من المعلوم أنَّ العقل العربي في مسيرته الزمنية قد تشكلت ملامحه عبر ثلاث محطات كبرى، كان لها الأثر البارز في تحقيق عالميته وتميزه وتفرده، فكان البدء مع البيان؛ الذي تجلَّى من خلال المعطى اللغوي المرتبط بإعجاز النص القرآني وبلاغة النص النبوي وبديع الشعر العربي في فجر التاريخ العربي الإسلامي ( الجاهلية والإسلام )، وما انجرَّ عنه من علوم الآلة الواصفة المصاحبة له فظهر النحو والصرف والبلاغة والنقد والعروض والدراسات القرآنية، ثم ظهر البرهان كثاني محطة، في ضحى التاريخ الإسلامي، وبالتحديد مع العصرين الأموي والعباسي، حيث ارتبط بالمستجدات التي طرأت على الأمة العربية بفعل الفتوحات الإسلامية من جهة، وحركة التَّرجمة واستقبال الوافد الأجنبي، فظهر علم الكلام الذي يعدُّ النَّواة الأولى لبروز النزعة العقلية البرهانية عند الإنسان العربي كتوجه عامٍ، أطَّرته الفرق الكلامية خاصة المعتزلة والأشاعرة، ثم تبلور التوجه الفلسفي، المنبثق عن علم الكلام، أما المحطة الثالثة، والتي نحن بصدد تناولها في هذه المحاضرات، فهي العرفان أو قل : التَّصوف في شقيه السنِّي والفلسفي ( الغنوصي). هذا الأخير الذي احتلَّ مكانة مميزة في الثقافة العربية، منذ ظهوره، وحتى وقتنا هذا، فقد استأثر باهتمام النقاد والدارسين، لما يمتلكه من أنساق معرفية وبنية تركيبية وخصائص أسلوبية ، كتبت له بها الخلود في عالم الإبداع، بوصفه يغطي مسافة زمنية واسعة تبدأ من العصر الأموي، إلى هذا العصر.
مـمَّا سبق يمكن أن نتساءل عن حقيقة هذا الخطاب، ومعطياته المعرفية والفنية، وكيف استطاع أصحابه أن يخرجوا به من حيز المحلية والإقليمية إلى فضاء العالمية، وما هي أهم القضايا والنظريات التي أطَّرته، والتي أفرزت لنا كثيرا ممن ملأت مؤلفاتهم الدنيا وشغلت الناس، ثم ما الذي يميز الإبداع الأدبي الصوفي عن غيره ؟
ولاستيعاب الكلام عن هذه القضايا وغيرها حاول الباحث أن يجمع ما تناثر عنده من مادة علمية تخصُّ مقياس : (( الأدب الصوفي))، كانت قد أُلقيت على طلبة سنة ثالثة ليسانس، تخصص ( دراسات أدبية )، بالمركز الجامعي عبد الحفيظ بوالصُّوف، بقسم اللغة العربية وآدابها، وفق ما هو مسطَّرٌ في مفردات برنامج التعليم العالي والبحث العلمي الجزائري، حاول فيها الباحث أن يقترب مع الطلبة من المنجزات الأدبية الصوفية، مراعيا فيها - بقدر الإمكان - تحديد المفاهيم والمصطلحات والخصائص وأهم السمات، التي تتكاتف جميعا كي تبرز البنية التكوينية والمعرفية والفنية، المتجلية في إبداع الصوفية عبر المحطات الزمنية المختلفة، معرضا فيها عن المماحكات الفكرية والعقدية، التي يظهر في أكثرها الخطاب الصوفي في قفص الاتهام، والتي تُخرجُ هذه الدروس في كثير من الأحيان عن مسارها، محاولا تقريب الأفكار في سهولة من اللفظ، ودقة من التعبير، مع ذكر الأمثلة واستحضار الشواهد، رجاءَ أن تتضح الصورة للطالب المبتدئ والمتقدم على السواء، ولاستيعاب مفردات البرنامج - بما يرجع بالفائدة على الطالب - اتَّبع الباحث منهجا وصفيا تحليليًّا لمناسبته طبيعة هاته المادة، مع الاستعانة بالمنهج التاريخي، الذي من خلاله تتضح التصورات المختلفة للقضايا والمواضيع الصوفية عبر المحطات الزمنية المتوالية.