جميع الناس في ممارسة حقوقهم وحرياتهم لا تفرقة بسبب الجنس أو الدين أو اللغة.

وفي عصر كانت فيه الطبقية هي النظام السائد في جميع المجتمعات، جاء القرآن الكريم بحكم قاطع ينفي جميع الفروقات الطبقية بسبب الأصل أو النسب أو الانتماء، إذ قال الله عز وجل في سورة الحجرات:" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم."  ( الآية 13)، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم في وصف هذا المبدأ أن :" الناس سواسية كأسنان المشط.."، كما كفل الإسلام حق الإنسان في الحياة وحرم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وحرم الاعتداء على الناس تحت أي مبرر كان بالإضافة إلى الكثير من الحقوق الأخرى كالحق في الأمن والتملك والعمل وحرمة المسكن وأسس لمنظومة من الحريات التي تضمن للإنسان تطوير ذاته وممارسة حياته بعيدا عن الإكراه كحرية التنقل والرأي والمعتقد والحريات السياسية، كما عمل الإسلام على رفع شأن المرأة واسترداد كرامتها وآدميتها وجعلها في مرتبة سامية لم تصل إليها من قبل في أي دين من الأديان.

·       حقوق الإنسان في العصر الحديث:

إن موضوع حقوق الإنسان في العصر الحديث احتل مكانا مرموقا في القانون الدولي العام بحيث دار حولها صراع حاد بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، إذ يركز الطرح الإيديولوجي والفكري للكتلة الشرقية على حقوق الإنسان الجماعية لبناء الشيوعية من خلال دعم النظام الاشتراكي للإنتاج الذي يعطي الأولوية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على حساب الحقوق والحريات التقليدية التي تبناها الفكر الغربي الرأسمالي الليبرالي، وكان كل منهما متأثرا بأفكار ومدارس فلسفية لا يسعنا المقام لذكرها جميعها، وهو ما أجج الخلاف فيما بعد في مرحلة صياغة النصوص والمواثيق الدولية، وانتهى هذا الخلاف باتفاق الدول مجتمعة في مؤتمر سان فرانسيسكو المنشئ لمنظمة الأمم المتحدة على ضرورة التخلي عن الخلاف الفلسفي الفكري لأجل صياغة وثيقة تلقى إجماع الدول، يضمن من خلالها الحد الأدنى من حقوق الإنسان مهما كان مصدرها.

وبالفعل صدر في العام 1948 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي جاء تتويجا لمجهودات البشرية نحو كفالة الحرية والكرامة الإنسانية، وتضمن المبادئ الذي أسست لها الوثائق التي صيغت في فترات خلت خلال صراع الشعب البريطاني ضد سيطرة الحكام والتي تخللها صدور العديد من الوثائق التاريخية كالعهد الأعظم (Magna Carta) عام 1215م، وملتمس الحقوق الصادر عام 1628م  وكذا وثيقة الحقوق (Bill of Rights) للعام 1683، وتبقى أهم الوثائق التي أسست لمرحلة قانون حقوق الإنسان والتي ترجمت أحكامها ومبادئها في النصوص الحديثة إعلان الاستقلال الأمريكي عام 1776 ووثيقة فرجينيا التي حررت في نفس السنة، بالإضافة إلى إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي عام 1789 الذي توجت به الثورة الفرنسية.


Modifié le: samedi 18 avril 2020, 21:25