مخطط الموضوع

  • المحاضرة الأولى

    الصورة كإشكالية سيميولوجية:

    1-تعريف الصورة:

    أ- لغة: يفيد لفظ الصورة في اللغة العربية معاني عديدة منها: "التمثيل لشيء أو التدليل على حقيقة هذا الشيء".

    ب- اصطلاحا: هي تمثيل ذهني للواقع أو إعادة محاكاته من خلال الرسم أو نحت اللوحات الزيتية والفوتوغرافية، السينما، الكاريكاتور، وكل الأشياء التي تسمح بإعطاء معلومات وتتميز بغنى محتواها".

    أما التعريف الاصطلاحي للصورة فهي " كل تقليد تمثيلي مجسد أوتعبير بصري معاد، وهي معطى حسي للعضو البصري أو إدراك مباشر للعالم الخارجي في مظهره المضيء، بحيث تحمل هذه الصورة رسالتين الأولى تقريريّة، والثّانيّة تضمينيّة مستعدة دلالتها من الرّسالة الأولى لإنتاجها.

    ويعرفها الناقد العربي " عبد الله الغذامي" "" الصورة ثقافة وفكر وإنتاج اقتصادي وتكنولوجي وليست مجرد متعة أو محاكاة فنية، وهي لغة عصرية يشترط فيها تطابق القول مع الفعل، وتمثل الحقيقة التكنولوجية، بما أن الصورة علامة تكنولوجية، ومؤشر إنتاجي ومنطق مستقبلي. 

    فمن الناحية الفلسفية، يمكننا أن نقول أن الصورة تطلق على عدة معان، فقد يراد بها الشكل المخصوص الذى عليه الشىء، ويقال صورة الشىء ما به يحصل الشىء بالفعل، أو هي ترتيب الأشكال وتركيبها وتناسبها، وتسمى الصورة المخصوصة، وقد تطلق على ترتيب المعاني التي ليست محسوسة، فإن للمعاني أيضا ترتيبا وتركيبا وتناسبا، يسمى صورة.  والصورة في العمل الفنى هى هيئته وترتيب أجزائه أو جانبه المرئي كما يقول "هربرت ريد" الذي قدم تعريفا عاما للصورة، أكد فيه على أنها الهيئة التي اتخذها العمل، وتلك الهيئة هي شكل العمل الفنى أو صورته.  

    الصورة كلمة جامعة وشاملة فهي عبارة عن رموز بصرية، أشكال، ألوان ... تحمل دلالات ومعاني كونها "أداة تعبيرية اعتمدها الإنسان لتجسيد المعاني والأفكار والأحاسيس، ولقد ارتبطت وظيفتها سواء كانت إخبارية، رمزية أو ترفيهية بكل أشكال الاتصال والتواصل، والصورة هي واقع متحقق في حياتنا ... فالصورة بشكل عام هي بنية بصرية دالة، وتشكيل تتنوع في داخله الأساليب والعلاقات والأمكنة والأزمنة، فهي بنية حية تزخر بتشكيل ملتحم التحاما عضويا بمادتها ووظيفتها المؤثرة الفاعلة.

    إن الصورة بصفة عامة، تصور لغوي وعقلي وذهني وخيالي وحسي وبصري، قد تنقل العالم الواقعي أو تتجاوزه نحو عوالم خيالية وافتراضية أخرى، لكن أهم ما في الصورة هو طبيعتها اللغوية والفنية والجمالية الخاصة، وارتباطها بمتخيلات غنية وثرية. كما أن للصورة " الخطاب " آليات تعبيرية قد تتجاوز الصور الشعرية إلى صور نثرية وسردية ودرامية موسعة وبصرية تشكيلية، تجعل من مبحث الخطاب " الصورة " عالما منفتحا وخاصا، يمكن استكشافها واستجلاؤها عبر السياق السيميائي الدلالي. 

    أما في مجال السيميولوجيا أو في الاصطلاح السيميولوجى ، نلاحظ أن الصورة هي نوع من العلامة والعلامة في أبسط معانيها شيء مادى، يستدعى إلى الذهن شيئا معنويا ، فهي كيان مزدوج البنية له جانب مادى، وهو الدال الذى قد يكون سمعيا أو بصريا أو لمسيا، وجانب آخر معنوي هو الدلالة ، وهذه الدلالة هي ما يكسب الصورة أيا كان نوعها قيمة سيميولوجية.

    وتنطوي الدلالة في الصورة مثل معظم العلامات السيميولوجية الاخرى على قدر من الغموض، وذلك لأن الدلالة هنا، ليست معطى جاهز من معطيات الصورة، أو سمة من سماتها، وإنما هي معنى يختلف باختلاف السياق الذي ترد فيه الصورة، ولهذا تحتاج دائماَ إلى تفسير، ينطلق من فهم جيد لها.

    2-الرسالة البصرية وإنتاج المعنى

    إن اللغة البصرية التي يتم عبرها توليد مجمل الدلالات داخل الصورة هي لغة بالغة التركيب والتنوع وتستند من أجل بناء نصوصها إلى مكونين:

    - البعد العلاماتي الأيقوني

    - البعد العلاماتي التشكيلي

    فالرسالة البصرية تستند من أجل إنتاج معانيها، إلى المعطيات التي يوفرها التمثيل الأيقوني كإنتاج بصري لموجودات طبيعية تامة) وجوه، أجسام، حيوانات، أشياء من الطبيعة...الخ (، وتستند من جهة ثانية إلى معطيات من طبيعة أخرى، أي إلى عناصر ليست لا من الطبيعة ولا من الكائنات التي تؤثث هذه الطبيعة. ويتعلق الأمر بما يطلق عليه التمثيل التشكيلي للحالات الإنسانية، أي العلامة التشكيلية: الأشكال والخطوط والألوان والتركيب. 

    إن البعد التضميني والدلالي للصورة هي نتاج تركيب يجمع بين ما ينتمي إلى البعد الأيقوني وبين ما ينتمي إلى البعد التشكيلي مجسدا في أشكال من صنع الإنسان وتصرفه في العناصر الطبيعية بتراكمية ثقافية من تجارب أودعها أثاثه، وثيابه، ومعماره، وألوانه، وأشكاله، وخطوطه. وتعد الصورة من هذه االزاوية ملفوظا بصريا مركبا ينتج دلالاته استنادا إلى التفاعل القائم بين مستويين مختلفين في الطبيعة، لكنهما متكاملان في الوجود.

    من هذا المنطلق، يمكن طرح قضية الدلالة والتدليل في الرسالة البصرية، وكيفية تحول المرجع الفوتوغرافي من الحياد والصمت إلى علامة، وإلى نص لا ينفلت من لعبة المعنى. وهو الطرح الذي يستدعي مستويين اثنين على الأقل في قراءة الرسالة البصرية.

    - المستوى الأول : هو الداخل الأيقوني

    - المستوى الثاني : هو الخارج الأيقوني

    إن رصد هذين المستويين في علاقتهما الجدلية والمتداخلة يقود إلى تحديد وجهة نظر الفاعل الفوتوغرافي، ورؤيته للعالم، وهي الرؤية التي تعين مسار الصورة، إطارها، ومواضيعها، إيقاعاتها وألوانها، بكلمة واحدة: طريقة تمثيلها. 

    وعليه يتضمن النص البصري أي "الصورة" مجموع سنن ينبغي تفكيكها لإعادة بنائها في شكل مغاير. من هنا فعملية قراءة ومقاربة الصورة تعني تفكيك هذه السنن بالدرجة الأولى، أي تحليل المراسلة البصرية. وهنا طور "رولان بارت" نظريته الخاصة بسيميولوجية الصورة، فتحدث عن مستويين في قراءة المعاني هما: المستوى التقريري والمستوى الإيحائي، هذان المستويان يبينان حدود تشكيل الدلالة داخل الصورة، حيث يكون المعنى واضحا للمشاهد، يستنبطه دون جهد أو عناء في المستوى الأول، أما المستوى الثاني فيكون غامضا مضمرا وراء الحدود المرئية للصورة فيكون المشاهد مرغما على تحليلها ومعرفة جوهر دلالتها وفقا للسياق الذي يعيش فيه القارئ.

    كما أشار أن الصورة تحتوي على ثلاث رسائل، ويتم تحليلها من خلال كل رسالة من الرسائل الثلاث وهي:

    - رسالة ألسنية.

    - رسالة أيقونية غير مدونة: أي تكتفي بتسجيل المرجع في المواضيع التي تمثلها علاقة ترابطية.

    - رسالة أيقونية مدونة : تمثل المستوى التضميني. 

    وهنا يشير"رولان بارث" إلى أن الصورة التعيينية حاملة للرسالة التضمينية، حيث أن المدلول الموجود على المستوى التعييني هو دال ثاني إيديولوجي ثقافي.


    • المحاضرة الثالثة

      أولا: سيميولوجيا التواصل

      1-مفهوم سيميولوجيا التواصل

      تهدف هذه السيميولوجيا عبر علاماتها وإشاراتها إلى الإبلاغ والتأثير في الغير، وبتعبير آخر تستعمل سيميولوجيا التواصل مجموعة من الوسائل اللغوية وغير اللغوية لتنبيه الآخر والتأثير فيه، عن طريق إرسال رسالة وتبليغها إياه؛ ولهذا ركز روادها على الوظيفة التواصلية، وأقاموا العلامة على ثلاثة أسس (الدال والمدلول، والوظيفة القصدية (، فشرط ما يعتبر ضمن هذا النوع من الممارسات أن يكون الهدف من استخدامها وتوظيفها هو التعبير عن مراد الشخص وقصده في أن يُؤثر في المتلقي للعلامة بوجه من وجوه التأثير. من روادها بويسنس، بريتو، مونان، أوستين، مارتيني...

      2-مقومات سيميولوجيا التواصل

      تقوم سيميولوجيا التواصل على دعامتين هامتين هما:

      أ-محور التواصل وما يجري فيه.

      ب-محور العلامة) أنواعها، مكوناتها (، وعلاقة كل ذلك بالقصد.

      1-محور التواصل: وهو إما لساني أو غير لساني.

      1 - 1 -التواصل اللساني : نحو ما يبدو في أشكال التعبير اللغوي والأفعال الكلامية ،التي يصدرها الناس في مواقف محددة ،بهدف التواصل فيما بينهم ،وجدير بنا أن نتحدث هنا عن مفهوم دارة الكلام أو التخاطب عند فرديناند دي سوسير . والتي تبتدئ بالصورة الذهنية) المدلول (عند المتكلم، وتنتهي بصورة ذهنية مماثلة عند المتلقي، مرورا بترجمتها عند المتكلم في شكل أصوات، تنتقل عبر الفضاء الناقل لتقرع أذن السامع، الذي يحولها من صورة سمعية) دال (، تتقمص هيئة الصوت، إلى صورة ذهنية أو فكرة، هي عين ما أراد المتكلم أن يصل إليه.

      - 1 - 2 التواصل غير اللساني : ويضم مجموعة من الأنساق الرمزية الأخرى ،ماسوى اللغات الطبيعية، وقد صنّفه "بويسنس" إلى ثلاثة أقسام :

      أ-العلامة الثابتة: وهي العلامة التي لا قيمة لها إلا باعتبار أنها أُنتجت لأجل تلك القيمةالمعترف بها، كما أنها تتميز بكونها ثابتة ومستمرة، ولنا في إشارات المرور أفضل مثال.

      ب-العلامة المتغيرة) غير ثابتة): وهي التي تتغير فيها العلاقة بين طرفيها بحسب -الظروف والحاجة، كما في الملصقات الإشهارية، التي توظف اللون والشكل بهدف التأثير في المستهلك، وتوجيه انتباهه إلى نوع معين من السلع في ظرف خاص، قد يزول بزوال السلعة، أو الرغبة في تسويقها.

      ج-العلامة العفوية: وهي العلامة التي أُنتجت لقصد غير قصد الإشارة بالأصل، ثم تم تحويلها إلى قصدية واضحة المعالم، مثل: لون السماء في دلالته على حالة الملاحة، والهلال في العد والحساب.

      2 -محور العلامة : كما يراها "بريتو" مكونة من :

      أ-الإشارة: وهي التي ترتبط طبيعيا بما تحيل عليه بعلاقة الملازمة، ولكن في غياب ما تُشير إليه أو تلازمه، وإلا بطل مفعولها. ومن أمثلة الإشارة البصمات المعتمدة في تحريات الشرطة، والتي تقوم بدور الإحالة على السارق وتحديد هويته.

      ب-المؤشر: وهي بمفهوم "بريتو" علامة اصطناعية لا قيمة لها إلا في حضور المتلقي، كما نجده في العلامات البحرية وإشارات المرور.

      ج-الأيقون: ويدل على ما يحيل عليه بطريقة المشابهة أو المماثلة، كالصور الفوتوغرافية، والتمثال المجسم.

      د-الرمز: وهو الذي أُنتج ليقوم مقام علامة أخرى مقصودة، كدلالة السلحفاة على البطء.

      ثانيا: سيميولوجيا الدلالة

      1-مفهوم سيميولوجيا الدلالة

      تتخطى سيميولوجيا الدلالة حاجز المألوف لتناقش بواسطة اللغة أنظمة العلامات غير اللغوية، فهي لا تتردد في رؤية عالم العلامات ممارسة لغوية، ومن السمات اللافتة في العرض الذي يقدمه بارث هي زعمه أن اللغة ليست النموذج الأساسي للنسق السيميولوجي فحسب، إنما هي أيضا الواقع الذي يعول عليه دائمًا لدراسة جميع الأنشطة البشرية بوصفها سلسلة من اللغات، وهكذا تحول احتواء السيميولوجيا للسانيات أمرا غير وارد، فجميع الأنساق والوقائع تدل؛ فهناك من يدل بواسطة اللغة، وهناك من يدل بدون اللغة الألسنية، بيد أن لها لغة دلالية خاصة بها. ومادامت الأنساق والوقائع كلها دالة، فلا عيب في تطبيق المقاييس اللسانية على الوقائع غير اللفظية أي أنظمة السيميولوجيا غير اللسانية لبناء الطرح الدلالي.

      ومن هنا، فقد انتقد بارث في كتابه) عناصر السيميولوجيا (الأطروحة السوسيرية التي تدعو إلى إدماج اللسانيات في قلب السيميولوجيا، "وبصفه عامه يجب، منذ الآن قلب الاقتراح السوسيري ليست اللسانيات جزء من علم الأدلة العام،ولكن الجزء هو علم الأدلة، باعتباره، فرعا من اللسانيات . " مؤكدا أن اللسانيات ليست فرعا ولو كان مميزا، من علم الدلائل)السيميولوجيا(، بل السيميولوجيا هي التي تشكل فرعا من اللسانيات. ومن هنا، فقد تجاوز رولان بارث تصور الوظيفيين الذين ربطوا بين العلامات والمقصدية، وأكد على وجود أنساق غير لفظية، حيث التواصل غير إرادي، لكن البعد الدلالي موجود بدرجة كبيرة. وتعتبر اللغة الوسيلة الوحيدة التي تجعل هذه الأنساق والأشياء غير اللفظية دالة،" فكل المجالات المعرفية ذات العمق السوسيولوجي الحقيقي تفرض علينا مواجهة اللغة، ذلك أن الأشياء تحمل دلالات. غير أنه ما كان لها أن تكون أنساقا سيميولوجية أو أنساقا دالة لولا تدخل اللغة. فهي، إذا تكتسب صفة النسق السيميولوجي من اللغة".  

      وتجدر الإشارة إلى الموقف الذي تبناه رولان با رث، والذي يخالف به موقف سوسير؛ فإذا كان هذا الأخير قد أعلن ميلاد السيميولوجيا من خلال محاضراته؛ ولن يكون اللسان إلا جزءا داخل علم السيميولوجيا باعتبارها علما عاما، فإن بارث قال بالعكس؛ واعتبر السيميائيات جزءا من اللسانيات وأرجع ذلك لسببين حسب أحد الدارسين:

      السبب الأول: راجع إلى كون السيميائيات استلهمت مناهجها ومفاهيمها من اللسانيات.

      السبب الثاني: اضطرار الباحث لاستعمال اللغة لتحليل السيرورات الدلالية والتواصلية .

      وتجسد سيميولوجيا رولان بارث إحدى المحاولات التي سعت إلى تحقيق مشروع سوسير السيميولوجي، مركزا في ذلك على جوانب الدلالة (La signification) ، باعتبارها سمة مميزة لمشروعه ، ذلك أن نظرته لنسق العلامة تجاوزت كونها تعبر عن أفكار فقط، إلى اعتبارها علامة ديناميكية بعد أن كانت تعبر عن نفسها، أي بخضوعها إلى الأثر الاجتماعي والثقافي تخرج من طبيعتها إلى صوب عوالم الأسطورة. 

      2-العلامة عند بارث:

      يستند رولان بارث في صياغة نظريته السيميولوجية على آراء سوسير حيث ينظر إلى العلامة التي يعتبرها نتاج علاقة الدال بالمدلول ويؤكد ذلك بقوله"إن في أي نسق سيميولوجي نكون أمام عناصر ثلاثة الدال والمدلول ثم العلامة باعتبارها نتيجة للجمع بين العنصرين الأولين، فالعلامة بهذا التصريح سواء أكانت نسقا لسانيا أم نسقا غير لساني ينبغي التعامل معها من خلال التأليف بين الدال والمدلول وبالنظر إلى الدال باعتباره من طبيعة مادية سواء أكان صوتا أم شيئا موجودا في العيان أم صورة،

      فالدال بهذا المعنى يشكل مستوى التعبير في الوقت الذي يشكل فيه المدلول مستوى المضمون، وأما الدلالة فهي العملية التي تنتج عن تعالق المستويين التعبيري والمضموني ، على اعتبار المدلول هو ما يفهمه مستعمل العلامة أي أنه تمثل نفسي للشيء. 

      3-ثنائيات سيميولوجيا الدلالة:

      لقد قام بارث بإبراز المفاهيم الأساسية لهذا الاتجاه واستشرف إمكانية تطبيقها على مختلف الظواهر غير اللغوية؛ ليضع السيميولوجيا موضع الاختبار، معتقدا أنها قد تكون ذات نفع في دراسة الظواهر الدالة، وجمع هذه العناصر السيميولوجية تحت أربعة عناوين كبرى نابعة عن اللسانيات البنيوية هي : اللسان والكلام، الدال و المدلول ، المركب والنظام، التقرير والإيحاء. ومن الواضح أن هذه العناوين التي تتخذ شكل التفرع الثنائي، تبين تأثر بارت بالثنائيات السوسيرية خاصة. 

      1 -اللغة والكلام

      ثنائية اللغة والكلام هي من الثنائيات المهمة في لسانيات سوسير ، وتصعب أسبقية أحدهما على الآخر، فلا يمكننا تصور لغة دون كلام، ولا كلام خارج اللغة ولأهمية هذه الثنائية وقناعة بارت بمدى كثافة مفهوم الثنائية )لغة / كلام(بالتطورات ما وراء اللسانية، سلم بوجود مقولة عامة اسمها اللغة/ الكلام مطردة تمتد لتتسع كل أنظمة الدلالة، حتى  ولو طبقا على أنواع التواصل غير اللفظية  .

      لقد قام بارت بتطبيق هذه الثنائية على ظاهرة الطعام واللباس والأثاث، على أساس أن الثقافة بمعناها الواسع عند بارت تقع تحت مرمى علم الدلالات، ولكن هذا التوسيع السيميائي لمفهوم) اللغة/ الكلام(، أثار في  نظر بارت  بعض المشاكل التي تصادف الجوانب التي لا يمكن فيها إتباع خطى النموذج اللغوي ويتحتم تعديله.  فالمشكل الأول متعلق بجدلية اللغة والكلام ذاتها، ففي اللغة لا يمكن لأي شيء أن يدخل اللغة ما لم يكن الكلام قد اختبره، وعلى العكس من ذلك، يستحيل إنشاء أي كلام يؤدي الوظيفته التواصلية بين الأفراد ما لم يستمد من) خزينة(اللغة  وتعليل ذلك؛ أن اللغة وضعت ألفاظها بتواطؤ المتكلمين بها، إلا أن العلامات السيميولوجية تم وضعها اعتباطيا "لتدل على ما تدل عليه، بسبب ضغط الحاجة التي تولد الدلالات فتدفع الأفراد إلى توليد الدوال عليها "

      ويتعلق المشكل الثاني بأن كل من اللغة والكلام إذا كانا في اللسانيات متناسبين حجما؛ لأن اللغة عبارة عن مجموعه من القواعد يستظل الكلام بظلها، فإنهما في السيميولوجيا لا يتناسبان في الحجم حيث أن هناك مسافة كبيرة تمتد بين النموذج وإنجازه، ومن الممكن جدا في هذه الثنائية أن تكون لغة من دون كلام. 

      وقام بارث بتطبيق هذه الثنائية على ظاهرة اللباس والطعام والأثاث ..الخ، فعلى سبيل المثال نجد من حيث

      الطعام أن اللغة تتكون من قواعد الإقصاء، ما هو خارج الأطعمة) والتعارضات (مالح/حلو) وقواعد الجمع

      والتأليف بين المواد الداخلة في صنع الأطعمة، أما الكلام الغذائي فيتمثل في اختيار أنواع من الأطعمة دون أخرى تتميز بطريقة صنعها أو بأسلوب تحضيرها، فلائحة الأطعمة التي تقدم في المطاعم تمثل لنا نموذجا

      واضحاً للعلاقة بين اللغة والكلام لأن اللائحة مصممة بناء على تركيبة (وطنية أو إقليمية أو اجتماعية).   

      2-الدال والمدلول

      تعني العلامة مجموع الدال والمدلول، ويمكن أن نفرق بين علامة لسانية ترتبط باللغة، وأخرى سيميولوجية تتميز عن اللسانية بكونها غير لغوية، وتشمل أشياء كثيرة، كاللباس والسيارة والطعام والإيماءة والفيلم والموسيقى والإعلان والأثاث والعناوين الصحفية، ... ورغم أنها تبدو   غير متجانسة إلا أن قاسما مشتركا يجمعها هو أنها جميعا علامات حولها المجتمع لأغراض دلالية، فاللباس يصلح للتغطية، و الطعام للتغذية،والسيارة للتنقل،والهاتف للاتصال، ومع ذلك تصلح للدلالة على شيء ما أيضا إلا أن دلالتها السيميولوجية تنحصر في وظيفتها الاجتماعية، وهذه الوظيفة الاجتماعية رهينة الاستعمال في سياق محدد، وهذا الاستعمال مشروط بحلول وقته وأوانه، وهذا الوقت والأوان ليسا شيئا غير علامة لهذا الاستعمال، ويقترح بارت تسميه هذه العلامات السيميولوجية ذات الأصل النفعي الوظيفي "الوظائف الدلالية" ، والتي تحمل معنى محددا لها في وجه أول ثم معاني سيميولوجية أخرى في الوجه الثاني.

      إن المعاطف تلبس وقاية للجسد من البرد، ولا تستعمل إلا حين وقت البرد والشتاء، ومجيئ هذا الوقت علامة دالها ومدلولها ارتداء المعاطف، في حين أن العلامة اللسانية توجد بين دالها ومدلولها كما توحد الصفحة بين وجهها وظهرها. 

      3-المركب والنظام

      العلاقات التي توحد بين الألفاظ يمكن أن تنمو على صعيدين يولد كل واحد منهما قيمه الخاصة، ويتلاءم هذان الصعيدان مع شكلين من أشكال النشاط الذهني، أولهما صعيد المركبات، والمركب تأليف للأدلة يرتكز على مدى، وهذا المدى في اللغة المتمفصلة، امتداد سطري ذو بعد واحد) السلسلة الكلامية). الصعيد الثاني: هو صعيد تداعي الألفاظ وتجميعها) خارج الخطاب) أي على (الصعيد المركبي (تتجمع الوحدات التي تشترك في وجه من أوجهها في الذاكرة، وتؤلف بذلك فئات تسودها علاقات متنوعة: فكلمه تدريس يمكن أن تجتمع من حيث المعنى مع تعليم وتلقين، ومن حيث الصوت مع درَّس دارس درَس، وتشكل كل فئة أو مجموعة سلسله استذكارية محتملة) أو خزينة الذاكرة (، وعلى عكس ما يحدث على صعيد التركيب فإن الألفاظ تتحد في كل سلسلة غيابيا. فالألفاظ في النظام تمتاز بالحضور في الذهن والغياب في التلفظ،ولكن في السلسلة الكلامية تعتبر ألفاظها) التركيب (حاضرة في اللفظ وغيرها من الألفاظ موجودة في الذهن غائبة في التلفظ.

      لو أردنا شرح هذه الثنائية على نظام الموضة والطعام والأثاث فإنه يجري مجرى اللغة، لكننا سنقتصر على نموذج واحد يمكن القياس عليه بقية النماذج.

      يوجد في) نظام ( اللباس ما يغطي الرأس أشياء متنوعة)قبعة،شاشية، عمامة،مظلة، طاقية، خمار ...(. وما يغطي الجسم من أثواب )بدله،معطف،قميص ،سروال ،برنوس، قشابية،تنورة،حجاب،...(. وما يغطي القدمين من أحذية) رياضي، كلاسيكي،نعل،...(. فلو أنك اخترت من نظام اللباس )بذله كلاسيكية ( فإنك ستختار من النظام أيضا ربطة عنق وحذاء كلاسيكي،حتى يكون لباسك منسقا وأنيقا على التركيب التالي : البذلة كلاسيكية +قميص+ربطة عنق+حذاء  كلاسيكي. ولو أنك استبدلت الحذاء الكلاسكي من النظام في التركيب السابق بالحذاء الرياض ي تكون قد أعطيت معنى آخر بمخالفتك لنظام الموضة الشائع والمعروف اجتماعيا.

      وفي نظام الطعام يوجد الطبق الأساسي عديد الأطعمة) شخشوخة، كسكس، عدس، حمص،لحم (.... وكثير من التنوعات الغذائية التي تتناول قبل الأكل) سلاطة، حساء شربة، حساء حريرة، (.... وبعد الأكل (حلويات، مقبلات، مشروبات، (.... أما التركيب في الطعام فهو اختيارك على التوالي: سلاطة +كسكس+لحم+مشروبات غازية، فلو أخرت نوعا في التركيب أو قدمت تكون قد خالفت قواعد التركيب المعروفة اجتماعيا.

      4-التقرير والإيحاء

      استغل" بارث" في مشروعه السيميولوجي فكرة هذه الثنائية من" هيلمسليف" الذي نقل أفكار"دي  سوسير" عن العلامة اللغوية إلى إطار أوسع، وذلك باستبدال مفهومي: الدال والمدلول بمستوي التقرير والإيحاء فكان من بين أهم منجزات "بارث" إدخال المفهومين )التقرير والإيحاء(  إلى سيميولوجيا الدلالة.  ويقر بارث أن هذه الثنائية مستوحاة من لسانيات "هيلمسليف"، ولكنه يرى أن دراستها في مقدمة "هيلمسليف" يكتنفها قصور منهجي. يقول "بارث": " ظواهر الإيحاء لم تدرس بعد بطريقة منهجية، توجد بعض الإشارات في مقدمة"هيلمسليف"، إلا أن المستقبل واعد دون شك بالنسبة للمناسبات الإيحائية؛ لأن المجتمع يطور باستمرار أنظمة للمعاني الثانوية انطلاقا من النظام الأول الذي تقدمه له اللغة البشرية. ويحتوي الإيحاء باعتباره هو نفسه نظاما، على دوال ومداولات وعملية توحد أولاء بأولئك) دلالة (، وأول ما يجب القيام به بالنسبة لكل نظام، هو جرد هذه العناصر الثلاثة".

      هكذا نجد أنفسنا أمام نظامين يتداخل ويتشابك أحدهما مع الآخر، ولكنهما منفصلان عن بعضهما البعض، إلا أن" انفصال" النظامين يمكن أن يتم بطريقتين مختلفتين تمام الاختلاف حسب نقطة اندماج النظام الأول في الثاني، مؤديا بالتالي إلى مجموعتين متعارضتين.

      ثالثا: سيميولوجيا الثقافة

      1-مفهوم سيميولوجيا الثقافة:

      تهتم سيميوطيقا الثقافة برصد عديد الأنظمة والسياقات الثقافية لما تحمله من علامات وإشارات وأيقونات بحثا على مختلف الدلالات الثقافية داخل نسيج تكوينها الحقيقي، دون أن يقف هذا البحث عند ثقافة بعينها بل يتعداه الى كل الأنظمة الثقافية الكونية.

      سيميوطيقا الثقافة أو الثقافات (Sémiotique de la culture)  تعنى بدراسة الأنظمة الثقافية باعتبارها دوالا وعلامات وأيقونات وإشارات رمزية لغوية وبصرية، بغية استكشاف المعنى الثقافي الحقيقي داخل المجتمع ورصد الدلالات الرمزية والأنثروبولوجية والفلسفية والأخلاقية.

      ظهر اتجاه سيمياء الثقافة مع أبحاث الشكلانيين الروس Formalistes Russes مع ظهور مدرسة Tartu تارتو، التي تعد من أبرز المدارس السيميولوجية الروسية، ومن أعلامها البارزين يوري لوتمان Lotman Yuri مؤلف كتاب " بنية النص الفني" و إيفانوف  Ivanov Viatcheslav و أوسبانسكي Piotr Demianovitch Ouspensky ، حيث جمعت أبحاث هؤلاء الأعلام، في كتاب جامع بعنوان" أعمال حول أنظمة العلامات".

      وتتضمن سيمياء الثقافة الاتجاه الإيطالي ممثلا في كل من أمبرتو إيكو و روسي لاندي . Rossi-Landi 1

      استفاد إتجاه سيمياء الثقافة أيضا من ارنست كاسيرز Ernst Cassirer و فلسفة الأشكال الرمزية وكذلك استفادة من مفاهيم اللسانيات الوظيفيةSystemic functional linguistics  التي تعتبر اللغة نظاما سيميوطيقا اجتماعيا، دون أن ننسى النظرية الماركسية التي تدرس الظواهر الاجتماعية داخل المجتمع بالنظر إلى ما يلبي حاجات الانسان.

      2-أفكار سيميولوجيا الثقافة:

      ميزت مدرسة تارتو بين ثلاثة مصطلحات وهي : السيميولوجيا الخاصة، والمتمثلة في  دراسة أنظمة العلامات ذات الهدف التواصلي، والسيميولوجيا المعرفية التي تهتم بالأنظمة السيميولوجية وما يشابهها والسيميولوجيا العامة التي تتكفل بالتنسيق بين جميع العلوم الأخرى، وقد اهتمت تارتو بالسيميولوجيا ذات البعد الإبستيمولوجي، ومن هنا اهتمت هذه المدرسة بسيميولوجيا الثقافة.

      سيميولوجيا الثقافة على اعتبارها اتجاها من السيميولوجيا، لا يهمها الاتصال أو التبليغ بالقدر الذي تهتم فيه بالشفرات الثقافية، ومخلفات النشاط الإنساني من رموز وعلامات، وهنا تبلورت الفكرة الأساسية التي تقوم عليها هذه السيميولوجيا، والمتمثلة في أن الثقافة ما هي إلا مجموعة من النصوص، هذه النصوص دالة بفضل اللغة، وتعطي دلالتها معنى خاصا أو صورة ثقافية متعلقة بالجماعة الاجتماعية التي تحتضن هذه الثقافة.

      اذن فسيمياء الثقافة نعني بها د راسة الأنظمة الثقافية باعتبارها علامات وأيقونات وإشارات ذات طابع لساني أو بصري من أجل الكشف عن المعاني الثقافية داخل المحيط الاجتماعي، ورصد مختلف الدلالات الضمنية التي تتعدى حدود الثقافة الواحدة إلى الثقافات الأخرى، كما تهتم برصد الخاص من الثقافة داخل نظام سيميائي عام.

      3-العلامة في سيميولوجياالثقافة

      يرى رواد هذا الاتجاه أ ن العلامة تتكون من وحدة ثلاثية المبنى وهي الدال والمدلول والمرجع، ويؤكد "أمبرتو إيكو" على أ ن كل سلوك مبرمج أو نسق تواصلي يؤدي وظيفة ما، هو بمثابة نظام للعلامات، ولا يمكن فهم الثقافة فهما حقيقيا، إلا بفهم مظهرها التواصلي الذي يتجلى عبر العلامات، أي أ ن قوانين التواصل هي ذاتها قوانين الثقافة.

      فالعلامات لا يمكن أن يصبح لها معنى إلا من خلال الإطار الاجتماعي الذي خلقت فيه أو وجدت فيه، فهي ثلاثية المبنى -الدال والمدلول والمرجع-وبالتالي فكل نظام ثقافي هو في حقيقته نظام تواصلي ويعتبر نسقا دالا، حيث استمد دلالته من منبعه سواء كان هذا المنبع اجتماعي أو سلوكي وحتى سياسي.